المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإنكار في مسائل الخلاف للدكتور عبد الله بن عبد المحسن بن - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ نقول عن بعض كتب الفقهاء، يستنار بها فيالتطبيق وفهم الحكم

- ‌ ابن رشد في بداية المجتهد:

- ‌المضاربة في السلع التجارية وأسواق البورصة الدولية

- ‌ الأسواق الآجلة:

- ‌الأسواق الآجلة للعملات الأجنبية

- ‌سوق الأوراق المالية (البورصة)

- ‌ملاحظات ختامية:

- ‌الفتاوى

- ‌ معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}

- ‌ معنى قوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}

- ‌ من هم عباد الرحمن وعبيد الرحمن

- ‌ تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌ سبب اختلاف ألوان عباد الله من أحمر إلى أبيض إلى أسود

- ‌ هل ثبت بالسنة الصحيحة تلاوة هذه السور يوميا (يس - الدخان - الواقعة - الملك)

- ‌ الحكمة في أمر الله إبراهيم بذبح ابنه قرة عينه إسماعيل

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه

- ‌ سئل شخص عن مسألة فأفتى فيها، وبعد مدة تبين له أن ما أفتى به غير صحيح، فماذا عليه أن يفعل

- ‌درجة حديث الصدوق ومن في مرتبته

- ‌خامسا: نتيجة هذا البحث:

- ‌الإنكار في مسائل الخلاف

- ‌ المقدمة:

- ‌المصلحة عند الحنابلة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: تتبع آراء الحنابلة في المصلحة:

- ‌الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة

- ‌مفاسد القول بالمجاز

- ‌القول بالمجاز بدعة ضلالة:

- ‌تعطيل الصفات:

- ‌تحطيم مدلول كلمة التوحيد:

- ‌قصر (الإيمان) على التصديق:

- ‌صرف ألفاظ الوحي عن دلالاتها الحقيقية:

- ‌المجاز سلم الباطنية:

- ‌نقص درجة المجاز:

- ‌خطر الربا وتغليظ تحريمه:

- ‌ما جناه الاستعمار الأوروبي على المسلمين:

- ‌الربا وأنواعه وما يجري فيه:

- ‌الخلاصة:

- ‌بيان من هيئة كبار العلماءبالمملكة العربية السعودية

- ‌الآداب الإسلامية

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ‌الإنكار في مسائل الخلاف للدكتور عبد الله بن عبد المحسن بن

‌الإنكار في مسائل الخلاف

للدكتور عبد الله بن عبد المحسن بن منصور الطريقي

الحمد لله الذي جعل الدين شرعة ومنهاجا، وأصلي وأسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:

فإن الخلاف أمر حتمي في حياة الأمة، إما لاختلاف الملل والنحل أو لاختلاف الأسس التي تستنبط في ضوئها الأحكام، أو لتفاوت المدارك العلمية في استظهار الحق ومعرفته.

لذا هل كل خلاف معتبر من الناحية الشرعية؟ وهل يستوجب الإنكار على القائل به؟

ولإيضاح ذلك قمت بإعداد هذه الدراسة التي أسميتها "الإنكار في مسائل الخلاف"، وهي تتكون من مقدمة وبابين:

أما‌

‌ المقدمة:

ففي أن الخلاف أمر طبيعي في حياة المسلمين، وبيان الحكمة من خفاء الحكم.

أما الباب الأول: ففي حقيقة الخلاف، وفيه خمسة فصول:

الفصل الأول: في معنى الخلاف.

الفصل الثاني: في الفرق بين الخلاف والمخالفة.

ص: 193

الفصل الثالث: في أسباب الخلاف، وبعض الأمثلة لذلك.

الفصل الرابع: في كلام الأئمة في ترك قولهم اتباعا للحق.

الفصل الخامس: مخالفة التلاميذ لأئمتهم اتباعا للحق.

أما الباب الثاني: ففي حكم الإنكار في المسائل الخلافية، وفيه ستة فصول:

الفصل الأول: في الإنكار على أهل الأهواء والبدع، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في الإنكار على أهل البدع.

المطلب الثاني: في الإنكار على من يخالف لهوا في نفسه، أو إرضاء لغيره.

الفصل الثاني: في الإنكار على من يأخذ بالقول المرجوح أو الضعيف.

الفصل الثالث: في الإنكار على من يأخذ بأخف القولين.

الفصل الرابع: في الإنكار على المجتهدين أو على مقلديهم في الفروع، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وخالف نصا أو إجماعا أو قاعدة شرعية.

المطلب الثاني: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وأخذ بقول لم يخالف به دليلا أو قاعدة شرعية.

الفصل الخامس: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه من أوجه الخلاف وفيه مطلبان:

ص: 194

المطلب الأول: في حمل المحتسب الناس على وجه ضعيف وإلزام الناس به.

المطلب الثاني: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.

الفصل السادس: في النتائج المترتبة على مخالفة المنهج الصحيح في الإنكار.

مقدمة في أن الخلاف أمر طبيعي في حياة المسلمين، وبيان الحكمة من خفاء الحكم:

الخلاف بين العلماء ظاهرة طبيعية اقتضتها دلالة الأدلة الشرعية؛ لأن أكثر النصوص ظنية في دلالتها، أو في ثبوت بعضها، أو في عدم اعتبار دلالة البعض الآخر منها، أو لخفاء الدليل على بعض العلماء دون البعض الآخر.

والخلاف فيه مجال للإبداع في معرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية، وفيه تدريب على مواجهة ما يجد من مشكلات الحياة المختلفة، أو ما يتغير من أحكام بنيت على عرف أو مصلحة شرعية، فكلما تغير العرف أو انتفت المصلحة، أو جدت مصلحة شرعية أخرى مغايرة للمصلحة الأولى استلزم تغيير الحكم تبعا لذلك.

والعلماء يتفاوتون بتقدير تلك المصالح، ومدى إدراكهم للحاجة المقتضية لذلك، مما لا يخالف نصا أو إجماعا أو قاعدة شرعية.

ص: 195

والاختلاف الناشئ عن الاستنباط الشرعي، جاءت نتائجه رحمة بالأمة وتوسعة عليها، وإلا لما أقره صلى الله عليه وسلم للجيش الذي ذهب لبني قريظة، والخلاف وجد في الأحكام الشرعية، مع أن الحق تبارك وتعالى قد وعد بحفظ هذا الدين، ولا مخلف لوعده سبحانه.

قال المناوي: (اختلافهم توسعة على الناس بجعل المذاهب كشرائع متعددة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم بكلها؛ لئلا تضيق بهم الأمور من إضافة الحق الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم، ولم يكلفوا ما لا طاقة لهم به؛ توسعة في شريعتهم السمحة، فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة، خصت بها هذه الأمة)(1).

والتوسعة ليست على المجتهد عند استنباطه للحكم؛ لأنه مكلف باتباع الحق لا التيسير على نفسه.

وما ورد من النهي عن الاختلاف بقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (2)، وقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3)، فالمفسرون ذكروا أن الخلاف المنهي عنه هو الاختلاف على الرسل، فلو خالف إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قوله مردود عليه.

(1) فيض القدير ج 1 ص 209، وانظر شرح السنة للبغوي 1/ 229، 230.

(2)

سورة آل عمران الآية 105

(3)

سورة آل عمران الآية 103

ص: 196

قال الذهبي: (وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابا، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل. وإذا رأيت فقيها خالف حديثا أو رد حديثا أو حرف معناه فلا تبادر لتغليطه، فقد قال علي لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ يا هذا: إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.

وما زال الاختلاف بين الأئمة واقعا في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكل على تعظيم البارئ جل جلاله، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حق، وأن كتابهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف) (1).

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (2)»

يقول الشافعي: (وقد حكم الحاكمان في أمر واحد برد

(1) فيض القدير، ج 1 ص 210.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، فتح الباري ج 13 ص 318، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، صحيح مسلم بشرح النووي 12 ص 13.

ص: 197

وقبول، وهذا اختلاف ولكن كل قد فعل ما عليه) (1).

قال القرطبي: (وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زال الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون)(2).

وقال أحمد بن حفص السعدي -شيخ ابن عدي -: (سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا)(3).

وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يكثر من قول: (اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له، ويقول: من جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب)(4).

فالإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهم لم تضق صدورهم بمعارضة مخالفيهم، أو جعل ذلك سببا في التقليل من شأنهم، بل أشادوا بهم واتسعت صدورهم لخلافهم، لحسن مقاصدهم ومقاصد من خالفهم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن مشروعية التكبير والتهليل: (فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو في

(1) الرسالة للإمام الشافعي، مسألة رقم 1407 ص 494.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج 4 ص 194.

(3)

انظر سير أعلام النبلاء، ج 11 ص 370.

(4)

انظر تاريخ بغداد، ج 13 ص 352.

ص: 198

كل مرة مشفوع وكل المأثور حسن. ومن الناس من يثلثه أول مرة، ويشفعه ثاني مرة، وطائفة من الناس تعمل بهذا.

وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد، أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات، وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد. . . قال: وإنما يكون هذا تارة، وهذا تارة) (1).

الحكمة من خفاء الحكم:

قال الله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (2)، فما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالا لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة، وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة، وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد. قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (3)(4)

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24، ص 242.

(2)

سورة المائدة الآية 101

(3)

سورة البقرة الآية 216

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 159.

ص: 199

ومن ثم فإن في استنباط الحكم الخفي وفي استظهاره فوائد عظيمة منها: أن صلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان، وشمول أحكامها لما يستجد من متطلبات المسائل الحادثة حق، وأن المستنبط للأحكام هم حملة هذا العلم من العلماء وفق ضوابط معينة حددت لهم في عصور الإسلام المفضلة.

ص: 200

الباب الأول

في حقيقة الخلاف

وفيه خمسة فصول:

الفصل الأول: في معنى الخلاف:

الخلاف: المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافا، وفي المثل: إنما أنت خلاف الضبع الراكب، أي تخالف خلاف الضبع؛ لأن الضبع إذا رأت الراكب هربت منه.

