المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ابن رشد في بداية المجتهد: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ نقول عن بعض كتب الفقهاء، يستنار بها فيالتطبيق وفهم الحكم

- ‌ ابن رشد في بداية المجتهد:

- ‌المضاربة في السلع التجارية وأسواق البورصة الدولية

- ‌ الأسواق الآجلة:

- ‌الأسواق الآجلة للعملات الأجنبية

- ‌سوق الأوراق المالية (البورصة)

- ‌ملاحظات ختامية:

- ‌الفتاوى

- ‌ معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}

- ‌ معنى قوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}

- ‌ من هم عباد الرحمن وعبيد الرحمن

- ‌ تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌ سبب اختلاف ألوان عباد الله من أحمر إلى أبيض إلى أسود

- ‌ هل ثبت بالسنة الصحيحة تلاوة هذه السور يوميا (يس - الدخان - الواقعة - الملك)

- ‌ الحكمة في أمر الله إبراهيم بذبح ابنه قرة عينه إسماعيل

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه

- ‌ سئل شخص عن مسألة فأفتى فيها، وبعد مدة تبين له أن ما أفتى به غير صحيح، فماذا عليه أن يفعل

- ‌درجة حديث الصدوق ومن في مرتبته

- ‌خامسا: نتيجة هذا البحث:

- ‌الإنكار في مسائل الخلاف

- ‌ المقدمة:

- ‌المصلحة عند الحنابلة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: تتبع آراء الحنابلة في المصلحة:

- ‌الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة

- ‌مفاسد القول بالمجاز

- ‌القول بالمجاز بدعة ضلالة:

- ‌تعطيل الصفات:

- ‌تحطيم مدلول كلمة التوحيد:

- ‌قصر (الإيمان) على التصديق:

- ‌صرف ألفاظ الوحي عن دلالاتها الحقيقية:

- ‌المجاز سلم الباطنية:

- ‌نقص درجة المجاز:

- ‌خطر الربا وتغليظ تحريمه:

- ‌ما جناه الاستعمار الأوروبي على المسلمين:

- ‌الربا وأنواعه وما يجري فيه:

- ‌الخلاصة:

- ‌بيان من هيئة كبار العلماءبالمملكة العربية السعودية

- ‌الآداب الإسلامية

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ابن رشد في بداية المجتهد:

من صور البورصة

(القسم الثاني)

بحث من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

ثالثا:‌

‌ نقول عن بعض كتب الفقهاء، يستنار بها في

التطبيق وفهم الحكم

في المسائل الجزئية

أ- قال‌

‌ ابن رشد في بداية المجتهد:

في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز فيها النساء، وتبيين علة ذلك.

فنقول: أجمع العلماء على أن التفاضل والنساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت، إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (1)» ، فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان.

وأما منع النسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4561)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

ص: 23

حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (1)» . فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النساء في الصنفين من هذه، وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة:«وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد، والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد (2)» .

وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر بالشعير، واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها، فقال قوم منهم أهل الظاهر: إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط، وأن ما عداها لا يمتنع في الصنف الواحد منها التفاضل، وقال هؤلاء أيضا: إن النساء ممتنع في هذه الستة فقط اتفقت الأصناف أو اختلفت، وهذا أمر متفق عليه، أعني امتناع النساء فيها مع اختلاف الأصناف، إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال: إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ما عدا الذهب والفضة.

فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من باب الخاص أريد به الخاص، وأما الجمهور من فقهاء الأمصار فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام، واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف، أعني في مفهوم علة التفاضل ومنع النساء فيها.

فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل أما

(1) صحيح البخاري البيوع (2134)، صحيح مسلم المساقاة (1586)، سنن الترمذي البيوع (1243)، سنن النسائي البيوع (4558)، سنن أبو داود البيوع (3348)، سنن ابن ماجه التجارات (2253)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 45)، موطأ مالك البيوع (1333)، سنن الدارمي البيوع (2578).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 320)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

ص: 24

في الأربعة فالصنف الواحد من المدخر المقتات، وقد قيل: الصنف الواحد المدخر وإن لم يكن مقتاتا، ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر، وقال بعض أصحابه: الربا في الصنف المدخر وإن كان نادر الادخار. وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضا مع كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة؛ لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة.

وأما علة منع النساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة، أعني في الصنف الواحد منها، ولا يجوز النساء، أما جواز التفاضل؛ فلكونها ليست مدخرة، وقد قيل: إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد، وأما منع النساء فيها؛ فلكونها مطعومة مدخرة، وقد قلنا: إن الطعم بإطلاق علة لمنع النساء في المطعومات.

وأما الشافعية فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد، وأما علة النساء فالطعم دون اعتبار الصنف مثل قول مالك، وأما الحنفية فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة، وهو الكيل أو الوزن مع اتفاق الصنف، وعلة النساء فيها اختلاف الصنف ما عدا النحاس والذهب، فإن الإجماع انعقد على أنه يجوز فيها النساء، ووافق الشافعي مالكا

ص: 25

في علة منع التفاضل والنساء في الذهب والفضة، أعني أن كونهما رءوسا للأثمان، وقيما للمتلفات، هو عندهم علة منع النسيئة إذا اختلف الصنف، فإذا اتفقا منع التفاضل، والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف، وأما هاهنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم.

فنقول: إن الذين قصروا صنفي الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع، أعني: استنباط العلل من الألفاظ وهم: الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه، وذلك أن جميع من ألحق المسكوت هاهنا بالمنطوق به، فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة، إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية وقال: علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال، يريد منع العين.

وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا، وكان لقياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى؛ إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة؛ لأنه زعم أنه في معنى التمر، ولكل واحد من هؤلاء- أعني من القائسين- دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة، أما الشافعية فإنهم قالوا في ثبيت علتهم الشبهية: إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم، مثل قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1).

(1) سورة المائدة الآية 38

ص: 26

فلما علق الحكم بالاسم المشتق، وهو السارق، علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة. قالوا: وإذا كان هذا هكذا، وكان قد جاء في حديث سعيد بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل (1)» . فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم.

وأما المالكية فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الادخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الادخار والاقتيات على ما اختاره البغداديون، وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود الطعم وحده لا كتفي بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة الأصناف المذكورة، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على ما في معناه، وهي كلها يجمعها الاقتيات والادخار.

أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام، وأيضا فإنهم قالوا: لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا، وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات.

وأما الحنفية فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه صلى الله عليه وسلم لما علق التحليل باتفاق الصنف واتفاق القدر،

(1) صحيح مسلم المساقاة (1592)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 401).

ص: 27

وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله صلى الله عليه وسلم لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد وغيره: «إلا كيلا بكيل يدا بيد (1)» ، رأوا أن التقدير - أعني الكيل أو الوزن - هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة، فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل أو الوزن.

منها أنهم رووا في بعض الأحاديث المتضمنة المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة، وهي كذلك ما يكال ويوزن، وفي بعضها وكذلك المكيال والميزان هذا نص لو صحت الأحاديث، ولكن إذا تؤمل الأمر من طريق المعنى ظهر -والله أكلم- أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه.

وأن العدل في المعاملات هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها، أعني تقديرها، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات، أعني غير الموزونة والمكيلة، العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإن اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدالة، أعني أن يكون عديل فرس

(1) صحيح البخاري البيوع (2202)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4565)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 81)، موطأ مالك البيوع (1324).

ص: 28

عشرة أثواب في المثل.

وأما الأشياء المكيلة الموزونة فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف، وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة الصنف، كان العدل في هذه إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن إذا كانت لا تتفاوت في المنافع، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل؛ لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء، أعني: المكيلة والموزونة، علتان: إحداهما: وجود العدل فيها، والثانية: منع المعاملة إذ كانت المعاملة بها من باب الصرف، وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها أظهر؛ إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح، وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية.

وروى مالك عن سعيد بن المسيب أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم، وهو معنى جيد؛ لكون الطعم ضروريا في أقوات الناس، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ الصرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا، وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الانتفاع مطلقا، أعني المالية، وهو مذهب ابن الماجشون.

ص: 29

الفصل الثاني

في معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء

فيجب من هذا أن تكون علة امتناع النسيئة في الربويات هي الطعم عند مالك والشافعي، وأما في غير الربويات مما ليس بمطعوم، فإن علة منع النسيئة فيه عند مالك هو الصنف الواحد المتفق المنافع مع التفاضل، وليس عند الشافعي نسيئة في غير الربويات، وأما أبو حنيفة فعلة منع النساء عنده هو الكيل في الربويات وفي غير الربويات، الصنف الواحد متفاضلا كان أو غير متفاضل، وقد يظهر من ابن القاسم عن مالك أنه يمنع النسيئة في هذه؛ لأنه عنده من باب السلف الذي يجر منفعة.

