الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم العاشر: في الشَّبَّابة والزَّمارَة وهي اليَراع
اعلم أنَّ إماميَّ مذهبنا: الرَّافِعِي والنووي، اختلفا فِي الراجح من الخِلاف فيها؛ فقال الرَّافِعِي فِي "عزيزه": في اليَرَاع وجهانِ صَحَّحَ البغويُّ التحريم، والغزالي الجواز، وهو الأقرب، وليس المراد من اليَراع كلَّ قصب، بل المزمار العراقي وما يُضرَب به الأوتارُ - كما فِي نسخ، وفي نسخة معتمدة: مع الأوتار كما يأتي - حرامٌ بلَا خلافٍ (1).
وقال النووي فِي "روضته" بعد ذِكره ذلك استدراكًا عليه: قلتُ: (الأصحُّ)؛ أي: فيكون الخلاف قويًّا، أو (الصحيح)؛ أي: فيكون الخلاف ضعيفًا، كما عُلِم من اصطلاحه فِي خِطبته.
تحريم اليَرَاع، وهو هذه الزَّمَّارَة التي يُقال لها: الشَّبَّابَة ممَّن صحَّحه البَغَوي، وقد صنَّف الإمام أبو القاسم الدولقي كتابًا فِي تحريم اليَرَاع مشتملاً على نفائس، وأطنَبَ فِي دَلائل تحريمه، والله أعلم، انتهى (2).
وأشار بقوله ممَّن صحَّحه البَغَوي إلى التورُّك على الرَّافِعِيِّ، فإنَّ ظاهر عبارة الرَّافِعِي أنَّه لم يُصحِّحه سوى البَغَويِ، فأشار بقوله: ممَّن صحَّحه البَغَوي، إلى ردِّ عبارته، وأنَّ البَغَوي لم ينفردْ بذلك، وبهذا الذي ذكرته إنْ تأمَّلته
(1) وهذا أيضًا نفس كلام النووي فِي "الروضة"(11/ 228) طبعة المكتب الإسلامي حيث قال: "وفي اليَراع وَجْهان صحَّح البغوي التحريم، والغزالي الجواز، وهو الأقرب، وليس المراد من اليراع كلَّ قصب، بل المزمار العراقي وما يُضرَب به الأوتار حرامٌ بلا خلاف، قلت: الأصحُّ أو الصحيح تحريم اليَراع، وهو هذه الزمارة التي يُقال لها: الشبابة، وقد صنَّف الإمام أبو القاسم الدولقي كتابًا في تحريم اليَراع مشتملاً على نفائس، وأطنَبَ في دلائل تحريمه، والله أعلم.
أمَّا الدفُّ فضربُه مُباح في العُرس والختان، وأمَّا في غيرهما فأطلق صاحب "المهذب" والبغوي وغيرهما".
(2)
"روضة الطالبين"؛ للنووي (11/ 229) طبعة المكتب الإسلامي.
يظهَرُ لك فَسادُ اعتراض الأسنوي على النووي بقوله: نَقْلُهُ تصحيحَ المنع عن البَغَوي عجيبٌ، فقد ذكَرَه الرَّافِعِيُّ، انتهى.
ووجْه فَساده أنَّ الذي قالَه النوويُّ غيرُ ما قاله الرَّافِعِيُّ؛ لما علمت أنَّ الرَّافِعِيَّ حصَر التصحيح فِي البَغَوي والنووي، أفاد عدم انحِصاره فيه، وإنما هو من جُملة المصححين، وعجيبٌ خفاءُ مثلِ هذا على الأسنوي، وأعجَبُ منه سكوت المتعقِّبين لكلام الأسنوي على هذا الاعتراض الذي فِي غاية السُّقوط.
