المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حكم الدخان والتنباك - مجلة المنار - جـ ٣٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (35)

- ‌ربيع الأول - 1354ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

- ‌حرمان البنات من الإرثوتعارض القرآن والإجماع

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

- ‌الهمزية في مدح خير البرية

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌شاعر العربالشيخ عبد المحسن الكاظمي

- ‌تفاقم شر الطلاق في أميركا

- ‌العقبة من الحجازفي عهد الدولة العثمانية

- ‌وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌سبب تأخر هذا الجزء من المناروسيكون ما بعده أكبر وأحسن

- ‌ربيع الآخر - 1354ه

- ‌سؤالان عن الربا في دار الحربوعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

- ‌الربا والزكاة والضرائبودار الحرب

- ‌فتاوى المنار

- ‌حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبرالشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌إلى فضيلة الأستاذ الأكبربمناسبة خطابه في حفلة التكريم

- ‌تفسير المنارالجزء الثاني عشر

- ‌نعي فقيد الإسلام والمسلمين

- ‌كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

- ‌كلمة لا بد منها

- ‌الوهابيونوالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌حفلة تأبين فقيد الإسلامالمرحوم السيد محمد رشيد رضا

- ‌خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

- ‌قصيدة الأستاذ الهراوي

- ‌خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

- ‌كلمة الأستاذ عبد السميع البطلفي حفلة تأبين الفقيد

- ‌خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

- ‌خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

- ‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام

- ‌قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

- ‌تعزية الجمعية السورية العربية

- ‌مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

- ‌تعزية جمعية الرابطة العلوية

- ‌كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندرفي حفلة التأبين

- ‌تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

- ‌عواطف ابن زيداننحو فقيد الفضل والعرفان

- ‌وصف المقطم لحفلة التأبين

- ‌كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

- ‌كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

- ‌كلمة المجاهدين السوريين في الصحراءبوادي السرحان

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌المستشرقون والإسلام

- ‌الفصل الأولأسباب ونتائج

- ‌الفصل الثانيمحمد قبل البعث

- ‌الفصل الثالثالتحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

- ‌الفصل الرابعمحمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

- ‌الفصل الخامسالتوحيد هو روح الحرية

- ‌الفصل السادسأثر التوحيد الاجتماعي

- ‌الفصل السابعتعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

- ‌الفصل الثامنحكاية فنسنكوالمجمع اللغوي الملكي

- ‌الفصل التاسعحكاية فنسنك [

- ‌جمادى الآخرة - 1358ه

- ‌تصدير

- ‌في الميدان من جديد

- ‌بين طائفتين من المؤمنين

- ‌نشأة المنار والحاجة إليه

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌بين الشرق والغرب

- ‌ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

- ‌تطور الإسلام

- ‌صاحب المنارالسيد محمد رشيد رضا

- ‌فلسفة النفاقالمنافقون في فلسطين وحكمهم

- ‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

- ‌المنار والإصلاح

- ‌اتجاه محمود في الشرق العربي

- ‌ظهور المنار ودلالته

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌رجب - 1358ه

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌دعوى علم الغيبومنابذتها لأصول الإسلام

- ‌وصف الدنيا

- ‌الشيخ محمد عبده(1)

- ‌من كلام الإمامعلي رضي الله عنه

- ‌انتقاد المنارحول فتوى آيات الصفات وأحاديثها

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي

- ‌تعليق

- ‌السيد محمد رشيد رضا

- ‌ استحضار الأرواح

- ‌ربيع الأول - 1359ه

- ‌الأحمدية(القاديانية واللاهورية)

- ‌ماذا في إندونيسيا

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌في محيط الدعواتتحليل ومقارنة

- ‌مشكلة المرأة في مصر

- ‌ربيع الثاني - 1359ه

- ‌احتجاب المنار

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌خطيئة آدم

- ‌في محيط الدعوات(2)

- ‌براءة من القاديانية

- ‌الشيخ محمد عبده [*](2)

- ‌انتقاد المنار

- ‌السيد الكامل آل رضارحمه الله

- ‌جمادى الآخرة - 1359ه

- ‌ حكم الدخان والتنباك

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌السيد الإمام محمد رشيد رضاناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

- ‌من مشكاة النبوة

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌شعبان - 1359ه

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌ حكم الصلاة في النعلين

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌المرأة المسلمة(2)

- ‌إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم

- ‌بيان الحكومة المصريةعن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة

- ‌من كلام الإمام علي في نهج البلاغة

الفصل: ‌ حكم الدخان والتنباك

الكاتب: حسن البنا

‌احتجاب المنار

تأخر صدور المنار عن موعده هذه الشهور الماضية لأسباب رسمية كانت بيننا

وبين وزارة الداخلية المصرية، وقد زالت والحمد لله، وها هي المنار تعود إلى

الظهور لتقوم بواجبها في ميدان الدفاع عن الإسلام الحنيف والدعوة إليه.

ولغلوِّ الورق غلوًّا عظيمًا وصل إلى أكثر من الضعف، اضطررنا إلى جعل

العدد ثمانٍ وأربعين صفحة بدلاً من ثمانين، ونحن نأسف لهذا أسفًا شديدًا، ولكن

للضرورة حكمها.

وسيصدر العدد التاسع - إن شاء الله - في أوائل شهر جمادى الأولى، والعاشر

في أوائل جمادى الثانية بحول الله وقوته، وبذلك يتم المجلد الخامس والثلاثون

ويبدأ السادس والثلاثون، والله الموفق والمستعان.

_________

ص: 552

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المنار منذ عشرين سنة

ربيع الآخر سنة 1339

دعوة عرب الجزيرة إلى الوحدة والاتفاق

بقلم السيد محمد رشيد رضا

رحمه الله

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ

أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ

فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا

كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل

عمران: 103 - 105) .

ثبت في القرآن المجيد ثم في التواريخ التي دونها علماء العرب وغيرهم من

الأمم قديمًا وحديثًا ومن العاديات (الآثار القديمة) التي اكتشفت في أقطار مختلفة،

أن العرب من أقدم أمم الأرض حضارة وعمرانًا ورسلاً وشرائع، حتى أنهم

استعمروا أقدم البلاد مدنية كمصر وسورية والعراق، فلهم في حضارة الفراعنة

والفينيقيين والكلدانيين العرق الراسخ، والمجد الشامخ، فإن لم تكن تلك الأمم

فروعًا منهم، فلها وشائج أرحام مشتبكة بهم من قبل أن يمزجها الإسلام بهم في

الدين واللغة والنسب بألوف السنين.