الفصل الثالث

في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا

وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا، أعني التفاضل والنساء، فما لم يكن ربويا عند الشافعي، وأما عند مالك فما لم يكن ربويا ولا كان صنفا واحدا متماثلا أو صنفا واحدا بإطلاق على مذهب أبي حنيفة، ومالك يعتبر في الصنف المؤثر في التفاضل في

ص: 30

الربويات، وفي النساء في غير الربويات اتفاق المنافع واختلافها، فإذا اختلفت جعلها صنفين وإن كان الاسم واحدا، وأبو حنيفة يعتبر الاسم وكذلك الشافعي، وإن كان ليس الصنف عنده مؤثرا إلا في الربويات فقط، أعني أنه يمنع التفاضل فيه، وليس هو عنده علة للنساء أصلا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة في هذه الفصول الثلاث، فأما الأشياء التي لا يجوز فيها النسيئة فإنها قسمان: منها ما لا يجوز فيها التفاضل، وقد تقدم ذكرها، ومنها ما يجوز فيها التفاضل.

فأما الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل: فعلة امتناع النسيئة فيها هو الطعم عند مالك، وعند الشافعي الطعم فقط، وعند أبي حنيفة مطعومات الكيل والوزن، فإذا اقترن بالطعم اتفاق الصنف حرم التفاضل عند الشافعي، وإذا اقترن وصف ثالث وهو الادخار حرم التفاضل عند مالك، وإذا اختلف الصنف جاز التفاضل وحرمت النسيئة.

وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك، فإنها صنفان: إما مطعومة، وإما غير مطعومة، فأما المطعومة فالنساء عنده لا يجوز فيها، وعلة المنع الطعم، وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز فيها النساء عنده فيما اتفقت منافعه مع التفاضل، فلا يجوز عنده شاة واحدة بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه، وقد قيل: إنه يعتبر اتفاق المنافع دون التفاضل، فعلى هذا لا يجوز عنده شاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل، فأما إذا اختلفت المنافع فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان وإن كان الصنف واحدا، وقيل:

ص: 31

يعتبر اتفاق الأسماء مع اتفاق المنافع، والأشهر أن لا يعتبر، وقد قيل: يعتبر، وأما أبو حنيفة فالمعتبر عنده في منع النساء ما عدا التي لا يجوز عنده فيها التفاضل، هو اتفاق الصنف اتفقت المنافع أو اختلفت، فلا يجوز عنده شاة بشاة ولا بشاتين نسيئة، وإن اختلفت منافعها.

وأما الشافعي فكل ما لا يجوز التفاضل عنده في الصنف الواحد يجوز فيه النساء، فيجيز شاة بشاتين نسيئة ونقدا، وكذلك شاة بشاة، ودليل الشافعي حديث عمرو بن العاص:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة (1)» ، قالوا: فهذا التفاضل في الجنس الواحد مع النساء.

وأما الحنفية فاحتجت بحديث الحسن عن سمرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان (2)» ، قالوا: وهذا يدل على تأثير الجنس على الانفراد في النسيئة، وأما مالك فعمدته في مراعاة منع النساء عند اتفاق الأغراض سد الذريعة، وذلك أنه لا فائدة في ذلك، إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعا وهو محرم، وقد قيل عنه أنه أصل بنفسه، وقد قيل عن الكوفيين أنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اختلف الجنس أو اتفق، على ظاهر حديث سمرة، فكأن الشافعي ذهب مذهب الترجيح؛ لحديث عمرو بن العاص، والحنفية لحديث سمرة مع التأويل له؛ لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز الحيوان بالحيوان نسيئة، اتفق الجنس أو اختلف، وكأن مالكا ذهب مذهب الجمع،

(1) سنن أبو داود البيوع (3357)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 171).

(2)

سنن الترمذي كتاب البيوع (1237)، سنن النسائي كتاب البيوع (4620)، سنن أبو داود البيوع (3356)، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 19)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2564).

ص: 32

فحمل حديث سمرة على اتفاق الأغراض، وحديث عمرو بن العاص على اختلافها، وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه، ولكن صححه الترمذي، ويشهد لمالك ما رواه الترمذي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحيوان اثنان بواحد، لا يصلح نساء، ولا بأس به يدا بيد (1)» ، وقال ابن المنذر:«ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس (2)» .

وعلى هذا الحديث يكون بيع الحيوان بالحيوان يشبه أن يكون أصلا بنفسه، لا من قبل سد ذريعة.

واختلفوا فيما لا يجوز بيعه نساء، هل من شرطه التقابض في المجلس قبل الافتراق في سائر الربويات بعد اتفاقهم في اشتراط ذلك في المصارفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا تبيعوا منها غائبا بناجز (3)» ، فمن شرط فيها التقابض في المجلس شبهها بالصرف، ومن لم يشترط ذلك قال: إن القبض قبل التفرق ليس شرطا في البيوع إلا ما قام الدليل عليه، ولما قام الدليل على الصرف فقط بقيت سائر الربويات على الأصل.

(1) سنن الترمذي كتاب البيوع (1238)، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2271)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 382).

(2)

صحيح مسلم النكاح (1365)، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2997)، سنن ابن ماجه التجارات (2272)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 246).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، موطأ مالك البيوع (1324).

ص: 33

وقال أيضا في البداية:

كتاب السلم

وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب:

الباب الأول: في محله وشروطه.

الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير.

الباب الثالث: في اختلافهم في السلم.

الباب الأول:

أما محله فإنهم أجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن؛ لما ثبت من حديث ابن عباس المشهور، قال:«قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1)» ، واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة، وهي الدور والعقار.

وأما سائر ذلك من العروض والحيوان، فاختلفوا فيها، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر؛ مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث، والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد، واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة، فمن ذلك الحيوان والرقيق، فذهب مالك والشافعي والأوزاعي

(1) صحيح البخاري السلم (2239)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).

ص: 34

والليث إلى أن السلم فيهما جائز، وهو قول ابن عمر من الصحابة، وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق: لا يجوز السلم في الحيوان، وهو قول ابن مسعود، وعن عمر في ذلك قولان، وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان» ، وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول، وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.

وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1)» . وحديث أبي رافع أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا. قالوا: وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة.

فسبب اختلافهم شيئان: أحدهما: تعارض الآثار في هذا المعنى، والثاني: تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط، فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات، وبخاصة صفات النفس، قال: لا تنضبط، ومن نظر إلى تشابهها قال: تنضبط، ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك، فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض، وأجازه مالك بالعدد، وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة، وكذلك السلم في الرءوس والأكارع أجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة، واختلف في ذلك قول الشافعي، وكذلك السلم في الدر والفصوص أجازه مالك ومنعه الشافعي، وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة

(1) سنن أبو داود البيوع (3357)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 171).

ص: 35

للشريعة لا إحصاء الفروع؛ لأن ذلك غير منحصر.

وأما شروطه: فمنها مجمع عليها، ومنها مختلف فيها. فأما المجمع عليها فهي ستة:

منها: أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النساء، وامتناعه فيما لا يجوز فيه النساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النساء.

ومنها: أن يكون مقدرا إما بالكيل أو الوزن أو العدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير، أو منضبطا بالصفة إن كان المقصود منه الصفة.

ومنها: أن يكون موجودا عند حلول الأجل.

ومنها: أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا؛ لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ، هذا في الجملة.

واختلفوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا، فأجاز مالك اشتراط تأخير اليومين والثلاثة، وكذلك أجاز تأخيره بلا شرط، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن من شرطه التقابض في المجلس، كالصرف فهذه ستة متفق عليها.

واختلفوا في أربعة: أحدها: الأجل، هل هو شرط فيه أم لا؟ والثاني: هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا

ص: 36

في حال عقد السلم أم لا؟ والثالث: اشتراط مكان دفع المسلم فيه، والرابع: أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا، وإما موزونا، وإما معدودا، وأن لا يكون جزافا.

فأما الأجل، فإن أبا حنيفة هو عنده شرط بلا خلاف عنه في ذلك.

وأما مالك فالظاهر من مذهبه والمشهور عنه أنه من شرط السلم، وقد قيل أنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحال.

وأما اللخمي فإنه فصل الأمر في ذلك فقال: إن السلم في المذهب يكون على ضربين: سلم حال، وهو الذي يكون ممن شأنه بيع تلك السلعة، وسلم مؤجل، وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة.

