الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
84 ـ
من آداب الدعاء عدم استعجال الإجابة
إنَّ من آداب الدعاء العظيمة ألَاّ يستعجلَ الدعاء ويستبطئ الإجابةَ، فيستحسر ويمل ويترك الدعاءَ، ويقع في اليأس من روْح الله والقنوط من رحمته، وقد ورد في الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم النهيُ عن استعجال الدعاء وأنَّ ذلك من موانع إجابته وأسباب عدم قبوله، ففي الصحيحين
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُستجاب لأحدكم ما لَم يعجَل، يقول: دعوتُ فلم يستجب لي "1، وفي لفظٍ عند مسلم:" لا يزال يُستجابُ للعبد ما لَم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لَم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ وقد دعوتُ، فلَم أر يستجيبُ لِي، فيستحسر عند ذلك ويدَعَ الدعاءَ "2.
قال ابن حجر رحمه الله: " وفي هذا الحديث أدبٌ من آداب الدعاء، وهو أنَّه يُلازِم الطلبَ ولا ييأس من الإجابة؛ لِمَا في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعضُ السلف: لأنا أشدُّ خشية أن أُحرَم الدعاء من أن أُحرَم الإجابة
…
وقال الداودي: يُخشى على مَن خالف وقال: قد دعوتُ فلم يستجب لي أن يُحرم الإجابة وما قام مقامها من الادخار والتكفير "3.
1 صحيح البخاري (رقم:6340)، وصحيح مسلم (رقم:2735) .
2 صحيح مسلم (رقم:2735) .
3 فتح الباري (11/141) .
ونقل عن ابن بطَّال أنَّه قال في شرح الحديث: " المعنى أنَّه يسأم فيترك الدعاء، فيكون كالمانِّ بدعائه، أو أنَّه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة، فيصير كالمُبَخِّل للرَّبِّ الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا يُنقصه العطاء ".
إنَّ الواجبَ على مَن أراد أن يُحقِّق الله رجاءَه وأن يُجيب دعاءَه أن يدعو ربَّه وهو موقنٌ بالإجابة؛ عظيمُ الثقة بالله، شديدُ الرجاء فيما عنده.
قال ابن رجب رحمه الله: " ومِن أعظم شرائطه [أي الدعاء] حضورُ القلب ورجاءُ الإجابة من الله تعالى كما خرَّج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنَّ الله لا يقبلُ دعاءً من قلبِ غافلٍ لَاهٍ "1، وفي المسند عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ هذه القلوبَ أوعيةٌ، فبعضُها أوعى من بعض، فإذا سألتم اللهَ فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنَّ اللهَ لا يستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافل "2، ولهذا نُهي العبدُ أن يقول في دعائه: " اللَّهمَّ اغفر لي إن شئتَ، ولكن ليعزِم المسألةَ فإنَّ الله لا مكره له "3، ونُهي أن يستعجل ويترك الدعاء؛ لاستبطاء الإجابة، وجُعل ذلك من موانع الإجابة، حتى لا يقطع رجاءَه من إجابة دعائه
1 سنن الترمذي (رقم:3479)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:245) .
2 المسند (2/177)، وانظر: الصحيحة (رقم:594) .
3 صحيح مسلم (رقم:2679) .
ولو طالت المُدَّة، فإنَّه سبحانه يحبُّ الملحِّين في الدعاء
…
فما دام العبدُ يُلحُّ في الدعاء ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريبٌ من الإجابة، ومن أدمَن قَرْعَ الأبواب يوشك أن يُفتح له " اهـ1.
وكيف لا يكون المسلمُ واثقاً بربِّه والأمورُ كلُّها بيده، ومعقودةٌ بقضائه وقَدَرِه، فما شاء الله كان كما شاء، في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان ولا تقدُّم ولا تأخُّر، وحُكمه سبحانه نافذٌ في السموات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجوِّ، وفي سائر أجزاء العالَم وذرَّاته يُقلِّبها ويصرفها ويُحدث فيها ما يشاء {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} 2، أحاط بكلِّ شيء علماً، وأحصى كلَّ شيء عدداً، ووسع كلَّ شيء رحمة وحكمة، له الخلقُ والأمر، وله المُلكُ والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، شملت قدرتُه كلَّ شيء، ووسعت رحمتُه كلَّ شيء {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 3، لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفرَه، ولا حاجةٌ يُسألها أن يعطيها، لو أنَّ أهلَ سمواته وأهل أرضه إنسهم وجِنَّهم حيَّهم وميِّتَهم صغيرَهم وكبيرَهم رطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلَّ واحد منهم ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ
1 جامع العلوم والحكم (2/403 ـ 404) .
