الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعطيل الصفات:
ثم إن القول بالمجاز قاد إلى القول بتعطيل صفات الخالق سبحانه، إذ ركبه المعطلون، للوصول إلى نفي صفاته - جل وعلا - الواردة في الكتاب والسنة.
فقد جعلوا يد الله ووجهه وساقه واستواءه ونزوله وعلوه وكلامه ونوره ومجيئه. . مجازات، لا تراد بها حقائقها، ثم انطلقوا إلى نفيها، قائلين: إنه لا يد له - سبحانه - ولا ساق، ولا وجه، ولا استواء، ولا نزول، ولا علو.
قالوا: ويدا الله في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1)، وقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) مجاز، هي بمعنى: النعمة أو القدرة.
ووجهه جل جلاله حيث ورد في الكتاب والسنة مجاز: إما على تقدير أنه لفظ زائد، أو أنه بمعنى الذات، ففي قوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3) وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (4){وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (5) يكون التقدير: ويبقى ربك، إلا ابتغاء ربه، أو: ويبقى ذات ربك، وابتغاء ذاته.
والرحمن. . الذي هو اسم من أسماء الله سبحانه، قالوا
(1) سورة ص الآية 75
(2)
سورة المائدة الآية 64
(3)
سورة الرحمن الآية 27
(4)
سورة الليل الآية 20
(5)
سورة الليل الآية 21
عنه: إنه مجاز؛ لأن الرأفة والشفقة والرحمة، إنما هي رقة تعتري القلب، وهي من الكيفيات النفسية، والله منزه عنه ذلك.
يقولون هذا، والله تعالى يقول:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (1)، وهل هناك إلحاد في أسماء الله أعظم من إنكار حقائقها، والتصريح بأنها مجازات!؟
قالوا: والمجيء الوارد في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2) وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (3) إنما هو من مجاز الحذف، وتقديره: وجاء أمر ربك.
والاستواء الوارد في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4)، مجاز، بمعنى: استولى، أو بمعنى: قصد وأقبل على خلقه، وليس هو الاستواء الذي بمعنى: استقر؛ لأن الاستواء - بهذا المعنى - لا يكون إلا للمخلوقين.
وأنكروا أن يكون الله نورا، في قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (5)، وقالوا: هذا مجاز، معناه: منور السماوات والأرض بالنور المخلوق، أو بمعنى: هادي أهل السماوات والأرض، مع العلم أن (النور) اسم من أسماء،
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2)
سورة الفجر الآية 22
(3)
سورة البقرة الآية 210
(4)
سورة طه الآية 5
(5)
سورة النور الآية 35
فهو نور وحجابه النور، وهذا ما تدل عليه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة.
كما وأنكروا صفة الفوقية والعلو للخالق سبحانه في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1)، وقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (2)، قائلين: هي مجاز، بمعنى: فوقية الرتبة والقهر، لا بمعنى: الفوقية التي هي علو ذات الشيء.
وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (3)، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (4) أنكروا أن يكون (كلام الله) بصوت وحرف على الحقيقة، وقالوا: بل هو مجاز، إذ أن الله لا يتكلم بصوت وحرف، وإلا أشبه المخلوقين، بل هو خلق كلاما أسمعه موسى.
أما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ (5)» . .، فقد قالوا: إن النزول المراد
(1) سورة الأنعام الآية 18
(2)
سورة النحل الآية 50
(3)
سورة النساء الآية 164
(4)
سورة يس الآية 82
(5)
رواه البخاري (1145) في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، ومسلم (758) في صلاة المسافرين باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل، وأبو داود (1315) في الصلاة باب أي الليل أفضل؟، والترمذي (3493) في الدعوات، باب رقم (80)، ومالك في الموطأ (498) في القرآن، باب ما جاء في الدعاء. كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
هنا: إنما هو نزول أمره سبحانه، لا نزوله هو، لأن لفظ (ينزل) هنا مجاز، لا حقيقة.
وهكذا مضوا في نفي الصفات الثابتة للخالق سبحانه بالوحي، عن طريق القول بالمجاز.
وحجتهم في ذلك كله: أن الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق، إنما تكون هي وأفعالها ومصادرها وأسماء الفاعلين والصفات المشتقة منها، حقيقة في حق المخلوق، مجازا في حق الخالق.
ولو أنا طردنا هذا القياس، فإن رب العالمين لا يكون موجودا حقيقة، ولا حيا حقيقة، ولا مريدا حقيقة، أو قادرا أو مالكا على الحقيقة؛ لأن الوجود والحياة والإرادة والقدرة والملك، هي حقائق في حق المخلوقين، فلا تكون إلا مجازات في حق خالق هؤلاء المخلوقين.
وهذا هو عينه المذهب الذي صار إليه جهم بن صفوان، ودرج عليه أصحابه من بعده.
وفي الحق أن كل من يمعن النظر في حقيقة المجاز ومآله، يجد أن هذا القول لازم لكل من ادعى المجاز في شيء من أسماء الله وأفعاله، لزوما لا محيص له عنه بحال.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعليقا على هذا الذي ذهبوا