ويقال: خلف فلان بعقبي إذا فارقه على أمر فصنع شيئا آخر (1).

وتخالف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما

(1) لسان العرب، مادة خلف.

ص: 200

ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق (1).

(والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله.

والخلاف أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين.

ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} (2)) (3).

قال المناوي: (الاختلاف: افتعال من الخلف وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور)(4)

(1) المصباح المنير، مادة خلف.

(2)

سورة مريم الآية 37

(3)

المفردات في غريب القرآن، مادة خلف. وبصائر ذوي التمييز، مادة خلف ج 2 ص 562.

(4)

فيض القدير، ج 1ص 209.

ص: 201

الفصل الثاني: في الفرق بين الخلاف والمخالفة:

(أصل المادة واحد وهو خلف. والخلاف كما سبق المضادة، والتخاليف الألوان المختلفة. وخالفه إلى الشيء: عصاه إليه أو قصده بعد ما نهاه عنه.

قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (1)) (2).

(1) سورة هود الآية 88

(2)

لسان العرب، مادة خلف.

ص: 201

إذن هما كلمتان تستعمل كل منهما في محل الأخرى، غير أن المتتبع يجد أن كلمة خالف تستعمل في حالة العصيان الواقع عن قصد كمن يخالف الأوامر، قال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (1)، ولم يقل سبحانه: يختلفون في أمره، أما كلمة اختلف فتكون في حالة المغايرة في الفهم الواقع من تفاوت وجهات النظر، وعليه قوله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2)، ولم يقل سبحانه: خالفوا فيه.

ومنه قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (3)، فجعله عز وجل اختلافا لا مخالفة.

وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} (4)، ولم يقل سبحانه: تخالفون فيه.

وابن نوح عليه السلام خالف نوحا لما قال له فيما يحكيه تعالى عنه إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} (5){قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} (6)، فكان مخالفا.

(1) سورة النور الآية 63

(2)

سورة النحل الآية 64

(3)

سورة البقرة الآية 213

(4)

سورة الزخرف الآية 63

(5)

سورة هود الآية 42

(6)

سورة هود الآية 43

ص: 202

أما سليمان وداود عليهما السلام في قضية الحرث، فكان ما بينهما اختلافا وليس مخالفة، قال تعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (1).

ومن نتيجة هذا الفرق بين الخلاف والمخالفة نجزم - بما لا يدع مجالا للشك - بأن الأئمة في مناهجهم العلمية وأساليب عرضهم لن يخالفوا نصا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اقتداء منهم بسيرة الخلفاء الراشدين والصحابة أجمعين.

وهم بهذا لم يختلفوا ليخالف بعضهم بعضا، أو يخطئ بعضهم بعضا، إنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحق، وتحقيق مقاصد الشرع بما يتوصلون إليه من فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخاصة في مواطن الاحتمال ومسائل الاجتهاد والاستدلال (2).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليعلم أنه ليس لأحد من الأئمة المقبولين عند الأمة - قبولا عاما - يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق أو جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم (3)

(1) سورة الأنبياء الآية 79

(2)

انظر موقف الأمة من اختلاف الأئمة، للشيخ عطية سالم ص 16.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 232.

ص: 203

الفصل الثالث: أسباب الخلاف وبعض الأمثلة لذلك:

أوضحنا آنفا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الأئمة المقبولين عند الأمة لا يمكن لهم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سننه، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه.

وذكر رحمه الله أن الأعذار ثلاثة أصناف:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

الثاني: عدم اعتقاده إيراد تلك المسألة بذلك القول.

الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

وفرع رحمه الله هذه الأسباب إلى أسباب عدة:

السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، بل اكتفى بظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس، أو موجب استصحاب.

ومن الأمثلة على ذلك خفاء الحكم على أبي بكر في ميراث الجدة، وعلى عمر رضي الله عنه في سنة الاستئذان. وخفاء الحكم إذا نزل الطاعون ببلد (1).

(1) أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فتح الباري 10/ 179.

ص: 204

ولا يقولن قائل: الأحاديث قد دونت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية، فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية.

السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده؛ إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهولون عنده، أو متهمون أو سيئو الحفظ، وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا.

وقد يروى عند غيره بإسناد ثقات متصل مع معرفة المجهول عنده، أو قد يكون رواه غير أولئك المجروحين عنده، وقد يكون لفظ الحديث غير مضبوط عنده وعند غيره مضبوطا.

والخلاصة: أن الأحاديث قد تبلغ كثيرا من العلماء من طرق ضعيفة، وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق

ص: 205

فتكون حجة من هذا الوجه.

السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب؛ وذلك لما يلي:

1 -

أن يعتقد أحدهما ضعف المحدث، والآخر يوثقه؛ لأن معرفة الرجال علم واسع، ثم إنه قد يكون الصواب مع من يعتقد ضعفه، لاطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفة أن ذلك السبب غير جارح، وهذا النوع بابه واسع ورد فيه الاختلاف بين العلماء مثل سائر العلوم.

2 -

أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه.

3 -

أن يكون للمحدث حالان: حال استقامة، وحال اضطراب، مثل أن يختلط أو تحترق كتبه، فأحاديثه في الحال الأولى صحيحة، وفي الحال الثانية ضعيفة، فلا يدرى ذلك الحديث من أي النوعين؟ وقد علم غيره أنه مما حدث به في حال الاستقامة.

4 -

أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد، أو أنكر أن يكون حدثه، معتقدا أن هذا علة توجب ترك الحديث، ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به.

5 -

أن كثيرا من الحجازيين يرون عدم الاحتجاج بحديث أي

ص: 206

عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز؛ لأن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين قد وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها.

السبب الرابع: اشترطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطا يخالفه فيها غيره، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة، واشترط بعضهم أن يكون المحدث فقيها إذا خالف في الحكم قواعد القياس، واشترط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى.

السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه، وهذا يرد في الكتاب والسنة، ومثل هذا ما فعله عمر حينما أمر الناس بتحديد المهور، فردت عليه امرأة بقوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (1)، فرجع عمر إلى قولها، لنسيانه للآية (2).

السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث: إما لكون اللفظ الذي في الحديث غريبا عنده مثل لفظ: إغلاق في حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (3)»

(1) سورة النساء الآية 20

(2)

الحديث أخرجه سعيد بن منصور في سننه ج 1 ص 195، وعبد الرزاق في مصنفه، ج 6 ص 18.

(3)

أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، نيل الأوطار ج 6 ص 264. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 332 فما بعدها بتصرف.

ص: 207

فعلماء الغريب فسروه: بالإكراه، وقيل: الجنون، وقيل: الغضب، وقيل: التضييق.

فبعض العلماء قال: لا يصح طلاق المكره. وقال بعضهم: بوقوعه، والاختلاف في ذلك لاحتمال اللفظ أكثر من معنى (1).

وإما لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحمله على ما يفهمه في لغته، بناء على أن الأصل بقاء اللغة.

ولقد سمع بعضهم آثارا في الرخصة في النبيذ (2)، فظنوه بعض أنواع المسكر؛ لأنه لغتهم، وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد، فإنه جاء مفسرا في أحاديث كثيرة صحيحة (3).

وإما لكون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددا بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الآخر (4)، كلفظ القرء يطلق عند العرب ويراد به الحيض، ويطلق ويراد به الطهر، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر (5).

وإما لكون الدلالة من النص خفية، فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدا، يتفاوت الناس في إدراكها، وفهم وجوه

(1) انظر المنهاج في ترتيب الحجاج ص 95، ونيل الأوطار 6/ 265.

(2)

انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8/ 212.

(3)

انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8/ 215، 211.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية 20/ 244.

(5)

انظر بداية المجتهد 2/ 89، وانظر لسان العرب، مادة قرأ.

ص: 208

الكلام، ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن؛ لكون هذا المعنى داخلا في ذلك العام، ثم قد يتفطن له ثم ينساه، ثم إن الرجل قد يغلط فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية.

السبب السابع: اعتقاده أن الأدلة في الحديث يصح الاستدلال بها لمعارضة تلك الدلالة للأصول المعتبرة عنده، سواء كانت في نفس الأمر صوابا أو خطأ، مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة، وأن المفهوم ليس بحجة، أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب أو لا يقتضي الفور، أو أن المعرف باللام لا عموم له.

السبب الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضته العام بالخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز.

وهذا باب واسع فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم.

السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق.

وبعض العلماء يرى تمسكه بالقول؛ لعدم علمه بالمخالف، مع أن ظاهر الأدلة يقتضي خلافه، لكن لا يمكن للعالم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا مع علمه أن الناس قد قالوا خلافه، مثل أن

ص: 209

يقول: لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد، وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم، وبقولهم: لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وإيجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر.

السبب العاشر: معارضته بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله، مما لا يعتقده غيره، أو أن جنسه معارض، وقد لا يكون في الحقيقة معارضا راجحا كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن، واعتقادهم أن ظاهر القرآن من العموم ونحوه مقدم على نص الحديث، لهذا ردوا حديث الشاهد واليمين (1)، وإن كان غيرهم يعلم أن ليس في ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين.

ومن ذلك دفع الخبر الذي فيه تخصيص لعموم الكتاب، أو تقييد لمطلقه، أو فيه زيادة عليه، وكمعارضة طائفة من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة على اعتبار أن إجماعهم حجة مقدمة على الخبر، كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الأصل (2).

قال أحمد بن حنبل: (بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (3)» فقال: (يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه).

(1) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8/ 318.

(2)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 245 فما بعدها بتصرف، وانظر فتح الباري ج4 ص 330.

(3)

انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار ج 5 ص 208،

ص: 210

ثم قال أحمد: (هو أورع وأقول بالحق من مالك).

