الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: في أقسام الغناء المحرَّم وغيره
القسم الأول: فِي سماع مجرد الغناء من غير آلة
اعلَمْ أنَّ مذهبنا أنَّه يُكرَه الغناء وسماعه إلا إنِ اقتَرَن به ما يأتي، وقال بعض العلماء: إنَّه سنَّة فِي العُرْسِ [ز1/ 4/ب] ونحوه، وقال الغزالي وابن عبدالسلام من أئمَّتنا: إنَّه سنَّة إنْ حرَّك بحال سني مُذكِّر للآخِرة، ا. هـ.
[وبه يُعلَم أنَّ كلَّ شِعر فيه الأمر بالطاعة، أو كان حكمةً](1)، أو كان فِي مكارم الأخلاق أو الزهد ونحو ذلك من خِصال البر؛ كحثٍّ على طاعة أو سنة، أو اجتناب معصية يكون كلٌّ من إنشائه وإنشاده وسماعِه سنَّة؛ كما صرَّح به غيرُ واحد من أئمَّتنا، وهو ظاهر؛ إذ وسيلةُ الطاعة طاعةٌ.
قال الأذرعي (2): وما أحسن قول الماوردي: الشعر فِي كلام العرب:
مستحب: إنْ حذَّر من الدُّنْيَا أو رغَّب فِي الآخِرة، أو حثَّ على مكارم الأخلاق.
ومباح: وهو ما سَلِمَ من فُحش وكذب.
ومحظور: وهو ما اقترن بأحدهما (3).
فإنْ قلت: نقل القاضي الحسين عن سيِّد الطائفة أبي القاسم الجنيد (4) وهو من أكابر الشافعيَّة أنَّ السماع على ثلاثة أقسام:
(1) في (ز2): وبه يعلم أنَّ كلَّ شِعر فيه مدح النبوة والإسلام، أو كان حكمه.
(2)
الأذرعي: شهاب الدين أحمد بن حمدان الشافعي الدمشقي تُوفِّي سنة 783، من تصانيفه تعليقةٌ على المهمات شرح للأسنوي، والتوسط والفتح بين الروضة والشرح في الفرع (انظر:(1/ 61)"هدية العارفين" للباباني).
(3)
"الحاوي"؛ للماوردي (17/ 202 - 210) ط دار الفكر، وقد أطنب الماوردي في تفصيل حُكم الشعر وبيان الخلاف فيه، وما كان عليه سلف الأمَّة فيه.
(4)
سيد الطائفة: جنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي أبو القاسم القواريري الزاهد الحنفي مفتي الثقلين تُوفِّي سنة 298، من تصانيفه: أمثال القرآن، ومعاني الهمم في الفتاوى، والمقصد إلى الله - تعالى - في التصوف، (انظر:(1/ 138)"هدية العارفين"؛ للباباني).
سماع العوام: وهو حرامٌ عليهم؛ لبقاء نفوسهم.
وسماع الزهَّاد: وهو مباح لهم؛ لحصول مجاهدتهم.
وسماع العارفين: فيستحبُّ لهم لحياة قُلوبهم، فجعل من السماع ما هو حرام، وصحَّح ما قاله السهروردي فِي "عوارف المَعارِف"(1) وهو من كبار الشافعية أيضًا، وذكر نحوه أبو طالب المكي وهو خلاف ما مرَّ.
قلت: لم ينفرد الجنيد بذلك بل صرَّح به من كبار أئمَّتنا أقضى القضاة الماوردي وغيره، وليس خلافًا لما ذكر؛ لأنَّ الذي مر مفروضٌ فِي سماعٍ لم يخشَ منه فتنة، ولم يقترنْ به منكرٌ بوجه، ومراد الجنيد رضي الله عنه بهذا الحرام ما خُشِي منه فتنة؛ كأنْ سمعه من امرأةٍ أجنبيَّة، [أو أمرد حسن، أو ما اقترن به منكر؛ كهوًى نشَأ] من عشقٍ محرَّم كما هو الغالب على العامَّة، ثم رأيت بعض الشافعيَّة قال: الظاهر أنَّ الجنيد لم يرد التحريم الاصطلاحي، وإنما أراد أنَّه لا ينبغي، ا. هـ.
وما قرَّرت به كلامه أولى كما لا يخفى على مُتأمِّل، وكأنَّ الغزالي أخَذ من كلام الجنيد هذا قوله في "الإحياء": السماع إمَّا مندوب لِمَن غلب عليه حبُّ الله وحبُّ لقائه، فإنَّه يستخرج منه أحوالاً ومُلاطفات ومُكاشفات، وإمَّا مباحٌ لعاشقٍ عشقًا مباحًا لزوجته أو أمَتِه، أو لعامي لم يغلبْ عليه حبُّ
(1)"عوارف المعارف في التصوف": للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد بن عبدالله السهروردي المتوفَّى سنة 632، وهو مشتملٌ على: ثلاثةٍ وستين بابًا كلها في سير القوم وأحوالهم، ("كشف الظنون"؛ للحاج خليفة (2/ 1177)).
الله ولا الهوى، وإمَّا محرَّم لِمَن غلب عليه هوى محرم (1)، وسُئِل العزُّ بن عبدالسلام [ز1/ 5/أ] عن استماع الإنشاد فِي المحبَّة والرقص؟ فقال: الرقص بدعةٌ لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلَاّ للنساء، وأمَّا سماع الإنشاد المحرِّك للأحوال السنيَّة المذكِّر لأمور الآخرة فلا بأس به، بل يُندَب عند الفتور وسآمَة القلب، ولا يحظر [إلا] لِمَن فِي قلبه هوًى خبيث فإنَّه يُحرِّك ما فِي القلب.
وقال أيضا: السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم وهم أقسام:
أحدها: العارفون بالله، ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم؛ فمَن غلب عليه الخوف أثَّر فيه سماع المخوفات وظهر أثَرها عليه من البكاء وتغيُّر اللون والحزن، والخوف إمَّا خوف عِقاب أو فَوات ثواب أو فَوات الأنس والقُرب، وهذا من أفضل الخائفين وأفضل السامعين، فمثله لا يتصنَّع بها، ولا يصدر منه إلَاّ ما غلب من آثار الخوف، وهذا إذا سمع القرآن كان تأثيرُه فيه أشدَّ من تأثير الإنشاد والغناء.
الثاني: مَن غلب عليه الوجدُ، فهذا يُؤثِّر فيه ذِكرُ المرجيات، [فإنْ كان رجاه] للأنس والقُرب كان سماعُه أفضل من كلِّ سماع أو للثواب فهو مفضول.
(1) لم أقف على النصِّ بلفظه، ووقفتُ على معناه، قال الغزالي في "الإحياء" (2/ 306/ط دار المعرفة): السماع قد يكون حرامًا محضًا، وقد يكونُ مباحًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مستحبًّا، أمَّا الحرام فهو لأكثر الناس من الشُّبَّان ومَن غلبت عليهم شهوةُ الدنيا، فلا يحرك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة، وأمَّا المكروه فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين ولكنَّه يتَّخِذه عادةً له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو، وأمَّا المباح فهو لمن لا حظَّ له منه إلا التلذُّذ بالصوت الحسن، وأمَّا المستحب فهو لمن غلب عليه حبُّ الله - تعالى - ولم يحرك السماع منه إلا الصفات المحمودة.
