الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
58 ـ
ومن فضائل الدعاء
لا يزال الحديث موصولاً بذكر الأدلَّةِ على فضل الدعاء، من خلال ما ورد من ذلك في سُنَّة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد مرَّ معنا طرَفٌ من هذه الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم:" ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء "1، وهو دالٌّ على كرمِ الدعاء وعِظم مكانته عند الله؛ وذلك أنَّ الدعاءَ هو العبادةُ وهو لبُّها وروحُها، والعبادةُ هي الغايةُ التي خُلق الخلقُ لأجلها وأُوجدوا لتحقيقها، وأكرمها عند الله هو الدعاء، كما تقدَّم.
ومِمَّا ورد في فضل الدعاء في السنة ما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم بإسناد جيِّد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن لَم يدعُ الله سبحانه غَضِبَ عليه " 2، وهذا فيه دليلٌ على حبِّ الله للدعاء، وحبِّه سبحانه لعبده الذي يدعوه، ولذا فإنَّه سبحانه يغضب من عبده إذا ترك دعاءَه، ولا ريب أنَّ هذا فيه " دليل على أنَّ الدعاءَ من العبد لربِّه من أهمِّ الواجبات وأعظمِ المفروضات؛
1 سنن الترمذي (رقم:3370)، وابن ماجه (رقم:3829) ، وصحيح ابن حبان (رقم:870) ، المستدرك (1/490)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:549) .
2 المسند (2/443، 477)، وسنن الترمذي (رقم:3373) ، وابن ماجه (رقم:3827) ، وقال ابن كثير عن إسناده: " هذا إسنادٌ لا بأس به)) . التفسير (4/92)، وحسَّنه الألبانيُّ في الصحيحة (رقم:2654) .
لأنَّ تجنُّبَ ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبِه "1، وقد سبق ذِكرُ قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2، وهو يدلُّ على أنَّ تركَ العبدِ دعاءَ ربِّه يُعدُّ من الاستكبار، وتجنُّبُ ذلك لا شكَّ في وجوبه.
ومِمَّا ورد أيضاً في فضل الدعاء ما رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً، والطبراني في الأوسط عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً قال:" أعجزُ الناس مَن عجز عن الدعاء، وأبْخلُ الناس مَن بخل بالسلام "3، فالدعاءُ أمرُه يسيرٌ جدًّا على كلِّ أحدٍ، فهو لا يتطلَّب جهداً عند القيام به، ولا يلحق الداعي بسببه تعبٌ ولا مشقَّةٌ، ولهذا فإنَّ العجزَ عنه والتواني في أدائه هو أشدُّ العَجز، وحَرِيٌّ بِمَن عجز عنه مع يُسرِه وسهولته أن يعجز عن غيره، ولا يَعجزُ عن الدعاء إلَاّ دنيُّ الهمَّةِ ضعيفُ الإيمان.
ومِمَّا جاء في فضل الدعاء ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما عن ثوبان رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يردُّ القدرَ إلَاّ الدعاءُ "4، فهذا فيه دليل على أنَّ الله سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد،
1 تحفة الذاكرين للشوكاني (ص:28) .
2 سورة غافر، الآية:(60) .
3 الأدب المفرد (رقم:1042)، وصحيح ابن حبان (رقم:4498) ، والمعجم الأوسط (رقم:5591) ، وصحح العلامة الألباني رحمه الله الموقوف والمرفوع. الصحيحة (رقم:601) .
4 المسند (5/280)، وسنن ابن ماجه (رقم:90) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:154) .