قال الأسنوي: واعلم أنَّ المنع قد رجَّحَه الشيخ أبو حامد [ز1/ 25/ب] فقال: إنَّه القياس، وصحَّحه الخوارزمي فِي "الكافي" وجزَم به ابن أبي عصرون، وأمَّا الجواز فقال به الماوردي، والخطابي، والروياني، ومحمد بن يحيى فِي "المحيط"، انتهى.
(تَنْبِيه) ما اقتضاه كلام الرَّافِعِيِّ السابق، وكلام الأسنوي هذا من تَساوِي القائلين لكلٍّ من الحل والحرمة فيه نظر؛ بل أكثر أصحاب الشَّافِعِي على الحرمة، بل الكلام في ثُبوت لكلٍّ فِي مذهبنا وجهًا يعتدُّ بخلاف قائله كما ستعلَمُه.
وقد قال الأذرعي: ما ذهَب إليه الغزالي من الحلِّ وتَبِعَه صاحبه ابن يحيى شاذٌّ، ولم أرَ للغزالي فِي ترجيحه سلفًا، قال: وقد ذكَر غيرُ الأسنوي أنَّ الشيخ أبا عليٍّ قال: إنَّ التحريم هو القياس.
قال فِي "الكافي": لأنَّه من جِنس َالمَزَامِير وهو المذهب، وقضيَّة كلام العراقيين وغيرهم إذ قالوا: الأصوات المكتسَبة بالآلات المطرِبة ثلاثة أضرب
…
وعدوا منها المَزَامِير، واستدلُّوا للتحريم بحديث ابن عمر - رضي
الله عنهما - المشهور، وأحسن فِي "الذخائر" فنقَل عن الأصحاب التحريم للمَزامِير مطلقًا.
ثم قال: وقال الغزالي: يحرم المِزمارُ العِراقِيُّ الذي يُضرَبُ به مع الأوتار، وفيما سواه وجهان، وأمَّا العراقيون فحرَّموا المَزامِير كلها من غير تفصيل؛ فإذًا المذهب الذي عليه الجماهيرُ تحريم اليَراع وهو الشَّبَّابة، وقد أطنَبَ الإمام الدولقي خطيب الشام فِي دلائل تحريمه وتقريرها كما رأيته بخطِّه فِي مصنَّفه، قال: والعجب كلُّ العجب ممَّن هو من أهل العلم يَزعُم أنَّ الشَّبَّابَة حلالٌ، ويحكيه وجهًا لا مستند له إلا خَيال، ولا أصلَ له وينسبه إلى مذهب الشَّافِعِي، ومَعاذ الله أنْ يكون ذلك مذهبًا له أو لأحدٍ من أصحابه الذين عليهم [التعويل](1) فِي علم مذهبه والانتماء إليه، وقد عُلِمَ من غير شكٍّ أنَّ الشَّافِعِي حرَّم سائر أنواع الزمر، والشَّبَّابة من جملة الزمر، وأحد أنواعه، بل هي أحقُّ بالتحريم من غيرها؛ لما فيها من التأثير فوق ما فِي [الناي](2) وصوناي، وما حُرِّمتْ هذه الأشياء لأسمائها وألقابها، بل لما فيها من الصدِّ عن ذِكر الله وعَن الصَّلاة، ومُفارَقة التقوى، والميل إلى الهوى، والانغِماس فِي المعاصي، وأطال النفَس فِي تقرير التحريم، وأنَّه الذي درَج عليه الأصحاب من لَدُنِ الشَّافِعِي إلى آخِر وقتٍ من المصريين، والبغداديين، والخراسانيين، والشاميين، والجزريين [ز1/ 26/أ] ومَن سكَن الجبال، والحجاز، وما وراء النهر، واليمن، كلهم يستدلُّ [بقصة] (3) ابن عمر رضي الله عنهما يعني: حديث زمارة الراعي.
(1) في (ز1): التعول، والمثبت من (ز2).
(2)
في (ز1): نائي، والمثبت من (ز2).
(3)
في (ز2): بقضية.
قال الأذرعي: وأحسبه عرَّض فِي صدر كلامه بالغزالي؛ فإنَّه من مُعاصِريه، انتهى.
