المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ نقول عن بعض كتب الفقهاء، يستنار بها فيالتطبيق وفهم الحكم

- ‌ ابن رشد في بداية المجتهد:

- ‌المضاربة في السلع التجارية وأسواق البورصة الدولية

- ‌ الأسواق الآجلة:

- ‌الأسواق الآجلة للعملات الأجنبية

- ‌سوق الأوراق المالية (البورصة)

- ‌ملاحظات ختامية:

- ‌الفتاوى

- ‌ معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}

- ‌ معنى قوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}

- ‌ من هم عباد الرحمن وعبيد الرحمن

- ‌ تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌ سبب اختلاف ألوان عباد الله من أحمر إلى أبيض إلى أسود

- ‌ هل ثبت بالسنة الصحيحة تلاوة هذه السور يوميا (يس - الدخان - الواقعة - الملك)

- ‌ الحكمة في أمر الله إبراهيم بذبح ابنه قرة عينه إسماعيل

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه

- ‌ سئل شخص عن مسألة فأفتى فيها، وبعد مدة تبين له أن ما أفتى به غير صحيح، فماذا عليه أن يفعل

- ‌درجة حديث الصدوق ومن في مرتبته

- ‌خامسا: نتيجة هذا البحث:

- ‌الإنكار في مسائل الخلاف

- ‌ المقدمة:

- ‌المصلحة عند الحنابلة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: تتبع آراء الحنابلة في المصلحة:

- ‌الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة

- ‌مفاسد القول بالمجاز

- ‌القول بالمجاز بدعة ضلالة:

- ‌تعطيل الصفات:

- ‌تحطيم مدلول كلمة التوحيد:

- ‌قصر (الإيمان) على التصديق:

- ‌صرف ألفاظ الوحي عن دلالاتها الحقيقية:

- ‌المجاز سلم الباطنية:

- ‌نقص درجة المجاز:

- ‌خطر الربا وتغليظ تحريمه:

- ‌ما جناه الاستعمار الأوروبي على المسلمين:

- ‌الربا وأنواعه وما يجري فيه:

- ‌الخلاصة:

- ‌بيان من هيئة كبار العلماءبالمملكة العربية السعودية

- ‌الآداب الإسلامية

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة

حرام (1) فكيف يكون الهدى والإصابة في قول محرم، والنبي صلى الله عليه وسلم ذم الرؤساء الجهال الذين يفتون بغير علم فيضلون ويضلون. والأخبار تقتضي إيجاب مراجعة العلماء، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)، وعلى فرض تعارض النصوص الكلية العامة والنصوص الجزئية الخاصة، فإن ذلك لا يفيد اطراح النصوص الجزئية الخاصة، بل يعمل بها في مكان خصوصها.

(1) إحكام الفصول، 392.

(2)

سورة النحل الآية 43

ص: 293

‌الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة

المبحث الأول: حكم المصلحة المعتبرة:

قال ابن قدامة: (ما شهد الشارع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع)(1). اهـ.

وهذا فيه نظر؛ لأن المصالح المعتبرة: المصالح التي تتعلق بأحكام منصوص عليها كحل البيع.

قال الدكتور عبد العزيز الربيعة: (ما شهد الشارع باعتباره فهو حجة لا إشكال في صحته إذ المصلحة في هذا يرجع حاصلها كما يقول الغزالي إلى القياس. . . والدليل قائم باعتباره، فإنه

(1) روضة الناظر، 169.

ص: 293

نظر في كيفية استنباط الأحكام من الأصول المثمرة، ومثال ذلك: حفظ العقل فإنه مصلحة اعتبرها الشارع، فرتب عليها تحريم الخمر حفظا له، فيقاس على الخمر في التحريم كل ما أسكر من مشروب أو مأكول حفظا لهذه المصلحة.

وكذلك حفظ النفس فإنه مصلحة اعتبرها الشارع فرتب عليها وجوب القصاص في القتل بالمحدد، وجعل لانضباط ذلك أوصافا وهو أن القتل عمدا عدوانا، فيقاس على القتل بالمحدد في وجوب القصاص القتل بالمثقل بجامع القتل العمد العدوان حفظا لمصلحة حفظ النفس) (1). اهـ

ومما لا جدال فيه أن المصلحة التي اعتبرها الشارع متفق على اعتبارها.

(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 191 - 192.

ص: 294

المبحث الثاني: المصلحة الملغاة:

ا - آراء الحنابلة فيها:

جميع العلماء على أن ما يتوهم أنه مصلحة إذا كان يخالف الأدلة الشرعية فإن المصلحة لاغية لا عبرة بها، وقد وقع الإجماع على ذلك عدة قرون، فتتابعت العصور على عدم اعتبار ما يظن كونه مصلحة إذا كان يخالف دليلا من الأدلة الشرعية.