2 سورة فاطر، الآية:(2) .
3 سورة الرحمن، الآية:(29) .
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1، ولهذا فإنَّ مِمَّا يتنافى مع تمام الإيمان به وكمال توحيده سبحانه أن يدعوَه العبدُ وهو غير عازم في مسألته؛ بأن يقول في دعائه: اللَّهمَّ ارحمني إن شئت، أو اللَّهمَّ اغفر لي إن شئت، أو اللَّهمَّ وفِّقني إن شئت، ونحوَ ذلك لِما في هذا القول من إيهام الاستغناء عن الله وعدم الثقةِ فيما عنده، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقولنَّ أحدُكم: اللَّهمَّ اغفر لي إن شئتَ، اللَّهمَّ ارحمني إن شئتَ، ولكن ليعزم المسألةَ وليُعظِّم الرغبة، فإنَّ اللهَ تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه "، وهذا لفظ مسلم2.
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء، ولا يَقُل: اللَّهمَّ إن شئتَ فأعطِني، فإنَّ الله لا مستكره له "3.
وقد أورد الإمام المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذا الحديث في كتاب التوحيد، وترجم له بقوله:" باب قول: اللَّهمَّ اغفر لي إن شئت "، وهو رحمه الله ينبِّه بهذه الترجمة إلى أنَّ عدمَ العزم في الدعاء وتعليقه بالمشيئة ممَّا يتنافى مع التوحيد الواجب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم؛ لأنَّ قولَ القائلِ:" اللَّهمَّ اغفر لي إن شئتَ "، يدلُّ على فتورٍ في الرغبة، وقلَّةِ اهتمامٍ في الطلب، وكأنَّ هذا القول يتضمَّن أنَّ هذا المطلوبَ إن حصلَ وإلَاّ استغنى عنه، ومَن كان هذه حاله لَم
1 سورة يس، الآية:(82) .
2 صحيح مسلم (رقم:2679) .
3 صحيح البخاري (رقم:6338)، صحيح مسلم (رقم:2678) .
يتحقق من حاله الافتقارُ والاضطرارُ الذي هو روحُ العبادة ولُبُّها، وكان ذلك دليلاً على قلَّة معرفته بذنوبه وسوء عاقبتها وقلَّة معرفته برحمة ربِّه، وشِدَّة احتياجه إليه، وضعف يقينه بالله عز وجل وإجابته للدعاء.
ولهذا قال في الحديث: " وليَعزِم المسألةَ "، أي ليجْزِم في طلبته، ويحقق رغبته، ويتيقَّن الإجابة، فإنَّه إذا فعل ذلك دلَّ على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة، وعلى أنَّه مفتقرٌ إلى ما يطلب مضطرٌّ إليه، وعلى أنَّه محتاجٌ إلى الله مفتقرٌ إليه، لا يستغني عن مغفرته ورحمته طرفةَ عين1.
ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم إذا دعا الله أن يجتهدَ ويُلحَّ في الدعاء، ولا يَقُل:" إن شئتَ "، كالمستثنِي، بل يدعو دعاءَ البائس الفقير بإلحاحٍ وصِدق وجِدٍّ واجتهاد، مع الثقة الكاملة بالله والطمع فيما عنده، وحسن الظنِّ به سبحانه، وهو جلَّ وعلا يقول كما في الحديث القدسي:" أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني "، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما2.
وإنَّا نسأل الله الكريم أن يرزقنا حسنَ الظنِّ به وعظيم الثقة فيما عنده، وأن يُوفِّقنا لكلِّ خير يحبه ويرضاه في الدنيا والآخرة.
1 انظر: تيسير العزيز الحميد (ص:651 ـ 652) .
2 صحيح البخاري (رقم:7405)، وصحيح مسلم (رقم:2675) .