واعتَرضَه تلميذُه الزركشي بأنَّه ليس من مُعاصِريه، فإنَّه وُلِدَ بعد وَفاته بعشْر سنين، انتهى.
ويُجاب عنه بأنَّ مُراده بكونه من مُعاصِريه أنَّه قريب جدًّا من عصره، فصَحَّ أنْ يطلق عليه كونه من مُعاصِريه مجازًا.
وقال الإمام جمال الإسلام ابن [البِزري](1) بكسر الباء نسبةً لبزر الكتان (2): الشَّبَّابة زمرٌ لا محالة حَرام بالنص، ويجبُ إنكارها ويحرم استِماعها، ولم يقل العلماء المتقدِّمون ولا أحدٌ منهم بحِلِّها وجوازِ استعمالها، ومَن ذهَب إلى حلِّها وسماعها فهو مُخطِئ، انتهى.
وقال ابنُ أبي عَصْرُونٍ: الصواب تحريمُها، بل هي أجدَرُ بالتَّحْريم من سائرِ المزامِيرِ المُتَّفَقِ على تحريمِها؛ لشدَّةِ طربها، وهي شِعارُ الشَّرَبَة وأهلِ الفُسوق، انتهى.
وإذا تقرَّر ما فِي هذا التَّنْبِيه عُلِمَ منه خطَأ صاحب ذلك الكتاب فِي قوله: اختَلَفَ العلماء فيها؛ فذهب طائفةٌ إلى التحريم، وطائفةٌ إلى الإباحة، وهو مذهَبُ جماعةٍ، ثم عَدَّ جملة مَن اختاره من الشافعية مُقلِّدًا فيه مَن لا يُوثَق به، وكلُّ ذلك تمويهٌ وتلبيس كما قرَّرته فاعلَمْه.
(1) في (ز1): البزي، وهو تحريفٌ من الناسخ.
(2)
ابن البزري: "البزري بفتح الموحدة وسكون الزاي" عمر بن محمد بن أحمد عكرمة جمال الإسلام أبو القاسم الجزري، إمام جزيرة ابن عمر المفتي والمدرِّس بها، المعروف بابن البزري الفقيه الشافعي، وُلِد سنة 471 وتُوفِّي بالجزيرة سنة 560 ستين وخمسمائة، من تصانيفه "الأسامي والعلل من كتاب المهذب"؛ لأبي إسحاق الشيرازي في الفروع. ("هدية العارفين"؛ للباباني).
واستِدلالُه بقول الرَّافِعِيِّ: رُوِيَ عن الصحابة الترخيصُ في [مزمار] الراعي ليس فِي محلِّه؛ لأنَّ ذلك لم يَثبُتْ عن أحدٍ منهم.
وأمَّا حديث الراعي الآتي فسيأتي الكلامُ فيه، على أنَّ هذا لا ينفَعُ صاحب ذلك الكتاب؛ لأنَّها كانت تُفعَل بحضرته فِي المجامع الحفلة وغيرها على غايةٍ من الإطراب، وزمَّارة الراعي ليس فيها شيءٌ من ذلك كما يأتي، ووقَع له أنَّه استدلَّ على حِلِّ مُطلَق الشَّبَّابَة بأنها تُجرِي الدمع، وتُرقِّق القلب، وبأنَّ العلماء والصالحين لم يزالوا يسمَعُونها وتَجرِي على أيديهم الكرامات الظاهرة، وقد قدَّمتُ ذلك كلَّه عنه فِي مبحث الرَّقص، وأنَّه من خراف ابن طاهر وغيره، وتَبِعَهم هذا من غير تأمُّل؛ لأنَّ الهوى يعمي ويصمُّ، فراجِعْ ذلك كلَّه واحفَظْه فإنَّه مفيد.
