الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: في سماع الغناء المقترن برقص أو نحو دف أو مزمار أو وتر
قد سبق حُكمُ الغناء المجرَّد، وسيأتي أحكامه وما بعده إذا تجرَّدت، والمقصود هنا أنَّ الغناء إذا أُبِيح أو كره إن انضمَّ إليه محرَّمٌ يصير بانضِمام المحرَّم إليه محرمًا، وإذا حرم يشتدُّ إثمه بانضِمام المحرَّم [الآخَر] إليه، وأنَّ الرَّقص إنْ كان فيه تكسُّر كفعل المخنث كان حرامًا، وإنْ خلا عن ذلك كان مكروهًا، فإذا انضمَّ القسم الحرام منه إلى الغناء المحرَّم ازداد الإثم والتحريم، وكذا إذا كان المحرَّم أحدهما؛ لأنَّ المكروه وإنْ كان لا إثمَ فيه لكنَّه بانضِمامه إلى المحرَّم يَزداد إثمًا، ويشهَدُ لما قرَّرتُه قولُه صلى الله عليه وسلم فِي الحديث الصحيح:((لا يخرُج الرجلان [ز1/ 11/ب] يَضرِبان الغائط كاشفَيْن عن عَوْرتهما يتحدَّثان؛ فإنَّ الله يمقت على ذلك)) (1).
فجعل التحدُّث على الغائط الذي هو مكروهٌ لا حرام إذا انضمَّ إلى الحرام الذي هو كشْف العَوْرة بحضرة مَن ينظُر إليها مقتضيًا للمقت الذي هو أشدُّ البُغض، فكذا إذا انضمَّ مكروهٌ من رقصٍ أو غناءٍ إلى محرَّمٍ من أحدهما يزداد إثمه وعقابه، وإذا ثبت هذا فِي مكروه ومحرَّم فهو فِي محرَّمين أولى، وسيأتي عن الإمام أبي عمرو بن الصلاح فِي اجتماع الدُّفّ الذي هو حلال إلى
(1) أخرجه أحمد (3/ 36)، وأبو داود (15)، وابن ماجَهْ (342)، والنسائي في "السنن الكبرى"(1/ 70 رقم 32، 33)، والحاكم (1/ 260 رقم 560)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 46)، والبيهقي (1/ 99 رقم 487)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(12/ 122)، وصحَّحه ابن خزيمة (71) وابن حبان (4/ 270 رقم 1422) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 83): رووه كلهم من رواية هلال بن عياض أو عياض بن هلال عن أبي سعيدٍ، وعياض هذا روى له أصحابُ السنن، ولا أعرفه بجرحٍ ولا عدالة، وهو في عداد المجهولين، والحديث له شاهد عند النسائي في "السنن الكبرى"(1/ 70 رقم 31) والطبراني في "الأوسط"(2/ 65 رقم 1264) من حديث أبي هريرة، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 207): رجاله موثَّقون.
الشَّبَّابَة التي هي حَرام ما يوافق ما ذكرته، مع ردِّ ما اعترض به عليه، فاستَفِده.
(تَنْبِيه) ما تقرَّر فِي الرقص من أنَّه إنْ كان فيه تثنٍّ أو تكسُّر حرم على الرجال والنساء، وإن انتفى كلٌّ منهما عنه كره، قال الرَّافِعيُّ: لأنَّه مجرَّد حركات على استقامة هو المعتمد فِي مذهبنا، وقيل: يكره مع التكسُّر أو التثنِّي ولا يحرم، وقيل: يُباح مع عدمها ولا يكره، وقال بعض أصحابنا: إنْ أكثر منه حرم وإلَاّ فلا، وأشار القاضي حسين فِي تعليقه والغزالي فِي "إحيائه" إلى أنَّ محلَّ الخلاف فيمَن فعَلَه باختياره بخلاف مَن كان من أهل الأحوال، فحصل له وجدٌ اضطرَّه إليه، فإنَّ هذا لا حُرمة ولا كَراهة عليه اتِّفاقًا.
وعلى هذه الحالة يحمل ما حُكِي عن العزِّ بن عبدالسلام أنَّه كان يرقص فِي السماع، وممَّا يعين هذا الاحتمال ويردُّ على مَن توهَّم مَن فعَلَه أنَّه كان يفعله عن اختياره، فجعله حجَّة لدعواه الفاسدة وبضاعته الكاسدة - قولُه نفسه فِي قواعده التي لم يُصنَّف مثلها: "أمَّا الرقص والتصفيق فخفَّة ورُعونة مشابهة لرُعونة الإناث لا يفعلهما إلا أرعن أو مُتصنِّع جاهل، ويدلُّ على جهالة فاعلهما أنَّ الشريعة لم تردْ بهما لا فِي كتابٍ ولا سنَّة ولا فعَل ذلك أحدٌ من الأنبياء، ولا مُعتَبَرٌ من [أتباع] الأنبياء، وإنما يفعله الجهلة السُّفَهاء الذين التبسَتْ عليهم الحقائق بالأهواء، وقد حرَّم بعض العلماء التصفيق على الرجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ((إنَّما التَّصْفِيقُ للنِّساءِ)) (1)، ا. هـ كلامه.
(1) متفق عليه: البخاري (1203)، ومسلم (422) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وانظر:"قواعد الأحكام"؛ لعز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام (2/ 221) ط دار الكتب العلمية.
