الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
90 ـ
مراتب رفع اليدين في الدعاء
كان الحديث فيما سبق عن أدبٍ عظيمٍ من آداب الدعاء، وسببٍ عظيمٍ من أسباب إجابته، ألا وهو رفع اليدين إلى الله عز وجل عند الدعاء بتذلُّلٍ وتمسكُنٍ وافتقار، ومرَّ معنا جملةٌ من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأنَّ ذلك ممّا تواتر معناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما مرَّ أيضاً صفاتُ الرفع في الدعاء، وأنَّها ثلاثة بحسب نوع الدعاء، فإذا كان الدعاءُ ابتهالاً وتضرُّعاً فإنَّ رفعَ اليدين يكون بمدِّهما نحو السماء حتى يبدو بياضُ الإبط، وإذا كان الدعاءُ دعاءَ المسألة فيكون رفع اليدين إلى المنكبين أو نحوهما، وإذا كان الدعاءُ استغفاراً وتمجيداً وثناءً فإنَّ الرفعَ يكون بإصبع واحدة، وهي السبابة من اليد اليمنى.
وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه قال: " كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلَاّ في الاستسقاء "، متفق عليه1.
فذهب بعضُ أهل العلم عملاً بهذا الحديث إلى أنَّ الدعاءَ لا يُشرع فيه رفع اليدين إلَاّ في الاستسقاء فقط، أمَّا سوى ذلك من الأدعية فلا يُشرع فيها رفع اليدين، لكنَّ هذا الحديث معارَضٌ بأحاديث كثيرة دالة على مشروعية رفع اليدين في الدعاء في غير الاستسقاء، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والصحيح الرفع مطلقاً، فقد تواتر
1 صحيح البخاري (رقم:1031)، وصحيح مسلم (رقم:895) .
في الصحاح: " أنَّ الطفيل قال: يا رسول الله إنَّ دوساً قد عصتِ وأبت فادعُ عليهم، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللَّهمَّ اهدِ دوْساً وأتِ بهم "1، وفي الصحيح:" أنَّه عليه الصلاة السلام لَمَّا دعا لأبي عامر رفع يديه "2، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:" لَمَّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع رفع يديه ثلاث مرَّات "، رواه مسلم3، وفيه:" أنَّه صلى الله عليه وسلم رفع يديه فقال: أُمَّتِي أُمَّتِي "، وفي آخره:" قال الله تعالى: إنَّا سنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوؤك "4، وفي قصة بدر لَمَّا رأى صلى الله عليه وسلم المشركين مدَّ يديه وجعل يهتف بربِّه، فما زال يهتف بربِّه مادًّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه5، وفي حديث قيس بن سعد رضي الله عنهما:" فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: اللَّهمَّ اجعل صلاتك ورحمتَك على آل سعد بن عبادة "6، وبعث جيشاً فيه عليٌّ رضي الله عنه فرفع يديه وقال:" اللَّهمَّ لا تُمتني حتى تريني عليًّا "7، وفي حديث القنوت رفع يديه8
…
، ثمَّ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله حديث أنس المتقدِّم في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرفع
1 الأدب المفرد (رقم:611)، وهو في صحيح البخاري (رقم:2937) دون ذكر رفع اليدين.
2 صحيح البخاري (رقم:4323)، وصحيح مسلم (رقم:2498) .
3 صحيح مسلم (رقم:974) .
4 صحيح مسلم (رقم:202) .
5 صحيح مسلم (رقم:1763) .
6 سنن أبي داود (رقم:5185)، وذكره العلَاّمة الألباني رحمه الله في ضعيف سنن أبي داود (رقم:1111) .
7 سنن الترمذي (رقم:3737)، وذكره العلَاّمة الألباني رحمه الله في ضعيف سنن الترمذي (رقم:781) .
8 المسند (3/137) ، والسنن الكبرى للبيهقي (2/211) عن أنس رضي الله عنه.
