الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
79 ـ
خطورة دعاة الباطل وأئمَّة الضلال
لقد تضافرت الأدلّةُ وكثرت النصوصُ في الكتاب والسنة الدالّة على تحريم صَرفِ الدعاءِ لغير الله، وأنَّ ذلك نوعٌ من الشرك الناقلِ من الملَّةِ، وأنَّ الدعاءَ لا يكون إلَاّ لِمَن بيده المنع والعطاء، والخفض والرفع، والقبض والبسط، وليس لله شريك في شيء من ذلك، قال الله تعالى:{أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} 2، وقال تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3، ولهذا فإنَّه كيف يليق بإنسانٍ، ويصحُّ من عاقلٍ خلقه الله فيدعو غيرَه، ويرزقُه الله ويسألُ سواه، ويعطيه الله ويُقبل على غيره، مع أنَّ كلَّ مدعوٍّ غير الله ليس بيده عطاءٌ ولا منعٌ ولا نفعٌ ولا ضرٌّ، يقول الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلَا} 4، ويقول
1 سورة النمل، الآية:(62) .
2 سورة فاطر، الآية:(2) .
3 سورة يونس، الآيتان:(106، 107) .
4 سورة الإسراء، الآية (56) .
تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} 1، ويقول تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ورغم وضوحِ هذا الأمرِ وكثرةِ الشواهد عليه، وظهور دلالتها على ذلك إلَاّ أنَّ مِن الناس مَن لا يزال يفتُ في عضدهم دعاةُ الضلال وأئمةُ الباطل، فيُشبِّهون عليهم الأمورَ، ويلْبسون عليهم الحقائق، ويزيِّنون لهم الباطل، وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمَّته من الأئمَّة المضلِّين، روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وغيرُهم بإسناد صحيح من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:" وإنَّما أخاف على أمتي الأئمةَ المضلِّين "3، وهذا الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته قد وقع في بعض فترات التاريخ، حيث تسلَّط بعضُ دعاةِ الباطل وأئمةِ الضلال فزيَّنوا للناس دعاءَ الأحجار والتعلُّقَ بالقبور، والتقدُّمَ إليها بأنواع القرابين والنذور، قال أبو الوفاء
1 سورة سبأ، الآيتان:(22، 23) .
2 سورة فاطر، الآيتان:(13، 14) .
3 المسند (5/278، 284)، وسنن أبي داود (رقم:4252) ، والمستدرك (4/449) في حديث طويل، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1773) .
ابنُ عقيل رحمه الله: " صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والامتثال لأوامرها
…
ثمَّ مع ذلك لا يرون لمقالتهم نباهةً ولا أثراً، بل الجوامع تتدفَّق زحاماً، والأذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به، وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطارِ ومعاناة الأسفار ومفارقةِ الأهلِ والأولاد، فجعل بعضُهم يندسُّ في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد، ويضع السِير والأخبار، وبعضُهم يروي ما يُقارب المعجزات مِن ذِكرِ خواصٍّ في أحجار، وخوارق العادات في بعض البلاد، وإخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنةِ والمنجِّمين ويُبالغ في تقرير ذلك
…
فقالوا تعالوا نكثر الجوْلان في البلاد والأشخاص والنجوم الخواص
…
"1، إلخ كلامِه رحمه الله.
فتأمَّل أخي المسلم كيف تمكَّن هؤلاء بخفيِّ مكرهم وعِظم كيدهم من صدِّ كثير من عوام المسلمين وجهالهم عن الحقِّ والهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلِهم منه إلى أنواع من الضلالات وصنوفٍ من الباطل، مِن تعلُّقٍ بقبور أو تبرُّكٍ بأشجار وأحجار، أو ذبحٍ ونذر لأضرحةٍ وقِباب، ونحو ذلك من الضلال المفارق لدين الإسلام، المبايِنِ لِملِّة التوحيد القائمةِ على إخلاص العمل للمعبود، والمتابعةِ في ذلك كلِّه للرسول صلى الله عليه وسلم. ومِمَّا ينبغي أن يُعلم هنا أنَّ سببَ ضلال هؤلاء وغيرِهم مِمَّن تأثَّر
1 انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص:68، 69) .