فمن ذلك ما حكاه في القرآن المجيد عن قوم عاد {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ

يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ} (الفجر: 7 - 8) كقول نبيهم هود في مبانيهم وقوتهم:

{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم

بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 128 - 130) وقوله في نسلهم وزرعهم

وضرعهم: {أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 133 - 134)

وبيانه لهم أن هذه النعم يزيدها الرجوع إلى الله بالإيمان وترك المعاصي نماء

وقوة {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً

إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: 52) وما حكاه عن ثمود وقول رسولهم صالح لهم في

تذكيره بنعم الله عليهم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ

تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 61)، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ

وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء: 146 - 149) وما قصه لنا عن سبأ في سورتها كجناتهم عن اليمين

والشمال، واتصالها بالقرى المباركة في أرض الشام، ونظام السير المقدر بالأوقات،

وحفظ الأمن فيها بالعدل والنظام، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى

الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: 18) وناهيكم بقصة ملكتهم مع نبي الله سليمان، وكونها أوتيت من كل

شيء يؤتاه الملوك في ذلك الزمان، مع القوة والحكم بالشورى دون الاستبداد.

ومن ذلك ما أثبته الذين اكتشفوا آثار الكلدانيين في العراق وشريعة ملكهم

حمورابي، من كون شريعتهم عربية ودولتهم عربية، وهذا الملك كان يسمى ملك

البِرّ والسلام، وفي سفر التكوين من أسفار التوراة أن إبراهيم - عليه الصلاة

والسلام - أعطاه العشور؛ إذ كان من رعيته، وأنه بارك إبراهيم، فدل هذا على

أن إبراهيم - صلى الله عليه وعلى آله - كان عربيًّا أيضًا.

ومن ذلك ما اكتشفه أحمد بك كمال العالم الأثري المصري من امتزاج اللغة

المصرية القديمة (الهيروغليفية) باللغة العربية الدال على أحد أمرين: إما أن

العرب وقدماء المصريين من عرق واحد، وإما أن العرب قد استعمروا مصر

وحكموا فيها قبل دولة الرعاة العربية المعروف خبرها في تاريخ مصر، فكان

للغتهم الأثر الخالد في لغتها.

هذا إلماع تاريخي وجيز لمدنية العرب وقوتهم وعمرانهم في التاريخ القديم منذ

ألوف السنين، وإن في لغتهم الغنية الراقية الواسعة دلائل أخرى على ذلك متعددة

المناهج، واضحة المسالك.

قد ضعفت الأمة العربية بعد تلك القوة، وبدت بعد تلك الحضارة، وخرب

معظم بلادها بعد ذلك العمران، وغلبت عليها الأمية، وكادت تعمها الجاهلية

{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ

مَّشِيدٍ} (الحج: 45){وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ومر على الضعف قرون وتعاقبت عليه أجيال، حتى ظن الظانون

أن هذه الأمة هرمت وقاربت الزوال، فلا تقوم لها قائمة ولا يتجدد لها شباب.

ثم جاء الإسلام فجمع شملها بعد فرقة وشتات، وألف بين قلوب قبائلها

وأفرادها بعد عداوة تأرثت بها الأضغان، وتحكمت فيها الثارات، وأخرجها من

ظلمات الجاهلية والأمية إلى نور العلم والحكمة والنظام والمدنية، وجعل لها المكانة

الأولى بين أمم الأرض في السيادة والرياسة، والكلمة العليا في الحكم والسياسة،

فورثت ملك القياصرة والأكاسرة في الشرق، وامتد سلطانها في القرن الأول من

حدود الهند إلى المحيط الغربي وهو آخر ما كان يُعرف من اليابسة في الغرب،

وأحيت في هذه الممالك الواسعة العلوم والفنون، ورقت الصناعة والزراعة،

وسلكت السبل الجديدة للتجارة، فسادت شريعتها جميع الشرائع، وعلت لغتها جميع

اللغات، وفاقت آدابها جميع الآداب.

ولكن حظ جزيرتها من هذا العمران كان قليلاً، ثم دب إليها الخراب وعاد

أكثر أهلها إلى البداوة والأمية والجاهلية أو ما يقرب منها، بل صاروا دون

الجاهلية في بعض الصفات والمزايا حتى اللغة؛ فأنى لبدو الجزيرة وحضرها في

هذا العصر بما يقرب من تلك الملكة العليا في الفصاحة والبلاغة، التي جعلت

لكتاب الله المعجز تلك المكانة من عقولهم وقلوبهم، حتى إن كان أحدهم ليسمع

السورة أو الآية منه فيخر ساجدًا، وتتحول عقائده وأخلاقه وعاداته بهدايته إلى

ضدها.

عاد أهل الجزيرة إلى جاهلية؛ يضرب بعضهم رقاب بعض، بعد أن ألف

الإسلام بينهم فكانوا بنعمة الله إخوانًا، ويرتزق قويهم بسلب ضعيفهم، بعد أن كانوا

يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفرقوا دينهم فصاروا شيعًا تُكفِّر كل

شيعة منهم الأخرى أو تُفَسقها بعد تلك الوحدة العظيمة، جاهلين أو غافلين عن قول

ربهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ

فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وما في معناه من الآيات والأحاديث.

إن هداية القرآن هي التي جمعت كلمة العرب على ما كان من تفرقهم وتعاديهم

في الجاهلية، وهي التي جعلتهم أئمة الأمم في العلم والحكم والآداب والعدل، في إثر

إخراجهم من تلك الأمية، وما أصابهم ما أصابهم بعد ذلك من التفرق والتعادي

والجهل والفقر إلا بتركها، ولن تعود إليهم تلك النعم إلا بعودهم إليها {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ

مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ولكن وحي شياطين التفريق قد

زين بزخرف القول لكل فريق أن كل شيعة تجمعها رابطة مذهب فإنما الواجب عليها

أن تعمل بقول علمائه وحكامه، ولا يجوز لها أن تهتدي بكتاب الله وسنة رسوله وإن

اختلفوا في الرأي وتنازعوا في الأمر، خلافًا لقوله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي

شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) وشُبهتها على هذه المخالفة إلى

الاهتداء بكتاب الله المنزل فتح لباب الاجتهاد المقفل، فاختلفوا في أصل الاهتداء

بالكتاب الذي أنزله الله - تعالى - لإزالة الاختلاف.

من غُص داوى بشرب الماء غصته

فكيف يفعل من قد غُص بالماء

إن الله - تعالى - أرسل رسله لهداية خلقه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ

لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ

البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) فكيف يؤخذ بقول العلماء والأمراء الذين

يبغى بعضهم على بعض فيما تنازعوا واختلفوا فيه من الأمر إذا لم يرجعوا إلى

الأصل الجامع، ويحكموه في الخلاف الواقع، وهو يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي

شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء:

59) ثم يعلل ذلك تعليلاً بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59)

أي أحسن عاقبة ومآلاً من كل ما عداه، فكيف لا يكون خيرًا من اتباع أهوائهم في

تحكيم آرائهم والرد إلى أقوال زعمائهم وعلمائهم؟ على أن هذا الرد إلى كتاب الله

وسنة رسوله وذلك الاهتداء بهما لا يستلزمان الاجتهاد الأصولي المطلق الذي أقفلوا

بابه؛ فقد كان عوام السلف الصالح مهتدين بهما ولم يكن كل واحد منهم إمامًا مجتهدًا

في استنباط جميع الأحكام، كأئمتهم المشهورين وعلماء الأعلام.