وقد ورد في هذا المعنى أحاديثُ عديدة، وحاصل معناها أنَّ الدعاءَ مِن قَدَرِ الله عز وجل؛ إذ إنَّه سبحانه قد يقضي بالأمر على عبدِه قضاءً مقيَّداً بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الدعاءَ من أعظم الأسباب التي تُنال بها سعادة الدنيا والآخرة، خلافاً لبعض المتصوِّفة الذين يعتقدون أنَّ الدعاءَ لا تأثيرَ له في حصول مطلوبٍ ولا دفع مرهوبٍ، وإنَّما هو مجرَّدُ عبادةٍ محضةٍ، وأنَّ ما حصل به يحصل بدونه، ولا يقول هذا مَن عَرَفَ قدرَ الدعاء، " ولهذا أُمر الناسُ بالدعاءِ والاستعانَةِ وغيرِ ذلك مِن الأسباب، ومَن قال: أنا لا أدعو ولا أسألُ اتِّكالاً على القَدَرِ كان مخطئاً؛ لأنَّ اللهَ جعلَ الدعاءَ والسؤالَ من الأسباب التي ينال بها مغفرتُه ورحمتُه وهداه ونصرُه ورزقُه، وإذا قدَّر للعبد خيراً يناله بالدعاءِ لَم يَحصل بدون الدعاء، وما قدَّره اللهُ وعَلِمَه من أحوالِ العباد وعواقبِهم فإنَّما قدَّره الله بأسبابٍ يسوقُ المقاديرَ إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلَاّ بسبب، والله خالقُ الأسباب والمسبَّبَات "1.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " أساسُ كلِّ خيرٍ أن تعلَم أنَّ ما شاء اللهُ كان وما لَم يشأ لَم يكن، فتيقَّن حينئذٍ أنَّ الحسناتِ مِن نِعمه فتشكرَه عليها وتتضَرَّعَ إليه أن لا يقطعَها عنك، وأنَّ السيِّئاتِ مِن خذلانِه وعقوبتِه، فتَبْتَهِلَ إليه أن يَحُولَ بينك وبينها، ولا يَكِلَكَ في فعلِ الحسنات وترك السيِّئات إلى نفسِك، وقد أَجْمع العارفون على أنَّ كلَّ
1 مجموع الفتاوى (8/69 ـ 70) .
خيرٍ فأصلُه بتوفيقِ الله للعبد، وكلَّ شرٍّ فأصلُه خذلانه لعبده، وأجمعوا أنَّ التوفيقَ أن لا يكِلَك الله إلى نفسك، وأنَّ الخذلانَ هو أن يخلي بينَك وبين نفسك، فإذا كان كلُّ خيرٍ فأصلُه التوفيق وهو بيد الله لا بيد العبدِ؛ فمفتاحُه الدعاءُ والافتقارُ وصدقُ اللَّجَأ والرغبةِ والرهبةِ إليه، فمتى أعطى العبدَ هذا المفتاحَ فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضلَّه عن المفتاح بقي بابُ الخير مُرْتَجًّا دونه
…
وما أُتي مَن أُتي إلَاّ مِن قِبَل إضاعة الشكرِ وإهمالِ الافتقار والدعاء، ولا ظَفِرَ مَن ظَفِرَ ـ بمشيئة الله وعونِه ـ إلَاّ بقيامه بالشكرِ وصدقِ الافتقارِ والدعاء " اهـ1.
إنَّ حاجةَ المسلم إلى الدعاء ماسَّةٌ في أموره كلِّها وضرورتَه إليه ملحَّةٌ في شؤونه جميعِها، وقد ضَرَبَ أَحدُ أهل العلم لِحال المسلم مع الدعاء مَثلاً بديعاً تستبين به شدَّةُ حاجته إليه، ويظهرُ به عظمُ ضرورته إليه، روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن قتادة قال: قال مُوَرِّقٌ رحمه الله: " ما وجدتُ للمؤمن مثلاً إلَاّ رجلاً في البحر على خشبة، فهو يدعو يا ربِّ يا ربِّ، لعل الله عز وجل أن ينجيَه "2.
ومَن أقبل على الله بصدقٍ، وألَحَّ عليه بالدعاء، وأَكثَرَ من سؤالِه أجاب الله دعاءَه، وحقَّق رجاءَه، وأعطاه سُؤْلَه، وفتح له أبوابَ الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
1 الفوائد لابن القيم (ص:127 ـ 128) .
2 الزهد (رقم:371) .