الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
81 ـ
الغلُوُّ في قبور الصالِحين يصيرها أوثاناً تُعبد
إنَّ مِن أعظمِ أسباب وقوع الشرك في الدعاءِ ما أوحاه عدوُّ الله وعدوُّ عباده المؤمنين إبليسُ إلى حِزبِه وأوليائِه من الفتنة بقبور الأنبياء والأولياء والصالحين، حتى آل الأمرُ فيها إلى أن عُبد أربابُها من دون الله، وعُبدت قبورُهم واتُّخذت أوثاناً، وبُنيت عليها الهياكل، وصُوِّرت أربابها ثمَّ جُعلت تلك الصُور أجساداً لها ظِلٌّ، ثمَّ جُعلت أصناماً وعُبدت مع الله تعالى، وكان أولُ وقوع هذا الداء في قوم نوح كما أخبر الله سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَاّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} 1، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخَ العلمُ عُبدت "2.
وقال ابن جرير في تفسيره: " وكان مِن خبرِ هؤلاء فيما بلغنا ما حدَّثنا به ابنُ حُميد قال: حدَّثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس: أنَّ يغوث ويعوقَ ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني
1 سورة نوح، الآيات:(21 ـ 24) .
2 صحيح البخاري (رقم:4920) .
آدم، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلمَّا ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوَّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلمَّا ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنَّما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم "1.
ونُقل هذا المعنى عن عددٍ من السلف رحمهم الله، قال ابن القيم:" قال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلَمَّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوروا تماثيلهم، ثمَّ طال عليهم الأمَدُ فعبدوهم "2.
ولهذا تضافرت الأدلةُ وتواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع مِن ذلك والتحذير منه والتغليظ فيه، ولعن فاعله، ووصفِ مَن فعله بأنَّه من شرار الخلق، وأنَّ ذلك ليس من سُنَن المسلمين وإنَّما من سُنَن اليهود والنصارى، والنصوص عنه في هذا المعنى كثيرة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسةً رأتها بأرض الحَبشة وما فيها من الصُوَر، فقال:" أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصُوَر، أولئك شِرار الخلق عند الله "3.
وروى مسلم في صحيحه عن جُندب بن عبد الله البجلي رضي الله
1 تفسير ابن جرير (12/254) .
2 إغاثة اللهفان (1/203) .
3 صحيح البخاري (رقم:1341)، وصحيح مسلم (رقم:528) .
عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: " إنِّي أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أمَّتِي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألَا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد فإنِّي أنهاكم عن ذل ك "1.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهودَ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، وفي رواية لمسلم: " لعن الله اليهودَ والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد "3.
وروى البخاري عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: " لَمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنةُ الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، يُحذِّر ما صنعوا "4.
وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لَم يقُم منه: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأُبرز قبرُه، غير أنَّه خشي أن يتخذ مسجداً "، رواه البخاري ومسلم5.
فقد نهى صلواتُ الله وسلامه عليه عن اتخاذ القبور مساجد في آخر
1 صحيح مسلم (رقم:532) .
2 صحيح البخاري (رقم:437) .
3 صحيح مسلم (رقم:530) .
4 صحيح البخاري (رقم:435، 436) .
5 صحيح البخاري (رقم:1390، 4441)، وصحيح مسلم (رقم:529) .
حياته، ثمَّ إنَّه لعن ـ وهو في السياق ـ مَن فَعَلَ ذلك مِن أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك، والأحاديث والآثار المروية في هذا الباب كثيرةٌ جدًّا.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّما نهى أمته عن اتخاذ القبور مساجد بتحري الدعاء أو العبادة عندها سَدًّا لذريعة الشرك، ولأنَّه مظنَّةُ اتخاذها أوثاناً، قال الإمام الشافعي رحمه الله:" وأكره أن يُعظَّم مخلوق حتى يُجعل قبرُه مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى مَن بعده من الناس ".
وقد ذكر هذا المعنى غيرُ واحد من أهل العلم، وأما مَن علَّل ذلك بأنَّها مظنَّةُ النجاسة لما يختلطُ بالتراب مِن صديد الموتى فقد أبعدَ غايةَ البُعد؛ لأنَّ نجاسةَ الأرض مانعٌ من الصلاة عليها، سواء كانت مقبرةً أو لَم تكن، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد نبَّه على العلَّة بقوله:" اللَّهمَّ لا تَجعل قبري وثناً يُعبد "، وبقوله:" إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنِّي أنهاكم عن ذلك ".
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وبالجملة فمَن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفَهِم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصدَه جزم جزماً لا يحتمل النقيض أنَّ هذه المبالغة منه باللَّعن والنهي بصيغتيه: صيغة (لا تفعلوا) وصيغة (إنِّي أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بِمَن عصاه وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربَّه ومولاه، وقلَّ نصيبُه أو عدم في تحقيق شهادة لا إله إلَاّ الله، فإنَّ هذا وأمثالَه من النبي صلى الله عليه وسلم صيانةٌ لحِمى التوحيد أن يلحقه الشركُ ويغشاه وتجريدٌ له، وغضبٌ لربِّه أن يُعدل به سواه، فأبى المشركون إلَاّ معصيةً
لأمرِه وارتكاباً لنهيه، وغرَّهم الشيطانُ فقال: بل هذا تعظيمٌ لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشدَّ لها تعظيماً وأشدَّ فيهم غُلوًّا كنتم بقربهم أسعدَ ومِن أعدائهم أبعدَ، ولعمر الله مِن هذا الباب بعينه دخل على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عُبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلوِّ فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى اللهُ أهلَ التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلَهم التي أنزلهم الله إيَّاها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم "1.
وبما تقدَّم يتبيَّن أنَّ أصلَ الشرك في الأولين والآخرين إلى قيام الساعةِ الغلوُّ في الصالحين، والله عز وجل إنَّما أمرنا بمحبَّتهم وإنزالهم منازلَهم من العبودية وسلبِ خصائص الإلهية عنهم، وهذا غايةُ التعظيمِ لهم وطاعتِهِم واتباعِ سبيلهم، ونهانا عن الغلوِّ فيهم فلا نرفعهم فوق منازلهم ولا نحطُّهم منها؛ لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم، فما وقع الشركُ إلَاّ بسبب الغلوِّ فيهم، فتجد الغالين فيهم عاكفين على قبورهم يدعونهم ويسألونهم وينذرون لهم، وفي الوقت نفسه هم معرِضون عن طريقتهم وسبيلهم، بل عائبين لها ومشتغلين بقبورهم عمَّا أُمروا به ودُعوا إليه، وتعظيمُ الأنبياء والصالحين إنَّما يكون باتِّباع ما دُعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم.
1 إغاثة اللَّهفان (1/208 ـ 209) .