فبعدَ صُدور هذه العِبارة منه وهو أخشى لله [وأتْقاه](1) من أنْ يتكلم فِي كتابه الذي هو نتيجة علومه [ز1/ 12/أ] ومَعارِفه بما يفعَل خلافه على رؤوس الأشهاد، ولكي يتوهَّم صدور ذلك منه، وبفرض صحَّته عنه يتعيَّن حملُه على أنَّه إنما فعَلَه اضطرارًا لعروض حالٍ أزعَجَه وأخرَجَه عن اختِياره، وقد عرفت أنَّ هذه الحالة ليسَتْ من محلِّ الخلاف فاحفَظ ذلك وردَّ به على مَن زلَّ فِي هذه المسألة قدمُه، وطغَى فِي حُكمها فهمُه وقلَمُه، وسيأتي قريبًا عن السهروردي وغيره فِي التواجُد ما يُوضِّح ذلك.
وإذا بان لك هذا الذي ذكرته عن ذلك الإمام واتَّضح، ظهَر لك بُطلان نقل الأُدْفوي ومَن قلَّده خلافه فيه، وقلَّدهم صاحب هذا الكتاب من غير تأمُّلٍ؛ حيث عدَّ ممَّن حضَر السماع بالدُّفِّ والشَّبَّابَة هذا الإمام الذي قال فِي الغناء المجرَّد وفي مجرَّد ضَرْب يدٍ على يدٍ ما مرَّ، فكيف يقولُ هذا فِي ذلك ويحضر بنفسه الغناء المقترِن بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، سبحانك هذا بهتان عظيم! والأُدْفوي هذا يتابع ابن طاهر فِي جميع كذباته كصاحب هذا الكتاب، ويعتمدها ويجعلها حجَّة له على ما يريد الانتصار به للصوفية المبرَّئِين من هذا السفساف، الأغنياء عن الانتصار لهم بأنَّ من شريطة طريقتهم ترْك المختَلَف فيه فكيف بالمُجمَع عليه، ومَن وقع منه خلاف ذلك منهم وصحَّ، أُجِيبَ عنه بأنَّ الوقائع الفعليَّة من المعصوم إذا أسقَطَ الاستدلالَ بها الاحتمالُ كما هو مقرَّر فِي الأصول، فأولى أنَّ ذلك يسقطه فيها إذا وقعَتْ من غير المعصوم؛ إذ ليست الحجة إلَاّ فِي الكتاب والسنَّة ونحوها من الأدلَّة المقرَّرة فِي الأصول، ونحن نجزم بأنَّه لم يقع عن أحدٍ
(1) لعلَّها: وأتقى.
يُقتَدى به من أهل التصوُّف الجامعين بين العلم والمعرفة شيء من ذلك السفساف الذي هو سماع الأوتار ونحوها من المُجمَع على تحريمها، وأمَّا المختَلَف فيه فكذلك عند المحقِّقين منهم لمجانبتهم الشُّبَه ما أمكن، وأمَّا الحائمون حول حمى الشبهات وسماع المشتبهات فأولئك ليس لهم من التصوُّف إلَاّ رسمه، ومن العلم إلا اسمه، والخير كل الخير إنما هو فِي اتِّباعه صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم.
قال الأذرعي فِي "توسطه": واعلم [ز1/ 12/ب] أنَّ طوائف من المغرمين بالرقص من المتفقِّرة - أي: المتصوفة - ومَن حذا حذوهم من المتفقِّهة توهَّموا أنَّ حديث زفن الحبشة بالمسجد - وهو بالزاي والفاء والنون - والرقص دليلٌ واضح على جواز الرقص فِي المساجد مع ضميمة الغناء والطارات إليه، وذلك خطأ صريح وجهل قبيح يُعرَف ببيان الحديث، والجواب عنه كما هو مذكورٌ فِي كلام القرطبي، أمَّا الحديث فالذي رواه البخاري ومسلم فيه: أنَّ ذلك كان يوم عيدٍ يلعَبُ فيه السودان بالدَّرَقِ والحِرابِ فِي المسجد، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعائشة:((تشتَهِين تنظُرِينَ؟)) فقالت: نعم، فأَقامني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وراءَهُ خدِّي علَى خَدِّهِ وهو يقولُ:((دُونَكم يا بَنِي أرفدة)) (1)، ووجه تمسُّكهم أنهم رقَصُوا فِي المسجد وأمرَهُم النبي صلى الله عليه وسلم بل أغْراهم بقوله:((يا بَنِي أرفدَةَ)) ثم أباح لعائشة رضي الله عنها النظر إليهم؛ فكان دليلاً على إباحة الرقص وجوازه.
(1) متفق عليه: البخاري (950)، ومسلم (892) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والجواب: أنَّ هذا الحديث لا يتناوَل محلَّ النزاع؛ فإنَّ ذلك لم يكن من الحبشة رقصًا على غِناء، ولا ضربًا بالأقدام، ولا إشارة بأكمام، بل كان لعبًا بالسلاح، وتأهُّبًا للكفاح؛ تدريبًا على استعمال السلاح فِي الحرب، وتمرينًا على الكرِّ والفرِّ والطَّعن والضَّرب، وإذا كان هذا هو الشَّأن فأين أفعال المخانيث والمخنَّثين من أفعال الأبطال والشُّجعان؟!
