الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين السماع المشروع والمحدث
…
98 ـ الفرق بين السماع المشروع والسماع المحدَث
سبق الحديثُ عمَّا أحدثه بعضُ الناس في الذِّكر والدعاء من السماعات المُحدَثة، والتعبُّدِ لله باتِّخاذ أراجيز وأشعارٍ أوراداً لهم، فجَنَى عليهم ذلك جنايات بالغة، وأفسد عليهم مسلكَهم، وصدَّهم عن الذِّكر القويم والدعاء السليم الوارد في هدي سيِّد الأنبياء والمرسَلين نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والواجب على كلِّ مسلم أن يُفرِّق بين السماع الذي ينتفع به في الدِّين المتقرِّر في شرع ربِّ العالمين، وبين السماعات المحدَثة التي أنشأها واخترعها بعضُ الناس على وفق أهوائهم.
فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده وكان سلفُ الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاةِ نفوسهم، فهو سماعُ آياتِ الله تعالى، وهو سماع النبيّين والمؤمنين وأهل العلم، قال الله تعالى لَمَّا ذكر مَن ذَكره من الأنبياء:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا} 1، وقال تعالى:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن
1 سورة مريم، الآية:(58) .
2 سورة الأنفال، الآية:(2) .
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًّا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 1، وقال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} 2.
وبهذا السماع أَمَر الله تعالى عباده كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3، وعلى أهله أثنى كما في قوله تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 4، وقال في الآية الأخرى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} 5، فالقولُ الذي أُمروا بتدبُّره هو القولُ الذي أُمروا باستماعه، وقد قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 6، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 7.
وكما أثنى الله على هذا السماع ذمَّ المُعرضين عنه فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} 8،
1 سورة الإسراء، الآيات:(107 ـ 109) .
2 سورة المائدة، الآية:(83) .
3 سورة الأعراف، الآية:(204) .
4 سورة الزمر، الآيات:(17، 18) .
5 سورة المؤمنون، الآية:(68) .
6 سورة محمد، الآية:(24) .
7 سورة ص، الآية:(29) .
8 سورة لقمان، الآية:(7) .
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 1، وقال تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} 2، وقال تعالى:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} 3، وقال تعالى:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} 4، وقال تعالى:{وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهْمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} 5.
فهذا هو السماعُ الذي شرعه الله لعباده، ورتَّب لهم عليه الأجورَ الكثيرةَ والخيراتِ العظيمةَ في الدنيا والآخرة، وعلى هذا السماع كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون، فكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأَ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى رضي الله عنه:" يا أبا موسى ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأ وهم يسمَعون "6، وهذا هو السماعُ الذي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشهده مع
1 سورة فصلت، الآية:(26) .
2 سورة الفرقان، الآيات:(30، 31) .
3 سورة المدثر، الآية:(49 ـ 51) .
4 سورة فصلت، الآية:(5) .
5 سورة الإسراء، الآيات:(45، 46) .
6 رواه ابن سعد في الطبقات (4/109) ، وأورده الذهبيُّ في السير (2/398) .
أصحابه ويستدعيه منهم، كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " اقرأ عليَّ القرآن، قلتُ: أقرأه عليك وعليك أُنزل، فقال: إنِّي أحِبُّ أن أسمعه من غيري، فقرأتُ عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} 1 قال: حسبُك، فنظرتُ فإذا عيناه تذرفان "2.
فهذا هو سماعُ أهل الإيمان الذي مَن سمعه وآمن به واتبعه اهتدى وأفلح، ومَن أعرض عنه شقيَ وضلَّ، ثمَّ إنَّ له من الآثار الإيمانية والمعارف القدسية والأحوال الزكية والنتائج المحمودة في الدنيا والآخرة ما لا يُعدُّ ولا يُحصى.
وأمَّا سماعُ المكاء والتصدية، وهو التصفيقُ بالأيدي والصفيرُ ونحوُه، فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلَاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 3، فأخبر عنهم أنَّهم كانوا يتَّخذون التصفيقَ باليد، والتصويت بالفم قُربةً وديناً، ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه، ولم يكن في القرون الثلاثة المفضلة من أهل الدِّين والصلاح والعبادة مَن يَجتمع على مثل هذا المكاء والتصدية، لا بدُفٍّ ولا بكفٍّ ولا بقضيبٍ، وإنَّما أُحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلمَّا رآه الأئمةُ
1 سورة النساء، الآية:(41) .
2 صحيح البخاري (رقم:4582)، وصحيح مسلم (رقم:800) .
3 سورة الأنفال، الآية:(35) .
أنكروه، وقد مرَّ قولُ الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله في ذلك، فمَن فعل هذه الأمورَ على وجه الديانة والتقرُّبِ إلى الله عز وجل فلا ريب في ضلالته وجهالته وانحرافه عن الصراط المستقيم.
وأمَّا إذا فعلها الإنسان على وجه التمتُّع واللعب، فمذهبُ الأئمة الأربعة أنَّ آلات اللَّهو كلَّها حرامٌ، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّه سيكون من أمته من يستحلُّ الحرَ والحريرَ والخمرَ والمعازف1، والمعازفُ هي الملاهي، جمع معزفة، وهي الآلة التي يُعزف بها، أي يُصوَّت بها، ولا خلاف بين أهل العلم وأئمة السلف في تحريم ذلك2.
وينبغي أن يُعلم أنَّ ثمَّةَ فرقاً بين مَن يفعل هذه الأمور على وجه اللهو واللعب، وبين من يفعلها على وجه التديُّن والتعبُّد، فإنَّ الأولَ يفعل ذلك وهو لا يعدُّه من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، بل ربَّما كان يفعله وهو يشعر بالذنب والخطأ، أما مَن فعله على وجه التقرُّب والتعبُّد، وأنَّه طريقٌ إلى الله تعالى، فإنَّه يتَّخذه دِيناً، وإذا نُهي عنه كان كمن يُنهى عن دينه، ورأى أنَّه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبَه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلَاّلٌ باتفاق المسلمين، وهذا الأمر أحبُّ إلى إبليس من الأول؛ لأنَّ العاصيَ يعلمُ أنَّه عاصٍ فيتوب، والمبتدعُ يحسب أنَّ الذي يفعله طاعة فلا يتوب، فالبدعةُ أحبُّ إلى إبليس من المعصية، حمانا الله وإياكم منه، وهدانا إلى صراطه المستقيم.
1 صحيح البخاري (رقم:5590) .
2 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/557 ـ 586) .