المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثالث عشر: الأوتار والمعازف - كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌عملي في الكتاب

- ‌وصف النسخة:

- ‌1 - النسخة الخطية (ز1):

- ‌2 - النسخة الخطية (ز2):

- ‌3 - النسخة المطبوعة:

- ‌أمثلة للأخطاء في النسختين (الخطية، والمطبوعة) وتَمَّ تصويبها من مصادر التحقيق:

- ‌أمثلة الأخطاء في النسخة المطبوعة وتَمَّ تصويبها من المخطوط أو من مصادر التحقيق:

- ‌ترجمة ابن حجر الهيتمي

- ‌اسمه:

- ‌نسبه ومولده:

- ‌شيوخه:

- ‌ثناء العلماء عليه:

- ‌ما أخذ العلماء عليه:

- ‌تصانيفه:

- ‌وفاته:

- ‌تنبيه:

- ‌صحَّة نسبة الكتاب إلى مؤلفه:

- ‌المقدمةفي ذم المعازِف، والمزامِير، والأوتار ونحوها

- ‌الباب الأول: في أقسام الغناء المحرَّم وغيره

- ‌القسم الأول: فِي سماع مجرد الغناء من غير آلة

- ‌القسم الثاني: في سماع الغناء المقترن برقص أو نحو دف أو مزمار أو وتر

- ‌القسم الثالث: فِي قراءة القرآن بالألحان

- ‌القسم الرابع: فِي الدُّف

- ‌القسم الخامس: في الكُوبَة وسائر الطبول

- ‌القسم السادس: فِي الضرب بالصفاقتين

- ‌القسم السابع: في الضرب بالقضيب على الوسائد

- ‌القسم الثامن: فِي التصفيق ببطن أحد الكفين على الآخر

- ‌القسم التاسع: الضرب بالأقلام على الصيني أو بإحدى قطعتين منه على الأخرى:

- ‌القسم العاشر: في الشَّبَّابة والزَّمارَة وهي اليَراع

- ‌القسم الحادي عشر: الموصول

- ‌القسم الثاني عشر: المِزْمَار العِرَاقِي وما يُضرَب به مع الأَوْتَار

- ‌القسم الثالث عشر: الأوتار والمعازف

- ‌القسم الرابع عشر: في بيان أنَّ ما مرَّ صغيرة أو كبيرة

- ‌الباب الثاني: فِي أقسام اللهو المحرم وغيره

- ‌القسم الأول: اللعب بالنرد

- ‌القسم [الثاني]: اللعب بالشِّطرَنج

- ‌القسم الثالث: اللعب بالحزة والقِرق

- ‌القسم الرابع: اللعب بما تسميه العامة الطاب والدك

- ‌القسم الخامس: اللعب بالكنجفة

- ‌القسم السادس: اللعب بالخاتم ونحوه

- ‌القسم السابع: اللعب بالجوز

- ‌القسم الثامن: اللعب بالحمام [

- ‌القسم التاسع: اللعب بغير الحمام

- ‌القسم العاشر: اللعب بأمورٍ أخرى في معنى ما مرَّ

- ‌القسم الحادي عشر: اللعب بالمسابقة بالجري ونحوه وبالمصارعة ونحوها

الفصل: ‌القسم الثالث عشر: الأوتار والمعازف

‌القسم الثالث عشر: الأوتار والمعازف

كالطُّنْبُور والعُود والصَّنْج أي: ذي الأوتار والرباب (1) والجَنْك (2) والكمنجة والسنطير والدِّرِّيجُ (3)، وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسَّفاهة والفُسوق، وهذه كلُّها محرَّمة بلا خِلاف، ومَن حكى فيه خلافًا فقد غلط أو غلب عليه هَواه، حتى أصمَّه وأعماه، ومنعه هداه، وزلَّ به عن سنن تَقواه.

وممَّن حكَى الإجماع على تحريم ذلك كلِّه الإمام أبو العباس القرطبي وهو الثقة العدل فإنَّه قال كما نقَلَه عن أئمَّتنا وأقرُّوه: أمَّا َالمَزَامِير والكُوبَة فلا يُختَلف فِي تحريم سماعها ولم أسمعْ عن أحدٍ ممَّن يُعتَبر قوله من السلف [ز1/ 29/ب] وأئمَّة الخلف مَن يبيح ذلك، وكيف لا يُحرَّم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج للشهوات والفساد والمجون، وما كان كذلك لم يُشَكَّ فِي تحريمه ولا فِي تفسيق فاعله وتأثيمه.

وممَّن نقَل الإجماعَ على ذلك أيضًا إمامُ أصحابنا المتأخِّرين أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي (4)، فإنَّه قال فِي "تقريبه" بعد أنْ أورد حديثًا فِي تحريم

(1)(الرباب) السحاب الأبيض واحدته ربابة وآلة وتريَّة شعبيَّة ذات وترٍ واحد؛ "المعجم الوسيط".

(2)

(الجنك) الطُّنبُور وهو آلةٌ من آلات الطَّرب؛ "المعجم الوسيط"، وقال الزبيدي في "تاج العروس" الجَنْك: هو آلَةٌ يُضرَبُ بها كالعُودِ".

(3)

والدِّرِّيجُ: شيءٌ يُضرَب به ذو أوتارٍ كالطَّنبور؛ "العين"؛ للخليل بن أحمد.

(4)

الرازي: سليم بن أيوب بن سليم الرازي أبو الفتح الفقيه الشافعي نزيل دمشق تُوفِّي غريقًا سنة 447 سبع وأربعين وأربعمائة، له "الإشارة في الفروع"، "روح المسائل في الفروع"، "ضياء القلوب في تفسير القرآن"، "غريب الحديث"، "الكافي في الفروع"، "المجرد في الفروع" جرَّدَها من تعليقة شيخه أبي حامد؛ "هدية العارفين".

ص: 118

الكُوبَة، وفي حديث آخَر: أنَّ اللهَ يَغفِرُ لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة أو كُوبةٍ (1)، والعَرطَبة: العُود، ومع هذا فإنَّه إجماع، ا. هـ.

(تَنْبِيه) اعتُرضِتْ حكاية الإجماع بأنَّ الماوردي من أكابر أصحابنا قال فِي "حاويه": إنَّ بعض [أصحابنا](2) كان يخصُّ العُود بالإباحة من بين الأوتار ولا يحرمه؛ لأنَّه موضوع على حركات تنفي الهمَّ وتزيد فِي النَّشاط، ويُقال: إنَّه ينفَعُ من بعض الأمراض، وبأنَّ ابنَ طاهر حَكاه عن إجماع أهل المدينة وعَنْ صاحب "التَّنْبِيه" الإمام أبي إسحاق الشيرازي قال: وكان مذهبه أنَّه مشهورٌ عنه، وأنَّ أحدًا من عُلَماء عصره لم يُنكِرْه عليه، وهذا الاعتِراضُ باطلٌ سفساف لا يُعوَّل عليه، أمَّا ما فِي "الحاوي" فقد عقَّبَه الماوردي بما [يزيفه](3) ويردُّه ويبيِّن أنَّه لا يُعتَدُّ به ولا يُحكَى إلا لردِّه، فإنَّه قال في "الحاوي" عقبه: وهذا لا وجْه له؛ لأنَّه أكثر الملاهي طربًا، وأشغلها عن ذكر الله - تعالى - وعن الصَّلاة، وإنْ تميَّز به الأماثل عن الأراذِلِ (4).

وتابَعَه الروياني فِي "البحر" على ردِّ هذا الوَجْه وتزييفه، وأمَّا زعْم أنَّه ينفَع لبعض الأمراض فقد جعَلَه الأسنوي مُقوِّيًا لذلك الوجْه؛ فقال بعد قول الشيخين: إنَّ ما مَرَّ حرامٌ بلا خِلافٍ، وإطلاقهما عدم الخلاف ليس كذلك؛ فقد حكى الماوردي والروياني فِي "البحر" وجهًا أنَّ العُود بِخُصوصه حَلال؛ لما يقال: إنَّه ينفَعُ بعض الأمراض، اهـ، واعتَرضَه

(1) لم أقفْ عليه، وأورَدَه أيضًا المصنِّف في "الزواجر"، (الكبيرة السادسة والأربعون).