قال الذهبي: (لو كان ورعا كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فمالك لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخا.

وقيل: عمل به وحمل قوله: «حتى يتفرقا (1)» على التلفظ بالإيجاب والقبول، فمالك في هذا الحديث، وفي كل حديث، له أجر ولا بد، فإن أصاب، ازداد أجرا آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما، ولم يسندها الإمام أحمد فلعلها لم تصح) (2).

يقول ابن تيمية: (وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها، فإن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه، سواء كانت الحجة صوابا في نفس الأمر أم لا، لكن نحن

(1) صحيح البخاري البيوع (2079)، صحيح مسلم البيوع (1532)، سنن الترمذي البيوع (1246)، سنن النسائي البيوع (4464)، سنن أبو داود البيوع (3459)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 402)، سنن الدارمي البيوع (2547).

(2)

انظر سير أعلام النبلاء ج 7 ص 142، والقصة واردة في طبقات الحنابلة ج 1 ص 251، وتاريخ بغداد 2/ 302.

ص: 211

وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم، إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة، وإن كان أعلم، إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم.

والدليل الشرعي يمتنع عن أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأي العالم ليس كذلك، ولو كان العمل بهذا التجويز جائزا لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا، لكن الغرض أنه في نفسه قد يكون معذورا في تركه له، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك (1).

وفي ضوء ما تقرر من أسباب الخلاف فإن العلماء معذورون في تفاوت استنباطهم للأحكام، فلكل إمام عذره، فإن اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر، وفضل الله واسع، ومن استحق الأجر فلا يصح التشنيع عليه وتجهيله، فحسبه إخلاص قصده وحسن سريرته.

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، 20/ 250.

ص: 212

الفصل الرابع: في كلام الأئمة في ترك قولهم اتباعا للحق:

الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان

ص: 212

بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر.

وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة (1).

وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية؛ لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«هذه وهذه سواء. . . (2)»

وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة (3)، فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟

وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه، فقال لهم: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس (4).

والأئمة كذلك أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

(1) من حديث أخرجه البخاري، فتح الباري ج 1 ص 456، 443.

(2)

القول عن عمر أخرجه ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن المسيب، والحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم عند البخاري، فتح الباري ج 12 ص 225، 226

(3)

أي متعة الحج.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 215.

ص: 213

قال أبو حنيفة: (هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه)(1).

روى الخطيب البغدادي بمسنده عن الحسن بن زياد اللؤلئي قال: سمعت أبا حنيفة يقول: (قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا)(2).

ومالك يقول: (إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة)(3)، وقد اشتهر عنه أنه كان لا يتعجل بالفتيا.

سأل رجل مالكا عن مسألة - وذكر أنه أرسل فيه من مسيرة ستة أشهر من المغرب - فقال له: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله.

وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود. فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي؟ فقال: ما أدري ما هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211.

(2)

انظر تاريخ بغداد، ج 13 ص 352.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211.

ص: 214

رجعت فأخبرهم أني لا أحسن.

وسأله آخر فلم يجبه، فقال له: يا أبا عبد الله أجبني. فقال: ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك.

وسئل من العراق عن أربعين مسألة، فما أجاب منها إلا في خمس (1).

والشافعي يقول: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي)(2).

وروي عنه أنه قال: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي)(3).

وقال: (إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلت أنا قولا فأنا راجع عن قولي، وقائل بذلك الحديث).

وقال: (إذا رويت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أذهب إليه فاعلموا أن عقلي قد ذهب)(4).

وقال: (أما أن نخالف حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا عنه فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله)(5).

(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 286 - 288، وترتيب المدارك ج 1 ص 145 فما بعدها.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211، والمجموع، ج 1 ص 108، وإعلام الموقعين 4/ 233.

(3)

المجموع، ج 1 ص 108، وإعلام الموقعين ج 4 ص 233.

(4)

انظر إعلام الموقعين، ج 4 ص 233.

(5)

انظر الرسالة، مسألة رقم 598 ص 219.

ص: 215

والإمام أحمد كان يقول: (لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا).

وقال: (لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا).

وقال: (من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال)(1).

وقال: (وأن يجعل قول كل أحد وفعله أبدا تبعا لكتاب الله وسنة رسوله)(2).

قال أبو داود: (قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، ثم التابعي بعد، الرجل فيه مخير)(3).

وعن الحكم بن عتيبة قال: (ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

وروي عن مجاهد مثله (4).

يقول ابن تيمية: (وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211، 212، 226، وإعلام الموقعين ج 2 ص 201.

(2)

الرسالة، مسألة رقم 539 ص 198.

(3)

إعلام الموقعين، ج 2 ص 200.

(4)

جامع بيان العلم وفضله، ص 359.

ص: 216

الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره) (1).

(ولا يجب على عالم أن يقلد عالما من علماء المسلمين، أو أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما، ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة)(2).

يقول ابن القيم: (. . . وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة، كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده، أو غيره من البلاد، بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به حجازيا كان، أو عراقيا، أو شاميا، أو مصريا، أو يمنيا)(3).

أما انتقال الإنسان من قول إلى قول؛ لأجل ما تبين له من الحق فهو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته (4).

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 372.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 372.

(3)

إعلام الموقعين، ج 4 ص 263.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 213، 214.

ص: 217

هؤلاء هم أعلام الأمة بعد علماء القرن الأول، رأوا الحق فيما ظهر لهم فاتبعوه وقالوا به، ولاحتمال كون الحق مع غيرهم لم يلزموا الناس بأخذ أقوالهم، ولم يجعلوا قولهم حجة، بل الحجة في اتباع الدليل الصحيح الموجب لترك أقوالهم إن خالفته.

لقد زهدوا في أقوالهم للحق، واتسمت صدورهم لقبوله، ورغبوا في خلاص أنفسهم من آثار الفتوى قبل أن يفتوا الناس بما لم يعلموا صحته أو لم يظهر لهم الحق فيه.

ص: 218

الفصل الخامس: مخالفة التلاميذ لأئمتهم اتباعا للحق:

حينما يقلد هؤلاء الأئمة إنما يقلدون اتباعا للحق، وحينما يظهر خلافه فسرعان ما نجد تلامذتهم يتبعون الحق.

وأورد مثالا لذلك: المناظرة التي جرت بين الإمام مالك بن أنس مع أبي يوسف صاحب أبي حنيفة؛ لما سأله عن الصاع والمد، فأمر مالك أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم، فقال مالك لأبي يوسف: أترى هؤلاء يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، قال مالك: فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلثا بأرطالكم يا أهل العراق، فقال أبو يوسف: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

وسأله عن الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل

ص: 218

المدينة (1) لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني وهي تنبت فيها الخضراوات.

وسأله عن الأحباس فقال: هذا حبس فلان وهذا حبس فلان يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف: في كل منهما قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء، في أنه ليس في الخضراوات صدقة؛ كمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء (2) وقد اشتهر عن الإمام زفر مخالفة أئمة المذهب الحنفي في بعض المسائل (3).

وأصحاب الإمام الشافعي خالفوه في مسألة التثويب، واشتراط التحليل من الإحرام بعذر المرض وغيرها.

وممن حكي عنه أنه أفتى بالحديث وخالف الشافعي أبو يعقوب البويطى، وأبو القاسم الداركي.

نص عليه أبو الحسن الكيا الطبري في كتابه: " أصول الفقه "، وممن أثر عنهم اتباع الحديث ومخالفة المذهب أبو بكر

(1) أي مزارع أهل المدينة التي تنبت البقل، انظر لسان العرب، مادة بقل.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 306، وانظر ترتيب المدارك، 1/ 224.

(3)

انظر الإمام زفر بن الهذيل، للدكتور عبد الستار حامد، ص 339 طبع سنة 1402 هـ ببغداد.

ص: 219

البيهقي وآخرون، وكان جماعة من متقدمي الشافعية إذا رأوا مسألة فيها حديث، ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث (1).

لقد تعلم هؤلاء التلاميذ في مدارس العلماء الكبار، وعلم الله قصد سرائرهم، وصدق توجههم، فجعل لهم القبول.

لقد تعلم التلاميذ على يديهم، وأخذوا منهم العلم الحق الذي يقصدون به وجه الله، ولقد كانوا قدوة صالحة في كيفية اتباع الحق أينما كان، وإن خالفوا في ذلك إمامهم، حتى قالوا: ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت عملا واتباعا للسنة.

(1) المجموع للنووي، ج 1 ص 108.

ص: 220

الباب الثاني

في حكم الإنكار في المسائل الخلافية

وفيه ستة فصول:

الفصل الأول: في الإنكار على أهل الأهواء والبدع

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في الإنكار على أهل البدع:

البدعة في اللغة: مأخوذة من بدع الشيء يبدعه بدعا

ص: 220

وابتدعه: أي أنشأه وبدأه، وفي كسر الباء تعني: الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال (1).

والبدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثوابا فقال:«من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها (2)» ، وقال في ضده:«ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها (3)» ، وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم (4).

وقال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة.

فمن الواجبة: نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعة، والاشتغال بكتب النحو، وحفظ غريب الكتاب والسنة.

(1) انظر لسان العرب، مادة بدع.

(2)

الحديث أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، صحيح مسلم بشرح النووي ج 16 ص 226، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، سنن ابن ماجه ج اص 74، وأخرجه أحمد في مسنده ج 4 ص 361، 362.

(3)

الحديث أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، صحيح مسلم بشرح النووي ج 16 ص 226، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، سنن ابن ماجه ج اص 74، وأخرجه أحمد في مسنده ج 4 ص 361، 362.

(4)

النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، مادة بدع

ص: 221

والبدعة المندوبة: تشمل تصنيف كتب العلم، وبناء المدارس، والربط في سبيل الله، وغير ذلك من الإحسان الذي لم يعهد في الصدر الأول.