وأمَّا إباحة النظَر إليهم فلأنَّه لم يكنْ بحضرتهم منكرٌ يُغيَّر، ولا عورة تظهَر، وتمسَّكوا أيضًا بأنَّه صلى الله عليه وسلم قال لعلي:((أنت منِّي وأنا منك)) فحجل، وقال لزيدٍ:((أنت أخونا ومولانا)) فحجل، وكذلك حجل جعفر لَمَّا وصَّى له في بنت حمزة حين خاصَمَه فيها عليٌّ وزيدٌ)) (1)، والحجل: مشي المقيَّد، وهو وثْب واهتزاز وهو الرقص؛ والجواب: أنَّ هذه كلها أحاديث مُنكَرة وألفاظ موضوعة مزوَّرة، ولو سلمت صحَّتها لم يتحقَّق حجَّتها؛ أي: لأنَّ المحرَّم هو الرقص الذي فيه تثنٍّ وتكسُّر، وهذا ليس كذلك.
وبما تقرَّر فِي هذا والذي قبلَه يُعلَم خطأ صاحب ذلك الكتاب فِي نقْله الاحتجاجَ على إباحة الرقص بحديث رقص الحبشة فِي [ز1/ 13/أ] المسجد، وبأنَّ عليًّا وجعفرًا وزيدًا حجلوا لَمَّا بشَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم ووجْه خطَئِه ما تقرَّر أنَّ رقْص الحبشة لم يكنْ من الرقص المُختَلف فيه، وأنَّ ما ذُكِرَ عن هؤلاء الثلاثة - رضوان الله عليهم أجمعين - كذبٌ مختلق لا تحلُّ روايته ولا الاحتجاج به، إذا تقرَّر أنَّ فعل الحبشة ليس من
(1) أخرجه أحمد (1/ 108)، والبزار (2/ 316)، والبيهقي (8/ 6)، والضياء في "المختارة" (778) وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (1/ 579): أخرجه أبو داود من حديث علي بإسناد حسن، وهو عند البخاري دون "فحجل".
المختلف فيه، وأنَّ ما رُوِي عن أولئك الأئمَّة كذبٌ، بطل قول صاحب الكتاب: إنَّ القياس على ذلك حجَّة على إباحة الرقص.
(تتمَّة) نقَل القرطبي عن الإمام الطرسوسي (1) أنَّه سُئِلَ عن قومٍ فِي مكانٍ يقرؤون شيئًا من القرآن ثم ينشدهم لهم منشدٌ شيئًا من الشعر فيرقصون ويطربون ويضربون بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، هل الحضور معهم حلال أو لا؟
فأجاب: مذهب السادة الصوفية أنَّ هذا بطالة وضلالة، وما الإسلام إلَاّ كتاب الله وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّا الرقص والتواجُد فأوَّل مَن أحدَثَه أصحاب السامري لما اتَّخذ لهم عجلاً جسدًا له خوار، فأتوا يرقصون حوله ويتواجَدون، وهو - أي: الرقص - دين الكفار وعبَّاد العجل، وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أَصْحابه "كأنَّما على رؤُوسهمُ الطَّيْرُ من الوقار"(2)، فينبغي للسُّلطان ونوَّابه أنْ يمنعوهم من الحضور فِي المساجد وغيرها، ولا يحلُّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يحضر معهم، ولا يُعِينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم من أئمَّة المسلمين، ا. هـ كلام هذا الإمام، فتأمَّله واحفَظْه فإنَّه الحقُّ وغيره الباطل الذي غايته القطيعة والآثام.
(1) في (ز2): الطرطوسي.
(2)
أخرجه الطياليسي (1232)، وأحمد (4/ 278)، وأبو داود (2855)، والبيهقي (9/ 343)، والحاكم (4/ 443) من حديث عن أسامة بن شريك قبلفظ: "أتيت النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلَّمت ثم قعَدت، فجاء الأعراب من ها هنا وها هنا فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال:((تداووا، فإنَّ الله عز وجل لم يضعْ داءً إلا وضع له دواء، غير داء واحد؛ الهرم)) وهذا لفظ أبي داود، والحديث أخرجه الترمذي (2038)، وابن ماجَهْ (3436)، ولم يذكر فيه محلَّ الشاهد، وقال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وتمسَّكوا أيضًا بحكاياتٍ كثيرة عن المشايخ ذكرها القشيري وغيره، زاعِمين أنَّ هؤلاء المشايخ عُرِفت فضائلهم وصحَّت كراماتهم، فإطباقهم على حُضور مجالس السَّماع والغِناء وتواجُدهم وركضُهم وزفنهم دليلٌ على إباحة ذلك؛ وجوابُه: أنَّنا لا ننفي جوازه إلَاّ عند وجود نحو تثنٍّ وتكسر، فمن أين أنَّ أولئك المشايخ تثنَّوْا وتكسَّروا، سلَّمنا أنهم فعلوا ذلك فمن أين أنهم لم يحصل [ز1/ 13/ب] لهم وجدٌ أخرجَهُم عن حالة الاختِيار إلى حالة الاضطرار، على أنَّا لا نسلِّم صحة تلك الحكايات عن أولئك، فلعلها ممَّا أدخَلَه أهل الزندقة على أهل الإسلام، كما كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يُحصَى، سلَّمنا صحَّتها وأنهم فعلوها اختيارًا، فالحجَّة فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعَن الأئمَّة بعده، وقد بينَّا أنَّ ذلك لم يكن طريقهم ولا سبيلهم، وأنَّ ذلك ممَّا حدث بعدهم فقد تناوله قوله صلى الله عليه وسلم:((كلُّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلُّ بدعةٍ ضَلالَةٌ)) (1).