وعمدة من اشترط الأجل شيئان: ظاهر حديث ابن عباس، والثاني: أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه.

وعمدة الشافعي أنه إذا جاز مع الأجل، فهو حالا أجوز؛ لأنه أقل غررا، وربما استدلت الشافعية بما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر، فلما دخل البيت لم يجد التمر، فاستقرض النبي صلى الله عليه وسلم تمرا وأعطاه إياه» . قالوا: فهذا هو شراء حال بتمر في الذمة.

وللمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع

ص: 37

الارتفاق، ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى.

واختلفوا في الأجل في موضعين: أحدهما: هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم؟

والثاني: في مقداره من الأيام، وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه السلم، فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها.

وروى ابن وهب عن مالك أنه يجوز لليومين والثلاثة، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد، وأما ما يقتضى ببلد آخر فإن الأجل عندهم هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت، وقال أبو حنيفة: لا يكون أقل من ثلاثة أيام، فمن جعل الأجل شرطا غير معلل، اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم، ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا، وأما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك، فأجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي.

وأما اختلافهم في هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم؟ فإن مالكا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك، وقالوا: يجوز السلم في غير وقت إبانه، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري

ص: 38

والأوزاعي: لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه.

فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث ابن عباس أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فأقروا ذلك ولم ينهوا عنه.

وعمدة الحنفية ما روي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها (1)» . وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق.

وأما الشرط الثالث: وهو مكان القبض، فإن أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان، ولم يشترطه غيره وهم الأكثر، وقال القاضي أبو محمد: الأفضل اشتراطه، وقال ابن المواز: ليس يحتاج إلى ذلك.

وأما الشرط الرابع: وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا لا جزافا. فاشترط ذلك أبو حنيفة، ولم يشترط الشافعي ولا صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد، قالوا: وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه، وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن، وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل، وبالذرع فيما يمكن فيه الذرع، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد، وإن لم يمكن فيه أحد هذه

(1) صحيح البخاري الزكاة (1486)، صحيح مسلم البيوع (1534)، سنن الترمذي البيوع (1300)، سنن النسائي البيوع (4549)، سنن أبو داود البيوع (3367)، سنن ابن ماجه التجارات (2214)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 123)، موطأ مالك البيوع (1303)، سنن الدارمي البيوع (2555).

ص: 39

التقديرات، انضبط بالصفات المقصودة من الجنس، مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا، ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة، وأنه لا يكون في معين، وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة، وكأنه رآها مثل الذمة.

ص: 40

الباب الثاني

وفي هذا الباب فروع كثيرة لكن نذكر منها المشهور

مسألة: اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من الثمر، فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه، وخرج زمانه، فقال الجمهور: إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصبر إلى العام القابل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم، وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شيء شرطه المسلم، فهو في ذلك بالخيار، وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ضرورة، ولا يجوز التأخير، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ، وقال سحنون: ليمس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل، واضطرب قول مالك في هذا، والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رواه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي، والكالئ بالكالئ المنهي عنه إنما هو المقصود لا الذي يدخل اضطرارا.

ص: 40

مسألة: اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه، فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره (1)» .

وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:

أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء علية النص في الحديث.

والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم مالا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله، مثل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل، وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما، لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر منه، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز؛ لأنه يحمله على العروض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من

(1) سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).

ص: 41

الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة؛ لأنه عنده من باب البدل في الدنانير والإحسان، مثل أن يكون له عليه قمح، فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن يتأخر القبض؛ لأنه يدخله الدين بالدين، وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه، جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة، إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال المسلم.

وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه.

وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع، ودخلها ما يدخل البيوع، أعنى أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى ضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه. مثال في ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض، فإنه لا يجوز عنده؛ فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة؛ لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.

مسألة: اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز قبل الإقالة، فمن العلماء من لم يجزه أصلا، ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك

ص: 42

ما لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه ومالك وأصحابه إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق، ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه، ومن العلماء من أجازه، وبه قال الشافعي والثوري، وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب، والظن الرديء بالمسلمين غير جائز، قال: وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة.

مسألة: اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال للبائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك، فقال مالك وطائفة: ذلك لا يجوز، وقال قوم: يجوز، واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقيله، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفى، وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه باب فسخ الدين بالدين، والذين رأوه جائزا رأوا أنه من باب المعروف والإحسان الذي أمر الله تعالى به. قال رسول صلى الله عليه وسلم:«من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (1)» .

(1) سنن أبو داود البيوع (3460)، سنن ابن ماجه التجارات (2199)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 252).

ص: 43

ب- وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني:

باب الربا والصرف

الربا في اللغة: هو الزيادة. قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (1)، وقال:{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (2)، أي: أكثر عددا، يقال: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه.

وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3)، وما بعدها من الآيات.

وأما السنة: فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (4)» . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، (5)» متفق عليهما في أخبار سوى هذين كثيرة، وأجمعت الأمة على أن الربا محرم.

(1) سورة الحج الآية 5

(2)

سورة النحل الآية 92

(3)

سورة البقرة الآية 275

(4)

صحيح البخاري الوصايا (2767)، صحيح مسلم الإيمان (89)، سنن النسائي الوصايا (3671)، سنن أبو داود الوصايا (2874).

(5)

صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598)، سنن الترمذي البيوع (1206)، سنن أبو داود البيوع (3333)، سنن ابن ماجه التجارات (2277)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 304)، سنن الدارمي البيوع (2535).

ص: 44

(فصل) والربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما. وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة. فحكي عن ابن عباس، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير، أنهم قالوا: إنما الربا في النسيئة؛ لقوله عليه السلام: «لا ربا إلا في النسيئة (1)» رواه البخاري.

والمشهور من ذلك قول ابن عباس، ثم إنه رجع إلى قول الجماعة، وروى ذلك الأثرم بإسناده، وقاله الترمذي، وابن المنذر وغيرهم، وقال سعيد بإسناده عن أبي صالح قال:(صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف)، وعن سعيد بن جبير قال:(سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف؟ فلم ير به بأسا. وكان يأمر به)، والصحيح قول الجمهور؛ لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز (2)» .

وروى أبو سعيد أيضا قال: «جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا يا بلال؟ قال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع؛ ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوه. عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به (3)» متفق عليهما. قال الترمذي على حديث أبي سعيد: العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ربا إلا في النسيئة (4)» محمول على

(1) صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 4)، موطأ مالك البيوع (1324).

(3)

صحيح البخاري الوكالة (2312)، صحيح مسلم المساقاة (1594)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 67).

(4)

صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).

ص: 45

الجنسين.

(مسألة:) قال أبو القاسم رحمه الله: (وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا).

قوله: (من سائر الأشياء) يعني من جميعها، وضع سائر موضع جميع تجوزا، وموضعها الأصلي لباقي الشيء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة، ومن أتمها ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد (1)» رواه مسلم. فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع.

واختلف أهل العلم فيما سواها، فحكي عن طاوس وقتادة: أنهما قصرا الربا عليها، وقالا: لا يجري في غيرهما، وبه قال داود ونفاة القياس، وقالوا: ما عداها على أصل الإباحة؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2)، واتفق القائلون بالقياس على أن ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها؛ لأن

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4561)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(2)

سورة البقرة الآية 275

ص: 46

القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هذا الحكم إثباته في كل موضع وجدت علته فيه. وقول الله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1)، يقتضي تحريم كل زيادة؛ إذ الربا في اللغة: الزيادة، إلا ما أجمعنا على تخصيصه، وهذا يعارض ما ذكروه.

ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالحنطة بالشعير، والتمر بالزبيب، والذرة بالدخن؛ لأنهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي جنس واحد، وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم:«بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم (2)» ، فلا يعول عليه. ثم يبطل بالذهب بالفضة، فإنه يجوز التفاضل فيهما مع تقاربهما.

واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما.

فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات، أشهرهن: أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس، نقلها عن أحمد الجماعة، وذكرها الخرقي وابن أبي موسى وأكثر الأصحاب. وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي.

فعلى هذه الرواية يجري- في الربا- كل مكيل أو موزون

(1) سورة البقرة الآية 275

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

ص: 47

بجنسه مطعوما كان أو غير مطعوم، كالحبوب والأشنان والنورة والقطن والصوف والكتان والورس والحناء والعصفر والحديد والنحاس ونحو ذلك، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن؛ لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء. - وهو الربا- فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أريت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يدا بيد (1)» رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن حبان عن أبيه عن ابن عمر.