الثالث: مَن غلب عليه الحبُّ للإنعام عليه فيُؤثِّر فيه [ذكره أو لشرف ذاته فيُؤثِّر فيه ذكر ذلك](1).
[القسم الرابع](2) أو للتعظيم والإجلال وهذا أفضل الأقسام: ويختلف هؤلاء فِي المسموع منه، فالسماع من الأولياء أكثر تأثيرًا من السماع من الجهَلَة، ومن الأنبياء أشد تأثيرًا من الأولياء، ومن ربِّ الأرض والسماء أشدُّ تأثيرًا من الأنبياء؛ ولهذا لم يشتغل النبيُّون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء، واقتصروا على سماع كلام ربهم.
[القسم الخامس](3) وأمَّا مَن يغلب عليه هوًى مُباح كعشق حليلته فهو يُهيجه السماع ويُؤثِّر فيه آثار الشوق وخوف الفراق، فسماعه لا بأس به.
[القسم السادس](4) وأمَّا مَن يغلب عليه هوى محرَّم كعشق أمرد أو أجنبية، فهذا يهيجه السماع إلى السعي فِي الحرام، وما أدَّى إلى الحرام حرام.
[القسم السابع](5) ومَن قال لا أجد فِي نفسي شيئًا من الأقسام الستة فالسماع فِي حقِّه مكروه، وخالَفه الغَزاليُّ فقال: إنَّه مباح، قال: وقد يحضر السماع قومٌ من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراضٍ خبيثة أبطَنُوها، ويُراؤون [الحاضرين](6) بأنَّ سماعهم لأحد الأسباب السابقة، قال: واعلَم أنَّه
(1) زيادة من (ز2) وفي (ز1): فيؤثر فيه ذلك.
(2)
ما بين المعقوفين استدرك من كتاب "قواعد الأحكام" ص 218، ط دار الكتب العلمية.
(3)
ما بين المعقوفين استدرك من كتاب "قواعد الأحكام" ص 218، ط دار الكتب العلمية.
(4)
ما بين المعقوفين استدرك من كتاب "قواعد الأحكام" ص 218، ط دار الكتب العلمية.
(5)
ما بين المعقوفين استدرك من كتاب "قواعد الأحكام" ص 218، ط دار الكتب العلمية.
(6)
في (ز1): الحاضرون، والمثبت من (ز2).
لا يحصل السماع المحمود إلا عند [ز1/ 5/ب] ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنيَّة والصفات المرضية، ا. هـ.
قال الأذرعي: ولأبي القاسم القشيري - وهو من أئمَّة الشافعية - مُصنَّفٌ فِي السَّماع ذكَر فيه أنَّ من شرائطه معرفة الأسماء والصِّفات ومدلولاتها وما يَلِيق بالحق - تعالى - منها، هذا على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول، وأمَّا على لسان أهل الحقائق فمن شرائطه [بَقاء النفس](1) بصِدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة، فمَن لم يتقيَّد بالصحَّة معاملته، ولم يحصل بالصدق منازلته، فسماعُه ضَياع له، وتواجُده طباع، والسَّماع فتنةٌ يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سُقوط الشهوة، وحُصول الصفوة
…
وأطال بما يطول ذكره.
قال الأذرعي: وبما ذكره تبيَّن تحريمُ السماع والرقص على أكثر مُتصوِّفة الزمان؛ لفقد شروط القيام بآدابه، ا. هـ.
ووقَع لبعض مَن لا تحقيقَ له أنَّه أنكَرَ سماعَ الغناء من غير تفصيلٍ، وليس كما زعم؛ ومن ثَمَّ قال أبو طالب المكي: مَن أنكره أنكر على سبعين صديقًا، وأراد بالسبعين الكثرة، وإلا فالصديقون - وهم العلماء [لا غير - السبعون](2) له بشرطه الآتي لا ينحصرون، قال الإمام السهروردي: هذا المُنْكِر إمَّا جاهل بالسنن والآثار، وإمَّا جاهل الطبع لا ذوق له، وأشار بالسنن إلى ما صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان له شُعَراء يصغي إليهم فِي المسجد وغيره، منهم: حسان، وابن رواحة - رضي اللهُ تعالى
(1) في (ز2): فناء النفس.
(2)
في (ز2): لا غير السامحون.
عنهُما - واستنشد [من شعر] أميَّة بن [أبي](1) الصلت، واستمع إليه كما فِي مسلم (2)، ومن ثم قال العز بن عبدالسلام فِي تفسيره: وأمَّا الأشعار والتشبيهات فمأذون فيها، وقد أنشد كعب [بن زهير]- رضي الله تعالى عنه - رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بانت سعاد القصيدة المشهورة فاستمعها [ولم يُنكِر عليها](3) شيئًا، وفيها الاستعارات والتشبيهات حتى شبَّه الريقة بالخمرة، وكانت حرمت، ولكنَّ تحريمها لم يمنع عندَهم طيبها، بل تركوها مع الرغبة فيها والاستحسان بها، وكان ذلك أعظم لأجرهم، ا. هـ.
وذكر الروياني فِي "البحر" أنَّ (سعاد) كانت زوجته وبنت عمِّه، وأنَّه إنما أنشد فيها هذه القصيدة لطول غيبته عنها بهربه من النبي - صلَّى الله [ز1/ 6/أ] عليه وسلَّم - وقال ابن عبدالبر: لا ينكر الحسنَ من الشعر أحدٌ من أهل العلم ولا من أولي النهى، وليس أحدٌ من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثَّل به أو سمعه فرَضِيَهُ، ما كان
(1) سقط من (ز1) و (ز2) واستدرك من مصادر التحقيق.
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(799)، ومسلم (2255)، وابن ماجَهْ (3758)، والطحاوي في "شرح معاني الأثار"(4/ 300)، وابن حبان (5782)، والطبراني في "الأوسط"(2429)، والبيهقي (10/ 226) وغيرهم عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: "ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: ((هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شيء؟))، قلت: نعم، قال:((هيه!)) فأنشدته بيتًا، فقال:((هيه!)) ثم أنشدته بيتًا، فقال:((هيه!)) حتى أنشدته مائة بيت، هذا لفظ مسلم.
(3)
في (ز2): ولم ينكر منها، والحديث أخرجه ابن أبي عاصم في "الأحاد والمثاني"(2706)، والبيهقي (10/ 243) من حديث عبدالرحمن بن كعب بن زهير بن أبى سلمى المزني، عن أبيه، عن جده، والحاكم (3/ 673)، والبيهقي (10/ 243) من حديث موسى بن عقبة، أنشد كعب بن زهير، والحاكم (3/ 673)، والفاكهي في "أخبار مكة"(1/ 307) من حديث علي بن زيد بن جدعان أنشد كعب بن زهير، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 168) قال العراقي: وهذه القصيدة قد رويناها من طرقٍ لا يصحُّ منها شيء، وذكرها ابن إسحاق بسندٍ منقطع.