نعم إن الشيخ محمد عبد الوهاب قد جدد دعوة الدين في بقاع نجد، فرجع

الألوف بها عما كانوا عليه من الجاهلية والشرك، وكادت تنتشر دعوته في جميع

جزيرة العرب التي يتعذر إصلاحها وجمع كلمتها بغير الدين، ولو تم ذلك لتجدد

أمر الإسلام في جميع أقطار المسلمين؛ ولكن حال دون ذلك فتنتان:

(أولاهما) مقاومة السياسة لها، والأخرى غلو الكثير من القائمين بها،

فالأولى إذاعة الساسة في العالم كله أن هذه دعوة ابتداع في الدين، والغلاة أيدوا هذه

الإذاعة بما اشتهر عنهم من الغلو، ولا سيما تكفير من عداهم من المسلمين، ولهذه

التهمة أصل، وقد بينا الحقيقة في هذه المسألة من قبل، وغرضنا من الإلمام

بذكرها الآن بيان استعداد العرب للصلاح والإصلاح بدعوة الإيمان إذا قام بها من

يدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن،

وتذكير الغلاة من المتدينة بأن لا يغلوا في دينهم، ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولا

يُحرِّموا ما لم يُحرِّم الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص، وأن يعذروا كل مخالف

لهداية الدين بالتأول أو الجهل، ويعتمدوا في بث الدعوة على نشر العلم والعمل به

على قاعدة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وأن لا

يكفروا أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن يفرقوا بين الكفر بشيء مما يجب

الإيمان به عن جهل - وإن عدَّ بعضه الفقهاء كفرًا وردة - وكفر العناد وتكذيب

الرسول الذي كان عليه مشركو الجاهلية في زمن البعثة، فإذا علموا هذا وعملوا به

لا تلبث الدعوة أن تعم الجزيرة وغيرها، ويسقط كل من يعارضها حرصًا على

الزعامة وحب الرياسة.

هذا، وإن لما أصاب الجزيرة من الشقاق والشقاء سببًا أصيلاً - وراء الخلاف

الديني - للبغي، وهو حب الرياسة وعلو بعض الزعماء على بعض، وسببين

عارضين: وهما الجهل والفقر، وإزالة السببين العارضين من الأمور الكسبية

القريبة المنال، وإنما الشقاء كل الشقاء في الشقاق الناشئ عن حب الرياسة والعلو،

وخطره المنذر بالهلاك والزوال.

إن في بلاد العرب من ينابيع الثروة ما يكفي لجعل أهلها من أغنى شعوب

الأرض؛ كمعادن الذهب والحديد والحجارة الكريمة والأملاح والزيوت المعدنية

وغير ذلك، وفي كثير من أرضها قابلية لخصب الزراعة يعز نظيره في غيرها،

وناهيك بقهوة اليمن ونخيل المدينة وفاكهة الطائف، وأهلها أذكى الشعوب، وأقواها

استعدادًا للتجارة، حتى أن عوام الحضارمة قد زاحموا بها أرقى شعوب هذا العصر

علمًا وتجربة في بلاد الهند وجاوة ومصر، فبقليل من العلم والنظام تدخل جزيرة

العرب في حياة جديدة من الثروة والعمران، وتحفظ نفسها من الخطر المحدق بها

الآن، ولكن ذلك يتوقف على إزالة العداء الذي طرأ على أئمتها في هذا الزمان.

إذا زال الشقاق وأديل منه الاتفاق بين أئمة اليمن والحجاز ونجد، زال في

أثره ما منيت به البلاد من الجهل والفقر، وما يتهددها من فقد الاستقلال والذل،

وإذا حل بالجزيرة ما جعله الله - تعالى - بسنته في البشر عقابًا لازمًا لأهل التنازع

والفشل، يذل الإسلام ويزول سلطانه عن رؤوس سائر الأمم، وتكون تبعة ذلك

على أمراء الجزيرة وأئمتها، وما يظن بأحد منهم أنه يحسب أن بلاده بمأمن من

سيطرة الأجانب بقوتها أو بحرها ووعورتها، إذا لم يبق (فيما أظن) منهم من

يجهل أن الأجانب قد استولوا على ما هو مثلها أو أشد منها قوة وألذع حرًّا وأصعب

وُعورة، على أنه ليس مثلها في كونه جزيرة أو شبه جزيرة، فهذه البلاد يمكن

للدول البحرية حصرها من البحر، ومنع السلاح عنها، وقطع موارد الرزق، ولا

سيما إذا ثبتت سيطرتها على بلاد سوريا والعراق، التي يسهل حصرها أيضًا إذا

هي نجت من تلك السيطرة، وليتذكروا جميعًا ما أوصى به النبي صلى الله عليه

وسلم في مرض موته بشأن جزيرتهم، وحكمة ما أشار إليه من أن الإسلام سيأرز

إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، وتطبيق ذلك على ما صار إليه أمر المسلمين

الآن.

إن بقاء عز الإسلام يتوقف على استقلال العرب وإصلاح شئونهم كما ثبت

عندنا بالنظر الصحيح المؤيد لحديث جابر عند أبي يعلى بسند صحيح، وهو قوله

عليه الصلاة والسلام: (وإذا ذلت العرب ذل الإسلام) ولا عز بغير استقلال،

ولا استقلال إلا بالقوة والمال، ولا قوة ولا ثروة مع الشقاق والفرقة، وإنما القوة

كل القوة بالاعتصام والوحدة، فإذا اتحد أمراء الجزيرة وأئمتها حفظوا استقلالهم،

وأمكنهم نشر العلم وتفجير ينابيع الثروة في بلادهم بمساعدة أهل البصيرة والقادرين

على تنظيم الإدارة والقوة وتدبير الثروة من أمتهم، وتسابقت الشعوب الغنية القوية

إلى موادتهم أو مصانعتهم للاستفادة من قوتهم وثروتهم، بل هي على وشك الاحتياج

إليهم مذ الآن؛ لما بين غربي أوروبا وشرقيها من المقارعة والصدام الذي يتوقف

على نتيجته ما يكون عليه الشرق من حكم ونظام، ولا سيما شعوب الإسلام من

العرب والترك والفرس والتتر والأفغان.

هذا ما أحكيه لهم عن رأي أهل البصيرة والدين من عقلاء العرب وعلماء

المسلمين، الذين يتنفسون الصعداء حزنًا ويحرقون الأُرَّم غيظًا وأسفًا كلما صخ

أسماعهم نبأ تقاتل أئمة الجزيرة للتنازع على بعض الجبال والأودية [1] ، مع خراب

البلاد وفقر العباد، اللذين يزيلهما الاتفاق والاتحاد، ويزيدهما الافتراق والجلاد،

وإنني أسأل صفوة المخلصين من عقلاء العرب وغيرهم من المسلمين أدعوهم

إلى عقد الاتفاق والحلف بينهم على الأصول الآتية:

(1)

إبطال الحرب والغزو بين عرب الجزيرة بعضهم مع بعض، وحل

مشكلات الخلاف بالتحكيم ولو بصفة هدنة مؤقتة إلى أن يوضع للبلاد نظام حلفي

ثابت.