(2)

في (ز2): العلماء.

(3)

في (ز2): يرفعه.

(4)

نصُّ كلام الماوردي في "الحاوي"(17/ 193) طبعة دار الفكر: "وكانَ بعضُ أصحابِنا يخصُّ العود من بينها ولا يُحرِّمه؛ لأنَّه موضوعٌ على حركاتٍ نفسانيَّة تَنفِي الهم، وتُقوِّي الهمَّة وتزيد في النشاط، وهذا لا وجْه له؛ لأنَّه أكثر الملاهي طربًا، وأشغلها عن ذكر الله - تعالى - وعن الصلاة، وإنْ تميَّز به الأماثل عن الأراذلِ".

ص: 119

المتعقِّبون لكلامه بأنَّ حِكايته لهذا الوجهِ على هذا المَهيَع (1) باطلةٌ من وجهين:

أحدهما: أنَّه إذا كان مُعلَّلاً بنَفعِه لبعض الأمراض فينبغي تقييدُ الإباحة لِمَن به ذلك المرض دُون غيره، فإطْلاق حِكايته غَلَطٌ فاحش.

الثاني: إذا أُبِيحَ لحاجة المرض فلا ينبَغِي أنْ يقتَصِرَ على حِكايته وجهًا، بل يحرم بِجَوازِه [ز1/ 30/أ] كما يجوزُ التَّداوِي بالنَّجِس، وقد جزَم الحليميُّ فِي "منهاجه" بأنَّ آلات اللهو إذا كانت تنفَعُ من بعض الأمراض أُبِيحَ سماعها، قال ابن العماد: والذي قاله مُتعين، انتهى.

والحاصل أنَّه متى شَهِدَ طبيبان عدلان أنَّ هذا المرض بِخُصوصه ينفَع فيه العُود وانحصَر النفع بأنْ لم يوجد دَواء حَلال ينفَع فيه غيره جازَ استِماعُه ما دام ذلك المرض باقيًا، كما صرَّحوا بذلك فِي التداوي بالنَّجِسِ - غير محض الخَمْر - فإنَّه يجوز عندنا بهذه الشُّروط التي ذكرتها، وإذا وُجِدتْ أبيح العُود حينئذٍ للضرورة كما يُباح أكل الميتة للمضطرِّ، وحينئذٍ فلم يتحقَّق لنا وَجْهُ قائلٍ لجواز العُود على إطلاقه.

وأمَّا ما حَكاه ابن طاهر من إجماع أهل المدينة فهو من كَذِبه وخُرافاته؛ فإنَّه - كما مرَّ - رجلٌ كذَّاب يَروِي الأحاديث الموضوعة ويتكلَّم عليها بما يُوهِم العامَّة صحَّتها، كما مرَّ فِي مبحث الغناء والرقص، وأيضًا فهو مُبتدِع إباحي لا يُحرِّم قليلاً ولا كثيرًا؛ ومن ثَمَّ قال بعضهم فيه: إنَّه رجسُ العقيدة نجسُها، ومَن هذا حالُه لا يُلتَفتُ إليه ولا يُعوَّل عليه؛ ومن ثَمَّ قال الأذرعي عَقِبَ حكايته الباطلة الكاذبة عن إجماع أهل المدينة وعَن الشيخ أبي

(1) المَهْيَع - من الطُّرُق -: البيِّن، وقِيل: وهو الطريق الواسع الواضح؛ "جمهرة اللغة"؛ لابن دريد، "المعجم الوسيط".

ص: 120

إسحاق: وهذا من ابن طاهر مجازفةٌ، وإنما فعَل ذلك بالمدينة أهلُ المجانة والبطالة، ونسبة ذلك إلى صاحب "التَّنْبِيه" كما رأيته فِي كتابه بالسماع نسبةٌ باطلة قطعًا، كيف وقد قطَع فِي "مهذبه" هنا وفي الوصايا بتحريم العُود، وهو قضيَّة ما فِي "تنبيهه"، ومَن عرف حاله وشدَّة ورعه ومتين تَقواه جزَم ببُعدِه ونَزاهته وطَهارة ساحته من ذلك، وكيف يظنُّ ذو لبٍّ فِي هذا العابد القانت أنْ يقول فِي دِين الله ما يفعل ضدَّه مع ما فِي ذلك من غَلِيظ الذم والمقت، وكلُّ مَن ترجَمَه لم يذكُر شيئًا من هذا - فيما نعلَمُ.

ومن المجازفة قولُ ابن طاهر: إنَّ ذلك مشهورٌ عنه، ودعوى ابن طاهر أنَّ ذلك إجماعُ أهل المدينة من [جرَّاء](1) دَعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء، والهوى يُعمِي ويصمُّ، اهـ.

وقال الزركشي عَقِبَ اعتراض الأسنوي على الشيخين نفيهما الخلاف في سائر الأوتار السابقة بحكاية ابن طاهر عن الشيخ أبي [ز1/ 30/ب] إسحاق [ما مرَّ قلت: هذا تلبيسٌ من الأسنوي قلَّد فيه صاحبه الكمال الأُدفوي فِي كتابه "الإمتاع"، ولا تجوزُ حكاية هذا عن الشيخ أبي إسحاق](2) فإنَّ ابن طاهرٍ مُتكلَّمٌ فيه عند أهل الحديث بسبب الإباحة وغيرها، وقد قطع الشيخ أبو إسحاق فِي "المُهَذَّبِ" هنا وفي الوصايا بتحريم العُود وهو أتْقى لله من أنْ يقول فِي دِين الله شيئًا ويفعل ضدَّه، ا. هـ.

وإذا تأمَّلت ما تقرَّر فِي هذا التَّنْبِيه علمت أنَّ قول صاحب ذلك الكتاب: وذهبت طائفةٌ إلى جَواز سماع العُود وما جَرَى مَجراه من الآلات المعروفة ذوات الأوتار كذبٌ صريح وجهلٌ قبيح؛ لما مرَّ أنَّ ذلك محرَّم بالإجماع،

(1) في (ز2): حيز.

(2)

ما بين المعقوفين سقط من (ز2).

ص: 121

وأنَّه لم يقعْ خلافٌ إلا فِي العُود، وأنَّ ذلك الخلافَ باطلٌ لا يُعتَدُّ به فِي حكاية الإجماع.

وقوله: ونقل سماعه عن فلان وفلان وذكر جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين وغيرهم

جوابه: أنَّ هذا كلَّه نقلٌ باطلٌ، واحتجاجٌ بالتمويهات والتلبيسات، وكيف يسوغ لِمُتديِّن - فضلاً عمَّن يدَّعِي التصوُّف والمعرفة - أنْ يحتجَّ على تَعاطِي الأشياء المحرَّمة عند أئمَّة المذاهب الأربعة وغيرهم بمجرَّد قوله ونقل سماعه عن فلان وفلان، ما ذاك إلا غَباوة ظاهرة وجهْل مُفرِط؛ لأنَّ اللائق بِمَن يُرِيدُ أنْ يفعل شيئًا يُخالِف فيه المشهور المقرَّر فِي مذاهب العلماء أنْ يحتجَّ عليهم بنقلٍ صريح أو حديث صحيح؛ لأنَّه إمَّا أنْ يكون مجتهدًا أو مُقلِّدًا، فإنْ كان مجتهدًا بيَّن أوَّلاً أنَّ المسألة غير مُجمَع عليها، وأثبت النقل بطريقِه المعتبرة عند أئمَّة الحديث وغيرهم، عمَّن يُعتَدُّ به أنَّه لا إجماع فِي المسألة، ثم بيَّن حجَّته من كتابٍ أو سنَّة أو غيرهما بطَرائِقه [المعتبَرة](1) عند أئمَّة الأصول وغيرهم، وإنْ كان مُقلِّدًا بيَّن صحَّة الحِلِّ عند أحدٍ من العلماء المجتهِدين ثم قال: أنا مقلدٌ لهذا الإمام حتى يرتَفِع الإنكار عنه، وأمَّا مجرَّد قوله نقل فهذا كلام لغو لا يُفِيد شيئًا إلا فِي غرَضِه الفاسد، وهو ترويجُ أفعالِه وأقولِه الباطلة الكاذبة على مَن لا يُفرِّقون بين نقلٍ [صحيحٍ]، ويعتَقِدون أنَّ الكلَّ من وادٍ واحدٍ، وهيهات! ليس الأمر بالهُوَيْنَى كما يظنُّ هذا الرجل وأضرابه، بل بينه وبين إثبات الحلِّ [ز1/ 31/أ] عن واحدٍ ممَّن ذكر [مفاوز](2) تُقطَع دونها الأعناق؛ إذ لو أقام طول عُمرَه يفحَص ويُفتِّش ما ظفر بنقل الحِلِّ من طريق صحيح عن