حكمةً أو مباحًا، ولم يكن فيه فُحش ولا خنا ولا أذًى لمسلم (1)، وقال غيره: وما زال العلماء قديمًا وحديثًا على إيداع أشعارهم تلك التشبيهات والاستعارات فِي [الخمر](2) وغيرها، حتى حكَى البدر الزركشي عن الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي وناهيك به زهدًا وعلمًا أنه أنشد بعض الرؤساء:
ذَهَبَ الشِّتَا وَتَصَرَّفَ البَرْدُ = وَأَتَى الرَّبِيعُ وَأَقْبَلَ البَرْدُ
فَاشْرَبْ عَلَى وَجْهِ الحَبِيبِ بِهِ = صَهْبَاءَ لَيْسَ لِمِثْلِهَا رَدُّ
فقال [له](3) ذلك الرئيس: أدام الله أيَّام مولانا الشيخ قد أبحتَ الخَمْر! فقال: إنما أردت خمر الجنَّة، وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي أنَّه ذكر عند رسُول الله صلى الله عليه وسلم الشِّعر، فقال:((هو كلامٌ حسنُه حسنٌ وقبيحُه قبيحٌ)) (4).
وقد جمَع الإمام الطبراني جُزءًا حافِلاً فِي غزل التابعين وتابِعِيهم، وذكَر هو وغيره عن جماعةٍ كثيرين من الصحابة أنهم سمعوه ولم يُنكِروا، وللقاضي شريح والزبير بن بكَّار فِي زوجتَيْهما، وعبدالله بن المبارك فِي سريَّته من
(1)"التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"؛ لأبي عمر يوسف بن عبدالله بن عبدالبر النمري (22/ 194) ط وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب.
(2)
في (ز2): في الهمز.
(3)
في (ز1): لا.
(4)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(865)، والطبراني في "الأوسط"(7696)، والدارقطني في "السنن" (4/ 156) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 122): إسناده حسن، وقال ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 539): سنده ضعيف، وأخرجه أبو يعلى في "المسند"(4760) والدارقطني في "السنن"(4/ 155)، والبيهقي (10/ 239)، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما وقال الهيثمي (8/ 122): فيه عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان، وثَّقه دحيم وجماعة، وضعَّفَه ابن معين وغيره، وبقيَّة رجاله رجالُ الصحيح، وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4/ 203): فيه عبدالعظيم بن حبيب، وهو ضعيف.
الغزل الكثير ما يتعجَّب منه، وكذا الشَّافِعِي رضي الله عنه وفي "الإحياء" التشببهُ بوصف الخدود، والأصداغ، وحُسن القدِّ والقامة، وسائر أوصاف النساء فيه نظَر، والصحيح أنَّه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوتٍ ولا بغير صوت، وعلى المستمِع ألَاّ ينزله على امرأةٍ مُعيَّنة، فإن نزَّله على زوجته أو على أمَتِه جاز، وإنْ نزَّلَه على الأجنبيَّة فهو العاصي بالتنزيل، ومَن هذا وصفه فينبغي أنْ يتجنَّب السماع.
وفي التهذيب: إنْ كان التشبيب فِي امرأةٍ مُعيَّنة أو غلام مُعيَّن فسَق، وإلا فلا، وهو [الأصحُّ](1)، وإنْ قال الروياني: يفسق فِي الغلام وإنْ لم يعيِّنه؛ لأنَّه لا يحلُّ بحالٍ؛ إذ ليس فِي مجرد التشبيب بالمجهول ما يدلُّ على نظَر ولا عِشق، بل الغالب أنَّ القصد به ترقيق الشعر وإظهار الصَّنعة، قال الأذرعي: الذي يجبُ القطعُ به أنَّ تسمية مَن لا يدري مَن هي وذكر محاسنها الظاهرة والشوق [ز1/ 6/ب] والمحبَّة من غير فُحشٍ ولا ريبة لا يقدح فِي قائله، ولا يتحقَّق فيه خلاف، ومن ذلك [تعارُض الشعراء](2) على ذكر ليلى وسلمى وسُعدى والرباب وهندًا وغير ذلك.
(تَنْبِيه) قال النووي - رحمة الله تعالى عليه - فِي كتاب "شرح المُهَذَّب" الذي هو أعظم مؤلَّفاته، بل أعظم مؤلفات الشافعية: لا بأسَ بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان فيه خيرٌ كما سبق، وإلا كره؛ لما جاء بسندٍ صحيح حسن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشُد الأشعار في
(1) في (ز1): إنْ صحَّ.
(2)
في (ز2): توار الشعراء.
المسجد (1)، نعم؛ إنْ كان فيه مذموم كهجو محرَّم أو صفة خمر أو ذكر نساء أو أمرد أو مدح ظالم أو افتخار منهي عنه حرام، ا. هـ (2).
وهو صريحٌ في تحريم كثيرٍ من الأشعار التي فيها ذكر صفات الخَمْر ولو [بالتشبيهات](3)، وذكر صِفات النساء والمرد، ويُنافِيه ما قالوه فِي الشهادات من أنَّه لا يحرم التشبيب إلَاّ بامرأةٍ أو غلامٍ معيَّن، ويمكن [أنْ يفرق](4) بأنَّ الحرمة هنا جاءَتْ من حيث المسجد فيحرم فيه ذلك مطلقًا؛ لما فيه من الفحش بخلاف خارجه، وأمَّا ذكر صِفات الخَمْر المقتضية مدحها فالظاهر ما اقتضاه صريحُ كلامه من حُرمته فِي المسجد، وأمَّا خارجه فظاهر ما قدَّمته عدم الحُرمة، وظاهرٌ أنَّ محله إنْ قصد نحو ما مرَّ عن الشيخ أبي إسحاق من خمر الجنَّة أو ريق المحبوب كله أو فواتح الحق على [عباده](5) أو نحو ذلك، وإلَاّ فالظاهر الحرمة، ومن ثَمَّ أفتيتُ بحرمة مُطالعة "حلبة الكميت"، وقد قال أهل الاستِقراء: ما طالَعها أحد إلا شرب الخَمْر أو كاد، وعلى الشعر المذموم قوله صلى الله عليه وسلم:((مَن رأيتُموه ينشد في المسجد شعرًا فقولوا له: فضَّ الله فاك، ثلاث مرات))؛ رواه ابن السني (6)،
(1) أخرجه ابن ماجَهْ (759)، والترمذي (322)، والطحاوي في "شرح معاني الأثار"(4/ 358)، وصحَّحه ابن خزيمة (1306)، من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، وقال ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 549): رواه ابن خزيمة في صحيحه، والترمذي وحسَّنه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، وإسناده صحيح إلى عمرو - فمَن يُصحِّح نسخته يُصحِّحه - وفي المعنى عدَّة أحاديث لكن في أسانيدها مقال.
(2)
"المجموع شرح المهذب"(2/ 205) الطبعة المنيرية.
(3)
في (ز1): بالشبهات.
(4)
في (ز1): الفرق.
(5)
في (ز1): خلائقه.
(6)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(2/ 103) من حديث محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان، عن أبيه، عن جده ثوبان، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 25): رواه الطبراني في "الكبير" من رواية عبدالرحمن بن ثوبان عن أبيه ولم أجدْ مَن ترجمه.
وحمله ابن بطال على ما يتشاغَل به أهلُ المسجد، كما تأوَّل أبو عبيدة حديث:((لأنْ يمتلئ جوفُ أحدِكم قيحًا خيرٌ له من أنْ يمتلئ شِعرًا)) (1) بأنَّه الذي يغلب على صاحبه.