وخرق الطوفي هذا الإجماع، فقال بتقديم المصلحة على النصوص من باب التخصيص والبيان، وساق أدلة على مذهبه نسوقها:

أدلة الطوفي:

الدليل الأول: حديث: «لا ضرر ولا ضرار (1)»

(1) هذا الحديث ورد من طرق: (1) حديث ابن عباس رواه عن عكرمة: أولا: داود بن الحصين عن عكرمة: أ - إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. أبو يعلى 4/ 397، والدارقطني 4/ 228، وإبراهيم بن إسماعيل هو ابن حبيبة ضعيف وداود ثقة إلا أن روايته عن عكرمة منكرة. ب - من طريق أحمد بن رشدين ثنا روح بن صلاح ثنا سعيد بن أبي أيوب عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا عليه. رواه الطبراني 11/ 228 وفيه أحمد بن رشدين متهم. [في المعجم الكبير]. ثانيا: جابر عن عكرمة عن ابن عباس: أنا معمر عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس: وفيه جابر الجعفي ضعيف، أحمد 1/ 313، والبيهقي 6/ 69، والطبراني في الكبير 11/ 302، وابن ماجه 2/ 784 برقم (2341). ثالثا: سماك عن عكرمة: قال الزيلعي في نصب الراية 4/ 384: وله طريق آخر رواه ابن أبي شيبة حدثنا معاوية بن عمرو ثنا زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا وبحثت عنه في مظانه في المصنف فلم أجده، ورواية سماك عن عكرمة مضطربة. (2) حديث عبادة بن الصامت: رواه عبد الله بن أحمد في مسند والده (5/ 327) وابن ماجه 2/ 784 برقم (2340) من طريق فضيل بن سليمان ثنا موسى بن عقبة ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت مرفوعا وفيه إسحاق بن يحيى مجهول الحال، قال في زوائد ابن ماجه؛ منقطع؛ لأن إسحاق بن الوليد قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت. اهـ (3) حديث عائشة رضي الله عنها: أ - حديث عمرة: رواه الدارقطني 4/ 227 بسنده عن الواقدي نا خارجة عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة مرفوعا. وفيه الواقدي متروك، وشيخه خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت مختلف فيه. حديث القاسم بن محمد وورد من طريقين: الأول: رواه الطبراني في الأوسط 1/ 192: حدثنا أحمد بن رشدين، قال حدثنا روح بن صلاح قال حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن سهل عن القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعا. وفيه أحمد بن رشدين قال ابن عدي تركوه (مجمع الزوائد 4/ 110) وروح بن صلاح ضعيف. الثاني: رواه الطبراني في الأوسط أيضا 2/ 23: حدثنا أحمد قال حدثنا عمرو بن مالك الراسبي قال حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول عن أبي بكر بن أبي سبرة عن نافع بن مالك قال: حدثنا أبو سهيل عن القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعا. وأبو بكر بن أبي سبرة ضعيف رمي بالوضع. (4) حديث أبي سعيد الخدري: ورد من طريق عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. رواه الحاكم 2/ 57 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ورواه الدارقطني 4/ 77 و 4/ 228 والبيهقي 6/ 69 وفيه علتان: 1 - ما قاله البيهقي بعد روايته للحديث (6/ 70) تفرد به عثمان بن محمد بن الدراوردي، وقد أخرجه ابن عبد البر في التمهيد عن أبي علي الحسن بن سليمان الحافظ المعروف بقبيطة، عن عبد الملك بن معاذ النصيبي عن الدراوردي به، لكن عبد الملك هذا لا يعرف له حال ولا يعرف من ذكره، انظر نصب الراية 4/ 385. 2 - أن الداروردي متكلم في حفظه وقد خالفه الإمام مالك فرواه في الموطأ برقم (1426) عن عمرو بن يحيى المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فخالفه الدراوردي فمخالفة الدراوردي لمالك إما شاذة أو منكرة. (5) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: رواه الدارقطني 4/ 228: نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال أراه قال عن ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا. وأعل بأمرين: 1 - قال الزيلعي (4/ 385) عليه: وأبو بكر بن عياش مختلف فيه. اهـ، وروايته هنا عن غير الشاميين فهي مردودة. 2 - إن في إسناده ابن عطاء يعقوب وهو ضعيف. (6) حديث ثعلبة بن أبي مالك: رواه الطبراني في الكبير 2/ 86 بسنده عن إسحاق بن إبراهيم مولى مزينة عن صفوان بن سليم عن ثعلبة بن أبي مالك مرفوعا. ورواه أبو نعيم في الحلية 9/ 76 وفيه إسحاق بن إبراهيم لا يعرف. (7) حديث جابر بن عبد الله: قال الزيلعي 4/ 386: روى الطبراني في المعجم الأوسط حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل ثنا حبان بن بشر القاضي قال: ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله مرفوعا. قال في مجمع الزوائد 4/ 110: وفيه ابن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس. اهـ والحديث رواه أبو داود في المراسيل مرسلا (منقطعا) عن أبي لبابة. (8) حديث أبي لبابة: قال أبو داود في المراسيل ص (207): عن محمد بن عبد الله القطان عن عبد الرحمن عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن أبي لبابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار ". وذكر فيه قصة له. والحديث منقطع وفي سنده ابن إسحاق. (9) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: رواه مالك في الموطأ برقم (1426) باب القضاء في المرافق عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا ضرار "، ورواه عن الشافعي في سنده 2/ 134 و 2/ 165 والسند صحيح لكنه منقطع فيحيى لم يدرك أبا أمامة. (انظر نصب الراية 4/ 384 - 386) وسلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 443 - 448).