(1) في (ز2): المقرَّرة.

(2)

في (ز2): مَقام.

ص: 122

واحدٍ من العلماء فضلاً عن هؤلاء الكثيرين الذين عددهم بمجرَّد الدعاوى الكاذبة منه، وممَّن سبقه إلى ذلك كابن حزم (1) وابن طاهر وليته عرف حال هذين الرجلين ليتجنَّب متابعتهما، فإنَّ كلاًّ منهما مبتدعٌ ضالٌّ.

أمَّا ابن حزم فـ[إنَّ] العلماء لا يُقِيمون له وزنًا كما نقَلَه عنهم المحقِّقون؛ كالتاج السبكي وغيرهم؛ لأنَّهم أصحاب ظاهريَّة محضة تَكادُ عقولهم أنْ تكون مُسِختْ، ومَن وصل إلى أنَّه يقول: إنْ بال الشخص فِي الماء تنجَّس، أو فِي إناءٍ ثم صبَّه فِي الماء لم يتنجَّس، كيف يُقامُ له وزنٌ ويُعَدُّ من العُقَلاء فضلاً عن العلماء؟! ولابن حزم هذا وأضرابه من أمثال هذه الخرافات الشيء الذي لا ينحَصِر، ومَن تأمَّل عِلَلَه ونحله وكذبَه على العلماء سيَّما إمام أهل السنَّة أبي الحسن الأشعري عَلِمَ أنَّ الأولى به وبأمثاله أنْ يكونوا فِي حيِّز الإهمال [وعدم رفع رأس لشيءٍ صدَر منهم](2).

وأمَّا ابن طاهر فإنَّ العلماء بالَغُوا فِي تضليله وتسفيهه بما مرَّ بعضه ويأتي بعضه، من ذلك أنَّه رجس العقيدة نجسها، فإنَّه رجل إباحي لا يتقيَّد بدليلٍ ولا يعول على تعليلٍ، بل كلَّ ما وسوس له الشيطان اتَّخذه مذهبًا، وبَرهَن عليه بالأشياء التي يعتقد كذبها، وإنما يُموِّه على مَن لا علمَ عنده ليُوهمه صحَّة ذلك، نظير ما مرَّ له فِي الحديث الباطل الكَذِب الموضوع المُختَلق

(1) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية الأموي الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي، أبو محمد المعروف بابن حزم المحدث صاحب التصانيف المشهورة، كان ظاهريَّ المذهب، وقد تكلَّم فيه كلُّ أحدٍ ما خلا أهل الحديث، فإنهم أثبَتُوا على حفظه، كان إمامًا عارفًا بفنون الحديث، إلا أنَّه كان صاحب لسانٍ خبيث، ويقع في حقِّ العلماء الأعلام حتى صار مثلاً، فيُقال: نعوذ بالله من سيف الحجاج ولسان ابن حزم؛ "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"؛ لابن تغري بردي.

(2)

في (ز2): وعدم رأس الشيء لما صدر منهم.

ص: 123

الذي فِيه نسبة الرقص إليه صلى الله عليه وسلم فإنَّه أسقط ذكر واضعة ومختلقه، وذكر بعض رواته الذين لا مَطعَن فيهم؛ ليوهم الناس أنَّه حديث صحيح، ومَن وصلت جهالته وسفاهته إلى هذا الحد، كيف يُعوَّل عليه أو يُلتَفت إليه؟ مَن يَزعُم أنَّ له أدنى مسكة من دِين الله فضلاً عن ورَع.

وقول صاحب ذلك الكتاب: إنَّ الحلَّ نُقِلَ أيضًا عن أكثر فقهاء المدينة، وهذا غاية فِي الكذب والتدليس، لأنَّه إن قلد ابن طاهر فِي النقل، فابن طاهر إنما عبَّر بإجماع أهل المدينة لا بأكثرهم، وإن قلَّد العلماء فِي تكذيب ابن طاهر فِي هذا النقل فأهل المدينة بريئون [ز1/ 31/ب] من نسبة ذلك إليهم، فترْك هذا الرجل هاتين المقالتين واختراعُه النقلَ عن أكثر المدينة غايةٌ فِي سُوء الصَّنيع المبنيِّ على التلبيس، وحال هذا الرجل يَأبَى صُدور مِثلِ ذلك عنه، لكن الهوى يوجب أكثر من ذلك؛ قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (1) الآية، قوله: ونقل عن مالك سماعه، وليس ذلك بالمعروف عند أصحابه، كأنَّه لم يطالع "تفسير القرطبي" فِي سورة الروم، ولا "المسالك"؛ لابن فضل الله فِي مبحث المغنين المأخوذ منه ردُّ ذلك المحكيِّ بأنَّه اشتباه، فإنَّ شخصًا اسمه مالك فِي زمَن الإمام كان مغنِّيًا، وبفرْض صحَّة ذلك - وهو بعيدٌ جدًّا - فالعبرة بآخِر أحوال الأئمَّة وأقوالهم.

والحاصل: أنَّه لا حجَّة له فِي هذا النقل عن مالك مطلقًا، فكان اللائق صَوْن إمامه عن هذا الذي أشار إليه، ونقل عن ابن العربي فِي "شرح

(1) سورة الجاثية: 23.

ص: 124

الترمذي" ما يُوهِم الحلَّ، وليس كذلك كما هو ظاهرٌ بأدنى تأمُّل، وما مثالُ هذا إلا ما فِي أمثال العوام:(الغريق يتعلَّق بالقش).

وقوله: وحكَى إباحته الماوردي عن بعض الشافعيَّة

هذا من غاية التدليس والبُهت، فإنَّ الماوردي عقَّب هذه الحكاية بتزييف هذا القول وإبطاله كما مرَّ مبسوطًا، وكأنَّ هذا الرجل يظنُّ أنَّ أحدًا لا يتعقَّب كلامه ولا يعترض عليه، وليس كذلك؛ فقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنَّه لا تزالُ طائفة من أمَّته ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة - أي: حِزبه - لا يضرُّهم مَن خالفهم (1)، وبأنَّ الله - تعالى - وعَدَه بأنَّ كلَّ زمنٍ يُوفِّق الله فيه عُدُولاً يحملون العلم وينفون عنه تحريف [الغالين](2) وإلحاد الملحِدين وشُبَه المبطلين (3).

وقوله: وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي: هو من نَظِير ما قبله، قوله: ونقل عن أبي إسحاق الشيرازي أنَّه كان مذهبه وأنَّه مشهورٌ عنه، وأنَّه لم ينقلْ عن أحدٍ من العلماء أنَّه أنكَرَه عليه، حَكاه ابن طاهر المقدسي عنه، جوابه ما سبق أنَّ هذا النقل منه على هذا العالم الرباني كذبٌ صريح، كيف

(1) متفق عليه: البخاري (7311)، ومسلم (1921) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(2)

في (ز1): العالمين، والمثبت من (ز2).