(تنبيه ثانٍ) يحرم سَماع الغناء من حرَّةٍ أو أمة أجنبيَّة؛ بِناءً على قولٍ عندنا أنَّ صوت المرأة عورة، سواء أخاف فتنة بها أم لا، وكلام الشيخين فِي الروضة وأصلها فِي ثلاث مواضع يقتضي أنَّ هذا هو الراجح فِي المذهب، ونقَل القاضي أبو الطيب إمام أصحابنا [ز1/ 7/أ] عن الأصحاب ولو من وراء حجاب (2)، وصرَّح بالتحريم القاضي الحسين أيضًا وادَّعى أنَّه لا خِلاف فيه مستدلاًّ بالحديث الصحيح:((مَن استمع إلى قَيْنَةٍ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ)) (3)؛ أي: الرَّصاص المذاب، قال الأذرعي: ولو لم يكن المغني والمغنية محلَّ الفتنة ولكن استماع الغناء منه يبعَثُ على الافتِتان بغيره من الناس، فهو حرامٌ؛ لما فيه من الخبث، وتحريك القلب الخَرِب إلى ما يَهواه، لا
(1) متفق عليه: البخاري (6155)، ومسلم (5803) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
"روضة الطالبيين"(11/ 228).
(3)
أخرجه ابن عساكر (51/ 263)، وأورده الشوكاني في "نيل الأوطار" (8/ 113) بلفظ:((مَن قعد إلى قينةٍ يسمع صُبَّ في أذنه الآنُك))، وعَزاه إلى أبي يعقوب محمد بن إسحاق النيسابوري، وأورده ابن حجر في ترجمة "عبيد بن هشام" فقال: قال الآجري: عن أبي داود ثقة، إلا أنَّه تغيَّر في آخِر أمره، لُقِّنَ أحاديث ليس لها أصلٌ، لُقِّنَ عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن أنس حديثًا منكرًا، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الحاكم: أبو أحمد حدَّث عن ابن المبارك عن مالك بن أنس أحاديث لا يُتابَع عليها.
قلت: وقال صالح جزرة: صدوق، ولكنَّه ربما غلط، حَكاه الحاكم في "تاريخه"، وقال أبو العرب القيرواني في "الضعفاء" قال أبو الطاهر أحمد بن محمد بن عثمان:"عبيد بن هشام" ضعيفٌ، وقال الخليلي: صالح، وأخرج الدارقطني في "الغرائب" عن ابن المبارك، عن مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أنسٍ رفعه:((مَن قعَد إلى قينة يستمع منها صُبَّ في أذنَيْه الآنُكُ يوم القيامة))، قال الدارقطني: تفرَّد به أبو نعيم، ولا يثبت هذا عن مالك ولا عن ابن المنكدر.
سيَّما أهل العِشق والشَّغف، ومَن يشتغل بصورةٍ خاصَّة، وهذا واضحٌ لا ينازع فيه مُنصِف، ا. هـ.
وأمَّا على أنَّ صوتها غير عورةٍ [وهو إنْ صحَّ](1) فلا يحرم إلا إنْ خشي فتنة.
قال الأذرعي: ومحلُّه فِي غير الغناء الملحَّن بالنغمات الموزونة مع التخنُّث والتغنُّج كما هو شأن المغنيات، أمَّا هذا ففيه أمورٌ زائدة على مُطلَق سماع الصوت فيتَّجه التحريم هنا، وإن قلنا: إنَّ صوتها غير عورة، ويجب أنْ يكون محل الخِلاف فِي صَوتٍ غير مشتمِل على ذلك [التحريم] بخلاف المشتمل عليه؛ لأنَّه يحثُّ على الفُسوق كما هو مُشاهَد، ويظهر أنَّ سماعه من الأمرد محرَّم أيضًا إنْ خشى فتنة به كسَماعه من المرأة، ثم رأيت الرَّافِعيَّ صرَّح بذلك، والأذرعي نقَل عن القرطبي أنَّ جمهور من أباح سماع الغناء حكموا بتحريمه من الأجنبيَّة على الرجال والنساء، وأنَّه لا فرق بين إسماع الشعر والقُرآن؛ لما فيه من تهييج الشهوة وخوف الفتنة لا سيَّما إذا لحنته، فسماعه كالاطِّلاع على محاسن جسدها، بل الحاصل بغنائها من المفسدة أسرع من ذلك؛ لأنَّ السماع يُؤثِّر فِي النفس قبل رؤية الشخص، وأمَّا تهيجه للشهوة وإيقاعه فِي الفتنة فلا شكَّ فيه، والحاصل أنَّ سماعهنَّ مظنَّة للشهوة قطعيًّا، وأطال فِي تقريره، وهو كما قال، ا. هـ كلام الأذرعي.
(تنبيه ثالث): الغناء بالمدِّ والكسر هو رفع الصوت بالشعر؛ ومن ثَمَّ قال جمعٌ من الشافعية والمالكيَّة منهم الأذرعي فِي "توسطه"، والقرطبي فِي "شرح مسلم": الغناء إنشادًا واستماعًا على قسمين:
(1) في (ز2): وهو الأصح.
القسم الأول: ما اعتاد الناس استعماله عند محاولةِ عمَلٍ وحملِ ثقيلٍ، وقطع مفاوز سفر ترويحًا للنُّفوس وتنشيطًا لها؛ كحداء [ز1/ 7/ب] الأعراب بإبلهم (1)، وغناء النساء لتسكين صِغارهن، ولعب الجواري بلعبهن، فهذا إذا سلم المغنِّي به من فحش وذِكر محرَّم كوصف الخمور والقَيْنَات لا شكَّ فِي جَوازه، ولا يختلف فيه، وربما يُندَب إليه إذا نشط على فعل خيرٍ كالحداء فِي الحج والغزو؛ ومن ثَمَّ ارتجز صلى الله عليه وسلم هو والصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - فِي بناء المسجد (2)، وحفر الخندق (3)، وغيرهما كما هو مشهورٌ، وقد أمَر النبي صلى الله عليه وسلم نساءَ الأنصار أنْ يقلن فِي عرسٍ لهن:
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ = فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ (4)
(1) الحداء: حدا الإبل وحدا بها يحدو حدوًا وحُداء ممدود زجرها خلفها وساقَها وتحادَتْ هي حدا بعضها بعضًا، والحدو سوق الإبل والغناء لها ("لسان العرب"؛ لابن منظور، مادة (حدا)).
(2)
أورد ابن هشام في " السيرة النبوية "(2/ 104) في قصة بناء مسجد المدينة: فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يبني مسجدًا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُرغِّب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا فيه، فقال قائلٌ من المسلمين:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ = لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ
ا. هـ.
(3)
أخرج البخاري (3795)، ومسلم (4775) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عيش إلا عيش الآخرة، فأصلح الأنصار والمهاجرة)).
(4)
أخرجه ابن ماجَهْ (1900) من حديث أبى الزبير عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: أنكحت عائشة ذات قَرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((أهديتم الفتاة)) قالوا: نعم، قال:((أرسلتم معها مَن يُغنِّي؟)) قالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الأنصار قومٌ فيهم غزلٌ، فلو بعثتم معها مَن يقول:
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ = فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 107): هذا إسنادٌ رجاله ثقات، إلا أنَّ الأجلح مختلفٌ فيه، وأبو الزبير قال فيه ابن عيينة: يقولون: إنَّه لم يسمعْ من ابن عباس، وقال أبو حاتم: رأى ابن عباس رؤيةً، انتهى، وأصله في "صحيح البخاري" من حديث ابن عباس بغير هذا السِّياق، وله شاهد من حديث جابرٍ رواه النسائي في "الكبرى"، ورواه البيهقي في "سننه الكبرى" من حديث جابر عن عائشة، ورواه مسدَّد في "مسنده" من حديث جابر، ورواه أحمد بن منيع في "مسنده" من طريق أبي الزبير عن جابرٍ به، ا. هـ.
وأخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3265) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (4/ 289): رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه رواد بن الجراح وثَّقه أحمد وابن معين وابن حبان، وفيه ضعفٌ، وأحمد (3/ 391)، والبيهقي (3/ 332) من حديث أبي الزبير عن جابر، وأحمد (4/ 77) من طريق عمرو بن يحيى المازنى عن جدِّه أبي حسن أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم كان يكرَهُ نكاحَ السرِّ حتى يضرب بدفٍّ ويُقال:
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ = فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ
وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع"(4/ 289): رواه ابن أحمد، وفيه حسين بن عبدالله بن ضُمَيرة، وهو متروك.
وكالأشعار المزهِّدة فِي الدُّنْيَا المرغِّبة فِي الآخِرة، فهي من أنفع الوعظ، الحاصل عليها أعظم الأجر، ويُؤيِّد ما نقَلَه من نفى الخلاف فِي هذا القسم أنَّ ابن عبدالبر وغيره قالوا: لا خلافَ فِي إباحة الحُداء واستِماعه، [وهو نحو ما يُقال خلف الإبل](1) من الشعر سوى الرجز وغيره؛ لينشطها على السير، ومَن أوهم كلامه نقل خلافٍ فيه فهو شاذ أو مُؤوَّل على حالةٍ يُخشَى منها شيءٌ غير لائق (2).
القسم الثاني: ما ينتحله المغنون العارفون بصنعة الغناء المختارون المدن من غزَل الشعر مع تلحينه بالتلحينات الأنيقة، وتقطيعه لها على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس وتطربها؛ كحُميَّا الكؤوس، فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال العلماء:
أحدها: أنَّه حَرام: قال القرطبي وهو مذهب مالك، قال أبو إسحاق: سألت مالكًا عمَّا يُرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفُسَّاق، فهو مذهبُ سائرِ أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحدَه فإنه لم يرَ به بأسًا،
(1) في (ز1): وهو ما يقال خلف نحو الإبل.
(2)
"التمهيد"(22/ 198).
وهو أيضًا مذهبُ أبي حنيفة - رضِي الله تعالى عنه - وسائر أهل الكوفة [إلا] إبراهيم النخعي، والشعبي، وحماد، وسفيان الثوري وغيرهم لا خِلاف بينهم فيه، وهو أحد قولي الشَّافِعِي وأحمد رضي الله عنهما وقال الحارث المحاسبي: الغناء حرامٌ كالميتة، ووقَع لإمام مذهبنا الرَّافِعِيِّ فِي "الشرح الكبير" أنَّه فِي موضعين منه فِي البُيوع والغصب أطلَقَ أنَّ الغناء حَرامٌ وتابَعَه الإمام النووي فِي "الروضة" على الثاني (1)، قال الأذرعي: وظاهر مذهب مالك ما قاله [ز1/ 8/أ] القرطبي؛ أي: لا ما يأتي عن الماوردي، ويستدلُّ لهذا القول بحديث المغنِّي السابق فِي المقدمة [فإنه] استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الغناء من غير فاحشةٍ فقال:((لا آذَنُ لك ولا كرامة ولا نعمة عين، كذبت أيْ عدو الله، لقد رزقَكَ الله حلالاً طيِّبًا، واخترتَ ما حرَّم الله عليك من رزقه مكانَ ما أحلَّ الله لك من حَلاله، ولو كنت تقدَّمت إليك - أيْ بالنهي - قبل الآن لفعلتُ بك وفعلتُ، قُمْ عنِّي وتُبْ إلى الله، أمَا إنَّك لو قلت بعد التقدمة شيئًا - أي: لو فعلت ما نهيتك عنه - بعد الآن ضربتك ضربًا وجيعًا، وحلقت رأسك، ونفيتُك عن أهلك، وأحللت سلبك نهبةً لفتيان المدينة، هؤلاء العصاة - أي: الذين يفعلون مثل فعل عمرو هكذا - مَن مات منهم بغير توبةٍ حشَرَه الله - تعالى - يوم القيامة كما كان في الدنيا: مخنثًا عريانًا، لا يستتر من الناس بهدبةٍ كلَّما قام صُرِعَ)) (2).
(1)"روضة الطالبيين"(11/ 228).
(2)
أخرجه ابن ماجَهْ (2/ 871 رقم 2613)، وقال البوصيرى (3/ 119): في إسناده بشر بن نمير البصري، قال فيه يحيى القطان: كان ركنًا من أركان الكذب.
ثانيها: أنَّه مكروهٌ: وهو الأظهَرُ عند الشَّافِعِي وأحمد وأكثر أصحابهما، وقول أهل البصرة، وقال غير واحدٍ من العلماء: لا يُعرَف عن أهل البصرة خلاف فِي كراهته، وقال الماوردي: حرَّم الغناء قومٌ وأباحَه آخَرون، وكرهه مالك والشافعي وأبو حنيفة فِي أصحِّ ما قِيل عنهم، ومرَّ أنَّ سماعه من أجنبيَّةٍ مع أمن الفتنة مكروهٌ، لكنَّه شديد الكراهة، ومع خوفها حرامٌ بلا خلاف، وكذا من الأمرد الحسن.
ثالثها: الإباحة: وهو المروي عن إبراهيم بن سعد والعنبري، وهما شاذَّان، على أنَّ العنبري مُبَدَّع فِي اعتقاده، غير مَرضِيٍّ عمله، وإبراهيم بن سعد ليس من أهل الاجتهاد.
قال القرطبي: وحكاية أبي طالب المكي لذلك عن جماعةٍ من الصحابة والتابعين، وأنَّ الحجازيين لم يَزالوا يسمعون السماع فِي أفضل أيَّام السَّنة الأيَّام المعدودات، إنْ صحَّت هذه الحكاية فهي من القسم الأول دون الثاني، قال: وقد حكَى جمعٌ من الشافعيَّة كالقشيري - رحمه الله تعالى - عن مالك - رضِي الله تعالى عنه - الإباحة، ولا يصحُّ عنه بوجهٍ ولا عن أحدٍ من أصحابه بوجهٍ.
رابعها: يحرم كثيره دون قليله، ذكَرَه بعضُ شرَّاح "المنهاج"، وقال ذكره الرَّافِعِيُّ - رحمه الله تعالى - من رواية السرخسي، واقتضى إيراد ابن أبي هريرة أنَّه المذهب، فإنَّه قال: قال الشَّافِعِيُّ لا نبيحه مطلقًا، ونقول: إنْ كان كثيرًا دخَل فِي باب السفه، ا. هـ، ونازَعَه الأذرعي فِي دلالة هذا على التحريم، وإنما يدلُّ على ترك المروءة، ا. هـ[ز1/ 8/ب].
والحق أنَّه ظاهرٌ فِي التحريم؛ إذ سلب الإباحة وعدُّه من السفه إنما يَلِيقان بالتحريم دُون خرم المروءة كما يُعرَف من كلامهم فيها.
خامسها: يحرم فِعله وسماعه إلَاّ إذا كان فِي بيتٍ خالٍ على إحدى وجهين، ذكره بعض تلامذة البغَوِيِّ، ونظَر فيه الأذرعي ثم قال: وأحسبه راجعًا لردِّ الشهادة بالمجاهرة دُون إخفائه، ويُجاب بأنَّ هذا لا يُنافِي الحرمة لتصريحهم بأنَّ [مَن](1) تحمَّل شهادة يحرم عليه فعل خارم لمروءته، وإنْ أُبِيح فِي نفسه؛ لأنَّ فعله [إبطالٌ لغير الحق](2).