(2)

حفظ الحالة الحاضرة باعتراف كل حكومة مستقلة في قسم الجزيرة

باستقلال سائر الحكومات الموجودة فيها اليوم، وترك مسائل الحدود إلى مجلس

التحكيم، بحيث لا يعد اعتراف بعضهم باستقلال بعض متضمنًا للرضا بالحدود

المختلف عليها.

(3)

حرية المذاهب الدينية الموجودة في البلاد في التعليم والعمل والدعوة،

بشرط عدم طعن أحد في مذهب غيره أو تكفير متَّبعيه، بل يتبع في ذلك قوله تعالى:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، فلكل أحد أن يبين بالدليل أو بنصوص المذاهب المعتمدة أحكام

الدين والكفر والحلال والحرام؛ ولكن ليس له أن يطبقها على طائفة معينة من أهل

القبلة؛ لأن التطبيق له شروط ولا سيما في شأن الطوائف والجماعات التي تقيم

الشعائر الإسلامية، بل ليس لغير الحاكم الشرعي في الدعوى الشرعية أن يحكم

بكفر شخص معين يدعي الإسلام ويقتله بذلك كما ينقل عن بعض الغلاة في بعض

البوادي، فرب قائل قول أو فاعل عده بعض العلماء كفرًا لدلالته عندهم على عدم

تصديق الرسول، وقائل القول أو فاعل الفعل من المؤمنين الموقنين ولكنه جاهل أو

متأول، ولو ظهر له الحق في المسألة لقبله مذعنًا، ورجع عما كان عليه تائبًا

مستغفرًا.

(4)

حرية التجارة، وحفظ الأمن في البلاد، وتسهيل طرق المواصلات

بينها، وتنظيم مصلحة البريد والبرق، والمبادرة إلى إنشاء تلغراف لا سلكي في

البلاد ولا سيما عواصمها.

(5)

إرسال كل حكومة معتمد إلى عاصمة الأخرى يكون وكيلاً لها عندها،

كما هو المعهود بين جميع الحكومات التي بينها عهود ولها مصالح في البلاد

الأخرى.

(6)

بعد حصول هذه التمهيدات يتألف لهذه الحكومات مجلس حلفي، يكون

هو المرجع في حل جميع مسائل الخلاف ووضع الحدود بين البلاد، وجميع ما

يتعلق بحفظها وترقية شؤونها، وإننا متى رأينا من أئمة اليمن والحجاز ونجد

شروعًا في تنفيذ هذا العمل الذي دُعوا إليه جميعًا قبل أن تشتد الحاجة إليه بوقوع

الحرب العظمى وكثر الحديث فيه، فإن عقلاء الأمة العربية في سائر البلاد وأهل

الغيرة من مسلمي الأعاجم يمدونهم بآرائهم السديدة ومساعداتهم الرشيدة في تنفيذ

الاتفاق الحلفي، ونظام مجلسه، وسائر ما يحتاجون إليه في ذلك وفيما يترتب عليه

من إيجاد وسائل الثروة في البلاد.

فيا أيها الأئمة المتَّبعون في بلادكم، إنكم تعلمون أنكم مسئولون عند الله -

تعالى - عن كل ما يتعلق بأمر البلاد وأهلها، ولعلكم لا تعلمون حق العلم قدر

اهتمام الشعوب الإسلامية الأخرى بأمركم، وما يقولون عنكم كلما بلغهم شيء من

أنباء اختلافكم وتقاتلكم، ألا فاعلموا أن جميع العقلاء منهم ومن غيرهم يعلمون علم

اليقين أن اتفاقكم خير لكل منكم، وأن بقاء هذا الشقاق بينكم أكبر مصاب عليكم

وعلى شعبكم وأمتكم وملتكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال: 1) ،

والسلام على من اتبع الهدى ورجَّح المصلحة العامة على الهوى.

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

كجبل سعفان الذي يتقاتل عليه صاحبا اليمن وعسير، ووادي طربة الذي يتنازع فيه صاحبا الحجاز ونجد.

ص: 573

الكاتب: حسن البنا

المرأة المسلمة

كتب إليَّ كاتب فاضل يطلب أن أكتب عن المرأة وموقفها من الرجل،

وموقف الرجل منها، ورأي الإسلام في ذلك، وحث الناس على التمسك به

والنزول على حكمه.

لست أجهل أهمية الكتابة في موضوع كهذا، ولا أهمية انتظام شأن المرأة في

الأمة، فالمرأة نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ التأثير؛

لأنه المدرسة الأولى التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي

يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب واتجاه الأمة، وهي بعد ذلك المؤثر

الأول في حياة الشباب والرجال على السواء.

لست أجهل كل هذا، ولم يهمله الإسلام الحنيف وهو الذي جاء نورًا وهدى

للناس، ينظم لهم كل شئون الحياة على أدق النظم وأفضل القواعد والنواميس،

أجل لم يهمل الإسلام كل هذا، ولم يدع الناس يهيمون فيه في كل واد، بل بيَّن لهم

الأمر بيانًا لا يدع زيادة لمستزيد.

وليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل وعلاقتهما

وواجب كل منهما نحو الآخر، فذلك أمر يكاد يكون معروفًا لكل الناس؛ ولكن المهم

أن نسأل أنفسنا، هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام؟

الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشاها موجة ثائرة قاسية

من حب التقليد الأوربي والانغماس فيه إلى الأذقان.

ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون

أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية والنظم

الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالاً سيئًا يخرجها عن

صورتها الإسلامية إخراجًا كاملاً، ويجعلها نظمًا أخرى لا تتصل به بحال من

الأحوال، ويهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي وكثيرًا من النصوص التي

لا تتفق مع أهوائهم.

هذا خطر مضاعف في الحقيقة، فهم لم يكفهم أن يخالفوا حتى جاءوا يتلمسون

المخارج القانونية لهذه المخالفة، ويصبغوها بصبغة الحِلّ والجواز، حتى لا يتوبوا

منها ولا يقلعوا عنها يومًا من الأيام.

فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرًا خاليًا من الهوى، وأن نعد

أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله - تعالى - ونواهيه، وبخاصة في هذا الأمر الذي

يعتبر أساسيًّا وحيويًّا في نهضتنا الحاضرة.

وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكر الناس بما عرفوا وبما يجب أن يعرفوا

من أحكام الإسلام في هذه الناحية.

أولاً: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات،

وهذه قضية مفروغ منها تقريبًا؛ فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها،

واعتبرها أختًا للرجل وشريكة له في حياته، هي منه وهو منها: {بَعْضُكُم مِّنْ

بَعْضٍ} (آل عمران: 195) وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية

كاملة، وبحقوقها المدنية كاملة كذلك، وبحقوقها السياسية كاملة أيضًا، وعاملها

على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق وعليه واجب، يُشكر إذا أدى واجباته،

ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا

المعنى وتوضحه.

ثانيًا: التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا لفوارق الطبيعة

التي لا مناص منها بين الرجل والمرآة، وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل

منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما.