(3)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 209)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 79)، وابن حبان في "الثقات"(4/ 10) من حديث إبراهيم بن عبدالرحمن العذري مرفوعًا، والطبراني في "مسند الشاميين"(599)، والعقيلي في "الضعفاء"(1/ 10) من حديث أَبِي هُرَيْرة مرفوعًا، وابن عدي في "الكامل"(3/ 31)، والعقيلي في "الضعفاء"(1/ 10) من حديث ابن عمر مرفوعًا، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 9) من حديث أبي أمامة بلفظ:((يَحمِل هذا العِلم من كلِّ خَلَفٍ عدولُه؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطِلِين))، وأورد نور الدين الهيثمي في "المجمع" من حديث أبي هُرَيْرة وعبدالله بن عمر مرفوعًا وقال: رواه البزار، وفيه عمرو بن خالد القرشي، كذَّبَه يحيى بن مَعِين، وأحمد بن حنبل، ونسَبَه إلى الوَضْعِ، قلت: وكلُّ هذه الطرق لا تسلم من علة.

ص: 125

والشَّيْخُ مُصرِّحٌ بتحريم سماع العُود، وأنَّه لا خلاف فيه فِي كتب الفقه، وكيف يُظَنُّ بهذا العبدِ [ز1/ 32/أ] القانت الذي قد اشتهر ورَعُه اشتهارَ الشمس أنْ يُصرِّح فِي كتبه بِحُرمَة شيءٍ من غير خِلافٍ فيه ثم يفعله، ما هو إلا أمر قبيح؛ ومن ثَمَّ بالَغ العلماء فِي تكذيب ابن طاهر فِي ذلك، وأنَّ هذا من جملة خُرافاته وكذباته الشَّنِيعة التي تصدُر عن المجازَفة ورقَّة الدِّيانة، ومن مُبالَغته فِي كَذِبه قوله: إنَّه كان مشهورًا عن الشيخ، وإنَّه لم ينقل عن أحدٍ من العلماء أنَّه أنكَرَه عليه.

ومن تدليس هذا الرجل الناقل عن ابن طاهر أنَّه نقَل كذبه ولم ينقل تكذيب العُلَماء له فِي هذا النقل [أصلاً](1) ومبالغتهم فِي الردِّ عليه.

قوله: وكان إبراهيم بن سعد الزهري من عُلَماء المدينة يقول بإباحته ولا يُحدِّث حديثًا حتى يضرب به جَوابه، هذا من جُملَة الكذب أيضًا على إبراهيم بن سعد، وقد مرَّ عن القرطبي أنَّه نقل إباحة الغناء عنه شاذٌّ، على أنَّه لو فرض صحَّة ذلك عنه لم يجزْ لأحدٍ تقليده؛ للإجماع على أنَّه لا يُقلَّد إلا مجتهدٌ، وإبراهيم هذا ليس من أهل الاجتهاد كما مرَّ عن القرطبي، فهذا النقل [غير مفيد، ولو](2) فرض صحَّته عنه فكيف وهو لم يصحَّ، فتأمَّل مجازفةَ هذا الرجل كيف أراد أنْ يُعارِض القرطبي بمجرَّد زعْمه، فقال: وإبراهيم بن سعد أحد شيوخ الشَّافِعِي، وروَى عنه البخاري، وهو إمام مجتهدٌ مشهور عدل بارٌّ لله مأمون، وهذا كلُّه من الجزاف، والكذب، والتلبيس، فإنَّ كونه شيخًا للشافعي وغيره لا يقتَضِي بل ولا يدلُّ من وجهٍ

(1) في (ز1): وصلا، والمثبت من (ز2).

(2)

في (ز2): مفيد لو، ومعناه فاسد غير مقصود.

ص: 126

قريبٍ [ولا بعيدٍ أنَّه مجتهد، وكم أخَذ الشافعي عن غير مجتهد](1) وروى البخاري عن جاهلٍ بمراتب الاجتهاد فضلاً عن التحلِّي بها، فذِكْرُ ذلك غَباوةٌ محضة، وقوله: وهو إمام مجتهد، [هذا كذبٌ] (2) منه؛ لأنَّه إذا تعارَض قول هذا: إنَّه مجتهد، [وقول القرطبي: إنَّه غير مجتهد] (3) مَن الذي يُعتَمد قوله من الرجلين؟ [فشتَّان] ما بينهما، لا سيَّما وهذا الرجل أمَر فِي هذا الكتاب بمتابعة خبيثَيْن مبتدعَيْن كذابَيْن: ابن حزم، وابن طاهر، كلُّ ذلك [لتَرُوج](4) مَقالته الفاسدة وشُبهته الكاسدة، وتأمَّل مُجازَفته ووُقوعه فِي حقِّ كلِّ العلماء بحِكايته عن إبراهيم بن سعد هذا أنَّه لما ضرْب بالعُود بين يدي هارون، قال له: يا إبراهيم، مَن قال بتحريم هذا [ز1/ 32/ب] من عُلَمائكم؟ قال: مَن ربَطَه الله - تعالى - يا أمير المؤمنين)) (5)، ا. هـ.

(1) سقط من (ز2).

(2)

في (ز1): هل أكذب، والمثبت من (ز2).

(3)

سقط من (ز2).

(4)

في (ز1): لتدرج، والمثبت من (ز2).

(5)

هذه القصة ذكرها الصفدي في "الوافي بالوفيات"، وابن منظور في "مختصر تاريخ دمشق"، والخطيب في "تاريخ بغداد"، والذهبي في "تاريخ الإسلام"، والسخاوي في "التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة"، كلهم في ترجمة إبراهيم بن سعد، قال الصفدي: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف المدني، كان من العلماء الثقات، وَلِيَ قضاء المدينة وكان أبوه قاضيها، وكان إبراهيم أسودَ اللون، قدم بغداذ فأكرَمَه الرشيد وأظهر برَّه وسُئِلَ عن الغناء فأفتى بتحليله، وأتاه بعض أصحاب الحديث ليسمع منه فسمعه يتغنَّى فقال: لقد كنت حريصًا على أنْ أسمع منك فأمَّا الآن فلا أسمع منك، فقال: إذًا لا أفقد إلا شخصك وعليَّ إنْ حدثت ببغداذ حديثًا حتى أغنِّي قبله، وشاعت عنه هذه ببغداذ وبلغَتِ الرشيد فدعا به وسأله عن حديث المخزوميَّة التي قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة، فدعا بعود، فقال الرشيد: أعود البخور؟ فقال: لا، ولكن عود الطرب، فتبسَّم ففهمها إبراهيم بن سعد فقال: لعلَّك بلغك يا أمير المؤمنين حديث السَّفِيه الذي آذاني بالأمس وألجأني إلى أنْ حلفت؟ قال: نعم، ودعا له بعود فغناه:

يَا أُمَّ طَلْحَةَ إِنَّ الْبَيْنَ قَدْ أَزِفَا = قَلَّ الثِّوَاءُ لَئِنْ كَانَ الرَّحِيلُ غَدَا

فقال له الرشيد: مَن كان من فُقَهائكم يكرَه السماع؟ قال: مَن ربطه الله، قال: فهل بلغك عن مالك في هذا شيء؟ قال: أخبرني أبي أنهم اجتمعوا في بني يربوع في مدعاة وهم يومئذٍ جلةٌ ومعهم دُفوف ومَعازف وعيدان يغنون ويلعبون ومع مالك دفٌّ مربع وهو يغنيهم:

سُلَيْمَى أَجْمَعَتْ بَيْنَا = فَأَيْنَ لِقَاؤُهَا أَيْنَا

الأبيات الثلاثة، فضَحِكَ الرشيد ووَصَله بمال، رواها غيرُ واحدٍ عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصفار، وروى له الجماعة كلهم، وتُوفِّي سنة ثلاث وثمانين ومائة.