يديه في شيء من دعائه إلَاّ في الاستسقاء، ثمَّ قال:" والجمع بين حديث أنس هذا وسائر الأحاديث ما قاله طوائف من العلماء، وهو أنَّ أنساً ذكر الرفعَ الشديد الذي يُرى فيه بياضُ إبطيه وينحني فيه بدنه، وهذا الذي سمَّاه ابنُ عباس الابتهال، فجعل المراتبَ ثلاثة: الإشارة بإصبعٍ واحدة، كما كان يفعل يوم الجمعة على المنبَر، والثانية: المسألة، وهو أن يجعل يديه حذو منكبيه، كما في أكثر الأحاديث، والثالث: الابتهال، وهو الذي ذكره أنس، ولهذا قال: " كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه "1، وهذا الرفعُ إذا اشتدَّ كان بطون يديه مِمَّا يَلِي وجهه والأرض، وظهورُهما مما يلي السماء، ويؤيِّد هذا التأويل ما روى أبو داود في مراسيله من حديث أبي أيوب سليمان بن موسى الدِّمشقي رحمه الله قال: " لَم يحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رفع يديه الرفع كلَّه إلَاّ في ثلاثة مواطن: الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة، ثمَّ كان بعدُ رفعاً دون رفع "2. قال: وقد يكون أنسٌ أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة كما في مسلم وغيره: " أنَّه كان لا يزيد على أن يرفع إصبعه المسبِّحة "3، قال: وفي هذه المسألة قولان هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، يعني في رفع الخطيب يديه، قيل: يُستحب، قاله ابنُ عقيل، وقيل: لا بل يُكره، وهو أصح ". اهـ4.
وقال الحافظ ابنُ حجر في الجمع بين حديث أنس والأحاديث الأخرى الدالة على مشروعية الرفع في سائر الأدعية: " لكن جُمع بينه
1 صحيح البخاري (رقم:1030) ، (1031) .
2 المراسيل (رقم:148) .
3 انظر: صحيح مسلم (رقم:874) .
4 انظر: شرح ثلاثيات المسند للسفاريني (1/653 ـ 654) .
وبين أحاديث الباب وما في معناها بأنَّ المنفيَّ صفةٌ خاصة لا أصل الرفع، فإنَّ الرفعَ في الاستسقاء يخالف غيرَه بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يُعكِّر على ذلك أنَّه ثبت في كلٍّ منهما:" حتى يُرى بياض إبطيه "، بل يُجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإما أنَّ الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء، قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. قلت: [أي ابن حجر] : ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك ". اهـ1.
وبِما تقدَّم يتبيَّن أنَّ الدعاءَ مشروعٌ فيه رفع اليدين سواء في الاستسقاء أو غيره، بل إنَّ الرفعَ من أسباب الإجابة، كما في الحديث:" إنَّ ربَّكم حيِّيٌ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً "2، أي خائبتين، لكن صفة الرفع في الاستسقاء الذي هو مقام شدَّة ورهب تكون بالمبالغة في الرفع والابتهال الشديد، وأما ما سواه فيكون الرفعُ إلى المنكبين أو نحوِهما، عملاً بجميع الأحاديث الواردة في الباب.
وقد ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث آخر: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء "، رواه مسلم3، وفي ذلك إشارةٌ إلى المبالغة في رفع اليدين في حال الجدب في الاستسقاء، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إنَّما هو لشدَّة الرفع
1 فتح الباري (11/142) .
2 سنن أبي داود (رقم:1488)، وسنن الترمذي (رقم:3556) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1753) .
3 صحيح مسلم (رقم:896) .
انحنت يدُه فصارت كفُّه مما يلي السماء لشدَّة الرفع، لا قصداً لذلك، كما جاء أنَّه رفعهما حذاء وجهه ".
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: " رفع اليدين في الدعاء على ثلاثة أقسام:
الق سم الأول: ما وردت به السنَّة، فهذا ظاهر أنَّه يُسَن فيه الرفع، مثل دعاء الاستسقاء، والدعاء على الصفا والمروة، وفي عرفة.
والقسم الثاني: ما ورد فيه عدم الرفع مثل الدعاء في الصلاة، والتشهد الأخير.
القسم الثالث: ما لَم يرِد فيه الرفع ولا عدم الرفع، فهذا الأصل فيه أنَّ من آداب الدعاء أن يرفع الإنسانُ يديه "1.
ثمَّ إنَّ رفعَ اليدين في الدعاء فيه من التذلُّل والخضوع والانكسار والمسكنة وإظهار الحاجة والافتقار إلى الربِّ الكريم ما يكون سبباً لقبوله وإجابته، قال السفاريني رحمه الله:" قال العلماء: إنَّما شرع رفع اليدين في الدعاء لزيادة التذلل، فيجتمع للإنسان أحوالُ الضراعة في مقام العبودية، وأيضاً فإنَّ العبدَ ربما عجز عن إيقاظ قلبه من الغفلة، وله قدرة على حركة اليد واللسان فيهما، فكان ذلك وسليةً إلى خشوع القلب، وقد قالوا: حركات الظواهر توجب بركات السرائر، وهو نظير رفع السبابة في تشهد الصلاة، فيوحِّد الجنان ويترجم اللسان وتزكيه الأركان "2.
1 لقاء الباب المفتوح (51 ـ 60)(ص:17 ـ 18) باختصار.
2 انظر: شرح ثلاثيات المسند للسفاريني (1/655 ـ 656) .