الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الرابع عشر: في بيان أنَّ ما مرَّ صغيرة أو كبيرة
قد بسَطتُ ذلك فِي كتابي "الزَّواجر عن اقترافِ الكبائر"، وهو كتابٌ حافلٌ مُستوعِب لكلِّ ما قِيل: إنَّه [ز1/ 36/أ] كبيرة، وما ورد فيه من السُّنَّة وكلام الأئمَّة فقلت فيه:(الكبيرة الثامنة والتاسعة والثلاثون بعد الأربعمائة، والكبيرة الموفية للأربعين، والحادية، والثانية، والثالثة والأربعون بعد الأربعمائة: ضرب وتر واستماعه، وزمر بمزمار واستماعه، وضرب بكوبة واستماعه) قال الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ
…
} (1) الآية فسَّر ابن عباس والحسن لهو الحديث بالملاهي، وسيأتي بيانُها (2).
وقالَ - تعالَى -: {وَاسْتَفْزِزْ مَن اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بصوتك
…
} (3) فسَّرَهُ مجاهدٌ بالغناء والمزامير (4)، وسيأتي حديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:((إنَّ الله يَغفِرُ لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة - أو عَرطابة - أو كُوبة - والأولى العود)) (5).
(1) سورة لقمان: 6، وتمام الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
(2)
أثَر ابن عباس أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(786)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 221)، والطبري في "تفسيره" (21/ 61) بلفظ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قالَ: هو الغناءُ وأشْباهُه.
وعند ابن أبي شيبة (4/ 368) بلفظ: قال: ((الغِناءُ وشَرْيُ المغنِّية))، وأورد أثَر الحسن القرطبي في "تفسيره" (14/ 52) بلفظ:((لهو الحَدِيث المعازِفِ والغِناء))، وابن كثير في "تفسيره" (3/ 443) بلفظ:((الغناء والمَزَامِير)).
(3)
سورة الإسراء: 64.
(4)
أثر مجاهد أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 298) بلفظه، والطبري في "تفسيره" (15/ 118) بلفظ: الغناء واللهو.
(5)
لم أقفْ عليه.
وعَدُّ هذه الست من الكبائر تبعتُ فيه الأكثَرين في بعضِها وقياسة الباقي، بل في "الشامل" - كما يأتي - التصريحُ بذلك في الجملة، قال الإمام: قال شيخي أبو محمد: سَماع الأوتار مرَّة واحدة لا تُوجِب ردَّ الشهادة، وإنما تردُّ بالإصرار عليها، وقطع العراقيُّون ومُعظَم الأصحاب بأنَّه من الكبائر، هذا لفظُه وتابَعَه عليه الغزالي، قالا: وما ذكَرْناه من سَماع الأوتار مَفروضٌ فيما إذا لم يكن الإقدام عليها مرَّة تُشعِر بالانحلال، وإلا فالمرَّة الواحدة تُرَدُّ بها الشهادةُ، وطرَد الإمام ذلك في كلِّ ما جانَسَه، وتوقَّف ابن أبي الدم فيما نسَبَه الإمام للعِراقيِّين، وقال: لم أرَ أحدًا منهم صرَّح به، بل جزَم الماوردي - وهو منهم - بنَقِيض ما حَكاه الإمام، فقال: إذا قُلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصَّغائر دُون الكبائر مفتقرٌ إلى الاستِغفار ولا تُرَدُّ به الشهادة إلا بالإصرار، ومتى قلنا بكَراهة شيءٍ منها فهي من الخلاعة لا مفتقر إلى الاستغفار ولا تُرَدُّ الشهادة بها إلا مع الإكثار، ا. هـ.
وتابَعَه في "المهذب"، وكذلك القاضي الحسين فإنَّه قال في "تعليقه": قال بعض أصحابنا: لو جلس على الديباج عند عقد النكاح لم ينعَقِد؛ لأنَّه مخلٌّ بالشَّهادة فيه كالأداء، والذي صارَ إليه المحصلون أنَّ هذا من الصَّغائر، وما يندر منه لا يوجب الفسق، وتابَعَه الفوراني في "الإبانة"، وردَّ بعضهم إنكارَ ابن أبي الدم على الإمام ما ذكر بأنَّ مجليًا صرَّح في [ذخائره](1) بما يُوافِقه، فقال: إنَّ كون ذلك من الكبائر هو ظاهِرُ كلام "الشامل" حيث قال: مَن استَمَع إلى شيءٍ من هذه المحرَّمات فسق ورُدَّتْ شهادته، ولم يشترط تكرُّر السَّماع، ا. هـ (2).
(1) في (ز1): زواخره، والمثبت من (ز2).
(2)
"الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 337) طبعة دار الفكر.
والحاصل: أنَّ المُعتَمَد عندنا من أنَّ ذلك من الصَّغائر حيث لم يحصلْ إدمان عليه حتى غلبت مَعاصِيه طاعاته، وإلا التحَقَ بالكبائر فِي إبطال العَدالة وردِّ الشَّهادة.