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا» رواه الدارقطني، ورواه عن ابن صاعد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أحمد بن محمد بن أيوب، عن أبي بكر بن عياش، عن الربيع، عن صبيح، عن الحسن عن عبادة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال: لم يروه عن أبي بكر هكذا غير محمد بن أحمد بن أيوب، وخالفه غيره فرواه بلفظ آخر، وعن عمار أنه قال:(العبد خير من العبدين، والثوب خير من الثوبين، فما كان يدا بيد فلا بأس به، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن)، ولأن قضية البيع المساواة، والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس، فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة، والجنس يسوي بينهما معنى، فكانا علة، ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائز إذا

(1) صحيح مسلم المساقاة (1585).

ص: 48

تساويا في الكيل.

والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس، فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها.

قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة، ونحو هذا قال الشافعي. فإنه قال: العلة الطعم، والجنس شرط، والعلة في الذهب والفضة: جوهرية الثمنية غالبا فيختص بالذهب والفضة؛ لما روى معمر بن عبد الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل (1)» رواه مسلم، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال، فيقتضي التعليل بهما؛ ولأنه لو كان العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء.

والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا. فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح والرمان والخوخ والبطيخ والكمثرى، والأترج والسفرجل والأجاص والخيار والجوز والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأشنان والحديد والرصاص ونحوه، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قديم قولي الشافعي؛ لما روي عن سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب» أخرجه الدارقطني، وقال: الصحيح إنه من قول سعيد، ومن رفعه فقد وهم.

ولأن لكل

(1) صحيح مسلم المساقاة (1592)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 401).

ص: 49

واحد من هذه الأوصاف أثرا، والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه، فلا يجوز حذفه، ولأن الكيل والوزن والجنس لا يقتضي وجوب المماثلة، وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لا ما تحقق شرطه، والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به؛ لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن؛ ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا، فوجب أن يكون الطعم معتبرا في المكيل والموزون دون غيرهما، والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها، وتقييد كل واحد منها بالآخر.

فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي، وهو الكيل والوزن، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه.

وقال مالك: (العلة القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات).

وقال ربيعة: (يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة دون غيره).

وقال ابن سيرين: (الجنس الواحد علة)، وهذا القول لا يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل:«لا بأس به إذا كان يدا بيد (1)» ، وروي:«أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدا بعبدين (2)» رواه أبو داود والترمذي وقال: هو حديث حسن صحيح.

وقول مالك ينتقض بالحطب والإدام يستصلح به القوت

(1) صحيح البخاري البيوع (2061)، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589)، سنن النسائي كتاب البيوع (4575)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 372).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1602)، سنن الترمذي البيوع (1239)، سنن النسائي البيوع (4621)، سنن أبو داود البيوع (3358)، سنن ابن ماجه الجهاد (2869)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 350).

ص: 50

ولا ربا فيه عنده، وتعليل ربيعة ينعكس بالملح والعكس لازم عند اتحاد العلة.

والحاصل: أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة، كالأرز والدخن والذرة والقطنيات، والدهن والخل واللبن واللحم ونحوه، وهذا قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث، سوى قتادة فإنه بلغني أنه شذ عن جماعة الناس فقصر تحريم التفاضل على الستة الأشياء، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه فلا ربا فيه رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، كالتين والنوى والقت والماء والطين الأرمني، فإنه يؤكل دواء فيكون موزونا مأكولا، فهو إذا من القسم الأول، وما عداه إنما يؤكل سفها فجرى مجرى الرمل والحصاة.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: «لا تأكلي الطين، فإنه يصفر اللون» ، وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد ففيه روايتان، واختلف أهل العلم فيه.

والأولى إن شاء الله تعالى حله؛ إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يقوي التمسك به، وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضا، فوجب اطراحها، أو الجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب والسنة والاعتبار.

ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتا كالأرز والذرة والدخن، أو أدما كالقطنيات واللبن واللحم، أو تفكها كالثمار، أو تداويا كالأهليلج والسقمونيا، فإن الكل في باب الربا واحد.

ص: 51

(فصل) وقوله: (ما كيل أو وزن) أي: ما كان جنسه مكيلا أو موزونا، وإن لم يتأت فيه كيل ولا وزن؛ إما لقلته كالحبة والحبتين والحفنة والحفنتين وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو لكثرته كالزبرة العظيمة، فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل، ويحرم التفاضل فيه، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر، ورخص أبو حنيفة في بيع الحفنة بالحفنتين والحبة بالحبتين، وسائر المكيل الذي لا يتأتى كيله، ووافق في الموزون. واحتج بأن العلة الكيل ولم يوجد في اليسير.

ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «التمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى (1)» ، ولأن ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله كالموزون.

(فصل) ولا يجوز بيع تمرة بتمرة، ولا حفنة بحفنة، وهذا قول الثوري، ولا أعلمه منصوصا عليه، ولكنه قياس قولهم؛ لأن ما أصله الكيل لا تجري المماثلة في غيره.

(فصل) فأما ما لا وزن للصناعة فيه، كمعمول الحديد والرصاص والنحاس والقطن والكتان والصوف والإبريسم، فالمنصوص عن أحمد في الثياب والأكسية أنه لا يجري فيها الربا. فإنه قال: لا بأس بالثوب بالثوبين والكساء بالكساءين، وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال: لا يباع الفلس بالفلسين ولا السكين بالسكينين، ولا إبرة بإبرتين أصله الوزن، ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

ص: 52

روايتين:

إحداهما: لا يجري في الجميع، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم؛ لأنه ليس بموزون ولا مكيل. وهذا هو الصحيح؛ إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة، وعدم النقص والإجماع فيه.

والثانية: يجري الربا في الجميع. اختارها ابن عقيل؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر أن اختيار القاضي: أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالأسطال ففيه الربا وما لا فلا.

(فصل) ويجري الربا في لحم الطير، وعن أبي يوسف: لا يجرى فيه؛ لأنه يباع بغير وزن. ولنا: أنه لحم فجرى فيه الربا كسائر اللحمان، وقوله: لا يوزن، قلنا: هو من جنس ما يوزن. ويقصد ثقله، وتختلف قيمته بثقله وخفته، فأشبه ما يباع من الخبز بالعدد.

(فصل) والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك ونفوه عنه، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية: لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، ولأن للصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب.

ص: 53

ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل (1)» ، وعن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها (2)» رواه أبو داود، وروى مسلم عن أبي الأشعث: أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس فبلغ عبادة فقال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (3)» .

وروى الأثرم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، (4)» ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية: لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن)، ولأنهما تساويا في الوزن. فلا يؤثر اختلافهما في القيمة، كالجيد والرديء، فأما إن قال لصائغ: صغ لي خاتما وزنه درهم وأعطيك مثل وزنه وأجرتك درهما. فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين، وقال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين؛ أحدهما في مقابلة الخاتم، والثاني أجرة له.

(فصل) وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه، ويحرم التفرق قبل القبض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«عينا بعين (5)» ، وقوله:«يدا بيد (6)» ، ولأن تحريم النساء آكد، ولذلك

(1) صحيح البخاري البيوع (2176)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4565)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 58)، موطأ مالك البيوع (1324).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(3)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4560)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(4)

سنن النسائي البيوع (4572)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 448)، موطأ مالك البيوع (1327).

(5)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(6)

صحيح البخاري البيوع (2061)، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589)، سنن النسائي كتاب البيوع (4575)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 372).

ص: 54

جرى فيه الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم.

(مسألة) قال: (وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة).

لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين نعلمه، إلا عن سعيد بن جبير أنه قال: ما يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز التفاضل فيهما، وهذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم:«بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد (1)» ، وفي لفظ:«إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2)» رواه مسلم وأبو داود، ولأنهما جنسان فجاز التفاضل فيهما كما لو تباعدت منافعهما، ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب بالفضة مع تقارب منافعهما.

فأما النساء فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، والمطعوم بالمطعوم عند من يعلل به، فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه، وذلك لقوله عليه السلام:«فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (3)» ، وفي لفظ:«لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا (4)» رواه أبو داود. إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بينهما بغير خلاف؛ لأن الشرع أرخص في السلم

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(3)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن ابن ماجه التجارات (2254).

(4)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254).

ص: 55

والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير. فلو حرم النساء هاهنا لانسد باب السلم في الموزونات في الغالب.

فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان:

إحداهما: يحرم النساء فيهما، وهو الذي ذكره الخرقي هاهنا؛ لأنهما مالان من أموال الربا، فحرم النساء فيهما كالمكيل بالمكيل.

والثانية: يجوز النساء فيهما، وهو قول النخعي؛ لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل. فجاز النساء فيهما كالثياب بالحيوان.

(فصل) وإذا باع شيئا من مال الربا بغير جنسه وعلة ربا الفضل فيهما واحدة، لم يجز التفرق قبل القبض، فإن فعلا بطل العقد. وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين.

ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء يدا بيد (1)» رواه مسلم.

وقال عليه السلام: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (2)» وروى مالك بن أوس بن الحدثان: (أنه التمس صرفا بمائة دينار قال: فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ يقلبها في يديه، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4561)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن ابن ماجه التجارات (2254).

ص: 56

ذلك. فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (1)» متفق عليه. والمراد به القبض، بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة، وبهذا فسره عمر به، ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة، فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب بالفضة.

فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما، فقال أبو الخطاب: يجوز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة؛ لأن علتهما مختلفة، فجاز التفرق قبل القبض كالثمن بالثمن، وبهذا قال الشافعي، إلا أنه لا يتصور عنده ذلك إلا في بيع الأثمان بغيرها، ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض على كل حال؛ لقوله:«يدا بيد (2)» .

(مسأله) قال: (وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة) اختلفت الرواية في تحريم النساء في غير الميكل والموزون على أربع روايات:

إحداهن: لا يحرم النساء في شيء من ذلك، سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويا أو متفاضلا، إلا على قولنا: إن العلة الطعم؛ فيحرم النساء في المطعوم ولا يحرم في غيره، وهذا مذهب الشافعي.

واختار القاضي هذه الرواية؛ لما روى أبو داود عن

(1) صحيح البخاري البيوع (2134)، صحيح مسلم المساقاة (1586)، سنن الترمذي البيوع (1243)، سنن النسائي البيوع (4558)، سنن أبو داود البيوع (3348)، سنن ابن ماجه التجارات (2253)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 45)، موطأ مالك البيوع (1333)، سنن الدارمي البيوع (2578).

(2)

صحيح البخاري البيوع (2061)، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589)، سنن النسائي كتاب البيوع (4575)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 372).

ص: 57

عبد الله بن عمرو: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1)» رواه أبو داود.

وروى سعيد في سننه عن أبي معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد: (أن عليا باع بعيرا له يقال له: عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل) ولأنهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل. فجاز النساء فيهما كالعرض بالدينار، ولأن النساء أحد نوعي الربا. فلم يجز في الأموال كلها كالنوع الآخر.

والرواية الثانية: يحرم النساء في كل مال بيع بجنسه، كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب، ولا يحرم في غير ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة. وممن كره بيع الحيوان بالحيوان نساء ابن الحنفية وعبد الله بن عمير وعطاء وعكرمة بن خالد وابن سيرين والثوري.

وروي ذلك عن عمار وابن عمر؛ لما روى سمرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (2)» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل؛ فحرم النساء كالكيل والوزن.

والثالثة: لا يحرم النساء إلا فيما بيع بجنسه متفاضلا. فأما مع التماثل فلا؛ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا بيد (3)» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل. فقال: لا

(1) سنن أبو داود البيوع (3357)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 171).

(2)

سنن الترمذي كتاب البيوع (1237)، سنن النسائي كتاب البيوع (4620)، سنن أبو داود البيوع (3356)، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 19)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2564).

(3)

سنن الترمذي كتاب البيوع (1238)، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2271)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 310).

ص: 58

بأس إذا كان يدا بيد (1)» من المسند، وهذا يدل على إباحة النساء مع التماثل بمفهومه.

والرابعة: يحرم النساء في كل مال بيع بمال آخر، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، وهذا ظاهر كلام الخرقي، ويحتمل أنه أراد الرواية الثالثة؛ لأنه بيع عرض بعرض، فحرم النساء بينهما كالجنسين من أموال الربا.

قال القاضي: فعلى هذا لو باع عرضا بعرض ومع أحدهما دراهم؛ العروض نقدا، والدراهم نسيئة جاز، وإن كانت الدراهم نقدا والعروض نسيئة لم يجز؛ لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض. وهذه الرواية ضعيفة جدا؛ لأنه إثبات حكم يخالف الأصل بغير نص ولا إجماع ولا قياس صحيح.

فإن في المحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أوصافا لها أثر في تحريم الفضل، فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار. وما هذا سبيله لا يجوز إثبات الحكم فيه، وإن لم يخالف أصلا فكيف يثبت مع مخالفة الأصل في حل البيع؟

وأصح الروايات: هي الأولى؛ لموافقتها الأصل، والأحاديث المخالفة لها، قال أبو عبد الله: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا فقال: هما مرسلان. وحديث سمرة يرويه الحسن عن سمرة. قال الأثرم: قال أبو عبد الله: لا يصح سماع الحسن من سمرة. وحديث جابر قال أبو عبد الله: هذا حجاج زاد فيه (نساء) وليث

(1) مسند أحمد بن حنبل (2/ 109).

ص: 59

ابن سعد سمعه من أبي الزبير، ولا يذكر فيه (نساء)، وحجاج هذا هو حجاج بن أرطأة، قال يعقوب بن شيبة: هو واهي الحديث وهو صدوق.

وإن كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه، والآخر فيه ربا كالمكيل بالمعدود ففيه روايتان:

إحداهما: يحرم النساء فيها.

والثانية: لا يحرم. كما لو باع معدودا بمعدود من غير جنسه.

ص: 60

ثم قال:

(فصل) وإن باع شيئا فيه الربا بعضه ببعض، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، كمد ودرهم بمد ودرهم أو بمدين أو بدرهمين، أو باع شيئا محلى بجنس حليته فهذه المسألة تسمى (مسألة مد عجوة) والمذهب أنه لا يجوز ذلك. نص على ذلك أحمد في مواضع كثيرة، وذكره قدماء الأصحاب.

قال ابن أبي موسى في السيف المحلى والمنطقة والمراكب المحلاة بجنس ما عليها: لا يجوز قولا واحدا، وروي هذا عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وشريح وابن سيرين، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد رواية أخرى تدل على أنه يجوز، بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه. فإن مهنا نقل عن أحمد في أن بيع الزبد باللبن يجوز إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي

ص: 60

في اللبن، وروى حرب قال: قلت لأحمد: دفعت دينارا كوفيا ودرهما، وأخذت دينارا شاميا وزنهما سواء، لكن الكوفي أوضع؟

قال: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة، وكذلك روى عنه محمد بن أبي حرب الجرجرائي، وروى الميموني أنه سأله: لا يشتري السيف والمنطقة حتى يفصلها؟ فقال: لا يشتريها حتى يفصلها إلا أن هذا أهون من ذلك؛ لأنه قد يشتري أحد النوعين بالآخر يفصله وفيه غير النوع الذي يشتري به، فإذا كان من فضل الثمن إلا أن من ذهب إلى ظاهر القلادة لا يشتريه حتى يفصله. قيل له: فما تقول أنت؟ قال: هذا موضع نظر.

وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الدراهم المسيبية بعضها صفر وبعضها فضة بالدراهم؟ قال: لا أقول فيه شيئا. قال أبو بكر: روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمسة عشر نفسا كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل إلا الميموني، ونقل مهنا كلاما آخر، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: يجوز.

هذا كله إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه.

وقال الحسن: لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم. وبه قال الشعبي والنخعي، واحتج من أجاز ذلك بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد؛ لأنه لو اشترى لحمها من قصاب جاز مع احتمال كونه ميتة، ولكن وجب حمله على أنه مذكى تصحيحا للعقد، ولو اشترى من إنسان شيئا جاز مع احتمال كونه غير ملكه، ولا إذن له في بيعه تصحيحا للعقد

ص: 61

أيضا، وقد أمكن التصحيح هاهنا بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل.

ولنا: ما روى فضالة بن عبيد قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز، ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينهما. قال: فرده حتى ميز بينهما (1)» رواه أبو داود، وفي لفظ رواية مسلم قال:«فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، تم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن (2)» ، ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض.

بيانه: أنه إذا أشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة، كان ثمن أحدهما ثلثي العشرة والآخر ثلثها، فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن، ولذلك إذا اشترى شقصا وسيف بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهما ومدا قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث فهذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي يجهل ذلك؛ لأن التقويم ظن وتخمين، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه في باب الربا؛ ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص.