وظُهور الكرامات لا تدلُّ على العصمة، بل على قُرب مَن ظهرت عليه فِي حال ظُهورها عليه مع جواز تلبُّسه بعد ذلك بكبيرةٍ يتوبُ الله عليه منها؛
(1) أخرجه أحمد (3/ 310)، ومسلم (867)، وابن ماجَهْ (45)، والنسائي (3/ 189) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه وعلا صوتُه واشتدَّ غضبه حتى كأنَّه منذر جيش، يقول:((صبَّحكم ومسَّاكم)) ويقول: ((بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين))، ويقرن بين إصبعَيْه: السبابة والوسطى ويقول: ((أمَّا بعدُ، فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخيرَ الهُدَى هُدَى محمدٍ، وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة))، ثم يقول:((أنا أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسه، مَن ترك مالاً فلأهله، ومَن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ))، هذا لفظ مسلم.
ومن ثَمَّ قيل للجنيد سيِّد الطائفة: أيَعصِي [الولي](1)؟ فقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (2).
وقد قال ابن عبدالسلام: أخطأ مَن زعَم أنَّ الولاية تُنافِي ارتكابَ الصغائر، ففعلهم لذلك لو فرض أنَّه باختيارٍ وفيه تثنٍّ وتكسُّر يكون صغيرةً، وهي لا تنافي الولاية.
وما أحسن ما قاله الأستاذ الكبير، والعلَم الشهير، إمام العارفين، وقدوة العلماء العاملين، أبو علي الروذباري لَمَّا سُئِلَ عمَّن يسمَع الملاهي ويقول: هي حَلال؛ لأنِّي قد وصلت إلى درجةٍ لا يُؤثِّر فِيَّ اختلاف الأحوال، فقال رضي الله عنه: نعم قد وصل، ولكن إلى سقر، كذا نقَلَه عنه إمام المتأخِّرين ظاهرًا وباطنًا الإمام اليافعي الذي قال الأسنوي فِي حقِّه: فضيل الأباطح وفاضلها، فتأمَّل مثل قول أبي عليٍّ المذكور واعتمده، وأمثاله، ولا تغترَّ بِمَنْ لم يشمَّ أدنى مَراتِبهم، فيقول عليهم بما هم منه بَرِيئون وعنه مُنفَرِدون ومحوطون، حقَّق الله لنا حسن اتِّباعهم، والاندراج فِي سلك إجماعهم بمنِّه وكرمه، آمين.
وتمسَّكوا أيضًا بأنَّ الحركات الموزونة من أهل الصفاء حالةَ السماع نتائج القلب المعتدِل الموزون بميزان الرياضة والمجاهدة، ومَن هو كذلك لا يصدر عنه قولٌ ولا فعلٌ إلَاّ على نظامٍ ووزنٍ، وخُصوصًا حالة السماع التي هي حالةُ ظهور مَكامِن القلوب وإبداء العُيوب، وأطالُوا من هذه الكلمات التي هي حقٌّ فِي نفسها أُرِيدَ بها [ز1/ 14/أ] باطلٌ أي باطل؛ إذِ الصادر عن القلب المذكور وزنُ الأعمال بميزان الشرع لا وزنُ الحركات بميزان
(1) في (ز1): المولى.
(2)
سورة الأحزاب: 38.
المخنَّثين؛ ومن ثَمَّ قال القرطبي فِي جواب ذلك: إنَّ هذا من التمويهات والترَّهات التي لا تتمشَّى على العوام، فضلاً عن ذوي الأفهام؛ ووجه تمويهه أنهم إنْ أرادوا بالوزن مطابقة الحركات الحسيَّة لحركات الغناء فهو باطلٌ، أو مطابقتها للميزان الشرعي فمُسلَّم، لكنْ تلك الميزان تمنَع من حُضور الغناء المطرب وسماعه؛ لأنَّه يمنع من المكروه والمحرَّم؛ وقد بينَّا أنَّ الغناء المطرِب وسماعه حَرام ولهو وباطلٌ، ثم يلزَمهم أنَّ أصفى الناس قُلوبًا أحسنهم رَقصًا، وأنَّ مَن لا يحسنه كالصحابة والأئمَّة بعدهم يكونوا بخلاف ذلك، وهذه زلَاّت لا يتدارك قُبحها ولا يَتناهى إثمها، وأطال فِي بَيانها وفي التَّشنيع على أولئك الأغبياء المتمسِّكين بما آلَ بهم إلى أعظم الزَّلَل وأقبح الخطأ والخطَل.