وقد يقال: إن الإسلام فرق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال

ولم يسوِّ بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح؛ ولكنه من جانب آخر يجب أن

يلاحظ أنه إن انتقص من حق المرأة شيئًا في ناحية فإنه قد عوضها خيرًا منه في

ناحية أخرى، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر،

وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي

كتكوين الرجل سواء بسواء؟ وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن

الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به

الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة؟

أعتقد أن الكونين مختلفين، وأن المهمتين مختلفتين كذلك، وأن هذا الاختلاف

لابد أن يستتبع اختلافًا في نظم الحياة المتصلة بكل منهما، وهذا هو سر ما جاء في

الإسلام من فوارق بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات.

ثالثًا: بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة

بينهما، وإن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها هي التعاون على حفظ النوع

واحتمال متاعب الحياة.

وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكاه، وصرفه عن المعنى

الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي يعظم غايته ويوضح المقصود منه،

ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام، ولنسمع قول الله-

تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا

وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) .

وعلى ضوء هذه الأصول الثابتة ننظر إلى ما وضع الإسلام من نظم وطرائق.

...

حسن البنا

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 550

الكاتب: حسن البنا

‌خطيئة آدم

حضرة المحترم رئيس تحرير المنار:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد

فأرجو التكرم بإيضاح معنى خطيئة آدم عليه السلام، وكيف يوسوس إليه الشيطان؟

وكيف يتفق ذلك مع العصمة؟ مع بيان توبته، وهل ما يقال من أنه أمر في الباطن

ونهي في الظاهر صحيح؟ وهل جاءت هذه القصة في القرآن على سبيل التمثيل

كما قال بعض المفسرين؟ وما معنى التمثيل عند من يقول به؟ أفيدونا، أثابكم الله،

وغفر لنا ولكم.

...

...

...

...

محمود عسكر

...

...

...

... معلم بملجأ بنها قليوبية

والجواب، والله أعلم:

قص الله علينا في القرآن الكريم قصة آدم عليه السلام وأنه خلقه

وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أمره ألا يأكل من

الشجرة {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا

تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) فوسوس لهما الشيطان

وخدعهما وأقسم لهما إنه لمن الناصحين، فاغترا بنصيحته، ونسي آدم ما عهد به

إليه ربه، فأكلا من الشجرة - مع تحذير الله إياه من إبليس وجنوده - ثم علما ما

كان من أمرهما فندما، وألهمها الله تبارك وتعالى صيغة التوبة، فقالا:

{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف:

23) فقبل الله توبتهما، ولم يؤاخذهما على هذا العصيان إلا بأن أنزلهما إلى

الأرض حيث استعمراها ونسلا فيها، واستمرت الحرب سجالاً بين ذريتهما وبين

الشيطان إلى يوم يبعثون؛ فمن تبع الشيطان فهو من الآثمين المعذبين، ومن حذره

وخالفه فهو من المهتدين الناجين، وسيبرأ هذا الشيطان من أتباعه يوم الدين،

ويكون بينه وبينهم ما قصَّه الله علينا من نبأه في سورة إبراهيم.

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ

وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا

أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ

الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن

تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} (إبراهيم: 22 - 23) .

هذا مجمل ما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مواضع عدة، ومنه تعلم:

(1)

أن خطيئة آدم عليه السلام هي حسن ظنه بوسوسة إبليس حتى

أكل من الشجرة.

(2)

وأن توبته إنما كانت بإلهام الله تبارك وتعالى إياه أن يدعوه بما

جاء في الآية الكريمة في سورة الأعراف: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا

وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وقد كان عن هذه التوبة أن

غفر الله له وتاب عليه، كما قال تبارك وتعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ

وَهَدَى} (طه: 122) .

أما كيف يوسوس له إبليس؟ فذلك لأن قبول النفس البشرية للوسوسة أمر

جِبِلِّيّ خِلقي فيها، والوسوسة تصل إلى النفس الإنسانية وإن كان الشيطان بعيدًا

عنها كما يصل الصوت البعيد على تموجات الهواء أو ما هو أرق منه؛ ولهذا لا

تقدح الوسوسة نفسها في العصمة، فكل بني آدم قابلون لها معرضون إليها بأصل

الخلقة، وإنما يعصم عن ذلك من عُصم منهم برعاية إلهية وحفظ رباني من الله -

تبارك وتعالى مع حسن الاحتراز ودوام اليقظة والبصر، وسد مداخل الشيطان

إلى القلب وتضييق مجاريه، وشغل القلب بذكر الله تبارك وتعالى {إِنَّ

عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء: 65) . على أنه قد

ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا مانع من أن يكون إبليس قد

دخل الجنة بعد أن طُرد منها، مخالفًا بهذا الدخول أمر الله تبارك وتعالى

عاصيًا له، وما زال يزين له الأكل من الشجرة (ويفتله في الذروة والغارب،

ويمنيه بمعسول الأماني، ويرفؤه بالقول اللين حتى تمكن من نفسه، وأنساه أنه

عدوه الذي حذره الله منه أشد الحذر) .

وأما كيف يعصي آدم وهو نبي، والأنبياء معصومون من الوقوع في الذنوب؟

فقد أجاب كثير من الناس عن ذلك بوجوه:

الأول - أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان، وسمي خطيئة أو معصية

وغواية لعلو منزلته، وعظيم تقريب الله إياه وكبير فضله عليه، وكلما قرب العبد

من ربه وعلت منزلته كلما كان ذلك أدعى إلى اليقظة وتمام التذكر والانتباه.

وقد صرحت الآية بلفظ النسيان، ويؤيد هذا قراءة {فَنُسِّيَ} (طه: 115)

بالتشديد على أن المراد فأنساه إبليس أمر الله تبارك وتعالى. وبهذا قال بعض

المفسرين، وإن كان الجمهور على أن " نسي " هنا بمعنى ترك لا بمعنى سها.

والثاني - أنه تأول فيما فعل بأنه فهم أن المراد بالأمر والنهي الإرشاد فقط لا

الإلزام، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدين على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب ولا

إثم في تركه، ويرد على هذا تصريح القرآن بالظلم المترتب على قربان الشجرة

في الآية الكريمة {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) .

والثالث - أن ما حصل من الذنب صغيرة. ويرد على هذا أن القول بعدم

عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الصغائر قول مرجوح، ويرد عليه

كذلك تصريح القرآن الكريم بأن هذه المخالفة عصيان وغواية ترتب عليها عقاب

وتوبة وإخراج من الجنة.

والرابع - أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية. وإلى هذا

ذهب أبو بكر بن فورك، قال: بدليل ما في آيات (طه) من ذكر المعصية قبل ذكر

الاجتباء والهداية. وهو كلام حسن؛ لولا أن ورود الأمر والنهي من الله - تبارك

وتعالى - لآدم بدون واسطة من أمارات النبوة ودلائلها، وقد كان ذلك قبل الأكل

قطعًا، ومن جهة أخرى فإن النفس أمْيَل إلى أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه

عليهم - معصومون من المعصية على كل حال، وإن لم يكن ذلك رأي جمهور

علماء العقائد وإن لم ينعقد الإجماع إلا على العصمة بعد النبوة.