والبدعة المحرمة: ما ذهب إليه القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة، والتوسل إلى الله بالأموات، وطلب الدعاء منهم، وكذا اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها، وإيقاد السرج والمصابيح عليها، ونذر الذبائح لها، وإنارتها، والطواف بها، واستلامها.

أما البدعة المكروهة: فكزخرفة المساجد، وتزويق المصاحف، والمصافحة باليد بعد السلام من الصلاة ونحو ذلك.

أما البدعة المباحة: فهي التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن.

وما نحن بصدده هنا فهي البدع المحرمة، سواء ما كان منها يؤدي إلى الكفر، كدعاء غير الله من الأنبياء والصالحين، والاستغاثة بهم، وطلب تفريج الكربات وقضاء الحاجات منهم، وهذه أعظم بدعة كيد بها للإسلام وأهله، أو ما يخشى على صاحبها من الوقوع في الكفر، كالتوسل إلى الله بجاه الأولياء والصالحين والتبرك بهم.

وكذلك البدع الأخرى التي لا تتنافى مع التوحيد لكنها من

ص: 222

المحرمات، كالاجتماع على التكبير والتهليل والتسبيح ونحو ذلك، وكأن يخترع أذكارا وأدعية وعبادات وصلوات وصياما، واتخاذ السبحة أثناء التسبيح لغير حاجة، والاحتفال بليلة النصف من شعبان، وليلة المولد النبوي، وغير ذلك مما لم يرد في ثبوت التعبد فيه أي دليل شرعي معتبر الدلالة، فقد ورد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«. . . وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1)» ، ففي هذا الحديث دلالة على أن البدع المخالفة للشرع من الضلالات التي يجب اجتنابها؛ إذ لا يصح إحداث عبادة في الدين لم يشرعها الله تعالى، ولم يأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم أو يفعلها مما هو شرع لأمته، ومن أحدث خلاف ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تأسوا بسنته فهو رد على صاحبه، فعن عائشة رضي لله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2)» .

قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود. ومعناه فهو باطل غير معتد به.

وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.

(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب خطبته صلى الله عليه وسلم في الجمعة، صحيح مسلم بشرح النووي ج 6 ص 153، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، عون المعبود ج 12 ص 360.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، صحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 16، وأخرجه أحمد في مسنده ج 6 ص 256.

ص: 223

قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به (1).

وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي أو نفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود.

فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى.

ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح.

فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، ولكن هذا الثاني لا يوجد، فإذن حديث:" من عمل عملا" نصف أدلة الشرع، والله أعلم (2).

وفي ضوء ما سبق فإن الإنكار على المبتدعة يعد من الأمور

(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 16.

(2)

انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج 5 ص 303.

ص: 224

المشروعة، سواء أكانت البدعة في الأصول أم في الفروع ما دامت مخالفة لما ورد في الشرع، ولم يكن عليها عمل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قرر علماء الأمة وجوب الإنكار على المبتدعة في دين الله.

يقول السبكي: ولا شك في أن الاختلاف في الأصول ضلال وسبب كل فساد كما أشار القرآن إليه (1).

ومن خالف في الأصول من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعتد بمخالفته (2)، وينبغي الإنكار عليه، كمن يعتقد أن رتبة الولاية أعظم من رتبة النبوة.

وصرح الغزالي بأن قتل مدعي ذلك أحب إليه من قتل مائة كافر؛ لأن ضرر هذا في الدين أعظم (3).

وقال محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم.

وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن؛ منهم مالك، وابن عيينة وابن

(1) انظر فيض القدير، ج 1 ص 209.

(2)

انظر بعض المسائل التي اختلف عليها بعض الصحابة في الأصول، مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24، ص 172.

(3)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 4 ص 72/ 1، 173.

ص: 225

المبارك، والليث بن سعد.

وناظر الشافعي حفص الفرد، وكان الشافعي رضي الله عنه يسميه حفص المنفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم.

وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع، والصلاة خلفهم مع الكراهية على الإطلاق، فهذا القول منه دليل على أنه إن أطلق على بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفرا دون كفر.

ومنهم من حمل قول من قال بالتكفير من السلف على مبتدع يأتي في بدعته ما يخرج به عن الإسلام، وكان أبو سليمان الخطابي لا يكفر أهل الأهواء الذين تأولوا فأخطئوا.

وقال الشيخ الإمام: وهذا الهجران، والتبري، والمعاداة، في أهل البدع المخالفين في الأصول (1).

ونص الإمام أحمد رحمه الله على المنع من النظر في كتب أهل الكلام والبدع المضلة وقراءتها وروايتها.

وقال: أبو عبد الله في أهل الكلام: (لا تجالسهم ولا تكلم أحدا منهم).

وقال: لا أحب لأحد أن يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يأنس بهم.

قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد،

(1) شرح السنة للبغوي، ج 1 ص 227 - 230.

ص: 226

ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام (1).

روى أبو المظفر السمعاني في كتابه "الانتصار لأهل الحديث "(2) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس من أمتي أهل البدع (3)»

قال ابن خويز منداد: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم هو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها أستتيب منها (4).

صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم (5)، لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم، وأمر صلى الله عليه وسلم بهجرهم حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة، إلى أن نزلت توبتهم من السماء.

وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمي لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول، وتبين صدقه في التوبة، فأذن عمر للناس

(1) انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح ج 1 ص 199، 200.

(2)

الكتاب مخطوط في طهران ولم يطبع بعد.

(3)

انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح ج 1 ص 201.

(4)

انظر جامع بيان العلم وفضله، ص 366.

(5)

أخرجه البخاري عن كعب بن مالك، فتح الباري ج 8 ص 113، والبغوي في شرح السنة، 1/ 224.

ص: 227

بمجالسته (1).

فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، إنما يهجر الداعي إلى البدعة، إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا، وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله.

لهذا كان الإمام أحمد ومن كان قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه بخلاف الساكت (2).

هذا وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة، وظهور أهل الأهواء والبدع فيهم، وحكم النجاة لمن اتبع سنته وسنة أصحابه رضي الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتا، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق.

والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من

(1) أخرجه الدارمي عن نافع، سنن الدارمي ج 11 ص 55.

(2)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24 ص 174، 175.

ص: 228

التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا، بدليل هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا حتى تابوا (1) لما خاف عليهم من النفاق.

قال ابن عمر في أهل القدر: أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء (2).

وفي ضوء ما سبق فإن الإنكار على أهل البدع يكون واجبا على من قدر عليه.

المطلب الثاني: في الإنكار على من يخالف لهوى في نفسه أو إرضاء لغيره:

الخلاف الناشئ عن هوى مضل ليرضي غيره، أو ليحمد من الناس، وينال الغلبة على أقرانه عند الحكام، أو الظهور بمظهر العالم المستوعب للحياة ومشكلاتها عند وسائل الإعلام لا عن تحري قصد الشارع والالتفات إلى الأمر والنهي، أو التخيير فهو خلاف باطل إطلاقا؛ لأن العمل لا بد له من حامل يحمل عليه، وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل إطلاقا.

روى الإمام مالك في الموطأ (3) عن عبد الله بن مسعود

(1) انظر شرح السنة للبغوي، ج 1 ص 224.

(2)

انظر شرح السنة للبغوي، ج 1 ص 227، 228.

(3)

انفرد به الإمام مالك، ورواه في جامع الصلاة رقم 418 عن يحيى بن سعيد وهو منقطع.

ص: 229

- رضي الله عنه: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون فيه الخطبة، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم (1).

حكى الخطابي في مسألة شراب البتع (2) عن بعض الناس "أنه قال: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه.

وقال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله.

وقال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها.

قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.

قال الشاطبي: والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، أو يجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ

(1) انظر الموافقات، ج 2 ص 173.

(2)

ورد حديث في البتع عند البخاري ومسلم، انظر جامع العلوم والحكم، ص 366.

ص: 230

القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.

ومن هذا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجر على رأي واحد. . . وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين. ويقول له: لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة (1).

والخلاف على هذا النحو يؤدي إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها.

وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع للهوى وفي ذلك مخالفة للشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء. فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع. ولذلك سميت البدع ضلالات.

وجاء أن كل بدعة ضلالة؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع. وما ذكر منها في كتب الفقهاء إنما للرد عليها وبيان فسادها مثلما فعلوا مع

(1) الموافقات، ج 4 ص 141، 142.

ص: 231

أقوال اليهود والنصارى (1).

ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى. وكذلك الحاكم ولا فرق بين المفتي والحاكم إلا أن المفتي مخبر، والحاكم ملزم، والتساهل قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى أو الحكم قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، فلأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل.

وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة. والتمسك بالشبه طلبا للترخص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره.

قال ابن الصلاح: ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه (2).

وقال القرافي: لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشدد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق (3).

(1) الموافقات، ج 4 ص 222.

(2)

تبصرة الحكام، ج 1 ص 52.

(3)

انظر تبصرة الحكام، ج 1 ص 52.

ص: 232

ويشمل الذم من ينتقل من قول إلى قول لمجرد عادة أو اتباع هوى (1).

ولا ينبغي أن يلتفت إلى قول من يقول بالتخيير بين الأقوال، فهي مقالة ضعيفة لا يعتد بها (2)؛ لأن السماح الجاري بالحنيفية السمحة مقيد بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها.

إن تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى (3)، قال تعالى:{فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (4)، وقال سبحانه وتعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (5)، وقال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (6) إلى غير ذلك من الآيات الذامة لاتباع الهوى.

قال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله (7).

(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج 20 ص 214.

(2)

تبصرة الحكام ج 1 ص 48.

(3)

انظر المرافقات ج 4 ص 145.

