الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إستقبال الداعي الى القبلة
…
94 ـ استقبال الداعي القبلة
إنَّ من آداب الدعاء أن يستقبلَ الداعي القبلةَ وقت دعائه، ذلك أنَّ القبلةَ هي الجهة الفاضلة التي أُمر المسلمون بالاتّجاه إليها في عبادتهم، فكما أنَّها قبلةٌ للمسلمين في الصلاة فهي قبلةٌ لهم في الدعاء، وقد ثبت استقبالُ النبي صلى الله عليه وسلم للقبلة عند دعائه في أحاديث عديدة.
من ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبةَ فدعا على نفر من قريش، على شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأبي جهل بن هشام، فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى قد غيّرتهم الشمس وكان يوماً حاراًّ "1.
وخرّج مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً فاستقبل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم القبلةَ ثمَّ مدَّ يديه، فجعل يهتف بربِّه: اللَّهمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللَّهمَّ آتِ ما وعدتني، اللَّهمَّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربِّه ماداًّ يديه مستقبلَ القبلة حتى سقط رداؤُه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه فألقاه على منكبيه ثمَّ التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتُك ربَّك، فإنَّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي
1 صحيح البخاري (رقم:3960) ، وصحيح مسلم (3/1420) .
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1 فأمدَّه الله بالملائكة "2.
وخرّج البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد قال: " خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلَّى يستسقي فدعا واستسقى ثمَّ استقبل القبلة وقلب رداءَه "3.
وثبت كذلك استقبالُ القبلة في الدعاء في الحج على الصفا والمروة وفي عرفة وعند المشعر الحرام وعند الجمرة الأولى والثانية، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدلُّ على مشروعية استقبال القبلة وقت الدعاء، وأنَّ ذلك أفضلُ وأكملُ للداعي، على أنَّ ذلك ليس لازماً ولا واجباً في الدعاءِ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنَّه دعا وهو غير مستقبل القبلة، وقد عقد الإمام البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه باباً بعنوان " الدعاء غير مستقبل القبلة "، وخرّج فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله ادع اللهَ أن يسقينا، فتغيّمت السماء ومطرنا حتى ما كاد الرجلُ يَصِل إلى منزله، فلم تزل تمطر إلى الجمعة المقبلة، فقام ذلك الرجل أو غيرُه فقال: ادع اللهَ أن يصرفه عنّا، فقد غرقنا، فقال: اللَّهمَّ حوالَينا ولا علَينا، فجعل السّحابُ يتقطّع حول المدينة ولا يمطرُ أهلَ المدينة "4، ومعلومٌ أنَّ الخطيب وقت الخطبة يكون معطياً القبلة ظهره، فهذا فيه دلالة على أنَّ استقبال القبلة ليس شرطاً في الدعاء، لكنَّه هو
1 سورة الأنفال، الآية:(9) .
2 صحيح مسلم (رقم:1763) .
3 صحيح البخاري (رقم:1023، 6343)، وصحيح مسلم (رقم:894) .
4 صحيح البخاري (رقم:6342) .
الأولى والأكمل، قال شيخ الإسلام:" ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء يستقبلها كما فعله في أثناء الاستسقاء الذي رفع فيه يديه رفعاً تاماًّ، فعن عباد بن تميم عن عمّه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي، فصلّى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحوّل رداءه، ورفع يديه فدعى واستسقى واستقبل القبلة " 1، رواه الجماعة أهل الصحاح والسنن والمسانيد، كالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم، فأخبر أنَّه استقبل القبلةَ التي هي قبلة الصلاة في أثناء دعاء الاستسقاء "2.