والخامس - أن الله تبارك وتعالى أمر آدم بعدم الأكل من شجرة وأراه

إياها، فظن آدم أنه منهي عن هذه الشجرة بعينها لا بجنسها، فأكل من شجرة

أخرى من جنسها ولم يأكل من التي انصبَّ عليها النهي بالذات، وهذا تأويل حسن

وإن كان عليه مسحة التحايل.

وهناك تصوير تطمئن إليه النفس، وذلك أن يقال إن حقيقة المعصية مخالفة

أمر الله تبارك وتعالى قصدًا، وحقيقة الطاعة هي امتثال أمر الله - تبارك

وتعالى - قصدًا كذلك، فمناط المؤاخذة أو المثوبة في الطاعة والمعصية النية

والقصد، مصداق قوله تبارك وتعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا

وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) .

ولا شك أن آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة لم يكن يضمر معنى

المخالفة ولم يكن يسر العصيان، بل لعله كان يتحرى بذلك المبالغة في طاعة الله -

تبارك وتعالى بأنه سيصير ملكًا خالدًا دائم الطاعة والعبادة لربه، وقد خدعه قسم

إبليس له، فآخذه الله بهذا الانخداع مع سابق التحذير، وإلى هذا المعنى أشار ابن

قتيبة، فقال: أكل إبليس من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخداعه إياه،

والقسم له بالله إنه لمن الناصحين، حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذلك عن اعتقاد

متقدم ونية صحيحة، ويؤيد ذلك أن آدم لم يتفطن إلى أنه أخطأ إلا بعد أن عاتبه

ربه، كما قالت الآية الكريمة: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل

لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف: 22) ، وحينئذ ألهمهما التوبة

فجأرا إلى الله تبارك وتعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا

وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وهذا المعنى واضح مفهوم

في سياق الآيات كلها تقريبًا.

وقد آخذه الله على هذا التأثر بوسوسة الشيطان وخداعه مؤاخذة شديدة حتى تاب

عليه، على حد القاعدة المعروفة حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وما يقال من أنه أمر في الباطن ونهي في الظاهر كلام مردود، ولا دليل عليه،

والأخذ به هدم للتكليف في الحقيقة، وقد جاء في كلام بعض الصوفية شيء من

هذا في التفريق بين معصية الولي والفاسق، وأفضل ما قالوه في ذلك أن الولي لا

يقصد المعصية ولا يفرح بها ولا يُصر عليها، وهذا كلام لا غبار عليه، وأما ما

زاد عليه فغلو لم يقم عليه دليل.

وأما القول بأن هذه القصة وردت في القرآن الكريم على سبيل التمثيل، فهو

قول مردود كذلك، والآيات الكريمة صريحة فيما وردت له لا تحتمل التأويل، وإذا

جاز لنا أن نتأول هذه الآيات مع صراحتها ووضوحها، فقد صار ذلك ذريعة

للخروج بالقرآن كله عن معانيه الواضحة، وهذا مذهب لا يدع من نحلة الباطنية

شيئًا، وليس هناك ما يقتضي العدول عن الظاهر.

وقد ادعى بعض المتعلمين الذين تشربت نفوسهم المعارف والعلوم الإفرنجية،

أن ظاهر هذه الآيات يصطدم بالنظريات العلمية الحديثة التي جاء بها (دارون)

وأمثاله من علماء الحيوان والبحث في أصل الأنواع، وهذا كلام لا تدقيق فيه،

ودعوى لا صحة لها؛ فإن دارون نفسه لم يدَّع أن الإنسان فرع عن غيره من

الحيوان، سواء أكان هذا الحيوان قردًا أم غيره.

كان دارون يدرك تمام الإدراك أن نظريته لا تفسر وجود الأنواع تفسيرًا نهائيًّا

يُثلج الصدر، ويعترف بأن هناك عوامل خفية لا يعرفها اشتركت مع ناموس

الانتخاب الطبيعي في تنويع الأحياء؛ فقد قال في كتابه أصل الأنواع: (أنا مقتنع

بأن ناموس الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي لحدوث التنوعات في الأنواع؛

ولكنه لم يكن العامل الوحيد في إحداث ذلك التغير) فهو هنا يشير إلى أمرين

هامين: الأول أن ناموس الانتخاب الطبيعي في رأيه السبب الرئيسي لحدوث

التنوعات في الأنواع لا في حدوث الأنواع نفسها، والثاني أنه ليس الناموس الوحيد

في ذلك.

وقد كتب دارون إلى المستر هيات يقول له: (اسمح لي بأن أضيف إلى هذا

بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان

أصل الأنواع) فأين هذا من غلو قليلي العقول من جامدي مقلدة الفرنجة؟ على

أن هذا ليس كل ما في الأمر؛ فقد هبَّ كثير من العلماء الغربيين يخطئون نظرية

دارون تخطئة تامة وينتقضونها من أساسها، ويؤلفون في ذلك الكتب الضافية،

ويدللون على ذلك بأدلة علمية يعتقدون صحتها كل الاعتقاد، وإليك بعض الشواهد

من كلام هؤلاء الناس أنفسهم:

(1)

قال الأستاذ فون باير الألماني، وهو من أقطاب الفزيولوجيين

والحفريين والبيولوجيين وأستاذ علم الأميريولوجيا (علم الأجنة) في كتاب أسماه

(دحض المذهب الداروني) بالنص: (إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من

القردة السبماتية هو بلا شك أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان،

وجدير بأن ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد،

يستحيل أن يقوم دليل هذا الرأي) .

(2)

وقال الأستاذ فيركو الألماني موافقًا الأستاذ دوكانزفاج الفرنسي في

كتابه (النوع الإنساني) بالنص: (يجب عليَّ أن أعلن بأن جميع الترقيات الحسية

التي حدثت في دائرة علم الأنترويولوجيا - علم التاريخ الطبيعي للإنسان - السابقة

على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقرد تبعد عن الاحتمال شيئًا

فشيئًا، فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع وهو الذي يجب أن يكون

الإنسان فيه أقرب إلى أسلافه، نجد إنسانًا مشابهًا لنا كل الشبه، فإن جماجم جميع

الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة بأنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا

للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء

إذا كان لهم رأس مثله.

وإذا قابلنا مجموع الرجال الحفريين الذين نعرفهم للآن بما نراه في أيامنا هذه

استطعنا أن نؤكد - بكل جرأة - بأن الأشخاص ناقصي الخلقة هم بين الرجال

العصريين أكثر منهم بين الرجال الحفريين، ولا أتجاسر أن أفترض بأننا في

اكتشافاتنا الحفرية لم نصادف غير أصحاب القرائح السامية من أهل العهد الرابع،

والعادة أننا نستنتج من تركيب هيكل عظمي حضري تركيب معاصريه الذين عاشوا

معه في وقت واحد، ومهما كان الأمر فيجب عليَّ أن أقول بأنه لم توجد قط جمجمة

قرد تقرب حقيقة من جمجمة الإنسان! ! على أنه يوجد بين الإنسان والقرد خط

انفصال نهائي آخر؛ فإننا لا نستطيع فقط أن نعلم الناس بأن الإنسان يتولد من القرد

أو من أي حيوان آخر، بل لا نستطيع أن نعتبر ذلك من الأمور العلمية) .