وتمسَّكوا أيضًا بأنَّ مَن فعلوا الرقص حالةَ السماع ظهَرتْ عليهم الكرامات حينئذٍ، فهو دليلٌ على حقيقة ما هم عليه؟
وجوابه: أنَّ أكثر حِكاياتهم خُرافات لا حقيقةَ لها، ولو سلمت فالحجَّة فِي كتاب الله - تعالى - وسنة رسولٍه واتِّباع سبيل المؤمنين من الصَّحابة ومن بعدهم من المجتهدين، وما ظهر على أولئك حالة الرقص إنْ صحَّ إمَّا حِيَلٌ أو فِتَنٌ كفِتَنِ الدجَّال فلا يغترَّ بها؛ لما هو مُقرَّر عند أئمَّة الشرع أنَّ مَن ظهر عليه خارقٌ إنْ وافقت أحواله الشريعة أصولها وفُروعها فهي الكرامة، وإلَاّ فهي استِدراجٌ، وصاحبها إمَّا مفتونٌ أو زنديقٌ؛ ومن ثَمَّ قال الجنيد: لو رأيتم الرجل يمشي على الماء أو فِي الهواء فلا تغترُّوا به حتى تَنظُروا حالَه عند الأمر والنهي، وقد سمع الشبلي برجلٍ اشتَهَر بالولاية، فمشى إليه فِي أصحابه،
فدخَل عليه فِي المسجد فرَآه قد تنخَّم فِي قِبلة المسجد (1)، فقال لأصحابه: ارجِعُوا فإنَّ الله لم يأمَنْ هذا على أدبٍ من آداب شريعته، فكيف يأتمنه على أسراره؟
وبهذا كلِّه الذي قالَه القرطبي وغيره يتبيَّن خطأ صاحب ذلك الكتاب فِي قوله: والشَّبَّابَة تُحرِّك الدمع وتُرقِّق القلب، ثم قال: ولم يزل أهل المَعارِف [ز1/ 14/ب] والصَّلاح والعلم يحضرون السماع بالشَّبَّابَة، وتجري على أيديهم الكَرامات الظاهرة وتحصل لهم الأحوال السنيَّة، ومرتكِب المحرَّم لا سيَّما إذا أصرَّ عليه يفسق به، وقد صرَّح إمام الحرمين والمتولي وغيرهما من الأئمَّة بامتِناع جَريان الكَرامة على يد الفاسق، ا. هـ.
وبَيان خطئه فِي ذلك وزلَلِه أنَّ قوله: يُرقِّق القلب دعوى كاذبة باطلة، وإلَاّ لم يحرِّمها أكثرُ العلماء، بل الحقُّ أنها تُحرِّك عنده من حُظوظ نفسه وشَهواتها ما يحمله على ما لا ينبغي، وبفرْضٍ أنها لا تحمله فهي شعار الفسَقَة، فوجب اجتنابُها؛ لأنَّ التشبُّه بهم حرام؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:((مَن تشَبَّه بقومٍ فهوَ منهُم)) (2)، وبفرض أن لا تشبُّه فيها [بالفسَقَة] فهي من الشُّبهات؛ لأنها حرامٌ عند أكثر العلماء كما سيأتي بَسْطُه؛ وأئمَّة التصوُّف
(1) جاء النهي عن التنخُّم جهة القبلة فيما أخرجه البخاري (405) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى نخامةً في القبلة، فشقَّ ذلك عليه حتى رُئِي في وجهه، فقام فحكَّه بيده فقال:((إنَّ أحدَكم إذا قام في صَلاته فإنَّه يناجي ربَّه أو إنَّ ربَّه بينه وبين القِبلة فلا يبزقنَّ أحدُكم قِبَلَ قِبلتِه، ولكنْ عن يساره أو تحت قدمَيْه))، ثم أخَذ طرف رِدائه فبصق فيه ثم ردَّ بعضَه على بعضٍ فقال:((أو يفعَل هكذا)).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 471)، وأحمد (2/ 50)، وعبد بن حميد (848) وأبو داود (4031)، والطبراني في "مسند الشاميين"(216)، والبيهقي في "الشعب" (1199) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال ابن حجر في "الفتح" (10/ 271): أخرَجَهُ أبُو داودَ بسَنَدٍ حَسَنٍ، وأخرجه أحمد في "الورع"(93)، والبزار في "مسنده"(7/ 368)، والطبراني في "الأوسط" (8327) من حديث حذيفة وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 271): فيه عليُّ بن غُراب، وقد وثَّقه غيرُ واحدٍ، وضعَّفَه بعضهم وبقيَّة رجاله ثقات.
- رضوان الله عليهم - أبعَدُ الناس عن الشُّبهات، فعلم أنَّه لا يحضُرها ويسمَعها إلا مَن غلب عليه هَواه حتى أصمَّه وأعماه وأرداه، وقوله: ولم يزل أهل المَعارِف
…
إلخ قلَّد فيه مثلَ الخبيث الكذاب ابن طاهر، وقد قرَّرنا فِي هذا الكتاب المرَّة بعد المرَّة أنَّه كذَّاب خبيث لا يُعتَمد عليه ولا يُنظَر إليه، وهذا نظيرُ كذبِه الآتي عن الشيخ الإمام أبي [إسحاق] الشيرازي - رحمه الله تعالى - أنَّه كان يسمَع العُود، وسيأتي مُبالَغة العلماء فِي تسفيهه فِي ذلك، وكذبه على هذا العبد الصالح القانت العالِم الرباني، وقوله: وتجرِي على أيديهم الكَرامات، جوابه ما تقرَّر أنَّ هذا جزاف كذب لا حقيقةَ له، وبفرض وقوعه فهو إمَّا حيل أو فتن واستدراج.
