الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
97 ـ
التحذير من السماعات المبتدعة
لا يزالُ حديثُنا موصولاً ببيان ضوابط الدعاء المشروع الذي كان عليه سيِّد الأنبياء والمرسَلين، واتَّبعه فيه سادات الأولياء والصالحين من الصحابة والتابعين، وهو وحده المقبول عند الله، دون ما أحدثه المحدثون، وأنشأه المتكلِّفون، ممن هجروا الأذكارَ المشروعة، والأدعيةَ المأثورة، واستبدلوها بسماعات مبتدَعة، وتعبدٍ بإنشادِ أشعارٍ، وأراجيزَ محدثةٍ اتَّخذوها أوراداً، ووظَّفوا لها أوقاتاً، وادّعوا أنَّ تأثيرها في القلوب أبلغُ، وتحريكَها للنفوس أقوى، فمالت لها قلوبُهم، واطمأنَّت إليها نفوسُهم، وآثروها على الأذكار المشروعة والأدعية المأثورة.
وما مِن ريبٍ أنَّ هذا حدَثٌ في الدين، ومخالفةٌ لِهَدي سيِّد الأنبياء والمرسلين، والنقولُ عن أهل العلم في ذمِّ ذلك، والتحذيرِ منه، والنهيِ عنه، وبيانِ أنَّه من البدع المحدَثة كثيرةٌ جداًّ.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: " خرجتُ من بغداد وخلَّفتُ بها شيئاً أحدثه الزنادقة، يُسمّونه التغبير، يصدّون الناسَ به عن القرآن ".
والتغبيرُ ذكرٌ أحدثه هؤلاء بنوعٍ من التغنّي بالشعر مع ضربِ قضيبٍ على جلدٍ أو نحوِ ذلك.
ولَمَّا سُئل عنه الإمامُ أحمدُ رحمه الله، قال:" بدعةٌ محدثةٌ "1.
1 انظر: كتاب الكلام على مسألة السماع لابن القيم (ص:119 ـ 128) .
ويقول محمد بن الوليد الطرطوشي: " ومِن العَجب العُجاب أن تُعرِضَ عن الدعوات التي ذَكَرها الله في كتابه عن الأنبياء والأولياء والأصفياءِ مقرونةً بالإجابةِ، ثمَّ تنتقي ألفاظَ الشُّعراء والكتَّاب، كَأنَّك قد دعوتَ في زعمِك بجميع دعواتِهم ثمّ استعنتَ بدعوات مَن سواهم "1. اهـ.
وقد نبّه أهلُ العلم على أنَّ السماعَ على نوعين:
نوعٌ هو سماعُ لهوٍ وطربٍ، فهذا حكمه محرَّمٌ وباطلٌ، وقد بسط غيرُ واحدٍ من أهل العلم الأدلّة على منعه وتحريمه، منهم ابن القيِّم رحمه الله في كتابه إغاثةُ اللهفان.
والنوعُ الثاني: السماعُ المحدَثُ على وجهِ التديُّن والتقرُّب إلى الله تعالى، فهذا يُقال فيه إنَّه بدعةٌ ضلالةٌ، فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا إنَّما يُتقرَّبُ إليه بما شرع لا بالأهواء والمحدثات والبدع، وقد ضمّ بعضُ هؤلاء إلى ذلك على وجه التديُّن والتقرُّب التلحينَ والتطريبَ وآلاتِ اللهو، والتصفيق والتمايل، ونحو ذلك من الأعمال التي يقومون بها ويُؤدّونها بزعمهم تقرُّباً إلى الله جلَّ وعلَا، وطلباً لثوابه، ولا ريب أنَّ ذلك من أقبح الأعمال، وأقبح أنواع الاعتداء في الذكر والدعاء.
وهكذا صار هؤلاء يترقَّون في درجاتِ الباطل ويتمادون في الغي والضلال إلى أن بلغوا إلى هذه الحال المُزْرِية والنهاية المؤسفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإنَّ أصلَ سماع القصائد كان تلحيناً بإنشاد قصائدَ مرقِّقةٍ للقلوب تحرِّك المحبةَ والشوقَ أو الخوفَ
1 الفتوحات الربانية لابن علان (1/17) .