(3)

وقال الأستاذ إيلي دوسيون من العلماء الفيزيولوجيين عن مذهب

دارون في كتابه (الله والعلم) ما يأتي: (بعد أن قاوم المذهب الداروني عشرين

سنة تلك المكافحات الحقة التي قصده بها خصومه، قضي عليه قضاء غريبًا بأن

يهلك تحت ضربات أشد أشياعه غيرة عليه) ثم ذكر بعد ذلك ما كتبه هربرت

سبنسر في هدم ناموس الانتخاب الطبيعي، وما كتبه (ويسمان) في هدم ناموس

انتقال الصفات والخصائص المكتسبة، وقد كانا عماد مذهب دارون.

هذا قليل من كثير جدًّا جدًّا من أقوال العلماء الأوروبيين في كتبهم ومجلاتهم

في نقض رأي يعتقده جامدو مقلدة الأوربيين عندنا كل شيء في العلم الحديث،

ويتشدقون في الكلام عنه والذهاب إليه، وليس ذلك كل ما في الأمر، بل تغالى

بعض العلماء الأوربيين، فأخذ يحاول إثبات عكس هذا المذهب.

فهل يحق لنا أمام كلام كهذا - مهما تغالينا في قيمته علميًّا، فهو لم يخرج عن

أنه فرض من الفروض العلمية - أن نؤول كلام العليم الخبير ونصرفه عن

الظاهر إلى التأويل والتمثيل؟

ويعجبني كلام تقدم في هذا المعنى في تفسير المنار في سورة البقرة، عند

قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) جاء هناك ما نصه: (كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو

الأصل فيُرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقًا، والحق كما

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلاًّ من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي،

فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب

ترجيح القطعي مطلقًا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول

على المعقول؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما

ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا الضئيلة التي يكثر فيها الخطأ جدًّا، فظواهر الآيات

في خلق آدم مثلاً مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين

في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع)

ا. هـ.

على أنه أورد بعد ذلك وقبله كلامًا طويلاً في الآيات، وذكر الرأي القائل

بالتمثيل على أنه رأي الخلف، ورأي الأخذ بالظاهر ونسبه للسلف، وأكد في عدة

مواضع أنه يقول بهذا الأخير. ونسبة القول بالتمثيل للخلف قول فيه نظر، فمن

المقصود هنا بالخلف؟ ومن الذي قال منهم بهذا الرأي؟ سؤالان يحتاجان إلى

الجواب. على أن الذي يعنينا أن نتفق على الاعتقاد بأن الآيات على ظاهرها،

وأن القصة حقيقة واقعة كما قصها الله تبارك وتعالى علينا في كتابه، والله

يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

وسلم.

...

...

...

...

... حسن البنا

_________

ص: 553

الكاتب: محمد الغزالي

‌في محيط الدعوات

(2)

الكمال المزعوم - المذاهب العلمية السائدة - تقليد أعمى

ولأمر ما وقف تقدم الإسلام، وانحصر النور الإلهي الكريم بين أقوام لا

يقدرونه، ونام المسلمون في النور واستيقظ غيرهم في الظلام، ولم يكن بد لغير

المسلمين من التفكير في قواعد تصح عليها أمورهم بعد أن اتضح قصور الأديان

الباطلة وعدم غنائها في هذه الشئون، وبعد أن عجزت أيدي المسلمين عن التلويح

بالضياء الهادي ليسترشد على شعاعه المدلجون الشاردون، وابتدأ التفكير الإنساني

يخبط في تفهم الحقائق العليا ومدارج ارتقاء النفس، فخلق المجال خلقًا للفلسفة

العملية، وصحيح أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى ينحدر تاريخ الفلسفة وينبت

جذع الشجرة التي تطل الآن علينا فروعها.

وحقًّا أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى يمتد جذر الشجرة الفارعة، شجرة

الفلسفة الحرة التي تظلل فروعها اليوم أكثر بقاع العالم، وسواء أكانت هذه

الأغصان لعوسجة غليظة مؤذية أم لدوحة مورقة فينانة، فإن ما ينبغي أن نطمئن

إليه هو قلة احتمال البشر قديمًا بتطبيق شيء مما وصلت إليه الفلسفة البعيدة عن

روح الأديان تطبيقًا عامًّا شاملاً، بينما نجد اليوم - كأثر حقيقي لوقوف الإسلام في

حدود أوطانه - أن بعض الآثار الفلسفية قد وجدت من الأشياع من يخلصون لها

ويجاهدون لتحقيقها، ويؤسسون لها الحكومات القوية، وينادون بوجوب سيادتها في

أنحاء العالمين، تلك المبادئ - وأكثرها نبت في أودية أوربا المقفرة إلا من أشواك

الوثنية المسيحية - لها شأن عجيب؛ ذلك أنها ظهرت في بيئات أشد ما تكون حاجة

إلى الحرية والانطلاق، وأبعد ما تكون تأثرًا بما عدا ذلك، فهي تسعى وراء ما

تشعر بأن فيه طمأنينتها وسعادتها، وقلما يعنيها بعدئذ أن يوصف ما تظفر به بأنه

حق أو باطل، منكر أو مألوف، إيمان أو إلحاد، وليس من شك في أن النضال

الدموي المروع الذي سوَّد وجه أوربا عصورًا، له أثر بعيد في هذه الحالة.

وفي هوجاء هذه الفتن الخبيثة، وفي مهب أعاصيرها التي لا تكاد إلى اليوم

تهدأ لها ثائرة أو تؤمَن لها غائلة، قامت الماسونية والشيوعية والاشتراكية

والديمقراطية.... . وغير ذلك، ومن ثم نادى أقوام - ممن ذاقوا مرارة الخصام

بين المذاهب المختلفة - بوجوب الإخاء بين جميع المذاهب، أو لو كان إخاء بين

الحق والباطل؟ هذا شيء لا يفكر فيه الماسون، وصاح أقوام ممن عضتهم البأساء

والضراء بوجوب تقسيم كل شيء على الأمة، أو لو كان في ذلك الفوضى

والإباحية؟ هذا شيء يستسيغه الشيوعيون.