(تَنْبِيه ثانٍ) قول الأسنوي السابق: وبالجواز قال الماوردي، والخطابي، والروياني، اعترَضَه الأذرعي وتَبِعَه تلميذُه الزركشي فقال فِي "خادمه": نقل [ز1/ 26/ب] فِي المهمَّات الحِلَّ عن الماوردي، والخطابي، ومحمد بن يحيى، فأمَّا ابن يحيى فإنَّه تبع الغزالي، وأمَّا الماوردي فإنَّه فصل بين الأمصار فيكره، وبين الأسفار والمراعي فيُباح، وحَكاه عنه فِي "البحر" هكذا ولم يَحْكِ غيره، وأصلُ ذلك قول شيخه الأذرعي فِي "توسطه" فِي إطلاق الأسنوي نقل الحِلِّ عمَّن ذكر نظَر، وعبارة "البحر" قال فِي "الحاوي": الشَّبَّابَةُ فِي الأَمصارِ مكروهة؛ لأنها تستعمل فيها من السخف والسفاهة، وفي الأسفار والمراعي مُباحة؛ لأنها تحثُّ على السَّير وتجمَع البهائم إذَا سَرَحَتْ (1).
(1)"الحاوي"؛ لأبي الحسن الماوردي (17/ 193) طبعة دار الفكر.
فإنْ قيل: أليس رُوِي عن ابن عمر وساقَ طرفًا من حديث الراعي وغيره، ثم قال: قلنا: قال أبو سليمان الخطابي: المِزْمَار الذي سمعه ابن عمر صفارة الرُّعاة، وهذا محمولٌ على غير الشَّبَّابَة؛ وهذا يدلُّ على أنَّه وإن كان مكروها فليس كسائر الملاهي؛ لأنَّه لو كان كذلك لما اقتَصَر على سَدِّ المسامع فقط دُون الزجر والتنكيل، انتهى لفظه.
ولا خَفاء أنَّ الراعي ونحوه يصفر فيها صفرًا مجرَّدًا، والكلام فيمَن يصفر فيها على القانون المعروف، فالوجه التحريمُ فيها مطلقًا، بَل هي أجدَرُ بالتحريم من سائر المزامير المتَّفَق على تحريمها؛ لأنها أشدُّ إطرابًا وهي شِعار الشَّرَبة وأهل الفُسوق، وقال بعض أهل هذه الصناعة - وهي الموسيقا -: الشَّبَّابَة آلةٌ كاملة وافية تجمَعُ النَّغمات، وقال آخَرون: ينقص قيراطًا.
قال القرطبي: هي من أعلى المَزَامِير، وكل ما لأجله حرمت المَزَامِير موجودٌ فيها وزيادة، فيكون أولى بالتحريم، قال الأذرعي: وما قاله حقٌّ واضح، والمنازعة فِيه مكابرةٌ، وقال غيره: هي من أعلى المَزامِير، وكل ما لأجله حُرِّمت المَزامِير موجودٌ فيها وزيادة؛ فيكون أولى بالتحريم، والمنازعة في هذا مكابرةٌ، وهو الموافق للمَنقول، فإنَّه الذي نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ والجمهورُ؛ فقد قال فِي "الأم" فِي باب السرقة: ولا يقطع فِي ثمن الطُّنْبُور ولا المِزْمَار، انتهى (1).
وقد حرم الشَّافِعِي ما دونها فِي الإطراب بكثيرٍ فإنَّه حرَّم الكُوبَة وهو الطبل الصغير، وحرَّم طبل اللهو وهو [ز1/ 27/أ] الطبل الكبير، وحرم الطبل (2) فِي غير العُرس والخِتان، وما حرَّمَه إلا لأنَّه لهوٌ لا ينتفع به فيما يجوز؛ ففي
(1)"الأم"؛ للشافعي (6/ 160) طبعة دار المعرفة.
(2)
في المطبوع: وحرم الدف.