(4)

سورة النساء الآية 135

(5)

سورة ص الآية 26

(6)

سورة الكهف الآية 28

(7)

انظر الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، ج 6 ص 317، وجامع بيان العلم وفضله، ص 360.

ص: 233

وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام (1).

وذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على عدم حل تتبع الرخص، ويفسق المتتبع عند الإمام أحمد (2).

واتباع الدليلين من غير ترجيح أدى إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، اتباعا لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق (3).

وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا وحراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، كأن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقد أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة، أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد، فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة.

وإذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها، كشرب النبيذ المختلف فيه، ولعب الشطرنج، وحضور السماع، رأى

(1) انظر سير أعلام النبلاء، ج 7 ص 125.

(2)

انظر جامع بيان العلم وفضله، ص 360، والإنصاف، ج 11 ص 196.

(3)

انظر الموافقات، ج 4 ص 135.

ص: 234

هجره والإنكار عليه. أما إذا فعل ذلك صديقه فيرى أن ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر.

ومن اعتقد حل الشيء، وحرمته، ووجوبه، وسقوطه، بحسب هواه. فهو مذموم مجروح خارج عن العدالة (1).

وليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فيختار أتبعهما لهواه؛ لأنه لو جاز تحكيم التشهي والمصالح الشخصية في مثل هذا لجاز للحاكم، وهو باطل بالإجماع (2).

والعلماء - عليهم رحمة الله - يرون أن اتباع الهوى في الحكم والفتيا حرام بالإجماع (3).

وفي ضوء ما تقرر فإن من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فإنه يعامل بما يعامل به أهل البدع (4)؛ من وجوب الإنكار عليهم، وهجرهم، وتأديبهم بما يكفل زجرهم، وتبصيرهم بسوء ما يقولون به أو يفعلون.

(1) انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح، ج 1 ص 163.

(2)

انظر الموافقات، ج 4 ص 133.

(3)

انظر تبصرة الحكام، ج 1 ص 53.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 214.

ص: 235

الفصل الثاني: في الإنكار على من يأخذ بالقول المرجوح أو الضعيف:

وما ضعف فيه الخلاف لا يحل أن يقال به في الأحكام الشرعية ولا يحل للمقلد أن يعمل به.

وقد ذم شيخ الإسلام ابن تيمية المنحرفين عن منهج الأئمة، وذكر من انحرافهم أن يكون عن الإمام في المسألة اختلاف فيتمسكوا بالقول المرجوح أو أنهم يحملون قولا له ليوافق شبهتهم (1).

ومثل لذلك بتنازع العلماء في ولد الزنا هل يعتق بالملك؟ على قولين للعلماء في مذهب أبي حنيفة وأحمد. . . .

ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين: لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضرب من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد (2).

والأخذ بالقول الضعيف في بعض المسائل يؤدي إلى ارتكاب محظور فمثلا ربا النقد الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 185.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 32 ص 137.

ص: 236

إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنا. وذكر عن إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحة.

وعن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلا، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثا في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود وعلى فاعله العقوبة والنكال.

والمنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج.

وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، وفيه نظر فإن النصوص عنه أنه لم يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك.

وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك (1).

وفي ضوء ما سبق فإن من أخذ بقول ضعيف في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالأحكام الشرعية فإنه يجب الإنكار عليه بالطريقة التي تناسب حال الفعل وما تؤدي إلى تحقيق الغرض من الإنكار

(1) انظر جامع العلوم والحكم، ص 284.

ص: 237

الفصل الثالث: في الإنكار على من يأخذ بأخف القولين:

الأخذ بأخف القولين مسألة أصولية. وللعلماء فيها قولان: قيل يأخذ بأثقلهما وقيل بأخفهما.

واستدل من قال بالأخذ بالأخف. بالنص والمعقول؛ أما النص فقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1)، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار (3)» ، وقوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة (4)» وكل ذلك ينافي الشرع الثقيل.

أما المعقول فإن الله تعالى كريم غني، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين: كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير (5).

وأجاب الشاطبي عن ذلك: أن السماح الوارد في الحنيفية السمحة جاء مقيدا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها (6).

(1) سورة البقرة الآية 185

(2)

سورة الحج الآية 78

(3)

أخرجه مالك مرسلا / شرح الزرقاني 4/ 3، وأحمد / الفتح الرباني 15/ 110، وابن ماجه عن عبادة بن الصامت، وفي الزوائد إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع / سنن ابن ماجه 2/ 874.

(4)

أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه، ج 7 ص 209.

(5)

انظر المحصول في علم أصول الفقه، ج 2 ق 3 ص 214.

(6)

انظر الموافقات، ج 4 ص 145.

ص: 238

والقول بهذا مؤداه إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفا من الكلفة وهي المشقة، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال (1).

قلت: الأصل وجود دلالة للقولين، ومن ثم فاتباع أحدهما اتباع للدليل، فإن ترجح أحدهما وجب الأخذ به، وإن تساوى الأمران في الدلالة فكما يقول ابن القيم:(يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين (2)، فإن كان مقلدا اتبع أفقههما وأورعهما).

أما المجتهد فيقول القرافي: (إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد أو تساوت وعجز عن الترجيح، هل يتساقطان، أو يختار واحدا منهم يفتي به؟ قولان للعلماء: فعلى القول الأول بأنه يختار أحدهما يفتي به له أن يختار أحدهما يحكم به مع أنه ليس أرجح عنده بطريق الأولى؛ لأن الفتيا شرع عام على المكلفين إلى قيام الساعة، والحكم يختص بالوقائع الجزئية، فإذا جاز الاختيار في الشراع العامة فأولى أن يجوز في الأمور الجزئية الخاصة، وهذا مقتضى الفقه والقواعد، وعلى هذا يتصور الحكم بالراجح وغير

(1) انظر الموافقات ج 4 ص 149.

(2)

انظر إعلام الموقعين، ج 4 ص 264.

ص: 239

الراجح وليس اتباعا للهوى، بل ذلك بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح وحصول التساوي، وأما الفتيا والحكم بما هو مرجوح فخلاف الإجماع (1).

ومن ثم فإن الاختيار الحاصل لا لكون أحدهما أخف إنما لتساوي الأدلة وعدم إمكانية ترجيح أحدهما على الآخر. ومن أخذ بذلك فلا إنك عليه.

وأما من اختار الأخف لهواه أو إرضاء لغيره فينكر عليه بخلاف من اختاره لمصالح شرعية معتبرة.

(1) انظر تبصرة الحكام، ج 1 ص 53.

ص: 240

الفصل الرابع: في الإنكار على المجتهدين أو على مقلديهم في الفروع.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في الإنكار على من اجتهد - أو قلد - وخالف نصا، أو إجماعا، أو قاعدة شرعية:

يجب الإنكار على من خالف ما هو مقطوع به في الشريعة (1)، أو أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عمم فيما هو خاص (2) أو أن يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك (3)، أو أن يقول

(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 214.

(2)

انظر الموافقات للشاطبي، ج 1 ص 80.

(3)

انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 214.

ص: 240

الإمام قولا ثم يرجع عنه في قول ثان بناء على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه، فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة؛ لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني إطراح منه للأول ونسخ له بالثاني (1).

ويقول ابن تيمية: (نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع)(2).

وقال ابن رجب: والمنكر الذي يجب عليه إنكاره ما كان مجمعا عليه (3).

وقال ابن القيم: فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا (4).

قال الشنقيطي: واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين (5).

يقول الشاطبي: إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة

(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 217.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، 4/ 172.

(3)

انظر جامع العلوم والحكم، ص 284، انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 23.

(4)

إعلام الموقعين، 3/ 288.

(5)

انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج 2 ص 174.

ص: 241

للشرع ولذلك عدت زلة، فلو كانت معتدا بها لما جعلت لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا، فإن هذا كله خلاف ما تقتضيه رتبته في الدين (1).

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال. أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع (2)»

وعن عمر: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون.

وعن أبي الدرداء: مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كمنار الطريق.

وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرا: إياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة

(1) الموافقات، ج 4 ص 170.

(2)

رواه البزار، والطبراني عن طريق كثير بن عبد الله وهو واه، وقد حسنها الترمذي في مواضع فأنكر عليه، واحتج بها ابن خزيمة في صحيحه هامش الموافقات 4/ 169.

ص: 242

الضلالة. وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورا. قالوا: كيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفي، وأن يراجع الحق.

وقال ابن عباس: ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ثم يمضي الأتباع (1).

ويلحق بذلك من التزم مذهبا وخالفه بلا دليل ولا تقليد سائغ.

حكي عن الشيخ تقي الدين: أن من التزم مذهبا معينا وخالف ذلك من غير عذر شرعي يبيح له ما فعله فإنه يكون متبعا لهواه عاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي وهذا منكر (2).

قلت: وفي ضوء ما سبق فإن ما خالف - ولو باجتهاد أو تقليد - نصا أو إجماعا أو قاعدة شرعية فإنه يجب الإنكار عليه لمخالفته ما هو حق بغير مسوغ شرعي على أن يسبق الإنكار تبيان الخطأ بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها.

يقول ابن تيمية: (وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين أنه قد أخطأ، فإن بين له بالأدلة الشرعية التي

(1) الموافقات للشاطبي، ج4 ص 168، 169.

(2)

انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 163

ص: 243

يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع، بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع، أما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين، ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول: إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين، فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة، والمنازع له يتكلم بلا علم) (1).

