الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
80 ـ
خطورة التعلُّق بالقبور
لقد تقدَّم الكلامُ على فضلِ الدعاء ومكانتِه من الدِّين، وأنَّه حقٌّ خالصٌ لله لا يجوز صرفُه لغيره، كما قال تعالى:{وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً} 1، أي لا تشركوا مع الله أحداً، ولكن أَفرِدوا له التوحيد، وأَخلِصوا له الدِّين، والمسلمُ مطلوبٌ منه أن يسألَ اللهَ في كلِّ أحواله، ويدعو اللهَ في جميعِ حاجاته، يسأله وحده دون سواه، ويرجوه ولا يرجو غيرَه، ويُنزل حاجاته كلَّها به، ومن عجيب أمر بعضِ الناس في هذا الباب الخطير أنَّهم أَقبلوا على غير الله من القِباب والقبور والأضرحة ونحوها، يستنجدون بأهلها ويستغيثون بهم، ويسألونهم النصرَ والرِزقَ والعافيةَ وقضاءَ الديون وتفريجَ الكُربات وإغاثةَ اللهفات، وغيرَ ذلك من أنواع الطلبات، فبدَّل هؤلاء قولاً غير الذي قيل لهم، بدَّلوا الدعاءَ لهم بدعائهم من دون الله، والترحُّم عليهم بطلب الرَّحمة والمغفرة منهم، ومن المُحال أن يكون دعاءُ الموتى أو الدعاءُ بهم أو الدعاءُ عندهم أمراً مشروعاً أو عملاً صالحاً يقبله الله، فهذه سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة حتى توفاه الله وهذه سنةُ خلفائه الراشدين، وهذه طريقةُ جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن لبشرٍ على وجه الأرض أن يأتي عن أحدٍ منهم بنقلٍ صحيح أو ضعيف أو منقطع أنَّهم كانوا إذا كان لهم حاجة
1 سورة الجن، الآية:(18) .
قصدوا القبورَ فدعوا عندها وتمسَّحوا بها، فضلاً عن أن يُصلُّوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، ولو كان ذلك سنةً أو فضيلةً لنُقل عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولَفَعله الصحابةُ والتابعون، وقد كان عندهم قبرُ النبي صلى الله عليه وسلم وقبورُ سادات الصحابة، فما منهم مَن استغاث عند قبر صاحبٍ ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده ولا استشفى به ولا استسقى به، وحاشاهم أن يفعلوا شيئاً من ذلك، بل ثبت عنهم إنكارُ ما هو دون ذلك بكثير.
روى غيرُ واحد، عن المعرور بن سُويد قال:" صليتُ خلفَ عمرَ ابن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكةَ صلاةَ الصبح، فقرأ فيها {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ} ، و {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} ، ثمَّ رأى الناسَ يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهبُ هؤلاء؟ فقيل: يا أميرَ المؤمنين، مسجدٌ صلَّى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فهُم يُصلُّون فيه، فقال: إنَّما هلك مَن كان قبلكم بمثلِ هذا، كانوا يتَّبعون آثارَ أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبِيَعاً، فمَن أدركته الصلاةُ منكم في هذه المساجد فليُصلِّ، ومَن لا فليمضِ ولا يتعمَّدها "1.
وأرسل رضي الله عنه أيضاً فقطع الشجرةَ التي بايع تحتها أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ افتتان الناس بها2.
وروى محمد بن إسحاق في مغازيه عن خالد بن دينار، قال: حدَّثنا
1 المصنف لعبد الرزاق (رقم:2734) ، والمصنف لابن أبي شيبة (2/152) .
2 رواه ابن سعد في الطبقات (2/76) ، وصححه الحافظ في الفتح (7/513) .
أبو العالية رحمه الله قال: " لَمَّا فتحنا تُستُر وَجدنا في بيت مال الهُرمزان سريراً عليه رجلٌ ميِّتٌ، عند رأسه مُصحفٌ له، فأخذنا المُصحفَ فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا له كعباً فنسَخَه بالعربية، فأنا أوَّلُ رجل من العرب قَرَأَه، قرأته مثل ما أقرأُ القرآنَ، فقلتُ لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتُكم وأمورُكم ولحون كلامكم وما هو كائنٌ بعدُ، قلتُ: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرِّقة، فلمَّا كان الليلُ دفنَّاه، وسوينا القبور كلَّها لنُعْميه على الناس لا ينبشونه، قلتُ: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماءُ إذا حُبست عنهم برزوا بسريرِه فيُمطرون، فقلتُ: مَن كنتم تظنُّون الرجل؟ قال: رجلٌ يُقال له دانيال، فقلتُ: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلتُ: ما كان تغيَّر منه شيء؟ قال: لا إلَاّ شُعيراتٌ من قفاه، إنَّ لحومَ الأنبياء لا تُبليها الأرض، ولا تأكلها السباع "، أورد هذا الأثرَ ابنُ كثير في كتاب البداية والنهاية، وقال:" إسناده صحيح إلى أبي العالية "1.