سادسها: يحرم إنْ كان من امرأةٍ لرجل أو لرجالٍ، أو من رجلٍ لامرأة أو نساء، أو إنِ اقترن به نحو مُسكِر أو أكثر منه أو انقطع إليه، ذكره الحليمي من أكابر أصحابنا.
سابعها: إنْ صحَّت النيَّة فيه لم يكره، وإلا كره، قاله الخوارزمي فِي "كافيه": ونازع الأذرعي فِي عدِّ هذا بأنَّ صاحب "الكافي" ليس من أصحاب الوجوه.
ثامنها: يجوزُ الغناء وسماعه إنْ سلم من تضييع فرْض [أو حُرمة مبيح](3)، وكان من رجلٍ أو محرم لرجلٍ ولم يسمعه على قارعة طريق، ولم يقترن به مكروه، ذكره الأستاذ أبو منصور.
تاسعها: يحرم إنْ كان بِجُعْلٍ كما نقل الأستاذُ عن نصِّ الشَّافِعِي رضي الله عنه.
عاشرها: هو طاعة إنْ نوى به تَروِيحَ القلب على الطاعة، ومعصية إنْ نوى به التقوية على المعصية، فإنْ لم ينوِ طاعة ولا معصية فهو معفوٌّ عنه؛
(1) زيادة من (ز2).
(2)
في (ز2): إبطال حق الغير.
(3)
في (ز2): أو حرمة شيخ.
كخروج الإنسان إلى بستانه، وقُعوده على بابه متفرِّجًا، ذكره ابن حزم ونحا نحوه الغزالي وغيره.
حادي عشرها: [إنْ كان ما استعمل](1) يحتمل وجهَيْن: جائزًا وحرامًا، فسماعه جائزٌ، وإنْ لم يحتمل إلَاّ وجهًا واحدًا وهو وجْه الفسق، فحرامٌ، ذكَرَه الروياني فِي "بحره" عن بعض أصحابنا الخراسانيين وهو صحيح، وبه يتأيَّد ما قدَّمته آخِر التنبِيه الأول.
هذا جملة ما يتحصَّل للعلماء فِي الغناء من الأقوال، وبها مع ما يأتي قريبًا يعلم مَن طالَع ذلك الكتاب السابق ذكره فِي الخطبة ما فيه من السقطات والتدليسات والاختلال.
(تَنْبِيه رابع): وقَع لصاحب ذلك الكتاب ولبعض شُرَّاح "المنهاج" أنهم نقَلُوا عن ابن طاهر أنَّه قال: إنَّ جواز الغناء مُجمَعٌ عليه بين [ز1/ 9/أ] الصحابة والتابعين لا خلاف بينهم، وهم أهل الحلِّ والعقد، فليس لِمَن بعدهم إحداث قولٍ يخالفهم، ثم قالوا: وعليه إجماع أهل المدينة، ونقلوا فعله وسماعه عن أربعة وعشرين صحابيًّا من أكابر الصحابة وفقهائهم، وعن جماعةٍ لا يُحصَوْن من التابعين وتابعيهم، وعن الأئمَّة الأربع وأصحابهم وغيرهم، قال الأذرعي - شكر الله سعيه -: وقد تساهَل ذلك الشارح فيما نقَل، وابن طاهر الذي تبعوه وإنْ كان مُكثِرًا فليس بظاهر النقل.
(1) في (ز2): إن كان ما استمعه.
وفي كتابه "صفوة التصوف"(1) وكتابه فِي "السماع" فضائح وتدليسات قبيحة لأشياء موضوعة [ومختلقة على بعض الأئمَّة]، وأمَّا دعواه إجماعَ الصحابة فمُجازفةٌ وتدليس، فقد روى البيهقي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّه قال:((الغناء يُنبِت النِّفاق في القلب كما ينبت الماءُ البقلَ)) (2)، وقال: إنْ وقفه عليه هو الصحيح؛ أي: ومثله لا يُقال من قِبَلِ الرأي؛ لأنَّه إخبارٌ عن أمرٍ عيني، فإذا صَحَّ عن الصحابة فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مُقرَّر عند أئمَّة الحديث والأصول، وقد روى أبو داود وغيره عن ابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهما ذلك مع التصريح برَفعِه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قدَّمت فِي المقدمة هذا الحديث وطرقه وما قيل فيه، فراجِعْه فإنَّه مهم.
ثم رأيت الأذرعي أشارَ إلى ما ذكرته أنَّ ذلك لا يُقال من قِبَلِ الرأي، فعلم أنَّ هذا الحديث قد صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بكلِّ تقرير، وحينئذٍ فالحجَّة فيه دُون ما سواه، قال الأذرعي: وما نُسِبَ إلى أولئك الصحابة أكثَرُه لم يثبتْ، ولو ثبَت منه شيءٌ لم يظهر منه أنَّ ذلك الصحابي يُبِيح الغناء المتنازَع فيه، فالمرويُّ عن عمر رضي الله عنه أنَّ غلامًا دخَل عليه فوجده يترنَّم ببيتٍ أو نحو ذلك فعجب منه فقال: إذا خلَوْنا قُلنا كما
(1) في نقل هذا الكلام عن ابن طاهر تجنٍّ عليه، وحطٌّ من قدره؛ فإنَّ ابن طاهر في العلم أعلى كعبًا من الهيتمي والأذرعي بمفاوز وقِفار تنقطع دُونها أعناق الإبل، وإنْ كان ينتقد عليه ما ينتقد على غيره من أهل العلم، وقد ترجم له الذهبي في "السير" بكلامٍ نفيسٍ معتدل دون إفراط ولا تفريط، "السير"(19/ 361/ ط الرسالة).
(2)
أخرجه أبو داود (4927)، والبيهقي (10/ 223)، وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4/ 366): أبو داود بدون التشبيه، والبيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعًا، وفيه شيخٌ لم يسمَّ، ورواه البيهقي أيضًا موقوفًا.
تقولُ الناس، فالله أعلم ما كان ذلك البيت وما كان ترنُّمه وصفته (1)، وصَحَّ عن عثمان رضي الله عنه: "ما تَغَنَّيْتُ وما تَمَنَّيْتُ)) (2)؛ أي: زنيت، فإطلاق القول بنسبة الغناء المتنازع فيه وإسماعه إلى أئمَّة الهدى تجاسر، ولا يفهم الجاهل منه [إلا] هذا الغناء الذي تَعاطاه المغنُّون المخنَّثون ونحوهم.