ص: 127

فهذه الحكاية لا تصدر عن أدنى السُّوقة فِي حقِّ العلماء، فكيف استَباحَ هذا الذي يَزعُم الدِّين والتصوُّف أنْ يَحكِي ذلك ويشهره للعوام، ليس ذلك إلَاّ لأنَّ المِحنة القبيحة بسَماع الأوتار أخرجَتْه من حيِّز الصِّيانة إلى حيِّز الخِيانة، وعَنْ ساحة الأدب إلى هُون العطَب، ولِمَ لا وقد وقَع فِي حق كلِّ العلماء، وباءَ بسبب ذلك بالخسار والبَوار والعَمى؟ وكيف يستَجِيزُ بعد ذلك أنْ يقلد إمامَه مالكًا ويجعله الواسطة بينه وبين الله - تعالى - وهو قد ربَطَه الله؛ إذ هذه كلمة ذمٌّ لهم؟ وكيف ساغَ لهذا الرجل أنْ يحتجَّ على العُلَماء كلِّهم بكلام، مغنٍّ يضرب بالعُود بين يدي ظالم سبَّ العلماء كلهم لأجْل أنْ يرضيه ويُحسِّن له قبيحه! وكيف يُعقَل منه أنْ يقبل منه وصْف إبراهيم هذا بتلك الأوصاف العليَّة مع هذه المرتبة الدنيَّة؟! إذ غايته أنَّه مغنٍّ عوَّاد لظالم، فإنَّ هذا كلَّه بتقدير صِحَّة ذلك من إبراهيم هذا، وإلا فقد مَرَّ أنَّ هذا الرجل إنما يعتَمِد كذب ابن طاهر الخبيث ويظنُّه حجَّة؛ لأنَّ هَواه أعماه وأصمه حتى أنَّه لم يُفرِّق بين القبيح والحسن، بل لا يألف إلا القبيح؛ لأنَّه الموافق للهوى، وقوله: ونقل الإمام المازري عن عبدالله بن الحكم أنَّه مكروه [جوابه: أنَّه مكروهٌ](1) كراهةَ تحريم، فإنَّ المجتهدين الذين هم مشايخُ ابن الحكم كالشافعي كثيرًا ما يُطلِقون الكراهة يريدون بها كراهةَ التحريم.

(1) سقط من (ز2).

ص: 128

وقوله: وحُكِي عن الإمام عز الدين بن عبدالسلام أنَّه مباح، هذه الحكاية كذب صُراح، كيف وهو مُصرِّحٌ فِي كتبه بخلافه! فهو نظير الكذب السابق على أبي إسحاق، ولولا ابتُلِي الناس بهؤلاء الكذَّابين الذين لا مسكة لهم [ولا دِين](1) لاتَّضَح الحق [وظهر الصدق، فإنَّ الحكمة الإلهيَّة اقتَضتْ ذلك ليظهر المحقُّ من المبطل، ويتحلَّى كلٌّ برداء صِدقه أو كَذِبِه](2) يومَ العرض الأكبر يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه، عافانا الله من ذلك بمنِّه وكرمه آمين.

(تَنْبِيه ثانٍ) استدلَّ أصحابُنا لتحريم الملاهي المذكورة بقوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ} (3)[ز1/ 33/أ] فسَّرَه ابنُ عباس والحسن بالملاهي (4)، وبقوله - تعالى -:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (5) فسَّرَه مجاهد: بالغناءِ والمَزَامِير (6).

وبالحديث الصحيح أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليَكوننَّ فِي أمَّتي أقوام يستَحلُّون الخَزَّ والحرير والخَمْر والمعازِف))؛ رواه البخاري تعليقا، ووصَلَه الإسماعيلي وأبو نعيم فِي "المستخرج"، وأبو داود بأسانيد

(1) في (ز2): في الدين.

(2)

سقط من (ز2).

(3)

سورة لقمان: 6.

(4)

أثر ابن عباس أخرجه البخاري في " الأدب المفرد "(786)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 221)، والطبري في تفسيره (21/ 61) بلفظ (ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ) قَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ وَأَشْبَاهُهُ. وعند ابن أبي شيبة (4/ 368) بلفظ قال الغناء وشرى المغنية. وأورد أثر الحسن القرطبي في تفسيره (14/ 52) بلفظ: " لَهْو الْحَدِيث الْمَعَازِف وَالْغِنَاء "، وابن كثير في تفسيره (3/ 443) بلفظ الْغِنَاء وَالْمَزَامِير.

(5)

سورة الإسراء: 64.

(6)

أثر مجاهد أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 298) بلفظه، والطبري في "تفسيره" (15/ 118) بلفظ: الغناء واللهو.

ص: 129

صحيحة (1)، والمَعَازِف آلات اللهو، وبهذا الذي تقرَّر من صحَّة الحديث من هذه الطُّرق الكثيرة اندَفَع قولُ ابن حزم: إنَّ الحديث منقطعٌ ولا حجَّة فيه، ولو فرض أنَّ غير البخاري لم يذكُرْه [لأنَّ](2) ذكرَه له حجَّة؛ لما قد تقرَّر عند الأئمة أنَّ تعليقاته المجزوم بها صحيحة، على [أنَّ] بعضَ الحفَّاظ قال: طرقه المذكورة كلُّها صحيحة لا مَطعَن فيها، وقد صحَّحه جماعةٌ [آخَرون] من الأئمَّة الحفَّاظ، على أنَّ ابن حزم ذكَر فِي موضعٍ آخَر أنَّ قول العدل الراوي إذا روَى عمَّن أدرَكَه من العُدول فهو على اللقاء والسَّماع، سواء قال: أنبأنا، أو حدثنا، أو عن فلان، أو قال فلان، فكلُّ ذلك منه محمولٌ على السماع، ا. هـ.

فتأمَّل كيف ناقضَ نفسه، فإنَّه لَمَّا ذكَر عن البخاري أنَّه روَى فِي صَحِيحه فِي الأشربة قولَه: قال هشام ابن عمَّار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر

وساق سندَه إلى أبي عامر أو أبي مالك الأشعري أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَيكُونن في أمَّتي أقوامٌ يستَحِلُّونَ الحر)) (3)؛ أي: بكسْر الحاء المهمَلة وفتْح الرَّاء مع التَّخفِيف؛ أي: الزنا، فإنَّ الحِرَ اسمٌ لفرج المرأة، ا. هـ.

قال - أعني: ابن حزم -: هذا حديثٌ منقطعٌ غير متَّصل، فلا يستدلُّ به، بل حمَلَه تعصُّبه لمذهبه الفاسد الباطل فِي إباحة الأوتار وغيرها إلى أنَّ حكَم على هذا الحديث وكلِّ ما ورد فِي الملاهي بالوضع، وقد كذب فِي ذلك

(1) أخرجه البخاري (5590) معلقًا باب ما جاء فيمَن يستحلُّ الخمر ويُسمِّيه بغير اسمه، وأبو داود (4039)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 221)، "والشعب"(5115)، وصحَّحه ابن حبان (6754) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

(2)