المطلب الثاني: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وأخذ بقول لم يخالف به دليلا أو قاعدة شرعية:

سبق إيضاح أن الإنكار واجب على أهل الأهواء والبدع، وأنه ينبغي الإنكار على من أخذ بقول مرجوح أو ضعيف، على أن يتم الإنكار بالطريقة التي تحقق الغرض، وأن لا إنكار على من اختار أحد قولين تساوت الأدلة عند المجتهد في تقرير حكمهما، وأن الإنكار واجب على من خالف نصا أو قاعدة شرعية. أما عدا تلك الحالات فما الحكم في الإنكار على القائل بأحد قولي مسألة خلافية، وقوله له اعتبار في الدلالة لكنه مرجوح في نظر المنكر راجح في نظر المنكر عليه، لهذا لا بد من الأخذ في الاعتبار أهمية احترام العلماء وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم، وأن لا يجعل من المخالفة سببا في أذيتهم أو انتقاصهم، بل الواجب الحث

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص 382

ص: 244

على إكرامهم وتعظيم حرماتهم. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1)، وقال تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (2)، وقال تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3)، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (4)، وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (5)» ، وروى الخطيب البغدادي عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قالا:(إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي) وفي كلام الشافعي: (الفقهاء العاملون).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (من آذى فقيها فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله عز وجل.

وقال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله: اعلم

(1) سورة الحج الآية 32

(2)

سورة الحج الآية 30

(3)

سورة الحجر الآية 88

(4)

سورة الأحزاب الآية 58

(5)

أخرجه في كتاب الرقاق باب التواضع / صحيح البخاري 7/ 190، وأخرج أحمد نحوه في مسنده ج6 ص256.

ص: 245

يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أسرار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)(2).

ومن ثم فإن ما ورد من أقوالهم القائمة على دلالة شرعية معتبرة يجب احترامها واحترام القائل بها دون انتقاصه أو التقليل من شأنه. ومن هذا شأنه هل ينكر عليه؟.

للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه لا ينكر عليه، وهو قول جمهور العلماء.

القول الثاني: أنه ينكر على المقلد دون المجتهد.

القول الثالث: أنه ينكر على كل من أخذ بقول مخالف.

ولإيضاح تلك الأقوال أورد فيما يلي نصوص العلماء في ذلك:

نص أصحاب القول الأول القائل بعدم الإنكار عليه:

(يقول النووي: أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من

(1) سورة النور الآية 63

(2)

انظر المجموع ج1 ص46.

ص: 246

المحققين أو أكثرهم (1).

وروي أن أبا جعفر المنصور وهو بمكة قال لمالك: اجعل العلم يا أبا عبد الله علما واحدا. قال: فقلت له: (يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رآه (2).

وقال عمر بن عبد العزيز: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة.

وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه (3).

يقول سفيان الثوري: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه (4).

(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص23.

(2)

انظر ترتيب المدارك، ج1 ص192.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 30 ص79، 80.

(4)

انظر حلية الأولياء، ج6 ص368، والفقيه والمتفقه، ج2 ص69.

ص: 247

وقال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به (1).

قال ابن رجب الحنبلي: فأما المختلف فيه فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا (2).

وقال مهنا: سمعت أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه لوحده (3).

سئل ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يهجر، وكذلك من يعمل بأحد القولين؟ فأجاب: الحمد لله. مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين (4).

وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، كالأئمة الأربعة وغيرهم أقوالا باجتهادهم فهذه يسوغ القول بها، ولا يجب على كل مسلم

(1) انظر الفقيه والمتفقه، ج2 ص69.

(2)

انظر جامع العلوم والحكم، ص284.

(3)

انظر الآداب الشرعية، ج1 ص166.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص207.

ص: 248

أن يلتزم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقا له، لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإذا اتقى العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك وغفر له خطأه، وما كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه، ولا أن يعيبه، ولا يعاقبه، ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو الشرع المنزل من عند الله وهو الكتاب والسنة (1).

نصوص أصحاب القول الثاني القائل بأنه ينكر على المقلد دون المجتهد:

وعن أحمد رواية ثالثة: لا ينكر على المجتهد، بل على المقلد.

قال إسحاق بن إبراهيم عن الإمام أحمد أنه سئل عن الصلاة في جلود الثعالب؟ قال: إذا كان متأولا أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلا ينهى ويقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها (2).

نص أصحاب القول الثالث المائل بأنه ينكر على من أخذ بقول مخالف:

وفي رواية الميموني في الرجل يمر بالقوم وهم يلعبون

(1) فتاوى ابن تيمية، ج35، ص366، 367.

(2)

انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1، ص167.

ص: 249

بالشطرنج ينهاهم ويعظهم.

وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى به، فقال: قد أحسن، وقال في رواية أبي طالب في من يمر بالقوم يلعبون الشطرنج يقلبها عليهم إلا أن يغطوها ويستروها.

وصلى أحمد يوما إلى جنب رجل لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال: يا هذا أقم صلبك، وأحسن صلاتك.

وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله دخلت على رجل وكان أبو عبد الله بعث بي إليه بشيء فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها، فأعجبه ذلك وتبسم، وأنكر على صاحبها.

وجاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: المجاهرة بإظهار النبيذ كالخمر، وليس في إراقته غرم (1).

وذكر ابن الجوزي أنه ينكر على من يسيء في صلاته بترك الطمأنينة في الركوع والسجود مع أنها من مسائل الخلاف.

وقال الشيخ عبد القادر: يجب أن يأمره ويعظه.

وذكر أيضا المنكرات في غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة قال: فإن فعل ذلك مالكي لم ينكر عليه، بل يتلطف به ويقول له: يمكنك أن لا تؤذيني بتفويت الطهارة

(1) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1 ص167

ص: 250

علي (1).

وجاء: وله كسر آلة اللهو وصور الخيال ودف الصنوج وشق وعاء الخمر وكسر دنه إن تعذر الإنكار بدون. وقيل مطلقا (2).

الأدلة:

استدلال أصحاب القول الثالث بما يلي:

لم أجد لهؤلاء دليلا، وقد حمل القاضي وابن عقيل من الحنابلة رواية الميموني على أن الفاعل ليس من أهل الاجتهاد ولا هو مقلد لمن يرى ذلك (3).

وما ورد من إنكار الإمام أحمد على من استعمل رأس المكحلة المفضض فقد يكون باعتبار أن الرجل ممن يعتقد تحريم جميع أواني الفضة والذهب وأنه متهاون باستعمال المكحلة. ويقال مثل هذا في الشطرنج ونحوه من الأمور المختلف فيها بين العلماء (4).

أدلة القول الثاني القائل بأنه ينكر على المقلد دون المجتهد:

لم أجد لهؤلاء دليلا، ولعل تفريقهم بين المتأول والجاهل

(1) الآداب الشرعية، ج 1 ص 168.

(2)

الآداب الشرعية، ج1 ص195.

(3)

الآداب الشرعية، ج1 ص167.

(4)

انظر هامش المرجع السابق.

ص: 251

باعتبار أن المتأول تأول وفق اعتبار شرعي، أما الجاهل فلا يحل له العمل بما عنده ومن ثم فينكر عليه وإن كان مقلدا تقليدا سائغا فلا ينكر عليه (1).

أدلة أصحاب القول الأول القائل بعدم الإنكار على المجتهد:

استدلوا بما يلي:

1 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده. فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا (2)»

ففي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر دليل على استصوابه (3) مما يسوغ معه تعدد آراء المجتهدين، كما في هذا الحديث على اعتقاد أن ما صدر منه صلى الله عليه وسلم من غير قصد

(1) انظر الآداب الشرعية، ج1 ص164.

(2)

أخرجه مسلم / صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص 95.

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص 91.

ص: 252

جازم (1).

2 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة (2)» ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم (3).

فعدم تعنيفه صلى الله عليه وسلم على اجتهادهم دلالة على عدم الإنكار عند الاختلاف السائغ في الشرع.

3 -

إن من أصول أهل السنة والجماعة أن من تولى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الراشدين وغيرهم لا يجب أن ينفرد واحد منهم بعلم لا يعلمه غيره، بل علم الدين الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم يشترك المسلمون في معرفته. ولهذا كان الخلفاء يسألون الصحابة في بعض الأمور. هل عندكم علم عن النبي صلى الله عليه وسلم كسؤال أبي بكر عن ميراث الجدة ووجد العلم عند محمد بن مسلمة (4)، وكذلك عمر لما سأل عن الجنين إذا قتل فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة (5)،

(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص92.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 48، وأخرجه مسلم / صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص97.

(3)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج24 ص173.

(4)

سبق تخريجه في الفصل الثالث السبب الأول.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه / فتح الباري 12/ 247، ومسلم / صحيح مسلم بشرح النووي، 11/ 179.

ص: 253

وقوله: امرأة أصابت ورجل أخطأ (1)، وكان في مسائل النزاع يرى رأيا، ويرى علي بن أبي طالب رأيا، ويرى عبد الله بن مسعود رأيا، ويرى زيد بن ثابت رأيا فلم يلزم أحدا أن يأخذ بقوله، وقال للرجل: لو كنت أردك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد، بل كل منهم يفتي بقوله وعمر رضي الله عنه إمام الأمة كلها، وأعلمهم وأدينهم، وأفضلهم (2).

4 -

إن اجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة فإذا صلى أربعة أنفس كل واحد منهم بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن القبلة هناك فإن صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران (3) مما يدل على أنه لا ينكر على أي منهم.

الترجيح:

مما سبق يظهر لي أن الراجح في ذلك هو عدم الإنكار على المخالف في مسائل الخلاف وفق ما ذكر.

(1) سبق تخريجه في الفصل الثالث. السبب الخامس.

(2)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 234، 238، ج 35 ص 384، 385.

(3)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 224.

ص: 254

قال أحمد في رواية المروذي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم.

وقال ابن مفلح: ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه أو قلد مجتهدا فيه، مثل شرب يسير النبيذ والتزوج بغير ولي، وبأكل متروك التسمية (1).

قال الشنقيطي: وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص فيه فلا يحكم على أحد من المجتهدين بأنه مرتكب منكرا، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطئ منهم معذور (2).