وقال رحمه الله: " إنَّ المسلمين مجمعون على أنَّ القبلة التي يُشرع للداعي استقبالها حين الدعاء هي القبلة التي شرع استقبالها حين الصلاة، فكذلك هي التي شرع استقبالها حين ذكر الله كما تستقبل بعرفة والمزدلفة وعلى الصفا والمروة، وكما يستحب لكلِّ ذاكرٍ لله وداعٍ أن يستقبل القبلةَ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان قد يقصد أن يستقبل القبلة حين الدعاء، كذلك هي التي يشرع استقبالها بتوجه الميِّت إليها، وتوجيه النسائك والذبائح إليها، وهي التي يُنهى عن استقبالها بالبول والغائط، فليس للمسلمين بل ولا لغيرهم قبلتان أصلاً في العبادات التي هي من جنسين كالصلاة والنسك فضلاً عن العبادات التي هي من جنس واحد وبعضها متصلٌ ببعض، فإنَّ الصلاةَ فيها الدعاء في الفاتحة وغيرها، والدعاء نفسه هو الصلاة، قد سمّاه الله في كتابه صلاةً
1 انظر: صحيح البخاري (رقم:1024) .
2 انظر: نقض التأسيس لابن تيمية (2/459) .
حيث قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 1، وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قومٌ بصدقتهم صلّى عليهم، وإنَّ أبي أتاه بصدقةٍ فقال: اللَّهمَّ صلِّ على آل أبي أوفى "2، وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 3، وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه الصلاةَ عليه في غير حديث في الصحاح وغيرها، وفي جميعها إنَّما يعلّمها الدعاء له بصلاة الله وبركاته
…
" إلى آخر كلامه رحمه الله4.
وقد ذكر ذلك في سياق ردِّه على مَن ينكر علوَّ الله كالجهمية ومَن تأثَّر بهم مِن أهل الأهواء حيث يزعمون أنَّ رفعَ الأيدي في الدعاء إلى العلوِّ إنَّما يُشرع لأنَّ السماءَ قبلةُ الدعاء كما أنَّ الكعبة قبلةُ الصلاة، فجعلوا بذلك قبلتين للمسلمين قبلةً للدعاء وهي السماء، وقبلةً للصلاة وهي الكعبة، وقد ألجأهم إلى هذا التقرير الفاسد إنكارُهم لعلوِّ الربِّ تبارك وتعالى على خلقه، وتعسُّفُهم في حمل النصوص الكثيرة الدالّة على علوِّ الله على غير وجهها ومرادها بأنواعٍ من التأويلات، وصنوفٍ من التحريفات التي هي في الحقيقة نوعٌ من الإلحاد في آيات الله وأسمائه وصفاته، والله يقول:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ
1 سورة التوبة، الآية:(103) .
2 صحيح البخاري (رقم:1497)، وصحيح مسلم (رقم:1078) .
3 سورة الأحزاب، الآية:(56) .
4 نقض التأسيس (2/452 ـ 453) .
5 سورة الأعراف، الآية:(180) .
95 ـ من آداب الدعاء
إنَّ من ضوابط الدعاء المهمة وآدابه العظيمة أن يقدِّم المسلم بين يدي دعائه الثناءَ على ربِّه بما هو أهلُه من نعوت الجلال، وصفات العظمة والكمال، وذكر جوده وفضله وكرَمه وعظيم إنعامه، وذلك أنَّه أبلغُ ما يكون في حال السائل والطالب ثناؤُه على ربِّه، وحمدُه له، وتمجيدُه، وذكرُ نعمه وآلائه، وجعل ذلك كلِّه بين يدي مسألته وسيلةً للقبول ومفتاحاً للإجابة.
ومَن يتأمّل الأدعيةَ الواردة في الكتاب والسنة يجد كثيراً منها مبدوءاً بالثناء على الله وعدِّ نِعمه وآلائه، والاعتراف بفضله وجوده وعطائه، ومن الأمثلة على ذلك الدعاءُ العظيم الذي اشتملت عليه سورة الفاتحة التي هي أعظم سور القرآن الكريم وأجلُّها لاشتمالها على أجلِّ المطالب العالية، وأعلى المقاصد الجليلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ولهذا كان أنفعُ الدعاء وأعظمُه وأحكمُه دعاءَ الفاتحة {اهْدِنَا الصَّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فإنَّه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شرٌّ لا في الدنيا ولا في الآخرة "1.اهـ
فهذا الدعاءُ العظيم مبدوءٌ بالثناء على الله وحمده وتمجيده، مما هو سببٌ لقبوله، ومفتاحٌ لإجابته، يوضِّح ذلك ويبيِّنُه ما رواه مسلم
1 مجموع الفتاوى (8/215 ـ 216) .
