الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
109 ـ
مكانة الاستغفار وحال المستغفرين
إنَّ للاستغفار مكانةً في الدِّين عظيمة، وللمستغفرين عند الله أجوراً كريمة، وثمارُ الاستغفار ونتائجُه الحميدةُ في الدنيا والآخرة لا يحصيها إلَاّ الله، ولهذا كثرت النصوصُ القرآنية والأحاديثُ النبويةُ المرشدةُ إلى الاستغفار، والحاثَّةُ عليه، والمبيِّنةُ لفضله وعظيمِ أجرِه.
يقول الله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1، ويقول تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ الله} 2، ويقول تعالى:{وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 3، ويقول تعالى عن نوح عليه السلام:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنَينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} 4، والآياتُ في هذا المعنى كثيرة، وهي دالَّةٌ على عظيم شأن الاستغفار وتنوُّع فوائده وثمراته.
جاء في الأثر عن الحسن البصري رحمه الله: " أنَّ رجلاً شكى إليه الجدبَ، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر الفقرَ، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر جفاف بُستانه، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر
1 سورة النساء، الآية:(110) .
2 سورة آل عمران، الآية:(135) .
3 سورة الأنفال، الآية:(33) .
4 سورة نوح، الآيات:(10 ـ 12) .
عدم الولد، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، ثمَّ تلا عليهم قول الله تعالى عن نوح عليه السلام:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنَينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} "1، " أي إذا تُبتُم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدَّكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنَّات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها "2، وفي هذا دلالةٌ على عِظم فوائد الاستغفار وكثرة خيراته وتعدُّد ثمراته.
وهذه الثمرات المذكورة هنا هي مِمَّا يناله العبدُ في دنياه من الخيرات العميمة والعطايا الكريمة والثمرات المتنوِّعة، وأمَّا ما يناله المستغفرون يوم القيامة من الثواب الجزيلِ والأجرِ العظيمِ والرحمةِ والمغفرةِ والعِتقِ من النار والسلامة من العذاب، فأمرٌ لا يُحصيه إلَاّ الله تعالى.
روى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لِمَن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً "، وسنده صحيح3.
وروى الطبراني في الأوسط والضياء المقدسي في الأحايث المختارة
1 ذكره الحافظ في الفتح (11/98) .
2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/260) .
3 سنن ابن ماجه (رقم:3818)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:3930) .
عن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن أحبَّ أن تسرَّه صحيفتُه فليُكثر فيها من الاستغفار "1.
وروى أبو داود والترمذي وغيرُهما عن بلال بن يسار بن زيد، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلَاّ هو الحيُّ القيوم وأتوب إليه، غفر له، وإن كان فرَّ من الزحفِ "2.
وفي هذا الحديث دلالةٌ على أنَّ الاستغفارَ يمحو الذنوبَ سواء كانت كبائر أو صغائرَ، فإنَّ الفرارَ من الزحفِ من الكبائر.
لكن ممَّا ينبغي أن يُعلم هنا أنَّ المرادَ بالاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، فهو حينئذ يُعدُّ توبةً نصوحاً تجُبُّ ما قبلَها، أما إن قال المرءُ بلسانه: أستغفر الله، وهو غير مقلعٍ عن ذنب، فهو داعٍ لله بالمغفرة، كما يقول: اللَّهمَّ اغفر لي، وهذا طلبٌ من الله المغفرةَ ودعاءٌ بها، فيكون حكمُه حكمَ سائر الدعاء لله، ويُرجى له الإجابة.
وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ القائلَ: أستغفر الله وأتوب إليه له حالتان:
الأولى: أن يقول ذلك وهو مصِرٌّ بقلبه على الذنب، فهذا كاذبٌ في قوله: وأتوب إليه؛ لأنَّه غير تائب، فإنَّ التوبةَ لا تكون مع الإصرار من العبدِ على الذنب.
1 الأوسط (رقم:839)، والأحاديث المختارة (رقم:892) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:2299) .
2 سنن أبي داود (رقم:1517)، وسنن الترمذي (رقم:3577) .
والحالة الثانية: أن يقول ذلك وهو مقلعٌ بقلبه وعزمه ونيَّته عن المعصية، وجمهور أهل العلم على جواز قول التائب: أتوب إلى الله، وعلى جواز أن يُعاهد العبدُ ربَّه على أن لا يعود إلى المعصية أبداً، فإنَّ العزمَ على ذلك واجبٌ عليه، فهو مخبرٌ بما عزم عليه في الحال، وقد تقدَّم أنَّ من شروط قبول التوبة العزمَ من العبد على عدم العودةِ إلى الذنب، فإن صحَّ منه العزمُ على ذلك قُبلت توبتُه، فإن عاد إلى الذنب مرَّة ثانية احتاج إلى توبةٍ أخرى ليغفر له ذنبه، ولهذا فإنَّ العبدَ ما دام كذلك كلَّما أذنب تاب وكلَّما أخطأ استغفر فهو حريٌّ بالمغفرة وإن تكرَّر الذنب والتوبة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربِّه عز وجل: قال: " أذنب عبدٌ ذنباً، فقال: اللَّهمَّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثمَّ عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثمَّ عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك "1. أي: ما دُمتَ تائباً أوَّاهاً منيباً.