وفي هذا الأثر دلالةٌ على ما كان عليه السلفُ رحمهم الله من حَيطةٍ كاملة وحذرٍ شديدٍ في هذا الباب الخطير، وما فعله المهاجرون والأنصارُ بتوجيه من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إخفاءٍ لقبر دانيال وتَعْمِيةٍ لمكانه دليلٌ على ما كانوا عليه من حيطةٍ وحذرٍ لئلا يَفتتن به الناس، ولو كان الدعاءُ عند القبور والصلاةُ عندها والتبرُّكُ بها
1 البداية والنهاية (2/40) .
فضيلةً وسنةً أو مباحاً لَنَصَبَ الصحابةُ هذا القبرَ عَلَماً لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لِمَن بعدهم، ولكن كانوا أعلمَ بالله ورسولِه ودينِه مِمَّن جاء بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسانٍ ساروا على هذا السبيل واقتفوا تلك الآثار، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عددٌ كثير وهم متوافرون فما منهم مَن استغاث عند قبرِ صاحب ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده، ومن المعلوم أنَّ مثلَ هذا ممَّا تتوافر الهِممُ والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونَه، ولم ينقل عنهم في فعل شيء من ذلك حرفٌ واحد، وحينئذ يُقال إن كان هذا الأمرُ مشروعاً وسنةً فكيف يخفى علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكيف تكون القرونُ الثلاثةُ المفضَّلةُ جاهلةً به مع حرصهم على كلِّ خير، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ هذا الأمرَ ليس من دين الله ولا من شرعه، والله يقول:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} 1، فإذا لَم يشرع اللهُ ذلك فمَن شرعه فقد شرع من الدِّين ما لَم يأذن به الله، وقد قال الله تعالى:{قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 2.
لقد ذكر علماءُ الإسلام وأئمَّةُ الدِّين الأدعيةَ الشرعيةَ المأخوذةَ من الكتاب والسنةِ بحدودها الشرعيةِ وضوابِطها المرعيةِ، وأعرضوا تمام
1 سورة الشورى، الآية:(21) .
2 سورة الأعراف، الآية:(33) .
الإعراضِ عن الأدعيةِ البدعية، والواجبُ اتِّباعهم في ذلك، ومَن يتأمَّل الأدعيةَ التي أحدثها الناسُ في هذا الباب ولم تكن موجودةً عند الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسان يجد أنَّها على ثلاث مراتب1:
أحدِها: أن يدعوَ غير الله وهو ميِّتٌ أو غائب سواء كان من الأنبياء أو الصالحين أو غيرهم، فيقول: يا سيدي فلان أَغِثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوي، وأعظمُ من ذلك أن يقول: اغفر لي وتُب عليَّ كما يفعله طائفةٌ من الجهال المشركين، وأعظمُ من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاةَ فيه أفضلَ من استقبال القبلة، وكلُّ ذلك من الشركِ الناقل عن ملِّة الإسلام.
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادعُ اللهَ لي، أو ادع لنا ربَّك، أو اسأل الله لنا، فهذا لا يستريب عالمٌ أنَّه غير جائز، وأنَّه من البدع التي لَم يفعلها أحدٌ من سلف الأمة المُفضية إلى الشرك بالله، بل نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنَّ ذلك عين الشرك " سواء طلب منهم قضاءَ الحاجات وتفريجَ الكربات، أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله "2.
الثالثة: أن يُقال: أسألك بحقِّ فلان أو بجاه فلان عندك، أو نحو ذلك، وهذا أيضاً لَم يكن الصحابةُ رضي الله عنهم يفعلونه، ولا يُعرف
1 انظر: مجموع الفتاوى (1/350 ـ 356) .
2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص:406) .
هذا في شيءٍ من الأدعية المشهورة بينهم، وإنَّما يُنقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة أو موضوعة.
وينبغي أن يُعلم هنا أنَّه لو كان في شيءٍ ممَّا تقدَّم ذكرُه خيرٌ لسَبَقَنا إليه الصحابةُ ولدلُّونا عليه، فإن كان هدياً صواباً فقد ضلُّوا عنه، وهذا لا يقوله عاقل، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق، فماذا بعد الحقِّ إلَاّ الضلال.