في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله تعالى: مجّدني عبدي، وقال مرّة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال {اهْدِنَا الصَّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "1. فعلّم سبحانه عباده في هذه السورةِ العظيمةِ كيف يدعونه ويسألونه ويتوسّلون إليه، قال ابن القيم رحمه الله: " ولما كان سؤال الله الهدايةَ إلى الصراط المستقيم أجلَّ المطالب ونيلُه أشرفَ المواهب، علّم الله عبادَه كيفيةَ سؤاله، وأمرهم أن يقدِّموا بين يديه حمدَه والثناء عليه وتمجيدَه، ثمَّ ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته وتوسلٌ إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يُردُّ معهما الدعاء
…
إلى أن قال رحمه الله: وقد جَمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسلُ بالحمد والثناء عليه وتمجيده، والتوسلُ إليه بعبوديته وتوحيده، ثمَّ جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين، فالداعي به حقيقٌ بالإجابة.
1 صحيح مسلم (رقم:395) .
ونظير هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما " اللَّهمَّ لك الحمد أنت نورُ السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمدُ أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحقُّ، ووعدُك حقٌّ، ولقاؤُك حقٌّ، والجنّةُ حقٌّ، والنار حقٌّ، والنبيّون حق، والساعةُ حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللَّهمَّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلَهي لا إله إلَاّ أنت "1، فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثمَّ سأله المغفرة "2.اهـ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: " وفيه استحبابُ تقديم الثناء على المسألة عند كلِّ مطلوب اقتداءً به صلى الله عليه وسلم "3.
ومن الأمثلة على ذلك دعاء يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيث فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 4، ودعاء أيوب عليه السلام، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ
مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَذِكْرَى
1 صحيح البخاري (رقم:1120) .
2 مدارج السالكين (1/23 ـ 24) .
3 فتح الباري (3/5) .
4 سورة يوسف، الآية:(101) .
لِلعَابِدِينَ} 1، ودعاءُ أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 2، ودعاءُ الملائكة {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهْمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} 3، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جداًّ، يطول عدُّها، فينبغي على المسلم أن يحافظ على هذا الأدب الرفيع عند سؤاله له سبحانه بأن يُثْنِيَ عليه ويَحمده ويمجّده، ويعترف بفضله وإنعامه، ثمَّ يسأله بعد ذلك ما يشاء من خَيْرَي الدنيا والآخرة.
كما ينبغي للمسلم أيضاً بين يدي دعائه أن يصلي على صفيِّ الله وخليله وعبده ورسوله نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الحثُّ على ذلك في أحاديث عديدة منها: حديث فَضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: " سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثمَّ دعاه فقال له ولغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثمَّ ليصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ ليدع بعد بما شاء "4. ولهذا ثلاث مراتب:
أحدها: أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، وبعد حمد الله تعالى.
1 سورة الأنبياء، الآيات:(83، 84) .
2 سورة آل عمران، الآية:(191) .
3 سورة غافر، الآية:(7) .
4 المسند (6/18)، وسنن أبي داود (رقم:1481) ، وسنن الترمذي (رقم:3477) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:648) .
والمرتبة الثانية: أن يصلي عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره.
والمرتبة الثالثة: أن يصلي عليه في أوله وآخره ويجعل حاجته متوسطة بينهما. والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء مثل المفتاح، قال ابن القيم رحمه الله:" فمفتاح الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أنَّ مفتاح الصلاة الطهور ".