ولكن يندب الخروج من الخلاف بالإنكار باللسان على جهة النصيحة، وأن يكون برفق (3)، وهذا هو مقتضى ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من الكلام فيه بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه (4)، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتناظرون في المسألة الواحدة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولا يقصدون إلا الخير ولم يبدع بعضهم بعضا (5)

(1). انظر الآداب الشرعية، ج 1ص 166.

(2)

انظر أضواء البيان، ج 2 ص 274.

(3)

انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 170.

(4)

مجموع فتاوى ابن تميمة، ج 30 ص 79، 80.

(5)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24 ص 172.

ص: 255

الفصل الخامس: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه من أوجه الخلاف:

المراد بالمحتسب هنا هو الإمام والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه. فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام، وما جاز للإمام التصرف فيه جاز لنائبه فيما أنابه فيه (1).

وهذا الفصل فيه مطلبان:

المطلب الأولى: في حمل المحتسب الناس على وجه ضعيف وإلزام الناس به.

سبق أن أوضحت وجوب الإنكار على من أخذ بقول ضعيف أو مرجوح (2). لكن هل للإمام أن يلزم الناس بهذا القول؟

في بداية الإجابة على ذلك ينبغي أن نعلم أن أمر الإمام ونائبه يعد في منزلة الحكم، والحكم قضاء، والقاضي ليس له أن يقضي إلا بالشرع الوارد في الكتاب والسنة، ولا يستلزم القضاء أن يكون شرعا، لأن القاضي العادل يصيب تارة ويخطئ أخرى، ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف الحق في الباطن لم يجز له أخذه ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين، كما في الصحيحين عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 30 ص 407.

(2)

(2) انظر الفصل الثاني من هذا البحث.

ص: 256

من النار (1)» (2)

والحق تبارك وتعالى فرض على الولاة اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، ومقتضى هذا أن يتحرى في اتباع الحق، ومن ثم فلا يحل له أن يحكم بأن السفر إلى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب يثاب فاعله، وأن من قال: أنه لا يستحب، يؤذى ويعاقب، أو يحبس، والحكم بمثل هذا باطل بإجماع المسلمين، ولا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبع هذا القول، ولا لولي الأمر أن ينفذه (3)، وكذا الأمر إن اختار المحتسب قولا ضعيفا مرجوحا لا يعتد به لم يجز للناس طاعته وإن أيده بذلك بعض العلماء.

فقد رأى الشيخ عبد الله القلقيلي (4): إن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف لزم الناس الأخذ به على وجه الحتم.

وقد رد عليه سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - مد الله في عمره - فقال: وأما قول المفتي: وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازما. . فهذا في غاية السقوط، بل هو ظاهر البطلان؛ لأن الحكومة إنما تطاع بالمعروف لا فيما يضر الأمة، ويخالف الشرع المطهر.

(1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب من أقام البينة بعد اليمين / صحيح البخاري ج 3 ص 162، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب أن حكم الحاكم لا يغير الباطن، صحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 4.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 376.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 378.

(4)

مفتي الأردن آنذاك.

ص: 257

يؤيد هذا قوله تعالى {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (1).

فمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف، إلا أن الله تعالى أراد إعلام الأمة وإرشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تكون في المعروف (2).

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف (3)»

وفي رواية لمسلم (4)، وأحمد (5): أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (6)»

والأخذ بقول ضعيف مع وجود ما هو أقوى منه معصية لله تعالى.

جاء عن ابن فرحون المالكي، وابن عابدين الحنفي: أن

(1) سورة الممتحنة الآية 12

(2)

انظر مجلة الحج، مجلد 19 عدد 2 في 16 شعبان 1384 هـ ص 76.

(3)

أخرجه البخاري / فتح الباري 13/ 122، ومسلم / صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 227.

(4)

صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 عدد 257.

(5)

انظر الفتح الرباني، ج 14 ص 45.

(6)

أخرجه البخاري / فتح الباري، 6/ 115، و 13/ 121، وأخرجه مسلم / صحيح مسلم بشرح النووي، 12/ 226.

ص: 258

الحكم والفتيا بما هو مرجوح خلاف الإجماع (1)، وما كان خلاف الإجماع فهو باطل لا يحل الأخذ به ولا إلزام الناس به، بل الأولى إنكاره.

قال أبو يعلى: وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، ربما صار ذريعة إلى استباحة الزنا، فيدخل في إنكاره كحكم ولايته (2).

وقال الماوردي: وفي معنى المعاملات إن لم تكن منها عقود المناكح المحرمة ينكرها إن اتفق العلماء على حظرها، ولا يتعرض لإنكارها إن اختلف الفقهاء فيها إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه (3).

ومن ثم فلا يحل للمحتسب أن يحمل الناس على قول ظهر ضعفه.

المطلب الثاني: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف:

للعلماء في ذلك قولان:

(1) انظر تبصرة الحكام، ج1 ص53، وانظر حاشية ابن عابدين، ج5 ص408.

(2)

انظر الأحكام السلطانية، لأبي يعلى ص297.

(3)

انظر الأحكام للماوردي، ص253.

ص: 259

القول الأول ليس للمحتسب أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.

القول الثاني: له أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.

وفيما يلي أعرض أقوال العلماء في ذلك.

أقوال أصحاب القول الأول:

قال الماوردي: فأما المتعلق بحقوق الله عز وجل. . . وإن كانوا عددا اختلف في انعقاد الجمعة بهم. . الحالة الثالثة أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب فلا يجوز له أن يعارضهم فيها. . ولا يجوز أن ينهاهم عنها ويمنعهم مما يرونه فرضا عليهم (1).

وقال: ولكن لو كانت الجماعات في بلد قد اتفق أهله على تأخير صلواتهم إلى آخره، والمحتسب يرى فضل تعجيلها فهل له أن يأمرهم بالتعجيل؟ على وجهين.

وقال: فأما الأذان والقنوت في الصلوات إذا خالف فيه رأي المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهي.

ونص أيضا في مثل ذلك على الاقتصار على مسح أقل الرأس أو العفو على قدر الدرهم من النجاسات فلا اعتراض له في شيء من ذلك بأمر ولا نهي (2).

(1) انظر الأحكام السلطانية، ص243.

(2)

الأحكام السلطانية، ص245.

ص: 260

وقال الشاطبي: ولا ينقض حكم الحاكم لمصلحة الفصل في الخصومات وإن أدى إلى الحكم بما ليس بمشروع ولو كان حكمه خطأ، إلا إذا خالف إجماعا أو نصا أو قاعدة شرعية (1).

قال الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟

على وجهين. . والوجه الثاني ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده ولا أن يقودهم إلى مذهبه لتسويغ الاجتهاد للكافة وفيما اختلف فيه (2).

قال النووي: والأصح أنه لا يغيره. . ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين -. وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا (3).

يقول ابن تيمية: (. . . لا يقل أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكما، فإن هذا ينقلب فقد يصير الآخر حاكما فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه (4).

(1) انظر الموافقات، ج 1 ص 237.

(2)

انظر الأحكام السلطانية، ص 241.

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص24.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص 379، 380.

ص: 261

وقال: وأما من يقول: إن الذي قلته هو قولي أو قول طائفة من العلماء المسلمين، وقد قلته اجتهادا أو تقليدا، فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، والله تعالى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1)، ويقول سبحانه:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2)) (3).

ويقول: فكيف يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها، فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا (4).

وسئل عمن ولي أمر المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟.

فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا هو في معنى ذلك (5).

(1) سورة البقرة الآية 286

(2)

سورة البقرة الآية 286

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 378.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 380.

(5)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 79.

ص: 262

وقال: ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به رسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما (1).

قال أبو يعلى: وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه (2).

أقوال أصحاب القول الثاني القائل بأن للمحتسب أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف:

قال الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟

على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده (3).

حكي أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر فأزال سوق الدادي ومنع منها، وقال: لا يصلح إلا للنبيذ المحرم، وأقر سوق اللعب ولم يمنع منها.

وأما المجاهرة بإظهار النبيذ؛ فعند أبي حنيفة: أنه من

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص372.

(2)

الأحكام السلطانية، ص297.

(3)

الأحكام السلطانية، ص 241.

ص: 263

الأموال التي يقر المسلمين عليها فيمتنع من إراقته ومن التأديب على إظهاره، وعند الشافعي: أنه ليس بمال كالخمر وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة بشواهد الحال فيه، فينهى فيه عن المجاهرة ويزجر عليها إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه إلا أن يأمره بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد (1).

قال مهنا: سمعت الإمام أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه وحده (2) أي لا يجاهر بشربه.

وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة فعلى المحتسب أن يفصله حتى تصير خشبا لتزول عن حكم الملاهي ويؤدب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي (3).

فأما المتعلق بحقوق الله عز وجل فضربان: أحدهما: يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد كترك الجمعة في وطن مسكون. . أو أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بعدد لا يراه القوم، فهذا مما في استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى أم لا؟.

على وجهين لأصحاب الشافعي رضي الله عنه: أحدهما: وهو مقتضى قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز أن يأمرهم

(1) الأحكام السلطانية، ص 251.

(2)

انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 166.

(3)

الأحكام السلطانية، ص 251.

ص: 264

بإقامتها اعتبارا بالمصلحة لئلا ينشأ الصغير على تركها فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه.

فقد راعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامعي البصرة والكوفة، فإنهم كانوا إذا صلوا في صحنه فرفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب، فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد الجامع، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة (1).

قال ابن القيم: ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرح، ومجامع الرجال (2).

وقال مالك: أرى أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، ولا تترك الشابة تجلس إلى الصناع، وأما المتجالة والخادم الدون، ومن لا يتهم على القعود عنده، فلا بأس بذلك، وهو كله صواب (3).