وقولهم: يجب تصحيح العقد ليس كذلك، بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، ولذلك لو باع بثمن وأطلق، وفي البلاد

(1) صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3351)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 19).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3351)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 19).

ص: 62

نقود، بطل ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من إنسان شيئا فإنه يصح؛ لأن الظاهر أنه ملكه؛ لأن اليد دليل الملك، وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى؛ لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة.

(فصل) فأما إن باع نوعين من مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس، كدينار مغربي ودينار سابوري بدينارين مغربيين، أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين، أو قراضتين أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء، أو تمرا برنيا ومعقليا بإبراحيمي فإنه يصح.

قال أبو بكر: وأومأ إليه أحمد، واختار القاضي أبو يعلى أن الحكم فيها كالتي قبلها، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته كما ذكرنا، وروي عن أحمد منع ذلك في النقد وتجويزه في الثمن. نقله أحمد بن القاسم؛ لأن الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلاطها، ويشق تمييزها، فعفي عنها بخلاف الأثمان.

ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل (1)» . . . الحديث، وهذا يدل على إباحة البيع عند وجود المماثلة المراعاة، وهي المماثلة في الموزون وزنا، وفي المكيل كيلا، ولأن الجودة ساقطة في باب الربويات فيما قوبل بجنسه، فيما لو اتحد النوع في كل واحد من الطرفين، فكذلك إذا اختلفا. واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة؛ لأنه باع ذهبا

(1) صحيح البخاري البيوع (2176)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4565)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 58)، موطأ مالك البيوع (1324).

ص: 63

بذهب متساويا في الوزن، فصح كما لو اتفق النوع، وإنما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين، أو في غير الربويات بدليل ما لو باع نوعا بنوع يشتمل على جيد ورديء.

(فصل) وإن باع ما فيه الربا بغير جنسه ومعه من جنس ما بيع به إلا أنه غير مقصود، كدار مموه سقفها بالذهب، جاز لا أعلم فيه خلافا، وكذلك لو باع دارا بدار مموه سقف كل واحدة منهما بذهب أو فضة جاز؛ لأن ما فيه الربا غير مقصود بالبيع، فوجوده كعدمه، وكذلك لو اشترى عبدا له مال، فاشترط ماله وهو من جنس الثمن جاز، إذا كان المال غير مقصود، ولو اشترى عبدا بعبد واشترط كل واحد منهما مال العبد الذي اشتراه جاز، إذا لم يكن ماله مقصودا؛ لأنه غير مقصود بالبيع فأشبه التمويه في السقف، ولذلك لا تشترط رؤيته في صحة البيع ولا لزومه، وإن باع شاة ذات لبن بلبن، أو عليها صوف بصوف، أو باع لبونا بلبون وذات صوف بمثلها، ففيه وجهان:

أحدهما: الجواز، اختاره ابن حامد، وهو قول أبي حنيفة، وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة؛ لأن ما فيه الربا غير مقصود، فلم يمنع كالدار المموه سقفها.

الثاني: المنع، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه، أشبه الحيوان باللحم، والفرق بينهما: أن اللحم في الحيوان مقصود بخلاف اللبن، ولو كانت الشاة محلوبة اللبن جاز بيعها بمثلها وباللبن وجها واحدا؛ لأن اللبن لا أثر له،

ص: 64

ولا يقابله شيء من الثمن، فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن، وحبات الشعير في الحنطة، ولا نعلم فيه أيضا خلافا، وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة جاز بكل حال.

ولو باع نخلة عليها تمر بتمر أو بنخلة عليها تمر، ففيه أيضا وجهان:

أحدهما: الجواز، اختاره أبو بكر؛ لأن التمر غير مقصود بالبيع.

والثاني: لا يجور، ووجه الوجهين ما ذكرناه في المسألة قبلها.

واختار القاضي أنه لا يجوز، وفرق بينهما وبين الشاة ذات اللبن، بكون التمرة يصح إفرادها في البيع، وهي معلومة بخلاف اللبن في الشاة، وهذا الفرق غير مؤثر، فإن ما يمنع إذا جاز إفراده يمنع وإن لم يجز إفراده، كالسيف المحلى يباع بجنس حليته، وما لا يمنع لا يمنع، وإن جاز إفراده كمال العبد.

(فصل) وإن باع جنسا فيه الربا بجنسه ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود فذلك ينقسم أقساما.

أحدها: أن يكون غير المقصود يسيرا، لا يؤثر في كيل ولا وزن، كالملح فيما يعمل فيه، وحبات الشعير في الحنطة، فلا يمنع؛ لأنه يسير لا يخل بالتماثل، وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر لم يمنع لذلك، ولو باع ذلك بجنس غير المقصود

ص: 65

الذي معه. مثل أن يبيع الخبز بالملح جاز؛ لأن وجود ذلك كعدمه.

الثاني: أن يكون غير المقصود كثيرا إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر، فهذا يجوز بيع الشيء منه بمثله، وينزل خلطه منزلة رطوبته؛ لكونه من مصلحته فلا يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب، ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط كبيع خل العنب بخل الزبيب؛ لإفضائه إلى التفاضل، فجرى مجرى بيع التمر بالرطب، ومنع الشافعي ذلك كله إلا بيع الشيرج بالشيرج؛ لكون الماء لا يظهر في الشيرج.

الثالث: أن يكون غير المقصود كثيرا وليس من مصلحته، كاللبن المشوب بالماء، والأثمان المغشوشة بغيرها، فلا يجوز بيع بعضها ببعض؛ لأن خلطه ليس من مصلحته، وهو يخل بالتماثل المقصود فيه، وإن باع بجنس غير المقصود كبيع الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم، احتمل الجواز؛ لأنه يبيعه بجنس غير مقصود فيه، فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن، ويحتمل المنع بناء على الوجه الآخر في الأصل، وإن باع دينارا مغشوشا بمثله والغش فيهما متفاوت أو غير معلوم المقدار لم يجز؛ لأنه يخل بالتماثل المقصود، وإن علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما خرج على الوجهين، أولاهما: الجواز؛ لأنهما تماثلا في المقصود وفي غيره، ولا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة؛ لكون الغش غير مقصود فكأنه لا قيمة له.

ص: 66

(فصل) ولو دفع إليه درهما، فقال: أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم، وبنصفه فلوسا، أو حاجة أخرى جاز؛ لأنه اشترى نصفا بنصف، وهما متساويان فصح، كما لو دفع إليه درهمين، وقال: بعني بهذا الدرهم فلوسا وأعطني بالآخر نصفين، وإن قال: أعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا جاز أيضا؛ لأن معناه ذلك، ولأن ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة؛ فإن قيمة النصف الذي في الدرهم كقيمة النصف الذي مع الفلوس يقينا، وقيمة الفلوس كقيمة النصف الآخر سواء.

(فصل) وما كان مشتملا على جنسين بأصل الخلقة، كالتمر الذي اشتمل على النوى وما عليه، والحيوان المشتمل على لحم وشحم وغيره، وأشباه ذلك، فهذا إذا قوبل بمثله جاز بيعه به، ولا نظر إلى ما فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع التمر بالتمر والحيوان بالحيوان، وقد علم اشتمالها على ما فيهما، ولو باع ذلك بنوع غير مقصود فيه، كبيع التمر الذي فيه النوى بالنوى. ففيه عن أحمد روايتان، قد ذكرناهما فيما مضى، فأما العسل قبل تصفيته، فقال أصحابنا: لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ لاشتماله على عسل وشمع، وذلك بفعل النحل فأشبه السيف المحلى.

(فصل) ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب. وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا

ص: 67

بينهما؛ لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب» ، ولأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام فما لم يكن كذلك كان مباحا.

ولنا: قول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1)، وقوله:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (3)، وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من زاد أو ازداد فقد أربى (4)» عام، وكذلك سائر الأحاديث، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل.

ويحتمل أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ربا (5)» النهي عن الربا كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (6)، وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله

(1) سورة البقرة الآية 275

(2)

سورة البقرة الآية 275

(3)

سورة البقرة الآية 278

(4)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(5)

صحيح البخاري النكاح (5109)، صحيح مسلم النكاح (1408)، سنن الترمذي النكاح (1126)، سنن النسائي النكاح (3291)، سنن أبو داود النكاح (2065)، سنن ابن ماجه النكاح (1929)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 489)، موطأ مالك النكاح (1129)، سنن الدارمي النكاح (2178).

(6)

سورة البقرة الآية 197

ص: 68

مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل. وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا. . . .)