الشَّبَّابَة مع كونها لهوًا يصدُّ عن ذِكر الله وعَن الصلاة مع الميل إلى أوطار النُّفوس ولذَّاتها، فهي بالتحريم أحقُّ وأولى، وهو مُقتَضى كلام العراقيين؛ فإنهم قالوا: الأصوات المكتسبة بالآلات ثلاثةُ أضرب: ضَرْب محرَّم وهي التي تطرب من غير غِناء؛ كالعيدان والطنابير والمَزَامِير، انتهى.
(تَنْبِيه ثالث) اختلف الحفَّاظ فِي حديث نافع الذي هو أصْل الخلاف فِي الشَّبَّابَة وهو: "أنَّ ابنَ عمرَ سمع صوتَ زمَّارة راعٍ، فجعَل أصبعيه في أذنَيْه، وعدل عن الطريق، وجعل يقولُ: يا نافع، أتسمَعُ؟ فأقول: نعم، فلمَّا قلت: لا، رجَع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعَلُه".
وفي روايةٍ: "أنَّ ابن عمر سمع مِزمارًا فوضَع أصبعَيْه في أذنَيْه، ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافعُ، هل تسمع شيئًا؟ قلت: لا، فرفَع أصبعَيْه عن أذنَيْه وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فصنَع مثل هذا"(1)، فقال أبو داود: إنَّه حديث منكر، وخالَفَه ابن حبان فخرَّجَه فِي صحيحه، ووافَقَه الحافظ محمد بن نصر السلامي فإنَّه سُئِل عنه فقال: هو حديثٌ صحيح.
وكان ابن عمر بالغًا إذ ذاك عمره سبع عشرة سنة، وقال: هذا من الشارع صلى الله عليه وسلم ليعرف أمَّته أنَّ استماع الزَّمَّارَة والشَّبَّابَة وما يقومُ مقامهما محرَّم عليهم استماعُه، ورخَّص في ذلك لابن عمر لأنَّه حالة ضرورة، ولا يمكن إلا ذاك، وقد تُباح المحظورات للضرورات، قال: ومَن رخَّص فِي ذلك - أي: فأباح الشَّبَّابَة - فهو مخالفٌ للسنَّة، انتهى.
(1) أخرجه أبو داود (4924)، وأحمد (2/ 8)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 222)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 129)، وابن سعد في "الطبقات"(4/ 163)، وصحَّحه ابن حبان (693) (2/ 468) وقال أبو داود: هذا حديث منكر، وابن ماجَهْ (1901) بلفظ: عنْ مجاهِدٍ قال: كنت مع ابن عمر فسمع صوت طبل.
وبهذا الحديث استدلَّ أصحابُنا على تحريم المَزَامِير، وعليه بنوا التحريم فِي الشَّبَّابَة التي هي من جملة المَزَامِير بل أشدها طربًا، وممَّا يدلُّ على حُرمتها الحديث السابق فِي المقدمة وهو: أنَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن ضرْب الدفِّ ولعب الصنج وضربِ الزَّمَّارَةِ (1).
وأمَّا استِدلال مَن أباحها تمسُّكًا بأنَّه لم يَأمُرْ ابن عمر بسَدِّ أذنَيْه ولا نهى الراعي فدلَّ على أنَّه إنما فعَلَه تنزيهًا أو أنَّه كان فِي حالة ذكرٍ أو فكرٍ، وكان السَّماع يشغله، فسدَّ أذنَيْه لذلك، فقد ردَّه الأئمَّة بأمورٍ كثيرة.
منها: أنَّ تلك الزَّمَّارَة لم تكنْ ممَّا يتَّخذه أهلُ هذا الفن الذي هو [ز1/ 27/ب] محلُّ النِّزاع من الشَّبَّابات التي يتقنونها، وتحتها أنواعٌ كلها تطرب، ومعلومٌ أنَّ زمر الراعي في قصبةٍ ليس كزمر مَن جعله صنعته وتأنَّق فيه وفي طَرائِقه التي اخترَعُوا فيها نغماتٍ تُحرِّك إلى الشهوات.