في (ز2): كان.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 130

وافترى على الله وعلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم وشريعته الغرَّاء، كيف وقد صرَّح الأئمَّة الحفَّاظ الذين هم أُمَناء الله على شريعة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم بتصحيح كثيرٍ من الأحاديث الواردة فِي ذلك كما قدَّمته، ولقد قال بعض الأئمَّة الحفَّاظ: إنَّ ابن حزمٍ إنما صرَّح بذلك تقريرًا لمذهبه الفاسد فِي إباحة الملاهي، وليس كما زعَم وافترى فقد صحَّح ذلك الحديثَ جماعةٌ كثيرون [ز1/ 33/ب] من الأئمَّة الحفَّاظ، ووقَعَ من حديث عَشرةٍ من أصحاب هشام عنه، بل ولم ينفَرِد به كلٌّ من هشام وصدقة وابن جابر؛ أي: فالحديث مشهورٌ عن غيرِ رُواة البخاري أيضًا، وبهذا يتَّضِح لك بُطلان كلامِ ابن حزمٍ، وأنَّ تعصُّبه لمذهبه الباطل أوقَعَه فِي المجازَفة والاستِهتار حتى حكَم على الأحاديث الصحيحة من غير شكٍّ ولا مرية بأنها موضوعةٌ، وقد كذب وافترى؛ ومن ثَمَّ قال الأئمَّة فِي الحطِّ عليه: إنَّ له مجازفات كثيرة، وأمورًا شنيعة نشَأتْ من غِلطه وجُموده على تلك الظواهر، ومن ثَمَّ قال المحقِّقون: إنَّه لا يُقام له وزنٌ، ولا يُنظَر لكلامه ولا يُعوَّل على خِلافه؛ أي: فإنَّه ليس مراعيًا للأدلَّة، بل لما رآه هَواه وغلب عليه من عدم تحرِّيه وتَقواه، ومُبالَغته فِي سَبِّ العلماء وثَلبهم بما أوجَبَ الخزي فِي آخِرته ودُنياه، أعاذنا الله من مثل هذه الأحوال، وبأنها آلةُ شرَبَةِ الخُمور فتَدعُو لشُربِها، وفيه تشبُّه بأهلها، وهو حَرام؛ ولذلك لو رتَّب جماعةٌ مجلسًا وأحضَرُوا آلة الشُّرب وأقداحه، وصبُّوا فيه السكنجبين (1) ونصبوا ساقيًا يَدُورُ عليهم ويسقيهم، ويجيبُ بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم حرم عليهم ذلك؛ لما فيه من التشبُّه بأهل المعصية، وبهذا مع ما مرَّ من الإجماع

(1)(السكنجبين) شراب مُركَّب من حامضٍ وحلو (مع) فارسيَّته سركانكبين. انظر: "المعجم الوسيط".

ص: 131

على تحريم تلك الآلات يندَفِع قول الغزالي: القياس تحليل العُود وسائر الملاهي، ولكنْ ورد ما يقتضي التحريم، ا. هـ.

ووجْه اندِفاعِه أنَّ ما فيها من المعاني الموجِبة للحُرمة مع صِحَّة الحديث بِحُرمتها وقِيام الإجماع عليها يُلغِي ما قالَه من القياس لو فُرِضت صحَّته، فكيف وهو لم يصحَّ؟! وإنما القياس فيها الحرمة لما عُلِمَ واستقرَّ فِي الشرع من أنَّ وسائل المعاصي مَعاصٍ مثلها، وهذه الآلات كذلك كما تقرَّر، وأصلُ هذا قول إمامِه فِي بعض آلات الملاهي: القياس تحليلُها، فإنْ صحَّ الخبر قُلنا بتحريمه وإلا توقَّفنا، قال بعض شراح "المنهاج": لم يصحَّ، وليس كما زعَم، بل صحَّ الخبر من طُرُقٍ عديدةٍ لا مَطعَن فيها كما سبق.

ثم رأيتُ الغَزالي ذكر ما يدفَع ما مرَّ عنه؛ فإنَّه قال فِي "الإحياء"(1): والمنع من الأوتار كلِّها لثلاث علل:

(1) قال الغزالي في "الإحياء"(2/ 272) ط دار المعرفة بيروت: ولا يُستَثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورَد الشرع بالمنع منها لا للذَّتها؛ إذ لو كان للذة لقِيس عليها كلُّ ما يلتذُّ به الإنسان، ولكن حُرِّمتِ الخمور واقتضَتْ ضَراوة الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسْر الدِّنان، فحرم معها ما هو شِعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط، وكان تحريمها من قِبَل الأتباع كما حُرِّمت الخلوة بالأجنبية؛ لأنَّها مقدمة الجماع، وحرم النظر إلى الفخذ لاتِّصاله بالسَّوْأتين، وحرم قليلُ الخمر وإنْ كان لا يُسكِر؛ لأنَّه يدعو إلى السُّكر، وما من حَرامٍ إلا وله حريم يطيف به، وحُكم الحرمة ينسَحِب على حريمه ليكون حمًى للحَرام ووقاية له وحظار مانعًا حوله كما قال صلى الله عليه وسلم:((إنَّ لكلِّ ملك حمًى، وإنَّ حمى الله محارمه))، فهي محرَّمة تبعًا لتحريم الخمر لثلاث علل:

إحداها: أنها تدعو إلى شُرب الخمر فإنَّ اللذَّة الحاصلة بها إنما تتمُّ بالخمر، ولمثْل هذه العلَّة حُرِّمَ قليلُ الخمر.

الثانية: أنها في حقِّ قريب العهد بشُرب الخمر تذكر مجالس الأنس بالشرب فهي سبب الذِّكر، والذِّكر سبب انبِعاث الشَّوق وانبعاث الشَّوق إذا قوى فهو سبب الإقدام، ولهذه العلة نهى عن الانتِباذ في المزفت والختم والنقير؛ وهي الآواني التي كانت مخصوصةً بها، فمعنى هذا: أنَّ مشاهدة صُورتها تُذكِّرها، وهذه العلَّة تُفارِق الأولى؛ إذ ليس فيها اعتبار لذَّة في الذِّكر؛ إذ لا لذَّة في رُؤية القنينة وأواني الشُّرب لكنْ من حيث التذكُّر بها، فإنْ كان السَّماع بذِكر الشُّرب تذكيرًا يُشوِّق إلى الخمر عند مَن أَلِفَ ذلك مع الشرب فهو منهي عن السماع لخصوص هذه العلَّة فيه.

الثالثة: الاجتماع عليها: لما أنَّ صار من عادة أهل الفِسق فيُمنَع من التشبه بهم؛ لأنَّ مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، وبهذه العلَّة نقول بترك السنَّة مهما صارت شعارًا لأهل البِدعة؛ خوفًا من التشبه بهم. وبهذه العلة حرم ضرب الكُوبة، وهو طبلٌ مستطيلٌ دقيق الوسط واسع الطرفين، وضربها عادة المخنَّثين ولولا ما فيه من التشبيه لكان مثل طبل الحجيج والغزو، وبهذه العلَّة نقولُ: لو اجتمع جماعةٌ وزيَّنوا مجلسًا وأحضروا آلات الشرب وأقداحه، وصبوا فيها الكنجين، ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم، فيأخُذون من الساقي ويشربون ويحيِّي بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم - حرم ذلك عليهم، وإنْ كان المشروب مباحًا في نفسه؛ لأن في هذا تشبُّهًا بأهل الفساد، بل لهذا يُنهَى عن لبس القباء وعن ترْك الشعر على الرأس قزعًا في بلادٍ صار القباء فيها من لباس أهل الفساد، ولا ينهى عن ذلك فيما وراء النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم، فبهذه المعاني حُرِّمَ المزمار العراقي والأوتار كلها؛ كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها، وما عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرُّعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل والقضيب، وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل الشرب؛ لأنَّ كلَّ ذلك لا يتعلَّق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب التشبُّه بأربابها فلم يكنْ في معناها، فبقي على أصل الإباحة قياسًا على أصوات الطيور وغيرها، بل أقول سماع الأوتار ممَّن يضربها على غير وزن متناسب مستلذ حرام أيضًا، وبهذا يتبيَّن أنَّه ليست العلَّة في تحريمها مجرَّد اللذة الطيِّبة، بل القياس تحليلُ الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد؛ قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، فهذه الأصواتُ لا تحرم من حيث إنها أصواتٌ موزونةٌ، وإنما تحرم بعارضٍ آخَر كما سيأتي في العوارض المحرَّمة.

ص: 132

إحداها: أنها تدعو إلى شُرب الخَمْرِ فإنَّ اللذَّة الحاصلة بها تدعو [لذلك](1)[ز1/ 34/أ]؛ ولهذا حرم شرب قليله الذي يُقطَع بعدَم إسكاره؛ لأنَّه يجرُّ لكثيره.