ص: 295

فالضرر والمفاسد منتفية شرعا.

ص: 296

ولو كان ذلك الضرر في اتباع النصوص فإن الضرر يزال

ص: 297

شرعا، مما يدل على تقديم المصالح على النص، فنفي الضرر والضرار يستلزم رعاية المصلحة، فيجب تقديمها إذن على جميع الأدلة عملا بهذا الحديث.

وأجيب:

أ - بأن الحديث فيه ضعف وأحسن درجاته أن يكون حسنا لغيره، فيكون من أقل درجات الحديث المقبول، فكيف يقدم على جميع الأدلة الشرعية.

ب - أن هذا الحديث خبر آحاد، وغيره من الأدلة متواتر نقلا ومعنى، ولا يقول عاقل بتقديم خبر آحاد على المتواتر.

ج - أن الحديث نفي للضرر والضرار، والضرر هو كل ما عده

ص: 298

الشارع كذلك، فالأحكام الشرعية لا ضرر فيها، فلا تعارض بينها وبين الحديث، فكل له مجال يخالف الآخر، إذ الحديث نهي للعباد بطريق النفي عن الإضرار بالغير، كما قال تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (1).

د - أن الحديث عام، والأدلة الشرعية الأخرى في مجالها خاصة، وإذا تقابل العام والخاص قدم الخاص فيما يختص به.

هـ - أن هذا الاستدلال مبني على أن المصالح يتصور أن تعارض النصوص وهو خطأ ظاهر.

الدليل الثاني: أن الشرع اهتم بالمصلحة جملة وتفصيلا وبنى عليها الأحكام، فإن أحكام الله معللة بمصلحة العباد، فيجب علينا أن نسير على هذا المنهج فنحكم بالمصالح ولو خالفت النصوص.

وأجيب:

بأن هذا الدليل مبني على تضمن أحكام الشرع للمصالح، وأصل المسألة حكم النصوص التي تعارض المصالح، فالدليل يخالف الدعوى ويبطلها.

الدليل الثالث: قال: من المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية فهي أولى، كيف وهي من مصلحة معاشهم.

(1) سورة البقرة الآية 233

ص: 299

وأجيب:

أ - أن هذا الاستدلال اعتراض على الله في فعله، والله عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

ب - أن مقتضى هذا الدليل تضمن الأحكام الشرعية للمصالح، فإذا كانت الأحكام الشرعية متضمنة للمصالح فكيف يوجد التعارض بينهما.

الدليل الرابع: أن رعاية الشارع للمصلحة محل وفاق، والإجماع محل خلاف، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.

وأجيب:

أ - أن هذا الاستدلال مبني على الإجماع على المصلحة، وهو يتضمن في نفسه تضعيف دليل الإجماع. وهذا تناقض.

ب - لا تلازم بين القول برعاية المصالح، وبين تقديم رعاية المصالح على الإجماع، فالمسألتان تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى، وكل من قال بالمصلحة قدم الإجماع عليها.

ج - أن الخلاف في المصالح قديم معروف، ولا وجه لإنكار هذا الخلاف، فالقائلون بالإجماع وحجيته أكثر من القائلين برعاية المصالح.

د - أن المخالف في الإجماع شذاذ، كالشيعة، وبعض الخوارج

ص: 300

والنظام، وهم محجوجون بالأدلة الشرعية الكثيرة الدالة على اعتباره.

هـ - أن الشيعة لا يقولون برعاية المصالح؛ لأنها رأي، والدين لا يقال بالرأي وإنما يتلقى عن المعصوم، والخوارج مختلفون في أمرها، وهم يقولون: إن الحكم إلا لله، ونقل عن النظام جواز اجتماع الأمة على الرأي والقياس، ورعاية المصالح تعتمد على الرأي والقياس، فكيف يقول النظام برعاية المصالح.

وأن المتفق عليه هو رعاية الشارع للمصلحة، والمراد بالبحث هنا هو اتباعنا للمصلحة المخالفة للنصوص الشرعية، وفرق بين رعاية الشارع للمصلحة وبين اتباع المصالح المخالفة للنصوص.

ز - أن الدليل مبني على أن الشارع رعى المصالح، ومعناه: أنه استقصاها فلم يبق شيء منها لم يرعه، فنصوصه راعية للمصالح، فالمصالح والنصوص دائما مجتمعة فكيف يتصور التعارض بين النصوص وما تضمنته من المصالح.

الدليل الخامس: أن النصوص سبب للخلاف في الأحكام، لأن كثيرا منها متعارض والمصلحة سبب للاتفاق؛ لأنها لا تختلف، واتباع ما يؤدي إلى الاتفاق مقدم على ما يؤدي إلى

ص: 301

الخلاف إذ الخلاف مذموم شرعا.