(تَنْبِيه) وقَع لصاحب هذا الكتاب أنَّه قال: مَن ارتكب أمرًا فيه خلافٌ لا يُعزَّر عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤُوا الحدُودَ بِالشُّبُهات)) (1)، وهذا من جملة سَقطاته؛ للاتِّفاق على أنَّه لا عبرة بعقيدة الخصم، وإنما العِبرة بعقيدة الحاكم الذي رُفِعَ إليه الخصم، فيفعَلُ فيه الحاكم باعتِقاد نفسه دُون غيره، ولو رأينا إلى هذه السَّقطة لم يجزْ أنْ يُرفَع خصمٌ إلى قاضٍ يخالف عقيدته، وهذا بدعٌ خارق للإجماع، لا يصدر مثلُه إلا ممَّن لا يُفرِّق بين الحكم بعدَ الرَّفع إلى الحكام وقبلَه؛ وبيان ذلك أنَّ مَن ارتكب مُختَلَفًا فيه فإنْ قلَّد القائل بحلِّه وكان ذلك القائل ممَّن يجوزُ تقليده فلا حرج عليه عند الله - تعالى - وهذا الذي قال فيه العلماء: لا يُعذِّب الله الشخصَ بمسألةٍ عَمِلَ بها على قول عالم، وأمَّا بالنسبة للأحكام الظاهرة فمتى رُفِعَ لحاكمٍ فعل معه باعتقاده ولم ينظر لتقليده مَن يُجوِّز ذلك ولا لعدمه إقامَة لنظام [السياسات](2) الشرعيَّة، وإلَاّ لكان كلُّ مَن ادَّعى عليه بشيءٍ يَزعُم أنَّه قلَّد فيه مَن لا يلزمه به، وتتعطَّل الأحكام وتستحلُّ الأموال، ومن ثَمَّ قالَ
(1) قال ابن حجر في: حديث: ((ادرؤُوا الحدُودَ بِالشُّبُهات))؛ الترمذي (1424) من حديث عائشة بلفظ: ((ادرَؤُوا الحدودَ عن المسلمين ما استطَعتُم، فإنْ كان له مخرجٌ فخلُّوا سبيله؛ فإنَّ الإمام أنْ يُخطِئ في العفو خيرٌ من أنْ يُخطِئ في العُقُوبة))، وفيه يزيد بن زياد وهو ضعيف، قال الترمذي: ووقفه أصحُّ، وأخرجه الحاكم (4/ 426، رقم 8163)، والدارقطني (3/ 84)، والبيهقي (8/ 238) وقال: الموقوف أقرب إلى الصواب، وفي الباب عن عليٍّ مختصرًا:((ادرَؤُوا الحدود))؛ أخرجه الدارقطني (3/ 84)، وعن أبي هريرة:((ادرَؤُوا الحدودَ ما استطعتُم))؛ أخرجه أبو يعلى (11/ 494، رقم 6618)، ولابن ماجَهْ (2545) من هذا الوجه:((ادْفَعُوا الحدُودَ ما وجدتُمْ له مَدْفَعًا))؛ "الدراية"(2/ 94) بتصرُّف قليل.
(2)
في (ز1): السياسيات، والمثبت من (ز2).
الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي حنفيٍّ شرب نبيذًا يعتَقِد حلَّه ثم رفع إليه: أحدُّه وأقبَلُ شهادته، قال أصحابُه: إنما حدَّه لأنَّ العبرة بعقيدة الحاكم لا الخصم، وإنما قَبِلَ شهادته لأنَّه أقدَمَ على جائزٍ فِي اعتقاده، وهذا هو الصَّواب فِي هذا البحث فاحفَظْه لئلَاّ تزلَّ فيه قدمُك كما زلَّ فيه قدم صاحب ذلك الكتاب، فإنَّه استدلَّ على عدم التعزير بالحديث السابق، وبما نقَلَه عن الشَّافِعِي: إنَّ الله لا يُعذِّب على فعلٍ اختَلَف العلماء فيه، فالتبس عليه الأمر الأخروي بالأمر الدنيوي، وقد علمتَ ما بينهما من الفرق الواضح.