الثانية: أنها فِي قريب العهد بشُربه تُذكِّره [محاسنَ](2) الشُّرب، والذكر سببُ انبِعاث الفُسوق، وانبعاث الفُسوق إذا قَوِيَ سببٌ للإقدام.

والثالثة: أنَّ [الاجتماع](3) على الأوتار لَمَّا صار من عادة أهل الفسق منع من التشبُّه بهم؛ إذ ((مَنْ تشَبَّه بقومٍ فهو مِنهُمْ)) (4).

(1) في (ز2): إلى شُرب الخمر.

(2)

في (ز2): مجالس.

(3)

في (ز1): الإجماع، والمثبت من (ز2).

(4)

أخرجه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50)، وعبد بن حميد (848)، والبيهقي في "الشعب"(1199)، وابن أبي شيبة (6/ 471)، والطبراني في "مسند الشاميين" (216) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال ابن حجر في "الفتح" (6/ 98):(وأبو منيب) لا يُعرَف اسمه، وفي الإسناد عبدالرحمن بن ثابت بن ثَوْبان، مُختَلَف في توثيقه، وله شاهدٌ مُرسَل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتَمامه، وقال في موضعٍ آخَر من "الفتح" (10/ 271): أخرجه أبو داود بسندٍ حسن، وأخرجه البزار في "مسنده"(7/ 368)، والطبراني في "الأوسط"(8327)، وأحمد بن حنبل في "الورع"(93) من حديث حذيفة، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع"(10/ 271) رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه عليُّ بن غراب، وقد وثَّقه غير واحد، وضعَّفه بعضهم وبقيَّة رجالِه ثقاتٌ، وقال المناوي في "فيض القدير" (8593) وقال الصدر المناوي: فيه عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيفٌ كما قاله المنذري، وقال السخاوي: سنده ضعيف لكن له شواهد، وقال ابن تيميَّة: سنده جيِّد، وقال ابن حجر في "الفتح": سنده حسن (طس عن حذيفة) بن اليمان، قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه علي بن غراب وثَّقه غيرُ واحد وضعَّفه جمعٌ وبقيَّة رجاله ثقات، ا. هـ، وبه عُرِفَ أنَّ سند الطبراني أمثَلُ من طريق أبي داود.

ص: 133

(تَنْبِيه ثالث) زعَم ابن حزمٍ أنَّه لم يَصِحَّ فِي تحريم العُود حديث، قال: وقد سمعه ابن عمر وابن جعفر، ا. هـ، وابن حزمٍ هذا رجلٌ ظاهري لا يُعتَدُّ بخلافه، ولا يُعوَّل عليه كما صرَّح به الأئمَّة، وقوله: لم يَصِحَّ فِي تحريم العُود حديثٌ

مبنيٌّ على ما سبق عنه قريبًا فِي حديث البخاري، وقد علم أنَّه حديث صحيح عند أئمَّة الحديث الذين عليهم المعوَّل فِي القديم والحديث، وزَعْمُه أنَّ هذَيْن الإمامين سَمِعَاه من تهوُّره ومُجازَفته؛ ومن ثَمَّ قال الأئمَّة فِي الرد عليه: لم يثبت ما زعَمَه عنهما، وحاشا ابن عمر من ذلك مع شدَّة ورعه وتحرِّيه واتِّباعه وبُعده من اللهو، قالوا أيضًا: وقوله: لم يصحَّ فيه حديثٌ، جمودٌ منه على ظاهريَّته، وفي عُموم الأحاديث الناصَّة على ذمِّ البِدَع والمُحدَثات وإنكارها ما يدلُّ على تحريمه دلالةً ظاهرة لا مَدفَع لها، وإذا تقرَّر لك ما في هذا التَّنْبِيه واللذَيْن قبله مع ما مرَّ فِي مبحث الرَّقص، علمتَ به بُطلان ما نقَلَه بعضُ مَن لا وثوقَ به ولا تعويلَ عليه عن الشيخ عزِّ الدين ابن عبدالسلام أنَّه سُئِلَ عن الآلات كلها فقال: مُباح، قال ابن القمَّاح: يريد أنَّه لم يردْ دليلٌ صحيحٌ من السُّنَّة على تحريمه فسمعه الشيخ فقال: لا أردت أنَّ ذلك مباح، ا. هـ.

ص: 134

وهذا كلُّه كذبٌ مصنوع وباطلٌ موضوع، ومَعاذ الله أنَّ سُلطان العلماء يُبِيحُ ما أجمعَ العلماء على تحريمه، ومَن توهَّم ذلك فيه لم يثقْ بعدُ بكلام عالمٍ قطُّ؛ لأنَّ مثلَ هذا الحبر إذا صرَّح فِي كتُبِه بِحُرمة تلك الآلات كلها وكذب عليه بذلك، واعتمد هذا الكذب مَن لا فهْم له بل ولا دِين، وأقرَّ هؤلاء الكَذَبة على كذبهم - زالت الثقة بالعلماء ومُؤلَّفاتهم، فتعيَّن علينا أنْ نبالغ فِي الردِّ على هؤلاء الذين لا خَلاقَ لهم ولا دِين بِحَجْزِهم عن قَبِيح الافتراء على العُلَماء العامِلين والأئمَّة المحقِّقين، وليت هؤلاء الأشقياء كذَبوا على مَن ليس له تصنيفٌ بين أيدي الناس يرجعون [ز1/ 34/ب] إليه، وأمَّا هذا الإمام فتصانيفه مشهورةٌ منشورة، فهي تكذبهم وتُسفِّه أحلامهم، ومن العجب ما نقَلَه عن ابن القماح أنَّه لم [يردْ](1) دليلٌ صحيح على تحريم ذلك، وهذا باطل، كيف ومرَّ فيه حديث البخاري، ولكنَّه تبع ابن حزم، وقد مرَّت المبالغة فِي الرد عليه، وأنَّ الخبر صحيح عند الحفَّاظ، وأنَّه مُصرِّح تصريحًا لا يقبَلُ تأويلاً بِحُرمة الآلات كلها كما مرَّ فِي التَّنْبِيه مع الرد عليه على مَن نازَع فيه، ونظيره ما نُقِلَ عن التاج الفزاري أنَّه كان يحضر غيرَ مرَّة السَّماع بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، وبفرض صحَّة ذلك عنه فالدُّفُّ حلالٌ وكذا الشَّبَّابَة عند بعض العلماء، فلعلَّه ممَّن يبيحها، وهو بعيدٌ، ومَن استدلَّ على حلِّ السَّماع المحرم بأنَّ معتقدًا كان إذا سمع سماعًا اعتراه حال قام منتصبًا زمانًا طويلاً كأصحِّ الرجال [فلم يصب](2)، ومن أين ذلك للحاكي أنَّه سماع محرَّم؟ لأنَّ شأنَ هؤلاء المنتصِرين لحلِّ ما حرَّم الله على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم ووارثيه أنهم يكتَفُون بمجرَّد حِكايةٍ يجدونها فِي

(1) في (ز2): يرو عنه.

(2)

ليست في (ز2).

ص: 135

كتابٍ من غير بحثٍ منهم عمَّن رَواها، ولا عن مَدلولها ومَعناها، لما أنَّ حبَّ الهوى أعْماهُم، وعَنْ طريق الهدى أضلَّهم وأغْواهم.