وأجيب:

أ - أن النصوص يصدق بعضها بعضا فلا تتعارض، فقد نفى الله عز وجل عنها الاختلاف والتناقض، قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1).

ب - أن المصالح مختلفة باختلاف الآراء والأهواء والأزمنة والأمكنة، بخلاف النصوص فهي لا تختلف باختلاف ذلك.

ج - أن هذا الاستدلال مبني على دعوى اختلاف النصوص، سواء ما كان في العادات أو العبادات أو المعاملات، فهذا يقضي أن تعطى النصوص كلها نتيجة واحدة من أجل هذا الاختلاف والتعارض، لكننا نراه يفرق بين أحكام المعاملات - فيجعل المصالح أولى من النصوص - وبين العبادات فيجعل النصوص مقدمة على المصالح.

الدليل السادس: أن هناك نصوصا قدمت المصلحة على النصوص، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد الأحزاب:«لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة (2)» ، فصلى بعضهم قبلها، فقررهم على ذلك إذ فيه تقديم المصلحة

(1) سورة النساء الآية 82

(2)

رواه البخاري 7/ 408 كتاب المغازي: باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، ومسلم (1770) كتاب الجهاد والسير: باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين.

ص: 302

(مصلحة إدراك الوقت) على النص، وحديث:«لولا أن قومك حديثوا عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة (1)» .

وهذا يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب، فتركه لمصلحة الناس. وذكر في ذلك آثارا عن الصحابة.

وأجيب:

أ - أن المصلحة أن الإمام مطاع في كل أوامره، وأن الشرع يقدم على أهواء الناس، ولكنه ترك هذه المصلحة هنا للنصوص.

ب - أن هذه القضايا حصلت في أمور العبادة، والطوفي لا يقول بتقديم المصالح على النصوص في أمور العبادات.

ج - أن المعارضة هنا ليست بين النصوص والمصالح، بل بين النصوص والنصوص، إذ من السنة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم.

د - ما ذكر من الآثار ما هي إلا اختلاف في الأفهام، واجتهادات الصحابة منها ما أقروا عليها، ومنها ما لم يقروا عليها، وقول الصحابي إذا خالف النص فلا عبرة به، وهذه المعارضة التي سلكها الصحابة رضوان الله عليهم لم تكن

(1) أخرجه مسلم (1333) كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها، عن عائشة رضي الله عنها -

ص: 303

من قبيل النظر في المصلحة المجردة عن الدليل، بل إنهم يستندون في ذلك إلى أدلة أخرى، فهذا اجتهاد في النصوص.

تنبيه:

الطوفي بنى رأيه على فرض تضمن بعض النصوص ضررا يعارض مصلحة راجحة، وهذا خطأ وباطل، وعليه فتقديم المصلحة على النص والإجماع محال غير متصور الوقوع، فإن فرض مخالفة المصلحة للكتاب والسنة والإجماع مجرد فرض لا واقع له، ويشهد لذلك أنه لم يقدم لما فرضه مثالا واحدا من الواقع، والأعجب من هذا أن الطوفي نفسه قد مهد لبيان كون هذا محالا إذ ساق الأدلة على أن كتاب الله جاء مهتما بمصالح الخلق متضمنا لها واستدل لذلك بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1){قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (2)، وذكر سبعة وجوه لدلالتها على ذلك (3).

3 -

أدلة الجماهير:

الدليل الأول: أن النصوص الشرعية قد اشتملت على المصالح الراجحة فلا يحتمل أن تعارض المصلحة مطلقا.

(1) سورة يونس الآية 57

(2)

سورة يونس الآية 58

(3)

أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص (127).

ص: 304

الدليل الثاني: لو فتح باب تغيير الأحكام الثابتة بالنصوص استنادا للمصالح، لكان في ذلك اندراس معالم الدين بالكلية، فهذا القول يفتح مجال العبث واللعب بأدلة الشريعة وأحكامها، بحجة المصلحة بل قد يبيح الزنا وبعض المعاملات الربوية وبعض المسكرات، وتوضع القوانين البشرية وتوجد المحرمات ويحارب شرع الله بحجة المصلحة المزعومة، أعاذ الله الأمة الإسلامية من ذلك (1).

الدليل الثالث: أن النصوص مراعية للمصالح بالإجماع، فلا سبيل لتعارض المصالح مع النصوص.

الدليل الرابع: أن العلماء مجمعون من العصور الأولى إلى عصر الطوفي على أن العبرة بالنصوص، ولا يلتفت لما يتوهم كونه مصلحة ما دامت معارضة للنصوص.

الدليل الخامس: قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2) فقد أثبت مصالح في الخمر والميسر ومع ذلك فهما محرمان بالاتفاق لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3).

(1) أصول الفقه وابن تيمية، ص (464).