ثم قال:

ص: 69

(فصل) إذا علم المصطرفان قدر العوضين جاز أن يتبايعا بغير وزن، وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدقه، فإذا باع دينارا بدينار كذلك وافترقا، فوجد أحدهما ما قبضه ناقصا بطل الصرف؛ لأنهما تبايعا ذهبا بذهب تفاضلا، فإن وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار نظرت في العقد، فإن كان قال: بعتك هذا الدينار بهذا فالعقد باطل؛ لأنه باع ذهبا بذهب متفاضلا، وإن قال: بعتك دينارا بدينار ثم تقابضا، كان الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه؛ لأنه قبضه على أنه عوض، ولم يفسد العقدة؛ لأنه إنما باع دينارا بمثله، وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فإن أراد دفع عوض الزائد جاز، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، لأنه معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ فله ذلك، لأن آخذ الزائد وجد المبيع مختلطا بغيره معيبا بعيب الشركة، ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه، إلا أن يكون في المجلس فيرد الزائد ويدفع بدله، ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير، فوفاه عشرة عددا فوجدها أحد عشر، كان هذا الدينار الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه؛ لأنه قبضه على أنه عوض عن ماله، فكان مضمونا بهذا القبض، ولمالكه التصرف فيه كيف شاء.

ص: 69

(فصل) والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في النقد، بمعنى أنه يثبت الملك بالعقد فيما عيناه، ويتعين عوضا فيه، فلا يجوز إبداله، وإن خرج مغصوبا بطل العقد، وبهذا قال مالك، والشافعي، وعن أحمد أنها لا تتعين بالعقد، فيجوز إبدالها، ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة، وهذا مذهب أبو حنيفة؛ لأنه يجوز إطلاقها قبل العقد فلا تتعين بالتعيين فيه كالمكيال والصنجة.

ولنا: أنه عوض في عقد فيتعين بالتعيين كسائر الأعواض، ولأنه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر، ويفارق ما ذكروه فإنه ليس بعوض، وإنما يراد لتقدير العقود عليه، وتعريف قدره، ولا يثبت فيها الملك بحال بخلاف مسألتنا.

(مسألة) قال: (وإذا تبايعا ذلك بغير عينه فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا؛ فله البدل إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، كالوضوح في الذهب والسواد في الفضة).

يعني اصطرفا في الذمة نحو أن يقول: بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم. فيقول الآخر: قبلت. فيصح البيع سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أو لم يكونا إذا تقابضا قبل الافتراق؛ بأن يستقرضا أو غير ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.

وحكي عن مالك: لا يجوز الصرف، إلا أن تكون العينان حاضرتين، وعنه: لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين.

وعن زفر مثله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا غائبا منها بناجز (1)» ، ولأنه إذا لم

(1) صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 51)، موطأ مالك البيوع (1324).

ص: 70

يعين أحد العوضين كان بيع دين بدين وهو غير جائز.

ولنا: أنهما تقابضا في المجلس فصح، كما لو كانا حاضرين، والحديث يراد به أن لا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض؛ بدليل ما لو عين أحدهما فإنه يصح، وإن كان الآخر غائبا والقبض في المجلس جرى مجرى القبض حالة العقد، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:«عينا بعين، يدا بيد (1)» ، والقبض يجري في المجلس كذا التعين.

فإذا ثبت هذا فلا بد من تعيينهما بالتقابض في المجلس، ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضة عيبا قبل التفرق فله المطالبة بالبدل، سواء كان العيب من جنسه أو من غير جنسه؛ لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه، فله المطالبة بما وقع عليه العقد كالمسلم فيه، وإن رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز، كما لو رضي بالمسلم فيه معيبا، وإن اختار أخذ الأرش فإن كان العوضان من جنس واحد لم يجز؛ لإفضائه إلى التفاضل فيما يشترط فيه التماثل، وإن كانا من جنسين جاز، فأما إن تقابضا وافترقا ثم وجد العيب من جنسه، فله إبداله في إحدى الروايتين، اختارها الخلال والخرقي، وروي ذلك عن الحسن وقتادة، فقد قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي: لأن ما جاز إبداله قبل التفرق جاز بعده كالمسلم فيه.

والرواية الثانية: ليس له ذلك، وهو قول أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة، والقول الثاني للشافعي؛ لأنه يقبضه بعد التفرق، ولا

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

ص: 71

يجوز ذلك في الصرف، ومن صار إلى الرواية الأولى قال: قبض الأول صح به العقد، وقبض الثاني يدل على الأول، ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس العقد، فإن تفرقا من غير قبض بطل العقد، وإن وجد البعض رديئا فرده فعلى الرواية الأولى له البدل، وعلى الثانية يبطل في المردود، وهل يصح فيما لم يرد؟ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة، ولا فرق بين كون المبيع من جنس أو من جنسين.

وقال مالك: إن وجد درهما زيفا فرضي به جاز، وإن رده انتقض الصرف في دينار، وإن رد أحد عشر درهما انتقض الصرف في دينارين، وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر.

ولنا: أن ما لا عيب فيه لم يرد، فلم ينتقض الصرف فيما يقابله، كسائر العوض. وإن اختار واجد العيب الفسخ، فعلى قولنا: له البدل، ليس له الفسخ إذا أبدل له؛ لأنه يمكنه أخذ حقه غير معيب، وعلى الرواية الأخرى له الفسخ، أو الإمساك في الجميع؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه مع إبقاء العقد. فإن اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق، لم يكن له ذلك؛ لأنه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف، إلا على الرواية الأخرى.

(فصل) ومن شرط المصارفة في الذمة: أن يكون العوضان معلومين، إما بصفة يتميزان بها، وإما أن يكون للبلد نقد معلوم أو غالب فينصرف الإطلاق إليه. ولو قال: بعتك

ص: 72

دينارا مصريا بعشرين درهما من نقد عشرة بدينار. لم يصح، إلا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار، إلا نوع واحد، فتنصرف تلك الصفة إليه، وكذلك الحكم في البيع.

(فصل) إذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمتهما لم يصح، وبهذا قال الليث والشافعي، وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة جوازه؛ لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة؛ ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدنانير من غير تعيين.

ولنا: أنه بيع دين بدين، ولا يجوز ذلك بالإجماع. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز.

وقال أحمد: إنما هو إجماع، وقد روى أبو عبيد في "الغريب" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وفسره بالدين بالدين، إلا أن الأثرم روى عن أحمد أنه سئل أيصح في هذا حديث؟ قال: لا.

وإنما صح الصرف بغير تعيين بشرط أن يتقابضا في المجلس، فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد، ولو كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئا بعد شيء نظرت، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار صح. نص عليه أحمد. وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد ذلك فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز، نص عليه أيضا؛ لأن الدنانير دين والدراهم صارت دينا فيصير بيع دين بدين.

وإن قبض

ص: 73

أحدهما من الآخر ما له عليه ثم صارفه بعين وذمة صح، وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شيء، ولم يقضه ذلك وقت دفعها إليه، ثم أحضرها وقوماها، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القضاء لا يوم دفعها إليه؛ لأنها قبل ذلك لم تصر في ملكه إنما هي وديعة في يده، فإن تلفت أو نقصت فهي من ضمان مالكها، ويحتمل أن تكون من ضمان القابض لها إذا قبضها بنية الاستيفاء؛ لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء، والمقبوض في عقد فاسد كالمقبوض في العقد الصحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه.

ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير فأخذ منه دراهم إدرارا؛ لتكون هذه بهذه لم يكن كذلك، بل كان كل واحد منهما في ذمة من قبضه، فإذا أراد التصارف أحضر أحدهما واصطرفا بعين وذمة.

(فصل) ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر، ويكون صرفا بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم، ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وروي ذلك عن ابن مسعود؛ لأن القبض شرط وقد تخلف.

ولنا: ما روى أبو داود والأثرم في سننهما عن ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر

ص: 74

يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1)»، قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر. لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر إلا ما قال أصحاب الرأي، إنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي؛ لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضا.

ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها (2)» ، وروي عن ابن عمر أن بكر بن عبد الله المزني ومسروقا العجلي سألاه عن كري لهما له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير. فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق، ولأن هذا جرى مجرى القضاء فقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس.

والتماثل هاهنا من حيث القيمة؛ لتعذر التماثل من حيث الصورة. قيل لأبي عبد الله: فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه؟ فقال: إذا كان مما يتغابن الناس به فسهل فيه ما لم يكن حيلة، ويزاد شيئا كثيرا.

(فصل) فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا فقد توقف أحمد فيه. وقال القاضي: يحتمل وجهين:

أحدهما: المنع، وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي؛ لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه، فكان القبض ناجزا في أحدهما، والناجز يأخذ قسطا من الثمن.