ونظيرُ ما مرَّ عن ابن عبدالسلام من الكَذِبِ والتقوُّل عليه ما نُقِلَ عن تلميذه الإمام المجتهد ابن دقيق العيد أنَّه حضَر السماع بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، وكذا جماعة من الفقهاء من حِكاياتٍ كلها لا يُعوَّل عليها ولا يلتفتُ إليها، وبفرض صحَّة ذلك فهو فِي أمرٍ مُختَلَف فيه، وقد مرَّ فِي صحَّته عن العلماء فيه ما فيه مَقنَعٌ لِمَن رُزِقَ أدنى نوعٍ من هداية، وإنما الطامَّة اعتقاد هؤلاء حلَّ الأوتار جميعها، وأنَّه لم يَرِدْ فيها حديث صحيح افتراءً وكذبًا على الله ورسوله؛ قال - تعالى -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ

} الآية (1)، ولا منكر أقبح ممَّن يريد أنْ يُحلِّل ما أجمع العلماء على تحريمه، ويوقع العامَّة وغيرهم فِي العمل به وسَماعه، غافلاً عمَّا يترتَّب عليه من الإثم والعِقاب، عافانا الله من ذلك بمنِّه وكرمه، آمين.

ومن العجب أنَّ صاحب ذلك الكتاب سرد عن كثيرين أنهم حضَرُوا السَّماع على حسَب تقوُّله وتهوُّره وكأنَّه لم يطَّلِع على كلام القرطبي وغيره السابق، ولا على كلام الأئمَّة عنهم ولا فهم محلَّ الخلاف من محلِّ الوفاق، وإنما يدلِّس ويُلبِّس [ز1/ 35/أ] ليروج خُرافاته ويُظهِر سَقطاته، ومَن الذي يُحرِّم السماع مُطلقًا حتى يُعرِّض بأنَّه حَرام، وإنما المنكر ما يَزعُمونه من حلِّه بالآلات المحرَّمة بالإجماع، وكلُّ ما حكاه عن أولئك الأئمَّة إنما هو فِي سَماعٍ اختُلِف فيه، كما مَرَّ بيان ذلك واضحًا مبسوطًا، فعليك بتحريره

(1) سورة الزمر: 60.

ص: 136

ودعْ تلك الحكايات، وما فيها من الكذب والتقوُّلات، إنْ أردت السلامة من الحسرة والندامة، لا سيَّما وقت العرض يوم القيامة.

(تَنْبِيه رابع) إنما فسَّرت الصَّنْج فِي الترجمة بذي الأوتار لأنَّه الذي لا خلافَ فِي تحريمه، بخِلاف الصَّنْج الذي هو دَوائر يضرب بواحدة على الأخرى فإنَّ فيه خلافًا [مرَّ] بسطُه، وإطلاق الصَّنْج على الأمرين ذكَرَه الجوهريُّ وغيره؛ حيث قالوا: الصَّنْج هو الذي يُتَّخذ من صفرٍ يُضرَب إحداهما بالأخرى مختص بالعرب، وذو الأوتار مختصٌّ بالعجم وهما مُعرَّبان، وقال ابن معنٍ الجزري فِي "التنقيب على المهذب" قوله: ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء؛ كالعُود والطُّنْبُور [والمعزفة، والصِّلِّيل، والمِزْمَار، أمَّا العُود والطُّنْبُور](1) فقد فسَّرهما الشيخ، والمعزفة أصوات القيان إذا كانت مع العُود وإلا فلا يُقال ذلك، وقد قِيل: كلُّ ذي وترٍ مِعزاف، والصِّلِّيل بكسر الصاد وتشديد اللام المكسورة، وهو الصَّنْج، واشتقاقه من الصلول وهو صوت الحديد إذا وقَع بعضه على بعض، وفي نسخ "المُهَذَّبِ" مكان الصليل (الطبل) وليس بشيءٍ، بل هو غلط وتصحيف، ا. هـ.

وفي المحكم: صلَّ اللجام امتدَّ صوتُه، ومصلصل مصوت.

(تَنْبِيه خامس) الطُّنْبُور بضمِّ الطاء معروفٌ [وفي كتب اللغة: الطُّنْبُور العُود](2)، والمشهور فِي العُرف وعند أهل الصِّناعة أنَّه غيره، وكأنَّ كلَّ واحدٍ من العُود والطُّنْبُور وغيرهما اسمُ جنسٍ تحته أنواعٌ، وقد يشمَل اسم العُود سائر الأوتار، انظُر قول العمراني وخلائق من الأصحاب:

(1) ما بين المعقوفين سقط من (ز2).

(2)

ما بين المعقوفين سقط من (ز2).

ص: 137

الأصوات الملهية ثلاثة أضرب: ضَرْب محرم وهي التي تطرب من غير غناء؛ كالعيدان، والطنابير، والطبول والمَزَامِير، والمَعَازِف، والنايات، والأكبار، والرباب وما أشبهها، ا. هـ.

والمعازف جمع معزفة، قيل: وهي أصوات القَيْنَات إذا كانت مع العُود وإلا فلا يُقال لها ذلك، وقيل هي كلُّ ذي وتَر. [ز1/ 35/ب]

(تَنْبِيه سادس) إذا تأمَّلت ما مرَّ فِي المقدمة ممَّا يترتَّب على سامع الغناء، والمَزَامِير، والمَعَازِف وهي آلات الملاهي والأوتار، رجاء لك أنْ تُوفَّق إلى العمل بتلك الأحاديث، وأنْ تنزَجِر عن سماع تلك السفسافات، وتتوجَّه إلى الله بقِيامك فيما أمرك فيه فِي سائر الحالات، فمن تلك الأحاديث قولُه صلى الله عليه وسلم:((إيَّاكُمْ واستماع المَعازف والغِناء؛ فإنهما يُنبِتان النِّفاق في القَلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ)) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:((الغناء واللهو يُنبِتان النِّفاق في القَلب كما يُنبِت الماءُ العُشبَ، والذي نفسي بيَدِه، إنَّ القرآن والذِّكر ليُنبِتان الإيمانَ في القلب كما يُنبِت الماءُ العُشْب)) (2)، فتأمَّل ذلك مع ما مر من الأحاديث، وأقوال العلماء، وأعرض عمَّن أدَّت بهم مجازفته إلى أنْ أحلَّ سماع الآلات، وأوهم العامة أن فِي ذلك مكاشفات ومنازلات، كلا والله ليس فيه إلا النقصان، وغاية المقت والخسران، ولسنا نحرِّم مطلق السماع، ولا نعتقد أنَّ ما تفعله من ذلك كلِّه سفساف وضَياع، بل منهم العارفون وهم حزب الله {أَلَا إِنَّ

(1) لم أقفْ عليه.

(2)

أورده أبو شُجاع الديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب"(3/ 115، رقم 4319) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وقال العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 103): ((الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب))، رواه الديلمي عن أنسٍ مرفوعًا بزيادة:((والذي نفسي بيده إنَّ القرآن والذِّكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب))، ولا يصحُّ كما قاله النووي.

ص: 138

حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (1)، وما جاء عنهم أكثره لم يصحَّ، وما صحَّ عنهم سالِمٌ من المحرَّمات - بحمد الله تعالى.

(تَنْبِيه سابع) قِيلَ: أوَّل مَن وضَع العُود مالك بن آدم - صلَّى الله على نبيِّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء وسلَّم - وذلك أنَّه مات له ولدٌ فصَلبَه فِي شجرةٍ وجلس تحتَه يُراقِبه حتى تناثَر لحمُه ولم يبقَ إلا العظم والعُروق، فعرف أنها ستَفنَى فاتَّخذه على مثال وركه ورجله، وجعَل له أوتارًا نظيرَ عُروق الرجل الموصلة للورك، ثم ضَرَبَ عليها فصوَّتت صوتًا حسنًا فعكَف على ضربها وسماعها.

وقيل: أوَّل مَن وضعه حكماء الهند، وضَعُوه على طباع الإنسان؛ ومن ثَمَّ حُكِي عن الفارابي إمام الموسيقا أنَّه حضَر مجلسًا حافلاً لبعض الملوك أو الرُّؤَساء، فأخرج آلة صغيرة من داخل ثوبه، وضرب عليها فضحكوا إلى أنْ خُشِي عليهم الهلاك، ثم غيَّر الضرب فبكوا كذلك، ثم غيَّره فنامُوا عن آخرهم، فتركهم وذهب عنهم.

* * * * *

ص: 139