الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أدلة السنة على فضل الدعء وذكر ضابط في المفاضلة بين الذكر والدعاء
…
57 ـ من أدلة السنة على فضل الدعاء وذكر ضابط في المفاضلة بين الذِّكر والدعاء
تقدَّم معنا فضلُ الدعاء من خلال عرض جملة من نصوص القرآن الكريم الدَّالة على عِظم فضله وجلالة شأنه، وفي ما يلي ذِكرُ جملةٍ من نصوص السنة الدالَّة على فضل الدعاء، وكثرة عوائِدِه وثِمارِه وفوائده، والسنَّةُ مليئةٌ بالنصوص المشتملة على الحثِّ على الدعاء وبيان فضله وعِظم ثوابه وأجره عند الله.
فمن ذلك ما ثبت في السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أنَّ رسول الله قال: " الدعاء هو العبادة، ثمَّ قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1 "2، فدلَّ ذلك على عِظم شأن الدعاء، وأنَّه أرفعُ أنواع العبادة وأفضلُها.
وقد روى الحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: " أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} "3.
1 سورة غافر، الآية:(60) .
2 سنن الترمذي (رقم:3247) ، والمسند (4/267)، والأدب المفرد (رقم:714) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:1757) .
3 المستدرك (1/491)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1579) .
وروى الترمذي وغيرُه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:" ليس شيء أكرم على الله من الدعاء "1.
ففي هذه الأحاديث دلالةٌ على فضل الدعاء، وعظيم كرمه عند الله، ورفيع مكانته من العبادة، وأنَّه روحُها ولبُّها وأفضلُها، وإنَّما كان ذلك كذلك لأمور عديدة ذكرها أهل العلم:
منها: أنَّ الدعاءَ فيه التضرُّعُ إلى الله وإظهارُ الضعف والحاجة إليه سبحانه.
ومنها: أنَّ العبادةَ كلَّما كان القلبُ فيها أخشعَ والفكرُ فيها حاضراً فهي أفضلُ وأكملُ، والدعاء أقربُ العبادات إلى حصول هذا المقصود، فإنَّ حاجةَ العبد تدفعه إلى الخشوع وحضور القلب.
ومنها: أنَّ الدعاءَ ملازمٌ للتوكُّل والاستعانةِ بالله، فإنَّ التوكُّلَ هو الاعتمادُ بالقلب على الله والثقةُ به في حصول المحبوبات واندفاع المكروهات، والدعاءُ يقويه، بل يعبر عنه ويصرح به، فإنَّ الداعي يعلم ضرورته التامة إلى الله، وأنَّ أمورَه جميعَها بيده، فيطلبها من ربِّه راجياً له واثقاً به، وهذا هو روحُ العبادة2، إلى غير ذلك من الأمور التي تبيِّن عِظم قدر الدعاء ورِفعة شأنه، على أنَّه ينبغي أن يتنبَّه إلى أنَّ هذا لا
1 سنن الترمذي (رقم:3370)، وابن ماجه (رقم:3829) ، وصحيح ابن حبان (رقم:870) ، المستدرك (1/490)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:549) .
2 انظر: مجموع الفوائد واقتناص الأوابد لابن سعدي (ص:46) .
يعنِي تفضيل الدعاء على غيره من العبادات مطلقاً، بل جنس الذِّكر أفضلُ من جنس الدعاء من حيث النظر إلى كلٍّ منهما مجرَّداً، وقراءة القرآن أفضلُ من الذِّكر، والذِّكرُ أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر إلى الكلِّ مجرَّداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل1.
وهذا بابٌ شريفٌ من العلم ينبغي للمسلم أن يدركه وأن يعتني بفهمه تمام العناية؛ ليدرك الأفضل في كلِّ وقت وحال، وليحوز على الأكمل له في عبادته لربِّه وطاعته لمولاه في كلِّ زمان ومكان، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ضابطاً دقيقاً للتفاضل بين العبادات وتنوع ذلك بحسب أجناس العبادات وأوقاتها واختلاف أمكنتها واختلاف القدرة على القيام بها ونحو ذلك، وعلى ضوئه يُدرك المسلمُ الأفضلَ له بحسب تلك الاعتبارات المشار إليها.
قال رحمه الله: " إنَّ الأفضل يتنوَّع: تارة بحسب أجناس العبادات، كما أنَّ جنسَ الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذِّكر، وجنس الذِّكر أفضلُ من جنس الدعاء.
وتارة يختلف باختلاف الأوقات كما أنَّ القراءةَ والذِّكرَ والدعاءَ بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.
وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر، كما أنَّ الذِّكرَ والدعاءَ في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذِّكرُ والدعاءُ
1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:187) .
في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف.
وتارة باختلاف الأمكنة، كما أنَّ المشروعَ بعرفة ومزدلفة وعند الجِمار وعند الصفا والمروة هو الذِّكرُ والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضلُ من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة، فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأمَّا النساء فجهادهنَّ الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضلُ من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيِّمة فإنَّها مأمورة بطاعة أبويها.
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضلُ في حقِّه مما يعجز عنه، وإن كان جنسُ المعجوز عنه أفضلَ، وهذا بابٌ واسعٌ يغلو فيه كثيرٌ من الناس ويتَّبعون أهواءهم.
فإنَّ من الناسِ مَن يرى أنَّ العملَ إذا كان أفضلَ في حقِّه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربِّه يريد أن يجعله أفضلَ لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك.
والله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد وهادياً لهم يأمر كلَّ إنسانٍ بِما هو أصلح له، فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكلِّ إنسان ما هو أصلح له.
وبهذا تبيَّن لك أنَّ من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوُّعُه بالجهاد أفضلَ، ومنهم من يكون تطوُّعُه
بالعبادات البدنية كالصلاة والصيام أفضلَ له1، والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبيِّ صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، فإنَّ خيرَ الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم "2. اهـ كلامه رحمه الله.
وهو كما ترى مشتملٌ على تحقيق متقن، وتأصيل واف في هذا الباب العظيم لِمَن أراد لنفسه الأفضلَ والأكملَ في العبادات والأمور المُقرِّبة إلى الله عز وجل، وحاصلُه أنَّ الأفضلَ في كلِّ وقتٍ وحالٍ هو مراعاة سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه، فبذلك يدرك المسلم الكمال، ويظفر بالأفضل والأكمل.
على أنَّه ينبغي أن يعلم أنَّ الأعمالَ المتساوية في الجنس تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان بالله والمحبة له والتعظيم لشرعه وقصد وجهه بالعمل تفاضلاً لا يحصيه ولا يحيط به إلَاّ الله.
فنسأله سبحانه أن يهدينا وإياكم إلى أحسن الأعمال لا يهدي إلى أحسنها إلَاّ هو، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاصَ في القول والعمل.
1 ومن لطيف ما يُذكر في هذا الباب ما أورده الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (8/114) في ترجمة الإمام مالك بن أنس، أنَّ عبد الله بن عمر العُمري العابد كتب إلى الإمام مالك يَحُضُّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالكُ بن أنس: " إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنَشرُ العلم من أفضل أعمال البِرِّ، وقد رضيت بِما فتح لي، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كِلانَا على خير وبِرٍّ)) .
(2)
مجموع الفتاوي (10/427-429)