(2)

سورة البقرة الآية 219

(3)

سورة المائدة الآية 90

ص: 305

المبحث الثالث: المصلحة المرسلة:

1 -

تحرير محل النزاع:

أ - نقل كثير من العلماء عدم جواز الاستصلاح في أحكام العبادات، لأنها تعبدية وليس للعقل سبيل إلى إدراك المصلحة الجزئية لكل منها.

وكذا لا يجوز اللاستصلاح في أحكام المقدرات كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق، لأنها مثل أحكام العبادات حيث استأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به.

واختلف العلماء في بناء الأحكام على المصلحة المرسلة فيما عدا أحكام العبادات والمقدرات.

ب - حكى ابن قدامة في "روضة الناظر"(1). الاتفاق على عدم جواز بناء الأحكام على المصالح المرسلة في رتبة الحاجيات والتحسينيات، وحصر الخلاف فيما كان في رتبة الضروريات.

ويلاحظ عليه عدم الضابط الدقيق الذي يمكن به

(1) روضة الناظر، ص (169).

ص: 306

معرفة الضروريات من الحاجيات، ثم إن النزاع موجود أيضا في رتبة التحسينيات والحاجيات.

2 -

منشأ الخلاف:

قال د. التركي: معظم الغموض في هذه القواعد منشؤه الاكتفاء بالتراجم والمعاقد دون التهذيب بالأمثلة (1).

وقال د. صالح المنصور: هذا النوع - المصالح المرسلة - لم يذكر له العلماء مثالا صحيحا مطابقا له، بل يكاد يكون متعذرا إذ أن المصالح التي قال بها الأئمة مصالح مشهود لجنسها بالاعتبار، ولا يتصور أن توجد واقعة مسكوت عنها في الشرع، لأنه يلزم منه عدم إكمال الدين والنعمة، وهذا خلاف ما أخبر الله به (2).

وقال الغزالي: والصحيح أن الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور حتى نتكلم فيه بنفي أو إثبات، إذ الوقائع لا حصر لها وكذا المصالح، وما من مسألة تفرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالرد، فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكم الله تعالى (3).

3 -

نوع الخلاف:

قال د. صالح المنصور: في الواقع أن الذين يعتبرونها -

(1) أصول مذهب الإمام أحمد، ص (414)، وإرشاد الفحول، ص (208).

(2)

أصول الفقه وابن تيمية، ص (459).

(3)

المنخول، ص (395).

ص: 307

المصالح - لا يعتبرونها أصلا قائما بذاته من غير أن يكون دالا على اعتبارها نصوص الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة، فهم في الواقع يعتبرون الأصل النصوص ومقاصد الشريعة، فصار ذلك خلافا لفظيا فحسب (1).

وقال د. عبد العزيز الربيعة: يرجع اختلاف العلماء في حكم الاحتجاج باللاستصلاح إلى الأسباب الآتية: أنهم لم يحددوا المقصود باعتبار الاستصلاح عند نقلهم الخلاف فيه، فهل المقصود اعتباره أصلا مستقلا من أصول الاجتهاد، أو المقصود اعتباره في جملة دلائل الاجتهاد الأخرى ورده إليها، فمن أنكره أنكر استقلاله، ومن احتج به أراد دخوله في دلائل الاجتهاد الأخرى (2).

وهذا فيه نظر، فإن من نفى اعتبار المصالح لم يجعلها من جملة دلائل الاجتهاد.

4 -

أقوال الحنابلة في المصالح المرسلة:

أ - جمهور متقدمي الحنابلة على عدم جعل المصلحة المرسلة أصلا شرعيا تبنى عليه الأحكام.

ب - وبعض المتقدمين وأكثر المتأخرين على جواز بناء الأحكام

(1) أصول الفقه وابن تيمية، ص (469).

(2)

الأدلة المختلف في الاحتجاج بها

ص: 308

الشرعية على المصالح المرسلة.

5 -

أدلة اعتبارها:

الدليل الأول: أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة فيه تحقيق لمصالح الناس، والأحكام الشرعية إنما شرعت لتحقيق مصالح الناس، فتكون الأحكام المبنية على المصلحة المرسلة شرعية، حيث إن فيها تحقيقا لمصالح الناس، وإذا كانت شرعية فالاستصلاح حجة (1).

لكن المنازع ينازع في تحقيق المصالح بالاستصلاح، فيقول: إن الشرع بأدلته قد استكمل المصالح وقام بتحصيل جميعها، فلا حاجة لبناء الأحكام على المصالح المرسلة، وهذا يدل على عدم اعتبار الاستصلاح.

الدليل الثاني: أن الشريعة الإسلامية عامة لكل الناس وخاتمة للشرائع كلها، ومستوعبة لمصالح البشر على اختلاف وقائعهم وأمكنتهم وأزمانهم وأحوالهم، ولن يتأتى وصفها بذلك إلا إذا قلنا بأن الاستصلاح حجة.

(1) مصادر التشريع، ص (90)، أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص (237)، روضة الناظر، ص (170).

ص: 309

وأجيب:

بأن الله عز وجل قد بين في كتابه أنه قد أكمل الدين وأتم النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (1) فالشرع قد استكمل المصالح، فالمصالح مستكملة منذ ذلك الحين فلا حاجة بالاستصلاح.