ثم ظاهِرُ كلامه أنَّ مجرَّد كون الفعل مختلفًا فيه يمنع [من] العقاب عليه، وهو خِلافُ الإجماع كما قالوا الأئمَّة، وإنما شرْط ذلك أنْ يعلم القائل بذلك، وأنَّه من المجتهدين، وأنَّه من الذين يَجُوزُ تقليدهم، ثم بعد ذلك كلِّه يُقلِّده تقليدًا صحيحًا، بألَاّ يترتَّب عليه تلفيق التقليد، وإلا لم يجزِ اتِّفاقًا، كما إذا قلَّد الشَّافِعِيُ مالكًا فِي (1) نجاسة الكلب، ولم يمسحْ رأسه كله، أو لم يُوالِ فِي وضوئه مثلاً، كما هو مقرَّر فِي الأصول، فاستَفِدْ ذلك فإنَّ كثيرين يزلُّون فيه؛ اعتقادًا منهم أنَّ مجرَّد الاختلاف فِي الشيء [ز1/ 37/أ] يمنَع العقاب عليه، وليس كذلك كما علمت: وإنما قُلنا: يجوز تقليده؛ لأنَّ كثيرين من المجتهِدين الخارجين عن الأئمَّة الأربعة لا يجوزُ تقليدهم كما هو مُقرَّر فِي كتب الفقه والأصول، ألا ترى إلى ما جاء عن عطاء فِي إباحة [إعارة] الجواري للوطء، وعن آخَرين فِي تحليل المطلقة ثلاثًا، وَعَن الأعمش فِي الأكْل فِي رمضان بعد الفجر وقبل طُلوع الشمس، ونحو ذلك من
(1) في المطبوع: في عدم.
مذاهب المجتهِدين الشاذَّة التي كاد الإجماع أنْ ينعقد على خِلافها، فهذه كلُّها لا يجوز تقليد أربابها، ومَن قلَّدهم فهو آثِمٌ فاسق يحدُّ ويُعزَّر إجماعًا بموجب فعله.
وبهذا يتَّضح لك خطَأُ ذلك الرَّجُلِ فِي إيهامه أنَّه يجوزُ تقليدُ غيرِ الأئمَّة الأربعة مطلقًا، وما درى المسكين أنَّ لذلك شروطًا كثيرةً أشَرتُ إليها بينه وبينها خرطُ القتاد (1)، وليس مجرَّد الاختِلاف مُسوِّغًا للهُجوم على الفعل، بل لا بُدَّ من جميع شُروط التقليد كما هو مقرَّر ومحرَّر فِي كتب الأصول، ولكنَّ الجهل بذلك يُوجِب الوُقوع فِي أوعَرِ المسالك، وقد ذكَر الأئمَّة أنَّه لا يجوزُ لمفتٍ ولا لقاضٍ تقليدُ غير الأئمَّة الأربعة، قالوا: لا لنقصهم؛ لأنَّ الصحابة وتابِعِيهم ساداتُ الأمَّة، وإنما هو لارتفاع الثقة بشُروط مَذاهبهم وتحقيقاتها وصُورها، فإنها أقوالٌ فِي جُزئيَّات مُتعدِّدة، ولم يعلمْ لهم قواعدُ يُرجَع إليها، ولا شروطٌ وتقييداتٌ يُعوَّل عليها، وارتفعت الثِّقة بها لأنَّها لم تُحرَّر وتُدوَّن بخلاف المذاهب الأربعة؛ فإنها حُرِّرتْ ودُوِّنت وتعاقَبتها الآراء، [ومَحَّصَتْها] كَوامِلُ العقول حتى نقَّحتها وحرَّرتها، ولم يقلْ منها مسألة إلا وعلم مَغزاها ودَليلها ومَعناها، فوثقت بها النُّفوس، واطمأنَّت إليها [ز1/ 37/ب] القلوب، بخِلاف بقيَّة المذاهب الخارجة عنها، ومن ثَمَّ كان الشَّافِعِيُّ يقول: الليث أفقَهُ من مالك لكن ضيَّعَه أصحابُه؛ أي: بعدَم تدوين مذهبه وتحرير مقاصده وقواعده، واعلم أنَّ الأئمَّة صرَّحوا بأنَّ الظاهريَّة لا يعتدُّ بخلافهم، ولا يجوز تقليد أحدٍ منهم؛ لأنهم سُلِبوا العقول حتى أنكَرُوا
(1) خرط القتاد: خرطتُ العودَ وغيرَه أخرِطه وأخرُطه خَرْطًا، إذا قشرت عنه نجَبَه وهو لِحاؤه، ومثَل من أمثالهم:"دون ذلك خَرْطُ القَتاد"؛ وذلك أنَّ القتاد متظاهر الشَّوك لا يُستَطاع لمسُه ولا خرطُه؛ "جمهرة اللغة"؛ لابن دريد، "خ ر ط".
القياس الجلي، وابنُ حزم من أقبحهم فِي ذلك، فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ ينظُر لما قاله فِي الآلات، خِلافًا لما وهم فيه صاحبُ ذلك الكتاب فإنَّ الظاهر أنَّه يشير إلى أنَّه إذا جاز تقليدُ غير الأئمَّة الأربعة جاز تقليدُ مثل ابن حزم، وهذه زلَّة قبيحة، يتعيَّن على كلِّ مَن خطرت له التوبةُ منها؛ لما علمت أنَّ العلماء لا يُقِيمُون لابن حزم وأصحابه وزنًا، وأنَّه لا يجوزُ لأحدٍ تقليده ولا الإصغاء لما يقولُه أصلاً ورأسًا.