والخشيةَ أو الحزن والأسف وغيرَ ذلك، وكانوا يشترطون له المكان والإمكان والخلاّن، فيشترطون أن يكون المجتمعون لسماعها من أهل الطريق المريدين لوجه الله والدار الآخرة، وأن يكون الشعرُ المنشدُ غيرَ متضمنٍ لما يُكره سماعُه في الشريعة، وقد يشترط بعضُهم أن يكون القوَّالُ منهم، وربّما اشترط بعضُهم ذلك في الشاعر الذي أنشأ تلك القصائد، وربّما ضمُّوا إليه آلةً تُقوِّي الصوتَ وهو الضربُ بالقضيب على جلد مخدةٍ أو غيرها وهو التغبيرُ.
ومن المعلوم أنَّ استماع الأصوات يوجب حركة النفس بحسب ذلك الصوت الذي يوجب الحركة
…
وللأصوات طبائعُ متنوِّعة، تتنوع آثارها في النفس، وكذلك للكلام المسموع نظمه ونثره، فيجمعون بين الصوت المناسب والحروف المناسبة لهم.
وهذا الأمر يفعله بنو آدم من أهل الديانات البدعية كالنصارى والصابئة، وغير أهل الديانات مِمَّن يحرك بذلك حبه وشوقه ووجده أو حزنه وأسفه أو حميّته وغضبه أو غير ذلك، فخلف بعد أولئك من صار يجمع عليه أخلاطاً من الناس ويرون اجتماعهم لذلك شبكة تصطاد النفوس بزعمهم إلى التوبة والوصول في طريق أهل الإرادة
…
"1. الخ كلامه.
وقد سُئل رحمه الله عن رجلٍ من المعروفين بالخير أراد تتويب جماعةٍ يجتمعون على قصد الكبائر من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب
1 الاستقامة (1/305 ـ 306) .
الخمر وغير ذلك، فلم يمكنه إلَاّ أن يقيم لهم سماعاً يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدفٍّ بلا صلاصل، وغناءُ المغني بشعرٍ مباح بغير شبابة، فلمَّا فعل هذا تاب منهم جماعةٌ، وأصبح مَن لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورَّعُ عن الشبهات، ويُؤدي المفروضات، ويتجنَّب المحرَّمات، فهل يُباح فعلُ هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لِما يترتَّب عليه من المصالح مع أنَّه لا يمكنه دعوتهم إلَاّ بهذا؟
فقال رحمه الله في جوابه على هذا السؤال: " إنَّ الشيخَ المذكورَ قصد أن يُتوِّب المجتمعين على الكبائر فلم يُمكنه ذلك إلاّ بما ذكره من الطريق البدعي، يدلُّ أنَّ الشيخَ جاهلٌ بالطرق الشرعية التي بها تتوبُ العصاة، أو عاجزٌ عنها، فإنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم والصحابةَ والتابعين كانوا يدعون مَن هو شرٌّ من هؤلاء مِن أهل الكفر والفسوقِ والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية، فلا يجوز أن يُقال إنَّه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيَّه ما يتوب به العصاة، فإنَّه قد عُلم بالاضطرار والنقل المتواتر أنَّه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان مَن لا يُحصيه إلَاّ الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي بل السابقون والأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهم خيرُ أولياء الله المتقين من هذه الأمة تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية، وأمصارُ المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً ممَّن تاب إلى الله واتَّقاه، وفعل ما يحبُّه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية، فلا يُمكن أن يُقال إنَّ العصاةَ لا تمكن توبتهم إلَاّ بهذه
الطرق البدعية، بل قد يُقال: إنَّ في الشيوخ مَن يكون جاهلاً بالطرق الشرعية عاجزاً عنها، ليس عنده علمٌ بالكتاب والسنة وما يُخاطِب به الناسَ ويُسمعهم إيَّاه مِمَّا يتوب الله عليهم به، فيعدِلُ هذا الشيخُ عن الطرق الشرعيةِ إلى الطرق البدعية "1، إلى آخر كلامه رحمه الله، وهو عظيمُ الفائدة، جليلُ النفع، غنيٌّ عن البيان والتعليق، وللموضوع صلة، وبالله وحده التوفيق والسداد.
1 مجموع الفتاوى (11/620 ـ 635) .