بهم وسار على طريقهم ثلاثةُ أشياء:
أحدُها: إمَّا اعتمادُهم على ألفاظٍ متشابهةٍ مُجملةٍ مشكلة منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسَّكوا بها، وهم كلَّما سمعوا لفظاً فيه شبهةٌ تمسَّكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لَم يكن دليلاً على ذلك، والألفاظُ الصريحةُ المخالفةُ لذلك إمَّا أن يفوِّضوها وإما أن يتأوَّلوها كما يصنع أهل الضلال يتِّبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية، ويعدِلون عن المحكم الصريح، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} 1.
الأمر الثاني: أخبارٌ منقولةٌ إليهم عن الأنبياء ظنُّوها صدقاً، وهي مكذوبةٌ عليهم، وَضَعها عُبَّاد الأصنام وأئمَّةُ الباطلِ انتصاراً لمذاهبهم وتأييداً لباطلهم، وليس في جميع ما يُروى في هذا الباب حديثٌ واحدٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُعتمد عليه باتِّفاق أهل المعرفة بحديثه صلى الله عليه وسلم، بل المرويُّ في ذلك إنَّما يَعرفُ أهلُ المعرفة بالحديث أنَّه من الموضوعات، إمَّا تعمُّداً من واضعه، وإمَّا غلطاً منه، مثل نسبتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:" لو حسَّن أحدُكم ظنَّه في حجر لنفعه الله به "2، ونحو ذلك من
1 سورة آل عمران، الآية:(7) .
2 أورده ملَاّ علي قاري في الموضوعات (ص:189)، وقال: " قال ابن تيمية: موضوع. وقال ابن القيم: هو من كلام عُبَّاد الأصنام الذين يُحسنون ظنَّهم بالأحجار. وقال ابن حجر العسقلاني: لا أصل له)) .
الإفك البيِّن والكذب الواضح.
الأمر الثالث: خوارقُ ظنُّوها من الآيات، وهي من أحوال الشيطان1، وحكاياتٌ حُكيت لهم عن أصحاب القبور مثل أنَّ فلاناً استغاث بالقبر الفلانيِّ في شدَّة فخُلِّص منها، وفلاناً دعاه أو دعا به في حاجة فقُضيت له، وفلاناً نزل به ضرٌّ فاسترجى صاحبَ القبر فكشف ضُرَّه، والنفوسُ مولعةٌ بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها، ومِن هذا المدخل نفذ الشيطانُ إلى قلوب هؤلاء، وتدرَّج بهم في دعوتهم إليه، فحسَّن للواحد من هؤلاء أولاً الدعاءَ عند القبور، وأنَّه أرجحُ منه في بيته ومسجده وأوقات سَحَرِه، فإذا تقرَّر ذلك عنده نقلَه درجةً أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، وهذا أعظمُ من الذي قبله، فإذا قرَّر الشيطانُ عنده أنَّ الإقسامَ على الله به أبلغُ في تعظيمِه واحترامِه وأنجحُ في قضاءِ حاجته نقله درجةً أخرى إلى دعائه نفسِه من دون الله، ثمَّ ينقله بعد ذلك درجةً أخرى إلى أن يتَّخذ قبرَه وثناً يعكفُ عليه، ويوقدُ عليه القناديل، ويُعلِّقُ الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبدُه بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامِه والحج إليه والذبح عنده2، والواجبُ الحذرُ من الشيطان وجنوده، ولزومُ سبيلِ المؤمنين بإخلاص العمل كلِّه لله عز وجل مع المتابعة في ذلك كلِّه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله وإياكم مِن أتباعه وهدانا لزومَ سنَّتِه.
1 انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (1/316 ـ 317) .
2 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/233 ـ 234) .