قال العارف أبو الحسن الشاذلي - رحمه الله تعالى - فِي قوله - تعالى -: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (1) سنريهم الكَرامات حتى يعتَقِدوا أنهم أولياء الله فنأخذهم على بغتة، وقوله: وقد صرَّح إمامُ الحرمين
…
إلخ، جوابُه: أنَّ كلامه رحمه الله لم يفهَمْه؛ لأنَّ معناه: أنَّ الكرامة التي هي فِي الباطن كرامةٌ لا تظهَرُ على يد فاسقٍ لا أنَّ كلَّ مَن ظهر على يديه خارقٌ حُكِمَ بأنَّه صالحٌ؛ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (2).
(1) سورة الأعراف: 182.
(2)
سورة النور: 16.
وتمسَّكوا [أيضًا] بما جاء ((إذَا لم تبكُوا فتباكَوْا)) (1)، وجوابه: أنَّ التباكي يُفضِي إلى [ز1/ 15/أ] البُكاء غالبًا الذي هو مطلوبٌ شرعًا، والتواجُد بالحركة لا يُفضِي إلى الوجد غالبًا، فافتَرَقا ولم يجزْ حمل أحدهما على الآخَر، ولو سلَّمنا أنَّه يُفضِي إليه غالبًا فلا نُسلِّم أنَّ الوجد مطلوبٌ شرعًا؛ لأنَّه لا يدخُل تحت اختيار العبد بخِلاف البكاء، ثم العجب أنَّ المحقِّقين من شُيوخ هذه الطائفة قالوا: إنَّ التواجُد غير مُسلَّم لصاحبه؛ لما يتضمَّنه من التكلُّف والتصنُّع والرِّياء؛ قال السهروردي التواجُد من الذنوب، فليتَّقِ الله ربَّه ولا يتحرَّك إلا إذا صارت حركته كحركة المرتعِش الذي لا يجدُ سبيلاً إلى الإمساك، قال السري: شرط الواجد في وجْده أنْ يبلُغ وجده إلى حدٍّ لو ضُرِبَ وجهُه بالسيف لم يشعُر به.
وقال القشيري: المريد لا يسلمْ له حركةٌ فِي السماع بالاختيار؛ وقال عبدالله بن عروة بن الزبير: قلتُ لجدَّتي أسماء بِنت أبِي بكر [الصِّدِّيق]رضي الله عنهما: كيف كان أصحاب النبِيِّ صلى الله عليه وسلم يفعَلون إذا قُرِئَ القُرآن؟ قالت: كانوا كما وصفَهُم الله - تعالى - فِي كتابه العزيز،
(1) أخرجه ابن ماجَهْ (1337)، وأبو يعلى (689)، والبزار (1235)، والشهاب في "مسنده"(2/ 208)، والبيهقي (10/ 231) من حديث سعد بن أبي وقَّاص بلفظ:((ابكوا، فإنْ لم تبكوا فتباكَوْا))، وهذا لفظُ ابن ماجه، وأورَدَه المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 270) وقال: رواه ابن ماجَهْ وأبو يعلى وفي إسنادهما يزيد الرقاشي وبقيَّة رواة ابن ماجَهْ ثقاتٌ احتجَّ بهم البخاري ومسلم، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 240): هذا إسنادٌ فيه أبو رافع، واسمه إسماعيل بن رافع، ضعيفٌ متروكٌ، ورواه أبو داود من طريق عبيدالله بن أبي نهيك عن سعدٍ به بلفظ:((ليس منَّا مَن لم يتغنَّ بالقُرآن)) على اختلافٍ فيه، وأبو يعلى (4134)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 391): روى ابن ماجَهْ بعضَه، رواه أبو يعلى، وأضعف مَن فيه يزيد الرقاشي، وقد وُثِّقَ على ضعفه.
تدمع أعينهم وتقشعِرُّ جلودهم، قلت: إنَّ أناسًا اليومَ إذا قُرِئَ القُرآن عليهِم خرَّ أحدُهم مغشِيًّا عليه؟ قالت: أعوذ بالله من الشَّيْطان الرَّجِيم)) (1).
إنَّ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما مرَّ على رجلٍ من أهل العِراق يتساقَط فقال: أمَا نخشى؟ وما يسقط؟ إنَّ الشَّيطان يدخُل فِي جوف أحدِكم، ما هكذا [كان] يصنع أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم) (2).
وذكِر عند [عبدالله](3) بن سيرين الذِين يُصرَعون إِذا قُرِئ عليهِم القُرآن، فقال:((بيننا وبينهم أنْ يقف أحدُهم على ظهر بيته باسطًا رجلَيْه، ثُمَّ يُقرَأ عليه القُرآن من أوَّله إلى آخِره، فإِنْ رمى بنَفسِه فهو صادِق)).
وهذا الإنكار من هؤلاء السَّلَف إنما هو على المتكلِّفين المتواجِدين، ثم بالَغ القرطبي رحمه الله فِي الردِّ عليهم فِي تمزيقهم الثِّياب وإعطاء ما سقط منها للقوَّال، وقال: هذا ضَرْبٌ من الجنون والهذيان، وفي قول بعضهم: هذا الشيخ يحكم فيه بما يريد، وهذا كلُّه إخراج ملك عن مالكه بغير طريقٍ شرعي.