والآخر: الجواز، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه ثابت في الذمة بمنزلة المقبوض فكأنه رضي بتعجيل المؤجل، والصحيح الجواز

(1) سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).

(2)

سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).

ص: 75

إذا قضاه بسعر يومها، ولم يجعل للمقضي فضلا؛ لأجل تأجيل ما في الذمة؛ لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض، فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله، ولو افترق الحال لسأل واستفصل.

ص: 76

(فصل) قال أحمد: ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا، فقال: استوف حقك منه، فاستوفاه بعد يومين جاز، ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره، واستيفاء حقه من ثمنها، فباعها بدراهم لم يجز أن يأخذ منها قدر حقه؛ لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه، ولأنه متهم، ولو باع جارية بدنانير فأخذ بها دراهم، فردت الجارية بعيب أو إقالة، لم يكن للمشتري إلا الدنانير؛ لأنه الثمن الذي وقع عليه العقد، وإنما أخذ الدراهم بعقد صرف مستأنف. نص أحمد على هذه المسائل.

(فصل) إذا كان عليه دين مؤجل، فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته، لم يجز. كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة. وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك: كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله، وروي عن ابن عباس: أنه لم ير به بأسا. وروي ذلك عن النخعي وأبي ثورة؛ لأنه آخذ لبعض حقه تارك لبعضه، فجاز كما لو كان الدين حالا.

وقال الخرقي: لا بأس

ص: 76

أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته.

ولنا: أنه بيع الحلول فلم يجز، كما لو زاده الذي له الدين، فقالت له: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك. فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده، وهو يبيع بعض ماله ببعض، فدخلت المسامحة فيه، ولأنه سبب للعتق، فسومح فيه بخلاف غيره. . . .).

ثم قال:

مسألة قال: (ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما).

الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض؛ والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد. والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء (1)» ، وقوله عليه السلام:«بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد (2)» «ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا، (3)» ونهى أن يباع غائب منها بناجز، كلها أحاديث صحاح.

ويجزئ القبض في المجلس وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصراف فتقابضا عنده جاز. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: لا خير في ذلك؛ لأنهما فارقا مجلسهما.

ولنا: أنهما لم يفترقا قبل التقابض، فأشبه ما لو كانا في

(1) صحيح البخاري البيوع (2134)، صحيح مسلم المساقاة (1586)، سنن الترمذي البيوع (1243)، سنن النسائي البيوع (4558)، سنن أبو داود البيوع (3348)، سنن ابن ماجه التجارات (2253)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 45)، موطأ مالك البيوع (1333)، سنن الدارمي البيوع (2578).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(3)

صحيح البخاري البيوع (2181)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 289).

ص: 77

سفينة تسير بهما، أو راكبين على دابة واحدة تمشي بهما، وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي في قوله للذين مشيا إليه من جانب العسكر:(وما أراكما افترقتما). وإن تفرقا قبل التقابض بطل الصرف لفوات شرطه. وإن قبض البعض، ثم افترقا بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله من العوض.

وهل يصح في المقبوض؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة ولو وكل أحدهما وكيلا في القبض، فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز، وقام قبض وكيله مقام قبضه، سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض أو لم يفارقه. وإن افترقا قبل قبض الوكيل بطل؛ لأن القبض في المجلس شرط وقد فات، وإن تخايرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد بذلك؛ لأنهما لم يفترقا قبل القبض، ويحتمل أن يبطل إذا قلنا بلزوم العقد، وهو مذهب الشافعي؛ لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض، أشبه ما لو افترقا.

والصحيح الأول؛ فإن الشرط التقابض في المجلس وقد وجد، واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل، ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا، فإن الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض، ثم يشترط القبض في المجلس.

(فصل) ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم، وليس معه إلا خمسة دراهم، لم يجز أن يتفرقا قبل قبض العشرة كلها، فإن قبض الخمسة وافترقا بطل الصرف في نصف الدينار.

وهل يبطل

ص: 78

فيما يقابل الخمسة المقبوضة؟ على وجهين: بناء على تفريق الصفقة. وإن أراد التخلص فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه، أو يفسخان العقد كله، ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه، ثم يأخذ الدينار كله، فيكون ما اشتراه منه له، وما بقي أمانة في يده، ثم يفترقان، ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار، أو اشترى به منه شيئا، أو جعله سلما في شيء، أو وهبه له جاز، وكذلك إن وكله فيه.

ولو اشترى فضة بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين، وقال: أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد صح، ولو صارفه عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار؛ ليزن له حقه في وقت آخر جاز، وإن طال ويكون الزائد أمانة في يده لا شيء عليه في تلفه. نص أحمد على أكثر هذه المسائل.

فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم، فاشترى بها نصف دينار، وقبض دينارا كاملا ودفع إليه الدراهم، ثم اقترضها منه فاشترى بها النصف الباقي، أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء، ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها منه، ودفعها إليه عوضا عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة، فلا بأس.

(فصل) وإذا باع مدي تمر رديء بدرهم، ثم اشترى بالدرهم تمرا جنيبا، أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم وتقابضاها، ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة ولا حيلة، فلا بأس به.

ص: 79

قال ابن أبي موسى: لا يجوز إلا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه، فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع فيبتاع منه.

وقال أحمد في رواية الأثرم: يبيعها من غيره أحب إلي.

قلت له: فإن لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها منه؟ فقال: يبيعها من غيره فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه، فإنه إذا ردها إليه لعله أن لا يوفيه الذهب، ولا يحكم الوزن ولا يستقصي، يقول: هي ترجع إليه.

قيل لأبي عبد الله: فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذه منه من غيره فلم يجدها، فرجع إليه، فقال: إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم.

فظاهر أن هذا على وجه الاستحباب لا الإيجاب، ولعل أحمد إنما أراد اجتناب المواطأة على هذا، ولهذا قال: إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم. وقال مالك: إن فعل ذلك مرة جاز، وإن فعله أكثر من مرة لم يجز؛ لأنه يضارع الربا.

ولنا: ما روى أبو سعيد قال: «جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع؛ ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوه عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به (1)» .

وروى أيضا أبو سعيد وأبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب فقال صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله. إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل،

(1) صحيح البخاري الوكالة (2312)، صحيح مسلم المساقاة (1594)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 67).

ص: 80

بع التمر بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (1)» متفق عليهما.

ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه، ولو كان ذلك محرما لبينه له وعرفه إياه، ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة، فجاز كما لو باعه من غيره، ولأن ما جاز من البياعات مرة جاز على الإطلاق، كسائر البياعات، فأما إن تواطأ على ذلك لم يجز وكان حيلة محرمة. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ما لم يكن مشروطا في العقد.

ولنا: أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة، والحيل محرمة على ما سنذكره.

(فصل) والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما، مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك.

قاله أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل علي.

فمن ذلك: ما لو كان مع رجل عشرة صحاح، ومع الآخر خمسة عشرة مكسرة، فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه، ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسر متفاضلا، أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة، ثم وهبه الخمسة الزائدة، أو اشترى منه بها أوقية صابون أو نحوها ما يأخذه بأقل من قيمته، أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة، ثم اشترى منه

(1) صحيح البخاري البيوع (2202)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن النسائي البيوع (4553)، موطأ مالك البيوع (1314).

ص: 81

بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير.

وهكذا لو أقرضه شيئا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها، أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم.

وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز، إذا لم يكن مشروطا في العقد. وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه.

ولنا: أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها، فمسخهم قردة، وسماهم معتدين، وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتقين؛ ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى:{وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (1)، أي: لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فروي أنهم كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة، ويتركونها إلى يوم الأحد، ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري فيفتحها يوم الجمعة، فإذا جاء السمك يوم السبت جرى مع الماء في المجاري، فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد، ثم يأخذها ويقول: ما اصطدت يوم السبت ولا اعتديت فيه.

فهذه حيلة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا

(1) سورة آل عمران الآية 138

ص: 82

يأمن أن يسبق فليس بقمار (1)» رواه أبو داود وغيره، فجعله قمارا مع إدخاله الفرس الثالث؛ لكونه لا يمنع معنى القمار. وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذا أو مأخوذا منه، وإنما دخل صورة تحيلا على إباحة المحرم، وسائر الحيل مثل ذلك، ولأن الله تعالى إنما حرم المحرمات؛ لمفسدتها والضرر الحاصل منها.

(1) سنن أبو داود الجهاد (2579)، سنن ابن ماجه الجهاد (2876)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 505).

ص: 83