الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
78 ـ
التحذيرُ من الأدعية المبتدعة
إنَّ الدعاءَ طاعةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ جليلةٌ يلزم المسلمَ فيها ـ شأن جميع العبادات ـ التقيّدُ بهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولزوم سنّته، واتباعُ طريقته، وسلوكُ سبيله، فإنَّ خيرَ الهدي وأكملَه وأقومَه هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول كلَّ جمعة إذا خطب الناس:" أما بعد فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالة في النار "1، ولذا فإنَّ الواجب على كلِّ مسلم أن يحذر أشدَّ الحذر من المحدثات في الدين، ويلزم في جميع أمور دينه هديَ سيِّد الأنبياء والمرسَلين.
إنَّ هديَ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء هديٌ كاملٌ لا نقصَ فيه بوجه من الوجوه، فلم يَدَعْ صلى الله عليه وسلم شيئاً من الخير والفائدة المتعلِّقةِ بالدعاء إلَاّ بيّنها على أتمِّ الوجوه وأكملِها وأوفاها كما هو شأنُه صلوات الله وسلامه عليه في جميع جوانب الدين، ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله قوله:{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} 2، ومَن يتأمّل هديَه صلى الله عليه وسلم في الدعاء يجدُه هدياً كاملاً وافياً شاملاً لا نقصَ فيه، فبيّن للأمَّة الأدعيةَ المتعلِّقة بالأوقات المعيّنة أو الأمكنة المعيّنة أو الأحوال المعيّنة، ووضّح المطلق من الدعاء والمقيّد، وقد سبق
1 صحيح مسلم (رقم:867) .
2 سورة المائدة، الآية:(3) .
ذكرُ بعض ما ورد عنه مما يتعلّق بالأوقات الفاضلة التي يُستحَبُّ للمسلمين أن يتحرّوا فيها الدعاءَ، وسبق ذكرُ ما ورد عنه من بيان للأمكنة الفاضلة التي يستحب تحري الدعاء فيها، وكذلك سبق الإشارةُ إلى جملة من الأحوال الفاضلة التي يكون عليها المسلم فيستحب له فيها تحري الدعاء؛ لعِظم قربِه فيها من الله وشدَّةِ إخباته وخضوعه وذُلِّه.
وقد اشتملت أدعيةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتةُ عنه جميعَ أحوال الناس من سرورٍ أو حزنٍ، وصحةٍ أو سقمٍ، ونعمةٍ أو مصيبةٍ، وسفرٍ أو إقامة وغير ذلك، فدلَّ أمّتَه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلِّه إلى خير ما ينبغي أن يقولوه في جميع تلك الأحوال، ولَم يَدَعْ صلى الله عليه وسلم شيئاً من الدعاء المقرِّب إلى الله والموصِل إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة إلَاّ بيَّنه للأمَّة تاماًّ كاملاً، كيف لا وهو القائلُ صلوات الله وسلامه عليه:" ما بَعث الله من نبِيٍّ إلَاّ كان حقاًّ عليه أن يدلَّ أمَّتَه على خير ما يعلمه لهم، ويُنذِرهم شرّ ما يعلمه لهم "، رواه مسلم1.
وإنَّ من العجب حقاًّ أن يَدَعَ بعضُ عوامِّ المسلمين الأدعيةَ الصحيحةَ الثابتةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مجموعة في كتبٍ كثيرة معتَبَرةٍ مُتَداولَة بين المسلمين ويُقْبِلوا على أدعِيةٍ مُحْدَثَةٍ مُبتدَعَةٍ أنشأها بعضُ المتكلِّفِين، وكتبَها بعضُ المتخرِّصين دون تعويلٍ على الكتاب والسنة، ودون اعتبارٍ لِهَدْيِ خيرِ الأمَّةِ صلوات الله وسلامه عليه، فشَغَلُوا بذلكَ الناسَ عن السُّنَنِ وأوقَعوهم في البدعِ، وفي مثل هذا يقولُ بعضُ
1 صحيح مسلم (رقم:1844) .
السَّلف: " ما ابتدع قومٌ بدعةً في دينهم إلَاّ نَزَع الله من سنَّتِهم مثلَها، ثمّ لا يُعيدُها إليهم إلى يوم القيامة "1، وكيف يليق بمسلم يعرفُ فضلَ الرسول صلى الله عليه وسلم وقَدْرَه ونُصْحَه لأمَّته، ثمَّ مع ذلك يَدَعُ هديَه وأدعِيتَه العظيمة المبارَكة، ويُقْبِلُ على أدعيةِ وكتبِ هؤلاء المتخرِّصين المتَكَلِّفين.