ومنها: أنَّه صلى الله عليه وسلم إنما لم يأمرْ ابنَ عمر بسدِّ أذنيه لأنَّه تقرَّر عندهم أنَّ أفعاله صلى الله عليه وسلم حجَّة [لأقواله](2) فحين فعَل ذلك بادَر ابن عمر إلى التأسِّي به، وكيف يظنُّ به أنَّه ترك التأسِّي وهو من أشدِّ الصحابة تأسِّيًا؟ قال الدولقي: وهذا لا يخطر ببال محصل قد عرف قدْر الصحابة واطَّلع على سبيلهم، قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا عَبدَالله، هل تسمَعُ؟))؛ معناه: تسمع هل تسمع؟ وإنما أسقَطَ تسمع
(1) أخرجه الآجري في "تحريم النرد والشِّطرَنج"(63) بلفظ: "عن مطر بن سالم أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضربِ الدُّفِّ ولعبِ الطبل وصوت الزَّمَّارَة"، وأورده الشوكاني في "نيل الأوطار"(8/ 113) ط دار الحديث، وعَزاه إلى القاسم بن سلام بلفظ الآجري، وقال المناوي في "فيض القدير" (9490): "حديث ضعيف يردُّه خبر صحيح: ((فصلُ ما بينَ الحلالِ والحرامِ الضرب بالدُّفِّ)).
(2)
في (ز2): كأقواله.
لدلالة الكلام عليه؛ إذ مَن وضَع إصبعيه فِي أذنَيْه لا يسمع، وإنما أذن له فِي هذا القدْر لموضع الحاجَة.
ومنها: أنَّ الممنوع إنما هو الاستِماع لا مجرَّد السَّماع لا عن قصد وإصغاء، وقد صرَّح أصْحابنا بأنَّه لو كان فِي جواره شيءٌ من الملاهي المحرَّمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزَمه النقلة ولا يأثَم بسَماعها لا عن قصدٍ وصرَّحوا هاهنا بأنَّه إنما يأثَم بالاستماع لا بالسماع.
قال الاذرعي: وأُجِيبَ عن ترك الإنكار على الراعي بأمورٍ واضحة لا نُطِيل بذِكرِها، وأغرَبَ مَن قال قوله:((زمَّارة راعٍ)) لا يتعيَّن أنها الشَّبَّابَة؛ فإنَّ الرُّعاة يضربون بالشعيبية وغيرها، فأوهَمَ أنَّ ما يُسمَّى بالشعيبية مُباح مفروغٌ منه، وهي عِبارة عن عدَّة قصبات صِغار تُجعَل صفًّا وقد تُجعَل فوق رُؤوسها صفر يتَعاطاه بعض السُّفَهاء، ولها إطرابٌ بحسَب حِذق مُتَعاطِيها، وهي شبَّابَةٌ أو مِزمار لا محالةَ، انتهى.
ومرَّ قولُ الماوردي: تُكرَه الشَّبَّابَة فِي الحضَر - أي: تحريمًا - وتُباح للراعي (1)، وفي السفر (2) وقول الخطابي: الزَّمَّارَة التي سمعها ابن عمر زمَّارة الرُّعاة وهو محمولٌ على غير الشَّبَّابَة، ا. هـ.
وتعقَّب ذلك الأذرعي فقال: إنْ كان يصفر بها كالأطفال والرُّعاة على غير قانون بل صفيرًا مجرَّدًا على نمطٍ واحد فقريب عدم الحرمة فيها، وإنْ كان المسافر أو الراعي يصفر فيها على القانون المعروف من الإطراب فهي حَرامٌ
(1) هكذا في المطبوع وفي المخطوط (تكره الشَّبَّابَة فِي الحضر أي تحريما، أي وتباح للراعي وفي السفر).