فهذه توبةٌ مقبولةٌ وإن تكرَّر الذنبُ، فإنَّه كلَّما كرَّر العبدُ التوبةَ مستوفياً شروطها قُبلت منه، أما الاستغفار بدون توبة فلا يستلزم
1 صحيح البخاري (رقم:7507)، وصحيح مسلم (رقم:2758) .
المغفرةَ، بل هو سببٌ من الأسباب التي ترجى بها المغفرة.
ولا ينبغي للعبدِ أن يقنَطَ من رحمة الله وإن عظُمت ذنوبُه وكثرت وتنوَّعت، فإنَّ بابَ التوبةِ والمغفرَةِ والرحمةِ واسعٌ، فالله يقول:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: " مَنْ آيس عبادَ الله من التوبة بعد هذا فقد جَحَدَ كتاب الله عز وجل "2.
ويقول سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 3، ويقول:{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 4، وقال الله تعالى في حقِّ المنافقين:{إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا} 5، وقال في شأن النصارى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وِإِن لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 6، وقال في شأن الكُفَّار: {إِنَّ الَّذِينَ
1 سورة الزمر، الآية:(53) .
2 ذكره ابن كثير في تفسيره (4/59) .
3 سورة التوبة، الآية:(104) .
4 سورة النساء، الآية:(110) .
5 سورة التوبة، الآية:(145) .
6 سورة المائدة، الآيتان:(73، 74) .
110 ـ مُلازمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم للاستغفار
لقد كان إمامُ المرسَلين، وقدوةُ الموحِّدين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم كثيرَ الاستغفار والتوبةِ إلى الله، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، كما قال تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} 1، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنه قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى قام حتى تتفطَّر رجلاه، فقلت له يا رسول الله: أتصنَعُ هذا وقد غفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً "2.
قال ابن كثير رحمه الله: " هذا من خصائصه صلواتُ الله وسلامه عليه التي لا يشاركه فيها غيرُه، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريفٌ عظيمٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو صلوات الله وسلامه عليه في جميع أموره على الطاعةِ والبِرِّ والاستقامة التي لَم ينلها بشرٌ سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكملُ البشر على الإطلاق، وسيِّدُهم في الدنيا والآخرة "3.
1 سورة الفتح، الآيتان:(1، 2) .
2 صحيح البخاري (رقم:4837)، وصحيح مسلم (رقم:2820) .
3 تفسير القرآن العظيم (7/310) .
ومع ذلك كلِّه فقد كان صلواتُ الله وسلامه عليه يُكثر في جميع أوقاته من الاستغفارِ، وكان الصحابةُ رضي الله عنهم يُحصون له في مجالسه الاستغفارَ الكثيرَ.
روى مسلم في صحيحه عن الأغر المزنيّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّه ليُغان على قلبي، وإنِّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرَّة "1.
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والله إنِّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة "2.
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كنَّا نعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلسِ الواحدِ مائةَ مرة: ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ، إنَّك أنت التواب الرحيم "3.
وأخرج النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناسَ فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإنِّي أتوب إليه في اليوم مائة مرة "4.
1 صحيح مسلم (رقم:2702) .
2 صحيح البخاري (رقم:6308) .
3 سنن أبي داود (رقم:1516)، وسنن الترمذي (رقم:3434) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:556) .
4 النسائي في الكبرى (10265) ، وهو عند مسلم من حديث الأغر (4/2076) بلفظ مقارب.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الاستغفار صيغٌ عديدة، منها قوله:" أستغفر الله وأتوب إليه "، قال أبو هريرة رضي الله عنه:" ما رأيتُ أحداً أكثر من أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم "1.
ومنها قوله: " ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ إنَّك أنت التواب الرحيم "، وقد تقدَّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ومنها ما ثبت في الصحيحين: أنَّ أبا بكر قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: " عَلِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي؟ قال: قل: اللَّهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلَاّ أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم "2.
ومنها ما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يدعو بهذا الدعاء: " اللَّهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منِّي، اللَّهمَّ اغفر لي جدِّي وهزلِي، وخطأي وعمدي، وكلُّ ذلك عندي، اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنتَ المقدِّم وأنت المُؤخِّر، وأنتَ على كلِّ شيء قدير "3.
ومنها ما ثبت في صحيح مسلم أنَّه كان من آخر ما يقوله صلى الله عليه وسلم بين التشهد والتسليم: " اللَّهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أَسررتُ
1 السنن الكبرى للنسائي (رقم:10288)، وصحيح ابن حبان (رقم:928) .
2 صحيح البخاري (رقم:834)، وصحيح مسلم (رقم:2705) .
3 صحيح مسلم (رقم:2719) .
وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنتَ أعلم به منِّي، أنتَ المقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلَاّ أنت " 1.
ومنها، وهو أتَمُّها وأكملُها ما ثبت في صحيح البخاري عن شدَّاد ابن أوس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:" سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبدُ: اللَّهمَّ أنت ربِّي لا إله إلَاّ أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِك ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمَتِك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلَاّ أنتَ "2.