وفي مواهب الجليل: ولا يمنعن من الخروج والمشي في حوائجهن ولو كن معتدات، وإلى المسجد، وإنما يمنعن من التبرج والتكشف والتطيب للخروج والتزين، بل يخرجن وهن منتقبات، ولا يخفقن في المشي في الطرقات، بل يلصقن

(1) الأحكام السلطانية، ص 243، 244.

(2)

انظر الطرق الحكمية، ص 280.

(3)

انظر مواهب الجليل، ج 3 ص 405.

ص: 265

بالجدران (1).

يقول ابن القيم: فالإمام مسئول عن ذلك، والفتنة به عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم:«ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (2)»

ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات، كالثياب الضيقة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك.

وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة - إذا تجملت وتزينت وخرجت - ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب. وهذا من أدنى عقوبتهن المالية.

وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولا سيما إذا خرجت متجملة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية، والله سائل ولي الأمر عن ذلك، وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال، والاختلاط بهم في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك.

وقال الخلال في جامعه: أخبرني محمد بن يحيى

(1) مواهب الجليل، ج 3 ص 405.

(2)

أخرجه الترمذي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح / الجامع الصحيح، ج 5 ص 103.

ص: 266

الكحال: أنه قال لأبي عبد الله: أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال: صح به.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية (1).

وتمنع المرأة إذا أصابت بخورا أن تشهد عشاء الآخر في المسجد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان (2)»

ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة.

فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا، بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات، ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا - والرعية - قبل الدين لكانوا أشد شيء منعا لذلك (3).

(1) أخرج نحوه الترمذي عن أبي موسى قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح / الجامع الصحيح، ج 5 ص 106.

(2)

أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب / الجامع الصحيح، ج 3 ص 476، قال الهيثمي: رجاله موثقون / فيض القدير، ج 6 ص 267.

(3)

انظر الطرق الحكمية، ص 280، 281.

ص: 267

وإن دعا الإمام العامة إلى شيء وأشكل عليهم لزمهم سؤال العلماء فإن أفتوا بوجوبه قاموا به، وإن أخبروا بتحريمه امتنعوا عنه، وإن قالوا هو مختلف فيه، وقال الإمام يجب، لزمهم طاعته كما تجب طاعته في الحكم (1).

الترجيح:

فيما مضى من عرض أقوال العلماء في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف، فإنه يظهر لي أنه لا يحل للمحتسب أن يلزم الناس بقول يراه ولا يراه غيره من العلماء أو من يقلدهم إلا إن كانت مآلات الأخذ بالقول أو الفعل المخالف تؤدي إلى مفاسد محظورة أو إماتة سنة معلومة، أو معصية يتحقق بها إثم.

والنظر في مآلات الأفعال من مقاصد إلى شرع، سواء أكانت الأفعال موافقة أم مخالفة.

وفي نظري أن المحتسب المنكر في مسائل الخلاف لا بد أن يكون مجتهدا ولو في المسألة المختلف فيها حتى يتمكن من معرفة الخلاف أو لا، ثم الحكم على الأفعال الصادرة من المكلفين وما تؤول إليه، ومن ثم يقرر الإقدام أو الإحجام.

أما الإقدام دون نظر في ذلك فقد يؤدي إلى مفسدة تساوي ما طلبه أو تزيد عليه، سواء أكانت المفسدة عاجلة أم آجلة، وقد يكون الإحجام عن الاحتساب في ذلك سبب كل

(1). انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 62.

ص: 268

بلية (1).

لهذا فإن إنكار المحتسب - المجتهد - في مسائل الخلاف أمر يحتاج معه إلى علم وذكاء وفطنة ومعرفة حال الفعل وحال الفاعل، والزمان، والمكان، ومدى انتشار الفعل وندرته، والطريقة المناسبة لإنكاره، والطريق الأنسب لتقبل الناس للإنكار. فهو بهذا أشبه بالطبيب يتلمس العلة ويتخذ من الوسائل اللازمة لمعرفتها ثم يصف الدواء اللازم لها، ولا ينبغي لأي محتسب - غير مجتهد - أن يقرر ما يشاء عند مخالفة الناس لما يراه، ولهم فيما يفعلون حجة، والحكم قد يخفى عليه، والحق تبارك وتعالى لم يرض بحكم واحد بين الزوجين، إذا خيف الشقاق بينهما؛ فإنه لا يعلم أيهما الظالم وليس بينهما بينة، بل أمر بحكمين، غير متهمين، حكم من أهل الرجل وحكم من أهل المرأة، كما قال تعالي:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (2).

ففي هذه الآية لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد وهو في قضية معينة بين زوجين، ولو حكم حاكم واحد بين زوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين، فكيف بأمور الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين، وقد اشتبهت على كثير من الناس.

(1) انظر الموافقات، ج 4 ص 194 بتصرف.

(2)

سورة النساء الآية 35

ص: 269

وولي الأمر إن لم يعرف ما جاء بالكتاب والسنة ولم يمكنه أن يعلم، ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما (1).

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للرجل: (لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد)(2).

أما الإنكار على الأفعال التي تؤول إلى مفاسد أو مآثم فقد فعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يلي:

1 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر (3).

ولمسلم عن علي في قصة الوليد بن عقبة أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده، فجلده فلما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إلي (4).

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 386.

(2)

انظر الحديث رقم 3 من أدلة أصحاب القول الأول من المطلب الثاني الفصل الرابع.

(3)

متفق عليه / انظر سبل السلام شرح بلوغ المرام، ج 4 ص 36.

(4)

انظر سبل السلام، ج 4 ص 39.

ص: 270

2 -

روى طاوس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1).

وفي رواية عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة، قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (2).

يقول ابن تيمية: فلما كان زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام في نوع من التشديد عليهم؛ كمنعهم من متعة الحج، وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة، وكتغليظ العقوبة في الخمر (3).

وخلاصة ما مضى: فإنه لا يحل للمحتسب الإنكار على قول في مسألة خلافية مشتهرة وحمل الناس على غيره إلا إن كان الأخذ بالقول أو الفعل المخالف يؤول إلى مفسدة محظورة، أو إماتة سنة معلومة، أو معصية يتحقق بها إثم. والله أعلم.

(1) أخرجه أحمد ومسلم / نيل الأوطار، ج 6 ص 258.

(2)

أخرجها مسلم / نيل الأوطار ج 6 ص 258.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 158.

ص: 271

الفصل السادس: في النتائج المترتبة على مخالفة المنهج الصحيح في الإنكار:

التزم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطاعة المطلقة لله بقولهم: (سمعنا وأطعنا) وكان يطيع بعضهم بعضا، فها هو عمر ينقاد لأبي عبيدة ما لا ينقاد لغيره، وخفي عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها حتى تنازعوا فيها وهم مؤتلفون، كل منهم يقر الآخر على اجتهاده.

فلما كان في آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع في الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر فحصل من بعض القلوب التنافر حتى قتل عثمان فصاروا في فتنة عظيمة، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1)، فالفتنة إذا جاءت عمت الظالم والساكت عن نهي هذا الظالم وصار ذلك سببا لمنعهم كثير من الطيبات، وصاروا يختصمون في متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقا كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبني أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون من تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا يقصد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خفي عليهم الحكم، وكان ذلك سبب ما حدث من الذنوب (2) قال ابن العربي: فلما رفع الميزان. . . . أخذ الله القلوب

(1) سورة الأنفال الآية 25

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 157.

ص: 272

عن الألفة ونشر جناحا من التقاطع، حتى سوى جناحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق، واتصل الهرج إلى يوم المساق، وصارت الخلائق عزين في كل واد من العصبية يهيمون، فمنهم بكرية، وعمرية، وعثمانية، وعلوية، وعباسية، كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم، مقتر من الخير عديم. وليس ذلك بمذهب، ولا فيه مقالة، إنما هو حماقات وجهالات، أو سائس للضلالات، حتى تضمحل الشريعة، وتهزأ الملحدة من الله، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، وقد سار بهم في غير مسار، ولا مذهب (1)، ومن النتائج المترتبة على هذا المنهج الوقوع في الإثم وحرمان الناس من العلماء سواء عن طريق استعداء السلطة عليهم بتصيد زلاتهم، أو تحريف أقوالهم أو تأويلها لينال الحاكم منهم، أو من طريق التقليل من شأنهم ومن علمهم الذي يحملونه.

وهذا المنهج يوجد الهجران والقطيعة بين العلماء، بل وبين الناس بعضهم مع بعض؛ لأنهم متبعون لهذا أو ذاك.

وأمة الإسلام بحاجة إلى تآلف العلماء ونصرتهم للحق؛ لأن هذا العصر عصر غربة للإسلام، لقلة العلم، والعلماء بالسنة والكتاب، ولغلبة الجهل، وكثرة الشرور، والمعاصي، وأنواع الكفر، والضلال، والإلحاد، وعصر هذا شأنه فإن الأمة بحاجة إلى تكثير سواد العلماء لا قلتهم، وبحاجة إلى أن لا نعين

(1) انظر العواصم من القواصم، ص 246.

ص: 273

الشيطان عليهم كما روي ذلك عن سلمان الفارسي (1).

يقول ابن تيمية: وإذا ألزم ولاة الأمر الناس على ما لم يعرفوا حكمه ولم يمكنهم معرفته فإن البأس سيقع بينهم، وهذا من أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا (2)، ويقول: فكيف يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه. هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا (3).

ومن نتائج الجهل بالإنكار الصحيح تشكيك الناس بالدين الصحيح والهرج فيما لا علم لهم به، فيكثر المفتون بغير علم، ويكثر المنكرون عن جهل، فيتحول الناس إلى فعل العادات الجارية لا العبادات المشروعة، ويحصل بذلك غلبة الجهل وقلة الدين.

نسأل الله العفو والعافية، والحمد لله رب العالمين.

(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 169.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 388.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 380.

ص: 274