قال أبو بكر محمد بن الوليد الطَرْطُوشيُّ صاحبُ كتاب الحوادث والبدع: " ومِن العَجب العُجاب أن تُعرِضَ عن الدعوات التي ذَكَرها الله في كتابه عن الأنبياء والأولياء والأصفياءِ مقرونةً بالإجابةِ، ثمَّ تنتقي ألفاظَ الشُّعراء والكتَّاب، كَأنَّك قد دعوتَ في زعمِك بجميع دعواتِهم ثمّ استعنتَ بدعوات مَن سواهم "2.
ويقول الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} وهو يذكر جملة من أنواع الاعتداء في الدعاء: " ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة فيتخيّر ألفاظاً مفقرةً، وكلماتٍ مسجَّعةً، قد وجدها في كراريس، لا أصل لها ولا معوّل عليها فيجعلها شعارَه، ويترك ما دعا به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هذا يَمنع من استجابة الدعاء "3.
وإنَّ أشدَّ ما يكون في هذا الأمر خطورةً أنَّ بعضَ هذه الأدعية المؤلّفةِ مشتملةٌ على ألفاظٍ كفرية واستغاثات شركية وشطط بالغ، قال
1 سنن الدارمي (1/85) ، والمصنف لعبد الرزاق (1/93) .
2 الفتوحات الربانية لابن علان (1/17) .
3 الجامع لأحكام القرآن (7/144) .
أبو العباس أحمدُ بن إدريس القرافي بعد أن ذكر أنَّ الأصلَ في الدعاء التوقف، وذكر أنواعاً من الأدعية الكفرية الناقلة من الملّة الإسلامية:" إذا تقرّر هذا فينبغي للسائلِ أن يحذرَ هذه الأدعيةَ وما يجري مجراها حَذراً شديداً؛ لما تؤدي إليه من سَخطِ الدَيَّان والخلودِ في النيران وحبوط الأعمال وانفساخ الأنكحة واستباحة الأرواح والأموال، وهذا فسادٌ كلّه يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية ولا يرجع إلى الإسلام، ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلَاّ بتجديد الإسلام، والنطق بالشهادتين؛ فإن مات على ذلك كان أمره كما ذكرناه، نسأل الله تعالى العافية من موجبات عقابه "1.
إنَّ الواجب على كلِّ مسلم أن يَحذر أشدّ الحَذر من مِثل هذه الأدعيةِ التي أَحْدَثَها بعضُ شيوخ الضلال وأئمّة الباطلِ، فصدُّوا بها الناسَ عن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم وصرَفُوهم بها عن سنَّتِه، فضَلُّوا وأضَلُّوا كثيراً وضَلُّوا عن سواء السبيل، وإنَّ المسلم الفَطِن ليتساءل في هذا المقام ما الذي دعا أولئكَ إلى ابتكار تلك الأدعيةِ واختراعِ تلك الأورادِ رَغم ما فيها من ضلال وباطل، فلا يَجِد جواباً على ذلك إلَاّ أنَّ أولئك يريدون أكلَ أموال الناس بالباطل وتكثيرَ الأتباع والمريدين، وقد سبق أن مرَّ معنا قولُ معاذ بن جبل رضي الله عنه: " إنَّ من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ويُفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحرُّ، فيوشكُ قائلٌ أن يقول ما للناس لا
1 الفروق للقرافي (4/264 ـ 265) .
يتبعوني وقد قرأتُ القرآن؟ ما هم بمتبعيَّ حتى أبتدع لهم غيرَه، فإيّاكم وما ابتدع، فإنَّ ما ابتدع ضلالةٌ "1، رواه أبو داود في سننه والآجري في الشريعة، فمِن هؤلاء يجب أن يكون المسلم على حَذَرٍ بالغٍ وحَيْطَةٍ كاملة، وليلزم السُّنَّةَ، وليتبِّع سبيلَ أهلِها، ففي ذلك السلامة والفلاح.
1 سنن أبي داود (رقم:4611)، والشريعة (رقم:90، 91) ، وصححه العلَاّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:3855) .