ثمَّ نقل عن أحمد بن أبي الحوراء قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول " من أراد أن يسأل الله حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وليسأل حاجته، وليختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم مقبولةٌ، والله أكرمُ أن يردَّ ما بينهما "1.
1 جلاء الأفهام (ص:260 ـ 262) .
96 ـ من آداب الدعاء
مِمَّا ينبغي للمسلم تجنُّبُه في دعائه تكلُّفُ السجع في الدعاء، وتكلُّفُ صنعة الكلام له، قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الدعوات من صحيحه:" بابُ ما يُكره من السجع في الدعاء "، ثمَّ ساق بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" حَدِّث الناس كلَّ جُمُعة مرّة، فإن أبيتَ فمرّتين، فإن أكثرت فثلاث مرّات، ولا تُملَّ الناس هذا القرآن، ولا ألفينَّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصُّ عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملّهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدّثهم وهم يشتهونه، فانظر السَّجعَ من الدعاء فاجتنبه، فإنِّي عهدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لا يفعلون إلَاّ ذلك ـ يعني لا يفعلون إلَاّ ذلك الاجتناب ـ "1.
والسَّجعُ هو الكلام المقفّى من غير مراعاة وزن، وتكلّف ذلك في الدعاء أمرٌ مكروهٌ لَم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من أصحابه، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:" فإني عهدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لا يفعلون إلَاّ ذلك الاجتناب "، قال الأزهري رحمه الله:" وإنَّما كرهه صلى الله عليه وسلم لمشاكلته كلام الكهنة، كما في قصة المرأة من هُذيل "2، يشير إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " اقتتلت امرأتان من هُذيل فرمَتْ إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما
1 صحيح البخاري (رقم:6337) .
2 فتح الباري (11/139) .
في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ديةَ جنينها غرَّةٌ: عبدٌ أو وليدةٌ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها وَلَدَها ومَن معهم، فقال حَمَلُ بنُ النابغة الهُذلي: يا رسول الله كيف أغرمُ من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ؟ فمثلُ ذلك يُطلُّ [أي يُهدر]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنَّما هذا من إخوان الكهان "1. من أجل سجعه الذي سجع.
ولذا عدَّ بعضُ أهل العلم تكلُّفَ السجع في الدعاء في جملة موانع الإجابة، قال القرطبي رحمه الله:" ومنها: أن يدعو بما ليس من الكتاب والسنة فيتخيَّر ألفاظاً مفقرة، وكلمات مسجعةً، قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معوَّل عليها، فيجعلها شعارَه، ويترك ما دعا به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هذا يمنع من استجابة الدعاء "2.
والسجعُ المذمومُ هو المتكلَّف الذي يجتهد صاحبُه في تصنعه، فيشغله ذلك عن الإخلاص والخشوع، ويُلهيه عن الضراعة والافتقار، فأمَّا إن وُجد وحصل بلا تصنُّع ولا تكلُّف ومِن غير قصدٍ إليه فلا بأس به.
قال السفاريني رحمه الله: " ولا يتكلَّف السجع في الدعاء، فإنَّه يُشغل القلبَ ويُذهب الخشوعَ، وإن دعا بدعوات محفوظة معه له أو لغيره من غير تكلُّف سجع فليس بممنوع "3.
1 صحيح مسلم (رقم:1681) .
2 الجامع لأحكام القرآن (7/266) .
3 غذاء الألباب (1/409) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث ابن عباس المتقدِّم في ذمِّ السجع في الدعاء: " ولا يَرِد على ذلك ما وقع في الأحاديث الصحيحة؛ لأنَّ ذلك كان يصدر من غير قصدٍ إليه؛ ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام، كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد: " اللَّهمَّ مُنزلَ الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب "1، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " صدق وعده وأعزَّ جندَه
…
"، الحديث2، وكقوله: " أعوذ بك من عَين لا تدمع، ونفسٍ لا تشبع، وقلب لا يخشع "3، وكلُّها صحيحة "4.