فهذا الحديث لَمَّا كان جامعاً لمعاني التوبة، مشتملاً على حقائقِ الإيمان، مُتضمِّناً لمحضِ العبودية، وتمام الذُّلِّ والافتقار فاق سائرَ صِيَغِ الاستغفار في الفضيلة وارتفع عليها.
قال ابن القيم رحمه الله: " فتضمَّن هذا الاستغفار الاعترافَ من العبد بربوبيَّة الله وإلهيَّته وتوحيده، والاعتراف بأنَّه خالقُه، العالمُ به؛ إذ أنشأه نشأةً تستلزمُ عجزَه عن أداء حقِّه وتقصيره فيه، والاعتراف بأنَّه عبدُه الذي ناصيتُه بيده وفي قبضتِه، لا مهربَ له منه، ولا ولِيَّ له سواه، ثمَّ التزامُ الدخول تحت عهده ـ وهو أمره ونهيه ـ الذي عَهدَه إليه على لسان رسوله، وأنَّ ذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب أداء حقِّك، فإنَّه غير مقدور للبشر، وإنَّما هو جهد المقلِّ، وقدر الطاقة، ومع ذلك فأنا مصدِّقٌ بوعدك الذي وعدته لأهل طاعتك بالثواب، ولأهلِ معصيتك بالعقاب، فأنا مقيمٌ على عهدِك مُصدِّقٌ بوعدِك، ثمَّ أفزع إلى الاستعاذة
1 صحيح مسلم (رقم:771) .
2 صحيح البخاري (رقم:6306) .
والاعتصام بك من شرِّ ما فرطتُ فيه من أمركَ ونهيكَ، فإنَّك إن لَم تعِذْني من شرِّه، وإلَاّ أحاطت بي الهلكة، فإنَّ إضاعةَ حقِّك سببُ الهلاكِ، وأنا أُقرُّ لك وألتزم بنعمتك عليَّ، وأقِرُّ وألتزم وأنجع بذنبي، فمنك النعمةُ والإحسانُ والفضلُ، ومنِّي الذنبُ والإساءةُ، فأسألكَ أن تغفر لي بمحوِ ذنبي، وأن تُعفيني من شرِّه، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلَاّ أنتَ، فلهذا كان هذا الدعاءُ سيِّدَ الاستغفار "1.
ومِن صِيَغ الاستغفار التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنه: أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصْغَت إليه قبل أن يموت وهو مسنِدٌ إليها ظهرَه يقول: اللَّهمَّ اغفر لي وارحمني وألحِقني بالرفيق الأعلى "2.
وفي هذا إشارةٌ إلى ملازمتِه صلى الله عليه وسلم للاستغفار في كلِّ أوقاته وجميع أحيانه إلى آخر لحظات حياته الكريمة صلواتُ الله وسلامه عليه، وكما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يختم أعماله الصالحة، كالصلاة والحج وقيام الليل وسائر مجالسِه بالاستغفار فقد ختم حياتَه كلَّها به، رزقنا الله حسنَ الاقتداء به والاتِّباع لنهجه، ونسأله سبحانه أن يرزقنا الخاتمة الحسنة، إنَّه سميع مُجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ويليه القسم الثالث إن شاء الله، وهو في شرح الأذكار المتعلقة بعمل اليوم والليلة.
1 مدارج السالكين (1/221 ـ 222) .
2 صحيح البخاري (رقم:4440) .
عَلَيْنَا} 1، وقد بيّن رحمه الله في سياق رده عليهم: أنَّ القبلةَ هي ما يستقبله الإنسان بوجهه، والاستقبال ضد الاستدبار، فالقبلةُ ما يستقبله الإنسان ولا يستدبره، فأما ما يرفع الإنسان إليه يده أو رأسه أو بصره فهذا باتّفاق الناس لا يسمّى قبلةً؛ لأنَّ الإنسان لَم يستقبله كما
لا يستدبر الجهةَ التي تقابلُه، ومن استقبل شيئاً فقد استدبر ما يقابله كما أنَّ من استقبل الكعبة فقد استدبر ما يقابلها، ومعلومٌ أنَّ الداعي لا يكون مستقبلاً للسماء ومستدبراً للأرض، بل يكون مستقبلاً لبعض الجهات إمّا القبلة أو غيرها، مستدبراً لما يقابلُها كالمصلي، فظهر أنَّ جعل ذلك قبلةً باطلٌ في العقل واللغة والشرع بطلاناً ظاهراً لكلِّ أحد2.
والمقصود أنَّ قبلةَ المسلمين في الدعاء هي قبلتهم في الصلاة، أمّا رفعهم لأيديهم عند الدعاء إلى السماء فلأنَّ ربَّهم الذي يدعونه ويسألونه ويرجونه ويطمعون في نيل ثوابه ورحمته ويخافونه في سمائه مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، يسمع دعاءَهم ويُجيب نداءَهم، كما قال سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 3.
1 سورة فصلت، الآية:(40) .
2 انظر: نقض التأسيس (2/462) .
3 سورة طه، الآيات:(5 ـ 8) .