الدليل الثالث: أن المصالح التي بنيت عليها أحكام المعاملات ونحوها معقولة، فقد شرع لنا ما يدرك العقل نفعه وحرم علينا ما يدرك العقل ضرره، فالحادثة التي لا حكم من الشارع فيها يكون حكم المجتهد فيها بناء على ما يدركه عقله فيها من نفع أو ضرر مبنيا على أساس معتبر من الشارع (2).

وأجيب:

أ - بأن العقل لا يدرك نفع جميع ما شرع الشارع، ولا يدرك قدر جميع ما نهى عنه الشارع، فقد شرع لنا كل أمر فيه مصلحة راجحة، ولو لم يدركها العقل، وحرم علينا كل ما فيه مضرة راجحة ولو لم يدرك العقل ضرره.

ب - أن نظر العقل واستحسانه ليس أساسا معتبرا من الشارع مطلقا.

(1) سورة المائدة الآية 3

(2)

أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص (240)، مصادر التشريع فيما لا نص فيه، ص (91).

ص: 310

الدليل الرابع: إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح المعتبرة لوجود المعنى المناسب فيه.

وأجيب:

بأن المصالح المرسلة كما أنها من جنس المصالح المعتبرة، هي أيضا من جنس المصالح الملغاة، فيؤدي إلى كون الوصف الواحد معتبرا ملغيا بالنظر إلى حكم واحد وهو محال.

ونوقش هذا الجواب: بأن ترجيح إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح الملغاة على إلحاقها بالمصالح المعتبرة، ترجيح بلا مرجح، والأصل هو اعتبار الأوصاف لا إلغاؤها.

وردت هذه المناقشة: بأن إلحاق المصالح المرسلة بالمعتبرة ترجيح بلا مرجح، ثم الأصل هو الإلغاء للمصالح المرسلة، لأن الأصل في الأشياء أن لا تكون دليلا ولا حجة، فمن قال بخلاف الأصل فقال بكونها حجة طلب منه الدليل، فالأصل هو إلغاء حجية الأمور المستدل بها حتى تثبت حجيتها بالأدلة، والأصل لا يطلب الدليل عليه، فكان الأصل هو إلغاء المصالح المرسلة.

الدليل الخامس: أنه إذا لم يفتح باب الاعتماد على المصالح المرسلة جمد التشريع الإسلامي ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات.

وأجيب:

أ - أن هناك وسائل أخرى سلكتها الشريعة لتنظيم أحوال البشر

ص: 311

باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، مثل القواعد العامة ووسائل تطبيقها، فيأتي المجتهد فيجتهد في تطبيقها على الوقائع الحادثة.

ب - أن هذا الاستدلال معارض بما هو مثله فيقال: أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة، يفتح بابا للطعن في الشريعة بكونها من وضع البشر، وفيها نسبة للشريعة بالنقص.

الدليل السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم ومنهم الخلفاء الراشدون عملوا بالاستصلاح فيما طرأ لهم من حوادث لم يكن فيها حكم من قبل، وليس لها نظير فتقاس عليه، فحكموا فيها بأحكام مبنية على مصالح لم يقم دليل معين على اعتبارها فدل ذلك على أن الاستصلاح حجة.

ومن تلك القضايا:

أ - جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن.، لكن هذا المثال فيه نظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القران وبحفظه، والجمع في مصحف واحد من باب الكتابة والحفظ، فهذا نوع من الحفظ فله أصل معين فلا يصح الاستدلال به هنا.

ص: 312

ب - أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين.، وهذا إما أنه من باب التعزير والسياسة الشرعية لما رأى الناس عتوا وفسقوا (1).، أو قياسا على حد القذف، كما ورد عن عبد الرحمن بن عوف إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فأرى أن جلده حد الفرية.

ج - وقف عمر لتنفيذ حد السرقة عام الجماعة (2).، وهذا قياس على المضطر فله أصله في الشريعة، والحدود تدرأ بالشبهات.

د - ما ورد عن علي رضي الله عنه من تضمين الصناع، لكن هذا من باب السياسة الشرعية.

هـ - قتل الجماعة بالواحد (3).، لكن هذا يدخل ضمن النصوص العامة، كحديث:«من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يؤدى وإما أن يقاد (4)» . وهذا عام في القاتل الواحد والجماعة، أو من باب قياس الجماعة على الواحد.

الدليل السابع: أنه يلزم من عدم اعتبار المصلحة المرسلة

(1) كما ورد مصرحا به في رواية الشيخين.

(2)

رواه عبد الرزاق في المصنف 10/ 242، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 27.

(3)

أخرجه البخاري، (12/ 226) كتاب الديات: باب إذا أصاب قوم من رجل. . . من فعل عمر.

(4)

أخرجه البخاري، (12/ 182)، ومسلم برقم (1355)، والنسائي 8/ 38، وأبو داود برقم (5405).