(2)
قول الماوردي في " الحاوي "(17/ 192): "فأمَّا الشَّبَّابة: فهي في الأمصار مكروهةٌ؛ لأنها مُستَعمَلة فيها للسخف والسَّفاهة، وهي في الأسفار والرعاة مباحة؛ لأنها تحثُّ على السير وتجمَع البهائم إذا سرحت".
مطلقًا، بل هي أجدَرُ بالتحريم من سائر المَزَامِير المتَّفَق على تحريمها؛ لأنها أشدُّ إطرابًا وهي شعار الشَّرَبة وأهل الفِسق، ا. هـ.
(تَنْبِيه رابع) إذا تأمَّلت ما ذكَرْناه [ز1/ 28/أ] فِي تقرير الحديث والأجوبة عنه بانَ لك واتَّضَح اندِفاعُ ميل البلقيني إلى مُتابَعة الرَّافِعِيِّ، وقوله: لا يثبت التحريم إلا بدليلٍ مُعتَبر ولم يُقِمِ النَّووي دليلاً على ذلك، اهـ، واندِفاع قول التاج السبكي فِي "توشيحه" (1): لم يقمْ عندي دليلٌ على تحريم اليَرَاع مع كثْرة التتبُّع، والذي أراه الحلُّ، فإنِ انضمَّ إليه محرَّم فلكلٍّ منهما حكمُه، ثم الأولى عندي لِمَن ليس من أهل الذَّوق الإعراضُ عنه مطلقًا؛ لأنَّه قد يجرُّه إلى ما لا ينبغي، وأدناه صَرْفُ الوقت فيما غيرُه أهمُّ منه، وحُصول اللذَّة به، وليست اللذَّة النفسانيَّة فِي هذه الدار من المطالب الشرعيَّة، وأمَّا أهل الذَّوق فحالهم مسلَّم إليهم، وهم على حسَب ما يجدون فِي أنفسهم، ا. هـ.
ووجه اندِفاع ما قاله هذان الإمامان أنَّ الحديث السابق صحيحٌ، ودلالته على التحريم واضحةٌ، فأيُّ وجْه لتوقُّفِهما؟ بل بغرض عدم دلالة الخبر على عدم صحَّته (2)، فالقياس حجَّة أي حجة، وقد سبَق فِي كلام الأئمَّة أنَّه دالٌّ بالأولى على تحريم الشَّبَّابَة، ومن ثَمَّ قال الشمس الجوهري عُقَيب ما مرَّ عن البلقيني: ويمكن أنْ يُستَدلَّ بالقياس على الآلات المذكورة لاشتراكه
(1) ابن السبكي: عبدالوهاب بن تقي الدين علي بن عبدالكافي تاج الدين أبو نصر المصري الأديب الشافعي وُلِدَ سنة 727 وتُوفِّي سنة 771 إحدى وسبعين وسبعمائة صنَّف "الألغاز"، "تشحيذ الأذهان على قدر الإمكان في الرد على البيضاوي"، "التوشيح في الفقه"، "جمع الجوامع في الأصول"، "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب"، "السيف المشهور في عقيدة أبي منصور"، "شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي"، طبقات الفقهاء الشافعية، "معيد النعم ومبيد النقم"
…
وغير لك؛ (هدية العارفين للباباني).
(2)
هكذا في المخطوط وفي المطبوع (بل يفرض عدم دلالة الحديث وعدم صحته).
معها فِي كونه مُطرِبًا، بل ربما كان الطرب الذي فيه أشدَّ من الطرب الذي فِي نحو الكمنجة والربابة ونحوهما، فهو إمَّا [قياس](1) الأولى أو المساواة بالنسبة إلى المذكورين، وهما حرامٌ بلا خلاف، ا. هـ.