وقال الشيخ الإمام إبراهيم [ز1/ 9/ب] المروزي فِي تعليقه: وَعَنْ عمر، وعبدالرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي مسعود الأنصاري، أنهم كانو يترنَّمون بالأشعار فِي الأسفار، وكذلك عن أسامة بن زيد، وعبدالله بن الأرقم، وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهم والترنُّم كذلك ليس فِي محلِّ النِّزاع؛ إذ هو من أنواع القسم الأول من القسمين السابقين، وقد مرَّ أنَّه لا خِلافَ [فيه]، وبه يعلم أنَّ الظاهر الذي يتعيَّن القطع به أنَّ غالب ما
(1) أورد هذه القصَّة شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي في "المستطرف"(2/ 319) فقال: وعن عبدالله [الصواب عبدالرحمن] بن عوف قال: أتيت باب عمر بن الخطاب - رضِي الله تعالى عنه - فسمعتُه يُغنِّي بالركابيَّة يقول:
فَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا = قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ
وكان جميل بن معمر من أخصاء عمر قال: فلمَّا استأذنتُ عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم، قال: إذا خلونا قُلنا ما يقول الناس في بيوتهم، وأورد هذه القصة ابن عبدالبر في "الاستيعاب"(1/ 73)، وابن الأثير الجزري في "أسد الغابة"(1/ 187)، وابن حجر في "الإصابة" (1/ 500) بلفظ: وقال الزبير بن بكَّار: جاء عمر بن الخطاب إلى عبدالرحمن بن عوف فسمعه يتغنى بالنصب يقول:
فَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا = قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ
فقال: ما هذا يا أبا محمد؟ قال: إنَّا إذا خلَوْنا قُلنا ما يقول الناس، وذكر المبرد هذه القصة فجعل عمر هو الذي كان يتغنَّى، والله أعلم.
(2)
أخرجه ابن ماجَهْ (311) عن عُقبةَ بن صهبان قال: سمعت عثمان بن عفَّان يقول: "ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسَسْت ذكَرِى بيمينى منذ بايَعتُ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 45): هكذا وقَع موقوفًا عند ابن ماجه، رواه محمد بن يحيى بن أبي عمر في "مسنده" عن وكيع فذكره بإسناده ومتنه سواء.
حُكِي عن الصحابة رضي الله عنهم وعمَّن بعدَهم من الأئمَّة إنما هو من هذا القسم الذي لا خِلافَ فيه، وقد قال الإمام القدوة خطيبُ الشام أبو القاسم الدولقي من أئمَّتنا فِي "مصنفه فِي السماع": إنَّه لم يُنقَل عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنَّه سمع الغناء - أي: المتنازع فيه - ولا جمع له جموعًا، ولا دعا الناس إليه، ولا حضَر له فِي ملأ، ولا خلوة، ولا أثنى عليه، بل ذمَّه وقبَّحه وذم الاجتماع إليه، هذا لفظه ومن خطه رحمه الله نقلتُ، انتهى كلام الأذرعي - رحمه الله تعالى.
وبه يعلم أنَّ ابن طاهر لا يجوزُ تقليده فِي نقلٍ ولا عقلٍ؛ لأنَّه فاسدٌ فيهما، كيف وهو كذَّاب مُبتدِع إباحي كما يأتي، وإنَّ من نقل عن الصحابة وغيرهم أنهم نصُّوا على إباحة الغناء المتنازَع فيه، وهو القسم الثاني السابق فقد أخطأ خطأً قبيحًا، وغلط غلطًا فاحشًا؛ لأنَّ الغِناء من أفراده المجمَع على حلِّه والمختلف فِي حُرمته، فتخصيصُ ما جاء عنهم بالثاني تحكُّم فاسد لا تشهد له قاعدة أصوليَّة ولا حديثيَّة، بل الذي شهدت به القواعدُ حملُ ما جاء عنهم على المجمع عليه؛ لأنهم أئمَّة الهدى ومصابيح الدُّجَى، فهم أبعَدُ الناس عن الوُقوع فِي مواطن الخلاف، وأحقُّ العلماء بتجنُّب ذلك السَّفساف رضي الله عنهم.
(تَنْبِيه خامس) قد تقرَّر أنَّ القسم الثاني من قسمي الغناء فيه خِلافٌ قوي فِي تحريمه؛ لما مرَّ من نقل القرطبي للتحريم عن أبي حنيفة ومالك، وأولئك الأئمَّةُ الأكابر، قال الأذرعي: والذي يقوَى فِي النفس رُجحانُه تحريمُ الغناء الملحَّن وسماعه على أكثر الناس، والعجب استدلال الرَّافِعِيِّ رحمه الله [ز1/ 10/أ] تعالى - للكراهة فقط بقوله - تعالى -:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلمٍ} [لقمان: 6] قال ابن
مسعود كما صحَّ عنه رضي الله عنه: "لَهْوَ الحَدِيثِ] (1) الغِنَاء"(2)، ومرَّ أنَّه صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((الغِناء يُنبِت النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماءُ البقلَ)) (3) وهذان ظاهران فِي التحريم.
وروى البيهقي عن ابن عباسٍ أنَّه فسَّر لهو الحديث وأشباهه [بالملاهي](4)، قال: وروينا عن إبراهيم النخعي، ومجاهد، وعكرمة - وزاد غيره روايته عن الحسن البصري - وسعيد بن المسيب، وقتادة.
ومن أدلَّة التحريم أيضًا قولُه - تعالى -: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (5) فسَّره مجاهد بالغناء وَالمَزَامِير (6)، وقوله - تعالى -:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]} ، قال محمد بن الحنفيَّة ومجاهد:"هو الغناء"(7)، وقوله - تعالى -:{أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (8)؛ أي: "مغنُّون بلغة حمير"
(1) سقط من (ز1) وتم استدراكه من (ز2).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 368 رقم 21130)، والحاكم (3542)، والبيهقي (10/ 223) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرِجاه، وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4/ 200): إسْناده صحيح.
(3)
أخرجه أبو داود (4927)، والبيهقي (10/ 223) وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4/ 366) حديث:((الغناء يُنبِت النفاق في القلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ)) أبو داود بدون التشبيه، والبيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعا، وفيه شيخ لم يسمَّ، ورواه البيهقي أيضًا موقوفا، وفي الباب عن أبي هريرة رواه ابن عدي، وقال ابن طاهر: أصحُّ الأسانيد في ذلك أنَّه من قول إبراهيم.
(4)
في (ز2): بالغنا وأشباهه. والأثَر أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(786)، وابن أبي شيبة (4/ 368)، والحاكم (2/ 445)، والبيهقي (10/ 221) وقال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(5)
سورة الإسراء: 64، وفي (ز1): فاستفزز.
(6)
أثر مجاهد أخرجه الطبري في "تفسيره"(15/ 118)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 298)، والآية من سورة الإسراء/64.
(7)
أثر مجاهد أخرجه الطبري في "تفسيره"(19/ 48)، وأثر محمد بن الحنفية أورده ابن كثير في "تفسيره"(3/ 329)، والآية من سورة الفرقان/72.
(8)
سورة النجم: 59 - 61.
قاله عكرمة، وحَكاه أبو العباس القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقال مجاهد: هو الغناء بلغة أهل اليمن (1).
قال الأذرعي: وقد أوضحت فِي كتابي "غنية المحتاج فِي شرح المنهاج"(2) من حجج القول بالتحريم أو الكراهة الشديدة والرد على المبيحين للغناء والمتساهلين فيه ما ينشرح له القلب المنور باتِّباع السنَّة، الخالي من البدعة والأهوية الحيوانيَّة، وممَّا يدلُّ على ذمِّه وذمِّ متعاطيه من المتَّفق على صحَّته قوله صلى الله عليه وسلم:((مَن أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ))، وفي رواية:((شيئًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ)) (3).