ص: 313

خلو كثير من الحوادث عن الأحكام ضرورة كون النصوص متناهية والحوادث غير متناهية، وعموم الشريعة وخلودها وعدم تفريطها في شيء يأبى ذلك (1).

وأجيب:

بأن هذا الاستدلال يعارض قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (2) وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3). وإن من إعجاز النصوص كونها شملت جميع الأحكام لجميع الوقائع، إما مباشرة أو دلالة واستنباطا، فالحوادث لا يمكن خلوها من الأحكام الشرعية مطلقا.

ثم ذلك لا يستلزم العمل بالمصالح المرسلة لأنه قد يصار إلى البراءة الأصلية فلا حاجة إلى المصالح المرسلة.

6 -

أدلة المانعين:

الدليل الأول: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (4)، وقال:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (5).

وجه الاستشهاد:

أ - أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة ليس مشروعا لأن

(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ص 348.

(2)

سورة المائدة الآية 3

(3)

سورة الأنعام الآية 38

(4)

سورة النساء الآية 59

(5)

سورة الشورى الآية 10

ص: 314

الاستصلاح ليس كتابا ولا سنة، والآيات حصرت ما يرجع إليه في الكتاب والسنة عند الاختلاف وما كان زائدا عنهما فليس بحجة، وبهذا يتبين أن الاستصلاح ليس بحجة.

ب - أنه في هاتين الآيتين أمرنا برد المتنازع فيه والمختلف عليه إلى الكتاب والسنة. وبرد الاستصلاح إلى الكتاب والسنة لا نجده فيهما.

وأجيب:

بأن الاستصلاح يرجع إلى حفظ مقصود الشارع، فإنها وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشرع على اعتبارها، إلا أنها معتبرة جملة، وبهذا يكون إسناد الأحكام إلى المصالح المرسلة طريقا من طرق الرد المشروعة (1).

الدليل الثاني: أن الشرع قد استكمل المصالح فرعاها كلها بأحكامه، لأن الدين قد أكمل في العهد النبوي قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (2). والقول بالاستصلاح يعني: أن هناك مصالح باقية لم يكفلها الشرع، وهذا ينافي ما تقدم من إكمال الدين وإتمام النعمة.

الدليل الثالث: أن الدليل إنما يكون شرعيا إذا جعله الشرع كذلك، وليس هناك في دليل صحيح صريح على جعل الاستصلاح

(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص 345.

(2)

سورة المائدة الآية 3

ص: 315

حكما شرعيا.

الدليل الرابع: أن الشرع لم يعتبر المصالح المرسلة، فالمصلحة المرسلة ليست مشروعة لعدم اعتبار الشرع لها.

الدليل الخامس: أن المصالح المرسلة مترددة بين المصالح الملغاة والمصالح المعتبرة وليس إلحاقها بأحدهما أولى من الآخر.

وأجيب:

أ - بأن هذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشارع على اعتبارها، إلا أنها معتبرة منه على سبيل الجملة، فكان إلحاقها بالمعتبر أولى من إلحاقها بالملغي.

ب - أن عدم الاحتجاج بالاستصلاح يعني إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح الملغاة، وليس إلحاقها بها أولى من إلحاقها بالمصالح المعتبرة إذ هو ترجيح بلا مرجح.

ورد بأن الأصل عدم كون الأمور المستدل بها أدلة حتى يأتي الدليل الصحيح على كونها أدلة، فمع ترددها بين الاعتبار والإلغاء يصار إلى الأصل وهو عدم حجيتها.

وأيضا أن ترددها بين المصالح الملغاة والمعتبرة يلزمنا بالتوقف فيها ومعنى التوقف فيها عدم استخدامها دليلا.

الدليل السادس: أن في العمل بالمصالح المرسلة مجالا

ص: 316

للأهواء والشهوات والأغراض فقد يغلب على المرء هواه فيرى المفسدة مصلحة والمضرة منفعة، فالإنسان مهما كمل لا يأمن أن يغلب هواه عليه وأن يزين له السوء ويجعله حسنا.

الدليل السابع: أن العقل قد تخفى عليه بعض وجوه الضرر والفساد، فالعقل مهما نضج لا يأمن من أن يخفى عليه بعض وجوه النفع والضرر.

الدليل الثامن: أن بناء الحكم على المصالح المرسلة بدون العلم بأن الشارع أثبت الأحكام حفظا لهذه المصلحة وضع للشرع بالرأي وحكم بالعقل المجرد وما كان كذلك فلا يصح التمسك به، فالاستصلاح ليس بحجة.

وكون الشارع اعتبرها بالجملة لا يعني أنه عرف من الشرع المحافظة على ذلك بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة على المصلحة، فإنه لم يعرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق، ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ في الردع والزجر، ولم يشرع القتل في السرقة، فإذا ثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم، كان وضعا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد (1).

(1) روضة الناظر، ص 170.