(خاتمة) سُئِلَ الإمامُ المجتهد تقيُّ الدين السبكي رحمه الله عن الرَّقص والدُّفِّ وعنْ حُضور السماعات؟ [ز1/ 15/ب]
فأجاب عنه بقوله:
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرَّقْصَ وَالدُّفَّ الَّذِي = سَاءَلتَ عَنْهُ وَقُلت فِي أَصْوَاتِ
(1) أورده القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(15/ 249).
(2)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2062)، وسعيد بن منصور في "السنن"(95)، وابن المبارك في "الزهد"(1016).
(3)
الصواب: محمد.
فِيهِ خِلافٌ لِلأَئِمَّةِ قَبْلَنَا = شَرَحَ الهِدَايَةَ سَادَةُ السَّادَاتِ
لَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قَطُّ شَرِيعَةٌ = طَلَبَتْهُ أَوْ جَعَلَتْهُ فِي القُرُبَاتِ
وَالقَائِلُونَ بِحِلِّهِ قَالُوا بِهِ = كَسِوَاهُ مِنْ أَحْوَالِنَا العَادَاتِ
فَمَنِ اصْطَفَاهُ لِدِينِهِ مُتَعَبِّدًا = لِحُضُورِه فَاعْدُدْهُ فِي الحَسَرَاتِ
وَالعَارِفُ المُشْتَاقُ إِنْ هُوَ هَزَّهُ = وَجْدٌ فَقَامَ يَهِيمُ فِي السَّكَرَاتِ
لَا لَوْمَ يَلحَقُهُ وَيُحْمَدُ حَالُهُ = يَا طِيبَ مَا يَلقَى مِنَ اللَّذَّاتِ
قال بعض الأئمَّة من أهل اليمن: وأمَّا سَماع أهل الوقت فمُحرَّم بلا شكٍّ؛ ففيه من المنكرات واختلاط الرجال بالنساء، وافتِتان العامَّة باللهو ما لا يُحصى، فالواجب على الإمام قصرُهم عنه؛ وسُئِلَ القاضي عن الحال فِي السماع؟ فقال: مَن تعوَّده من الفقهاء وغيرهم فِي كلِّ أسبوعٍ مرارًا وفِي كلِّ شهرٍ مرارًا يفسق وتردُّ شهادته، فقِيل له: فإذا تعوَّده فِي كلِّ شهر مرَّة؟ قال: لا تردُّ شهادته، وهو فسقٌ وليس كلُّ فسق يُوجِب ردَّ الشهادة، قال الأذرعي: وهذا خلاف المفهوم من كَلام الفقهاء، ا. هـ، وهو كما قال.
(تتمَّة) فيها ردعٌ لِمَن يزعُم تصوُّفًا، وسُلوكًا لطريق القوم المبرَّئين عن السفساف واللوم، ثم بعدَ ذلك يمدح الغناء، ويُثنِي على سماعه، ويحض العامَّة والخاصَّة على سَماعه، ليس ذلك إلَاّ لاستِحكام هَواه وغلبة شَهواته فِي دَقائق حُظوظه الذي أرداه وأصمَّه وأعماه، وأي لذَّة أو قُربة أو مدْح فيمَن قال فيه الصادق المصدوق:((إنَّه يُنبِت النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماء البَقل))، ((حبُّ الغِناء يُنبِت النِّفاق، كما يُنبِت الماء العشب)) (1)،
(1) أخرجه أبو داود (4927)، والبيهقي (10/ 223)، وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (4/ 366): حديث: ((الغناء يُنبِت النفاق في القلب كما يُنبِت الماء البقل)) أبو داود بدون التشبيه، والبيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعا، وفيه شيخ لم يسمَّ، ورواه البيهقي أيضًا موقوفا، وفي الباب عن أبي هريرة رواه ابن عدي، وقال ابن طاهر: أصحُّ الأسانيد في ذلك أنَّه من قول إبراهيم.
((مَن قعَد إلى قَيْنةٍ يستَمِع منها صبَّ الله في أذنَيْه الآنُك - أي: الرَّصاص المذاب - يوم القيامة)) (1)، ((الغناء واللهو يُنبِتان النِّفاق في القلب كما يُنبِت الماء العشب، والذي نفسي بيده إنَّ [القرآن في القلب] (2) والذكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب)) (3)؛ فكيف بعد هذه الأحاديث يقدم مَن له أدنى مسكةٍ من دِين أو عَقل أو ورَع على مَدح الغِناء واستِماعه، ويزعُم أنَّ فِي استِماعه استجلاء [ز1/ 16/أ] للمَعارِف والكَرامات؟ كلَاّ والله ليس إلَاّ كما أخبر الصادق أنَّه يُنبِت النِّفاق فِي القَلب سريعًا كثيرًا كما ينبت الماء العشب والبقل، وأنَّه يُوجِب صبَّ الرَّصاص المذاب فِي الأذن التي سمعته يوم القيامة.