قال أبو العباس القرطبي: وجْه الدليل أنَّ الغناء المطرب لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم ولا فُعِلَ بحضرته ولا اتَّخذ المغنِّين ولا اعتنى بهم، فليس ذلك من سِيرته ولا سِيرة خُلَفائه من بعده ولا من سِيرة أصحابه ولا عترته، فلا يصحُّ بوجهٍ نسبتُه إليه ولا أنَّه من شريعته، وما كان كذلك فهو من المُحدَثات التي هي بدعةٌ وضلالة، وقد يتعامى عن ذلك مَن غلب عليه الهوى، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (([كُلُّ] لهوٍ يَلهُو به الرجلُ فهو باطلٌ إلا رميَه بقَوسِه، وتَأدِيبَه لفرَسِه، ومُلاعَبتَه أهلَه)) (4).
(1)"الجامع لأحكام القرآن"(17/ 123).
(2)
"غنية المحتاج في شرح المنهاج": هو كتاب شرح فيه "منهاج الطالبين"؛ للنووي في نحو عشر مجلدات (هدية العارفين (1/ 61) للبابي).
(3)
متفق عليه: البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه أبو داود (2513)، والنسائي (6/ 222)، وابن الجارود في "المنتقى"(1062)، وأبو عوانة (4/ 504)، والحاكم (2/ 104)، والبيهقي (10/ 3) من طريق خالد بن زيد، عن عقبة بن عامر؛ قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه، لكن قال المناوي في "فيض القدير" (2/ 299): فيه خالد بن زيد، قال ابن القطان: وهو مجهول الحال، فالحديث من أجله لا يصحُّ.
(تَنْبِيه سادس) من الأحاديث الموضوعة [ز1/ 10/ب] الكذب الذي لا تحلُّ روايتها إلَاّ لبيان حالها حتى لا يغتر العامَّة بها ما رواه الكذَّاب - ابن طاهر - (1) بسنده الباطل عن أنس قال: "كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: ((فيكم مَن ينشدنا؟)) قال بدوي: نعم يا رسول الله، فأنشده:
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوَى كَبِدِي = فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي
إِلَاّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ = فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي
فَتَوَاجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَواجَدَ أصحابُه حتى سقَط رداؤه عن منكبه، فلمَّا فرغوا آوَى كلُّ واحدٍ إلى مكانه، فقال معاوية بن أبي سُفيان: ما أحسن لعبكم يا رسول الله! فقال: يا معاوية، ليسَ بكرِيمٍ مَن لم يهتزَّ عِنْدَ السَّماع الحسن (2)، ثم قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رِداءَه ممَّن حضرَ أربعَمائة قِطْعَةٍ)) (3)، قال ابن طاهر فِي كتابه "صفوة التصوف" بعد سوقه سند هذا الحديث: وهذا الحديث نصَّ على أنَّ مذهب الصوفية كان معلومًا عندهم، معمولاً به بينهم، فإنكاره جهلٌ بالمنقول والتَّمادِي على إنكاره بعد هذا ليس له محصول، ا. هـ.
(1) ابن طاهر جِهبِذٌ علَم إمامٌ، وليس بكذَّاب، وعلَّة الحديث من "عمار بن إسحاق" متَّهم بالكذب كما سيأتي.
(2)
هكذا في المخطوط، وفي المطبوع: عند السماع للحبيب.
(3)
أورده ابن حجر في "لسان الميزان"(4/ 270) في ترجمة "عمَّار بن إسحاق" وعَزاه إلى ابن طاهر في "السماع"، والسفاريني في "غذاء الألباب" (1/ 407) وقال: هذا حديث موضوع، وخبرٌ باطل مصنوع، وكان واضعه عمَّار بن إسحاق؛ لأنَّ باقي رجاله لا يتَّصفون بالكذب والاختلاق، وقد قال الذهبي وغيره: هو ممَّا يقطع بكذبه.
وليس كما زعَم بل كذب وافترى وجازَف واجترأ، بل هو من جملة كذباته وفرياته وضَلالته وخرافاته؛ ومن ثَمَّ قال أبو العباس القرطبي: لا يحتجُّ بحديث ابن طاهر لما ذكره السمعاني عن جماعةٍ من شيوخه أنهم تكلَّموا فيه ونسبوه إلى مذهب أهل الإباحة الذين لا يُحرِّمون مالاً ولا فرجًا، وعنده مناكير فِي هذا الكتاب، روى عن مالكٍ وغيره من أئمَّة الهدى حكايات منكرة باطلة قطعًا، وقال محمد بن ناصر الحافظ: ابن طاهر ليس بثقةٍ، ثم العجب من غلبة الهوى والميل على هذا الفاسق المبتدِع أنَّه لما استكمل سياق هذا الحديث الباطل الكذب المختلق قال فِي آخره كلامًا يُوهِم به الضُّعَفاء أنَّه على شرط البخاري ومسلم وهو تمويهٌ وتدليس على العوام، فتأمَّل غلبة هذا الهوى على هذا الرجل حتى لم يرضَ بإيهامه صحَّة هذا الحديث، بل زاد وبالَغ حتى أوهَمَ أنَّه على شرط الصحيحين؛ كلُّ ذلك ترجيحٌ لقوله الباطل، وتمويهٌ لحاله الحائل؛ لفساد عقله، واستيلاء خبله، والإفساد فِي الناس، [وإلَاّ فأدنى عارف] بالسنَّة يعلم عند مجرَّد [سماعه] هذا الحديث أنَّه كذبٌ مصنوعٌ موضوعٌ لرَكاكة ألفاظِه، وأنَّ شعره لا يليق بجزالة شعر [ز1/ 11/أ] العرب، بل بركاكة شعر المخنَّثين، قال الأذرعي: وأطال القرطبي فِي ردِّ هذا الحديث الباطل المختلق، وما قاله حقٌّ لا ينازِع فيه أحدٌ من أهل المعرفة بالحديث، ولا شكَّ فيه، فالله حسب مفتريه.
وقد ذكَر صاحب "عوارف المَعارِف" هذا الحديث ثم قال: لكن يخالج سرِّي أنَّ هذا الحديث ليس فيه دون اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ويأبى القلب قبوله، ا. هـ.
قال بعض الحفَّاظ: وما خالج صدره - رحمه الله تعالى - يقينٌ عند غيره قد خالَط قلبه؛ أي: فلنور قلب الشهاب السهروردي لم يقبَل قلبه هذا الحديث
الركيك الذي يجعَل كلماته صلى الله عليه وسلم عن أنْ يحاكي به هذه الألفاظ الركيكة المظلمة.
(خاتمة) فِي فروع مُتمِّمة لما سبق منها: مَن غنَّى لنفسه أو غيره إنْ أخَذ عليه أجرًا واشتهر به بحيث يُسمَّى مغنِّيًا فهو سفيهٌ مردود الشهادة، وكذا مَن انقطع لسماعه بخلاف مَن يسمعه أحيانًا ولو فِي الملأ ومَن تكسَّب يجمع المغنين والمغنيات عنده ليطلب [منه] إحضارهم، أو بتعليم غناء لامرأة وأمرد - فهو سفيهٌ مردودُ الشهادة، بخلاف مَن اقتناهم ليسمعهم غير مُكثِر ولا مُجاهِر ما لم يدخل معه لسماعهم مَن يحرم عليه سماعهن؛ لأنَّ ذلك دِياثة، ولو كان يغشى بيوت الغناء ويغشاه المغنُّون للسماع فإنَّ كان فِي خفية لم تردَّ شهادته لبقاء مُروءته، وكذا إنْ أظهره ولم يُكثِر منه.