ثم [قول](2) السبكي: ثم الأولى عندي لِمَن ليس من أهل الذَّوق
…
إلخ، إنما يأتِي على ما زعَم أنَّه الذي يظهَر وهو الحِلُّ، أمَّا على الحرمة التي هي منقول المذهب ومُعتمَد أكثر أئمَّته أو كلهم على ما مرَّ فلا يفتَرِق الحال فيها بين أهل الذوق وغيرهم، بل أهل الذوق أشدُّ الناس تَعصُّبًا عن مواطن الشُّبهات فَضْلاً عن المحرَّمات، اللهم إلا لِمَن غلَبَه حال حتى صار لا شُعورَ له، وشهدت قرائنُ أحواله على ذلك، فهذا لا تكليفَ عليه الآن حتى يعترض عليه، وقد سبَق أنَّ الجنيد وتَبِعَه الأئمَّة جعل السَّماع حَرامًا على العَوام؛ لبَقاء نفوسهم، مُباحًا للزُّهَّاد؛ لحصول مُجاهَدتهم، مُستَحبًّا للعارفين؛ لحياة قلوبهم.
قال التاج السبكي: والظاهر أنَّه لم يُرد التحريم الاصطلاحي، وإنما أراد أنَّه لا ينبغي وفيه نظر؛ لما مرَّ أنَّ الغناء ونحوه قال بتحريمه كثيرون من أئمَّتنا [ز1/ 28/ب] وغيرهم، فلعلَّ الجنيد يرى تحريمه على العوام فقط؛ لأنَّه يجرُّهم إلى الفتنة والوقوع فِي المعصية سريعًا بخلاف القسمَيْن الآخرَيْن.
(فائدة) وقَع فِي "العزيز"؛ للرافعي أنَّه قال: رُوِي أَنَّ داود النبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يضربُ باليراعِ في غنمه، قال شيخ الإسلام فِي تخريج أحاديثه: لم أجده (3)، وبهذا يُعلَم خطأُ صاحب هذا الكتاب وغيره؛ حيث
(1) في (ز2): بالقياس.
(2)
في (ز2): قال.
(3)
"تلخيص الحبير"(4/ 370).
أخَذُوا من ذكر الرَّافِعِيِّ له الاحتجاجَ به على حِلِّ الشَّبَّابَة، على أنَّه لو صَحَّ لم يكن فيه ذلك؛ إذ شريعةُ مَن قبلنا ليست بشريعةٍ لنا؛ لأنَّه إمَّا ورَد فِي شرعنا ما يُنافِيها فواضحٌ، أو ما يوافقها فالحجَّة فِي شرعنا دون غيره.
(تَنْبِيه خامس) قال فِي "المهمَّات": اليَرَاع بفتحة التحتيَّة وتخفيف الراء وبالمهملة جمع (يراعة) اسم جنس واحدُه (يراعة) قاله النووي فِي "تهذيبه"، وقال الجوهري: اليَرَاع القصب، واليَرَاعة القصبة، إذا علمت ذلك علمت أنَّ اليَرَاع مُتعدِّد، وحينئذ فكيف يصحُّ تفسيره - أي: الواقع فِي "الروضة" وغيرها - بالشَّبَّابَة؟ ا. هـ (1).
ويُجاب بأنَّه تفسيرٌ باعتبار مُفرَده، وقد يقع مثل ذلك كثيرًا (2).
* * * * *
(1) اليَراعُ: جمع (يَراعَة)، وهو ذُبابٌ يطيرُ بالليل كأنَّه نارٌ، واليَراعُ: القصبُ، واليَراعَةُ: القصبةُ، ويُقال للجبان: يَراعٌ ويَراعَةٌ، وأمَّا قول أبي ذؤيب يصف مِزمارًا:
سَبِيٌّ مِنْ يَرَاعَتِهِ نَفَاهُ = أتِيٌّ مَدَّهُ صُحَرٌ وَلُوبُ
فيُقال: إنَّه أرادَ باليَراعةِ الأجمةِ؛ "الصحاح فِي اللغة"؛ للجوهري، مادة "يرع".
(2)
"روضة الطالبيين"(11/ 229).