(1) أخرجه ابن عساكر (51/ 263)، وأورده الشوكاني في "نيل الأوطار" (8/ 113) بلفظ:((مَن قعد إلى قَيْنةٍ يسمع صُبَّ في أذنه الآنُك))، وعَزاه إلى أبي يعقوب محمد بن إسحاق النيسابوريِّ، وأورده ابن حجر في ترجمة "عبيد بن هشام" فقال: قال الآجري: عن أبي داود ثقة، إلا أنَّه تغيَّر في آخِر أمره، لُقِّن أحاديث ليس لها أصلٌ، لُقِّن عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، حديثًا منكرًا، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الحاكم أبو أحمد: حدَّث عن ابن المبارك، عن مالك بن أنس أحاديث لا يُتابَع عليها، قلت: وقال صالح جزرة: صدوق، ولكنه ربَّما غلط، حَكاه الحاكم في "تاريخه"، وقال أبو العرب القيرواني في "الضعفاء": قال أبو الطاهر أحمد بن محمد بن عثمان: عبيد بن هشام ضعيف، وقال الخليلي: صالح، وأخرج الدارقطني في "الغرائب" عن ابن المبارك، عن مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أنسٍ رفعه:((مَن قعَد إلى قَيْنةٍ يستَمِع منها صُبَّ في أذنَيْه الآنُك يومَ القيامة))، قال الدارقطني: تفرَّد به أبو نعيم، ولا يثبُت هذا عن مالك ولا عن ابن المنكدِر.
(2)
في (ز1): القراءة.
(3)
أورده أبو شجاع الديلمي في "الفردوس"(3/ 115، رقم 4319) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وقال العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 103): ((الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب))؛ رواه الديلمي عن أنسٍ مرفوعًا بزيادة: ((والذي نفسي بيده، إنَّ القُرآن والذكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب))، ولا يصحُّ كما قالَه النووي.
وتأمَّل ما يحرمه [صاحب](1) الغناء، فقد أخرَج الحكيم الترمذي أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:((مَن استَمَع إلى صوت غناء لم يُؤذَن له أن يَستَمِع الروحانيِّين فِي الجنَّة))، قيل: ومَن الروحانيون؟ قال: ((قُرَّاء أهل الجنَّة)) (2)، فانظُر هذا الحِرمان المشابِه لما فِي الحديث الصحيح:((مَن شَرِبَ الخَمر في الدُّنيا لم يشرَبْه في الآخِرة)) (3).
وتأمَّل أيضًا مُقابَلته صلى الله عليه وسلم لهذا! بقوله: ((والذي نفسِي بيده إنَّ القُرآن والذكر لينبتان الإيمانَ في القلب كما يُنبِت الماء العُشب)) (4).
فعلم أنَّ مَن آثَر سَماع الغناء على القُرآن والذكر كما هو دأب أكثَر متصوِّفة الوقت فقد استحكم عليه شيطانه حتى أنزَلَه بساحة الممقوتين، بل أخرَجَه إلى حيِّز العُصاة المبعودين؛ ألَا ترى إلى ما مرَّ فِي المقدمة أيضًا فِي حديث المُغَنِّي الذي استَأذَن رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الغناء فقال: ((لا آذَنُ لك، ولا كَرامة، ولا نعمَة عَيْنٍ، كذبت أيْ عدوَّ الله، لقد رزَقَك الله حلالاً طيِّبًا فاختَرْت ما حرَّم الله عليك من رِزقِه ثم توعَّدَه صلى الله عليه وسلم بأنَّه إنْ فعَل الغناء بعد ذلك أوجَعَه ضربًا ومثَّل به بحلق رأسه وأحلَّ سلبه نهبةً لفتيان المدينة، ثم قال عن المغنيين ونحوهم:
(1) في (ز1): سائر.
(2)
أوره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 87 /ط دار الجيل).
(3)
متفق عليه أخرجه البخاري (5575)، ومسلم (2003) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أورده أبو شجاع الديلمي في "الفردوس"(3/ 115، رقم 4319) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وقال العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 103): ((الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب))؛ رواه الديلمي عن أنسٍ مرفوعًا بزيادة: ((والذي نفسي بيده، إنَّ القُرآن والذكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب))، ولا يصحُّ كما قالَه النووي.
((أولئك العُصاةُ، مَن مات منهم بغير توبةٍ حشَرَه الله يومَ القيامة كما كان في الدنيا مخنثًا عريانًا، لا يستَتِرُ من الناس بهدبةٍ، كلَّما قام صُرِعَ)) (1)؛ لكن الحامل لجهَلَة المتصوِّفة على ذلك جهلهُم بالسنَّة الغرَّاء الواضحة التي ليلُها كنَهارها، ونهارها كليلها لا يزيغ عنها إلَاّ هالك، فجهْل أولئك أوجَبَ لهم الهلاكَ والحِرمان عن فهْم مقالته صلى الله عليه وسلم وأحكامه ومَعارِفه، وتأمَّل ما مرَّ فِي المقدمة أنهم غلَب عليهم جهلُهم حتى أخرَجوا تلك الأحاديث عن موضوعها، وزعَمُوا أنها فِي غنى المال لا غير، وهذا جهل بموضوعات الألفاظ ومعانيها، فحقُّهم الكفُّ عن الخوض فِي ذلك؛ سترًا لجهلهم عن العامَّة، وإنْ أوجب ذلك خَسارهم إذا جاءَت الطامَّة، وقد مرَّ ثَمَّ بَسْطُ ما في [ز1/ 16/ب] ذلك فراجِعْه؛ لعلك توفَّق لفَهمِه والعمل به.
* * *
(1) أخرجه ابن ماجَهْ (2/ 871 رقم 2613)، وقال البوصيرى (3/ 119): في إسناده بشر بن نمير البصري: قال فيه يحيى القطان: كان ركنًا من أركان الكذب.