ص: 317

وأجيب:

أ - بأن الشارع حافظ على كل واحدة من المصالح بالأحكام المناسبة لحفظها، لا بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة عليها دون نظر للأنسب، والمجتهد في الاستصلاح مأمور ببذل جهده في اختيار الحكم الأنسب لحفظ المصلحة، وهي وظيفة منحها الله إياه وجعل تأديته لها على الوجه المطلوب أمانة في عنقه، فلا نسلبها منه بحجة أنه لم يعرف من الشارع أنه حافظ على كل واحدة من المصالح بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة عليها.

ب - أن الأحكام المبنية على هذه المصالح من قبيل التعزيرات لا من قبيل الحدود، والتعزيرات لا مانع من تغييرها بتغير البيئات والأحوال والأمكنة والأزمنة حفاظا على المصلحة، أما الحدود فلا تتغير، وإذا كان كذلك بطل ما أثاروه.

الدليل التاسع: أنه لو جاز الاستصلاح لما احتجنا إلى بعثة الرسل.

الدليل العاشر: أن جواز الاستصلاح يترتب عليه مفاسد كثيرة من وضع الشرع بالرأي، ومساواة العامي للعالم في ذلك؛ لأن كل واحد يعرف مصلحته، ونسبة النقص إلى النصوص.

فإذا عملنا بالاستصلاح وجعلناه دليلا شرعيا، فإن مما يدل عليه عدم الاحتجاج بالاستصلاح ذاته لما يترتب عليه من أضرار.

ص: 318

وهذا استدلال ضعيف؛ لأنه احتجاج بالاستصلاح على عدم حجيته.

الدليل الحادي عشر: أن القول ببناء الأحكام على المصالح المرسلة حصل منه اضطراب في الدين عظيم، فكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه.

فالقول بالمصالح المرسلة يشرع في الدين ما لم يأذن به الله غالبا. بل إن النصارى إنما ضلوا بجعل المصالح من شرعهم (1).

الدليل الثاني عشر: أن القول بالاستصلاح يشبه في كثير من الوجوه التحسين العقلي، فالتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن وحده، والحسن هو المصلحة. فالقول بالاستصلاح من جنس قول المعتزلة بالتحسين العقلي.

الدليل الثالث عشر: أن العقول تختلف فبعض العقول تجعل المصلحة في جانب، وعقول أخرى تجعل المصلحة في جانب مناقض له، فأيهما يعتمد والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والعقول والبيئات.

(1) مجموع فتاوى شخ الإسلام ابن تيمية، 11/ 342.

ص: 319

7 -

شروط اعتبار المصلحة عند من قال بها:

1 -

عدم معارضة دليل أقوى منها من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس.

2 -

اعتبار الشارع لجنس المصلحة، فتكون المصلحة المرسلة ملائمة لتصرفات الشرع. وإن لم يكن لها أصلا معينا.

3 -

أن يكون المحدد للمصلحة مجتهدا؛ لأن تقدير المصالح من باب الاجتهاد وشروط الاجتهاد لا بد من توفرها فيه.

4 -

أن تكون المصلحة حقيقة لا وهمية، ويعرف ذلك بإنعام النظر والبحث والاستقراء.

5 -

أن تكون المصلحة عامة لا شخصية.

6 -

أن لا يكون للأهواء والشهوات فيها مدخل.

7 -

أن لا تكون في العبادات ولا في المقدرات.

قال الذين يحتجون بالمصالح المرسلة: إنه باستكمال المصلحة لهذه الشروط لا يبقى لمن منع الاحتجاج بها دليل صحيح. مما يدل على حجية الاستصلاح.

وهذا فيه نظر من جهتين:

الأولى: أن هناك أدلة للمانعين من الاحتجاج بالمصالح المرسلة لا تزول، كالاستدلال باستكمال الشرع للمصالح،

ص: 320

والاستدلال بخفاء وجوه الضرر والصلاح، وشبه الاستصلاح بالتحسين العقلي، واختلاف العقول.

الثاني: أن المانعين للاحتجاج بالاستصلاح يكفيهم التمسك بالأصل، فالأصل عدم حجية ما يستدل به الخصم، حتى يقيم الخصم الدليل الصحيح القوي.

8 -

الترجيج:

بالنظر في أدلة الفريقين: وجدت أنه لا حاجة إلى تقرير الاستصلاح دليلا مستقلا، بل يكفي عنه عدة قواعد أخرى صحيحة منها:

أ - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ب - الوسائل لها أحكام المقاصد.

ج - الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة.

د - تصرف الإمام منوط بالمصلحة. (ومثله أهل الولايات في ولاياتهم).

هـ - صحة العمل بالقرائن في الأحكام والقضية.

9 -

ثمرة الخلاف:

ذكر في: " تخريج الفروع على الأصول " مثال واحد لهذه المسألة (المسألة السادسة من كتاب الجراح)، وذكر الدكتور مصطفى الخن في: " أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في

ص: 321

اختلاف الفقهاء" مثالين، والدكتور مصطفى البغا في: " أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي " ذكر خمسة عشر مسألة ردها إلى الاختلاف في الأخذ بالمصلحة المرسلة، ويمكن رد النزاع في جميع هذه الأمثلة إلى أصول أخر.

هذا ما يبدو لي والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

ص: 322