وينبغي للداعي أن يتجنَّب اللَّحنَ في الدعاء، ولا سيما إذا كان اللَّحنُ مُحِيلاً للمعنى، مُخِلاًّ بالمقصود، مفسداً للمراد، فإنَّ الإعرابَ عمادُ الكلام، وبه يستقيم المعنى، وبعدمِه يختلُّ ويفسد، وربَّما انقلب المعنى باللَّحنِ إلى معنى باطل أو دعاء محرَّم أو نحو ذلك.
ولهذا قال أبو عثمان المازني لبعض تلاميذه: " عليك بالنحوِ، فإنَّ بني إسرائيل كفرت بحرف ثقيلٍ خفَّفوه، قال الله عز وجل لعيسى: إنِّي ولَّدتُكَ "، فقالوا: إنِّي وَلَدتُك "، فكفروا ".
ويُذكر عن الأصمعيِّ: أنَّه مرَّ برجل يقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال له: ما اسمك؟ قال ليث، فأنشأ يقول:
1 صحيح البخاري (رقم:2933، 2966)، وصحيح مسلم (رقم:1742) .
2 صحيح البخاري (رقم:2933، 2966)، وصحيح مسلم (رقم:1742) .
3 صحيح مسلم (رقم:2722) بلفظ مقارب.
4 فتح الباري (11/139) .
يُنادي ربَّه باللَّحن ليثُ لذاك إذا دعاه لا يُجيبُ1.
ولهذا ينبغي على الداعي تجنُّبُ اللَّحنِ في الدعاء إن كان مستطيعاً لذلك قادراً عليه، وإلَاّ فإنَّ اللهَ جلَّ وعلَا لا يُكلِّف نفساً إلَاّ وُسعها.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل دعا دعاء ملحوناً فقال له رجل: ما يقبل الله دعاءً ملحوناً؟
فأجاب رحمه الله بما نصُّه: " مَن قال هذا القول فهو آثمٌ مخالفٌ للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف، وأمَّا مَن دعا اللهَ مخلصاً له الدين بدعاء جائز سمعه الله وأجاب دعاءَه سواء كان مُعرباً أو ملحوناً، والكلام المذكور لا أصل له، بل ينبغي للداعي إذا لَم تكن عادتُه الإعرابَ أن لا يتكلَّف الإعرابَ، قال بعضُ السلف: إذا جاء الإعرابُ ذهب الخشوعُ، وهذا كما يُكره تكلُّف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلُّف فلا بأس به، فإنَّ أصلَ الدعاء من القلب، واللسان تابعٌ للقلب.
ومَن جعل همَّتَه في الدعاء تقويمَ لسانِه أضعفَ توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطرُّ بقلبِه دعاءً يُفتح عليه لا يحضره من قبل ذلك، وهذا أمرٌ يَجده كلُّ مؤمن في قلبه، والدعاءُ يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصدَ الداعي ومرادَه، وإن لَم يُقوِّم لسانه فإنَّه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوُّع الحاجات "2.
1 انظر: شأن الدعاء للخطابي (19 ـ 20) .
2 مجموع الفتاوى (22/488 ـ 489) .
ولا يجوز للمسلم أن يتحرَّى في دعائه أنغاماً معيَّنة أو تكلُّفات في الأداء مِن خفض ورفع أو تطريب أو ترجيع أو نحو ذلك، مما يُسمِّيه البعض في زماننا ابتهالات ويجعل له أداءً معيَّناً شبيهاً بالتغنِّي، فمِثل هذا لا يجوز؛ لأنَّ مقامَ الدعاء مقامُ طلبٍ وإظهارِ حاجة وخشوع وتضرُّعٍ إلى الله، وليس مقامَ تغنٍ، وهو مقامُ خضوع وعبوديةٍ، وليس مقامَ إظهارٍ للصناعة النغمية، وهو مقامُ ذُلٍّ وخضوعٍ وإيمان، وليس مقامَ شغلٍ للخواطر بتنميق الأداء وإقامة الأوزان، والله وحده الهادي والموفِّق، وهو وحده المستعان.