وكذلك أسس الفاشيون نظام النقابات أو دولة العمال، ووضع الديمقراطيون

قواعد الحريات العامة للناس؛ كما يقولون. ولكن هل هناك غاية يخدع بريقها

المسلم في ثنايا هذا الغموض والإيهام؟ كلا، إنما هو تهريج عالمي تمخض عنه

حجاج العقل الإنساني أثناء شروده وجحوده، ولا ريب أن توفير حاجات الجسد مما

تنادي به الضرورة، وتكثير أسباب المتع مما تتطلع إليه الرفاهية، ثم إشباع

مطامع بعض النفوس الجياشة بحب التزعم، ثم ذلك التعاون في أي أشكاله بين

شتى العناصر لنيل خير حياة دنيوية ممكنة، لا ريب أن كل هذا هو لباب المذاهب

المتكبرة السائدة هناك، والتي تحاول أن تغزو ميادين الشرق المريض، بل إنها

وجدت فعلاً طريقها إلى بعض النفوس المنحلة في هذه الديار، ولا عجب أن تلقى

بعض النجاح المؤقت إذا كانت قد دعمتها الدراسات المجردة للفلسفة النفسية

والخلقية، هذه الفلسفة التي ادعاها علماء تحرورا من قيود الأديان هزيلها

وخطيرها، واستقامت آراءهم على أسس من تفكيرهم الخاص و (عقولهم الباطنة)

أو الباطلة.

وسنناقش الآن - في إيجاز - أهم المسائل التي قررت في علم النفس كمنهج

للسلوك البشرى الفاضل، ثم نقفي على إثر ذلك بتحليل كامل للمقاييس الخلقية

الموضوعة؛ إذ إن سر الحياة التي تسود اليوم كثيرًا من الطبقات الدعية في كل شيء

إنما يرتد إلى هذه المناهج المصنوعة، وسوف تقر أعين المؤمنين إلى أن الإٍسلام

وحده منهج الحق الواضح، وأنه بحسب المسلم الاعتصام بدينه ليستوى على

صراط تندق دونه أعناق الشياطين {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي

الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 53) .

يرى علماء النفس أنه لكيما يستقيم سلوك الإنسان على نهج واضح ينبغي أن

تكتمل عواطفه ثم تدور كلها في فلك، محوره (احترام الذات) تخضع فيه

استعداداته الموروثة والمكتسبة إلى كل ما يسمو بكرامته كإنسان كامل، وعبارة

الإنسانية الكاملة وضعها أناس ينظرون للحياة خلال عدسة سفسطائية تسخر من

الحقائق، وما دمنا قد وصلنا إلى اعتبار الرأي الشخصي وتقريره أساسًا حرًّا

لاكتساب الإنسانية الكاملة، فقد تنكبنا الحق وفقدنا معه الخير المنشود؛ ذلك أن من

الناس من يقوِّم ذاته على أساس اعتناقها مبدءًا ديكتاتوريًّا، ومنهم من يقومها على

أساس اعتناقها مبدءًا ديمقراطيًّا وكلا الرجلين قد حشد استعداداته الموروثة

والمكتسبة لخدمة مذهبة وركزها عند غاية واحدة، وارتضى أن يموت دونها، فهل

معنى هذا أن كليهما ظفر بالكمال الإنساني المزعوم، مع ما في نظريتهما إلى الدنيا

من تناقض يؤكد بينهما الخصام، بل ينشب بينهما القتال.

على أن لنا نحن المسلمين ما نلاحظه على هذه القضية النفسية التي تريد أن

تخلق من أنانية الفرد مذهبًا عامًّا؛ فإن المسلم الذي محق ذاته في ذات الله ووزن

نفسه بنصيبها من دينه يجب أن ينمي عواطفه كلها، ثم يسيرها في نظام يبتدئ

وينتهي عند تمجيد الله، أما ما يقرر لنفسه هو من احترام وتزكية فهو فضل الله

يضفيه على من شاء، والمسلم الذي يستشعر في قرارة نفسه كل معاني العبودية

لمولاه العلي لا يأذن أبدًا لهذه النفس أن ينسب إليها مجدًا ويُشار إليها بأي ضرب

من ضروب الكبر المفتعل، ونحن نحارب بهذا أناسًا معينين، فيهم الكافر وفيهم

المؤمن المدخول العقيدة.

أولئك قوم زعموا أن السمو بالنفس الإنسانية مستطاع في غير جوار الله،

مستطاع في ظلال هذه العواطف المكتملة، فذهبوا يتلمسون الكمال المنشود في

مبادئ يتوارث الناس احترامها وإكبار أصحابها، حتى إذا اصطبغت نفوسهم بما

وهموه من فضل ومجد راحوا يقررون لها حقوقًا من التوقير والإعظام، وكان لزامًا

على الناس أن يتقدموا إليهم بها، ثم يستقر هذا الضلال المبين، فإذا المفتونون أبعد

ما يكونون عن الله، وإذا هم - على ما بهم من ثقة واعتداد - لا يقيم لهم الدين أي

وزن، ولا ينزلهم أبدًا إلا في أمكنتهم من الرغام.

لهؤلاء وأضرابهم نوع من السلطان المادي والمعنوي في هذه البلاد، وهم -

كأقرانهم من الصابئة الغربية - ممثلو الحملة على الأديان ورسالتها الكريمة في

الحياة، وإذا كان ضجيج القوم قد تعالى هنا وهناك وترددت أصواتهم في أنحاء

كثيرة، فما تعدو هذه الصيحات في قيمتها نقيق الضفادع، وربما أطفأت أنفاسهم

اللاهثة شموع الكنائس، ولكنهم - ولو استحالوا عواصف - لن يطفئوا للإسلام

مشعلاً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) .

ولا عجب، فالأمور التي توضع ألغامًا في بنيان المسيحية المتداعي لا يمكن

مطلقًا أن تشعر بها دعائم الإسلام المكينة، وإذا كان صابئة الغرب قد قالوا ما قالوا

فردد المقلدون الحمقى هنا ما قالوا من نظريات انفصال الدين عن السياسة وعن

العلم وخرافة تآخي الأديان أو الدين لله والوطن للجميع، فإن مصير الفريقين

سيختلف حتمًا، وهزيمة المسيحية هناك هي هزيمة الصابئة هنا تمامًا، ولقد أدرك

المسلمون حقيقة دينهم غير منقوصة، وعلموا أن دينهم كما أنه هو دين النفس هو

دين الدولة، بل إن الإسلام لم يتجه للفرد من حيث أنه (شخصية مستقلة منعزلة)

وإنما اتجه إليه من حيث أنه (وحدة من مجموعة مؤلفة متناسقة) وإلى هذا

يرجع السر في أن الخطاب الإلهي يرد دائمًا بطريق الجمع لا الإفراد {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا

فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 77 - 78) ثم كيف يكون بين الإسلام وبين العلم

عداء والعلم نفسه لم يصل إلى الدرجة التي بلغها من التقدم إلا في جو إسلامي

خالص، إن العلم الطبيعي يعتمد على عنصرين خطيرين في جميع بحوثه وكشوفه

هم الملاحظة والاستنتاج، وليس يوجد في الدنيا كتاب أوصى بالتدبر في ملكوت

الله الرحيب واستطلاع بدائعه واستكناه روائعه كما أوصى القرآن {وَفِي الأَرْضِ

آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20 - 21) .

ومهما أظهر المغرضون من عطف ماكر على استقلال العلم، فإنهم لن ينالوا

من الإسلام أي نيل، كذلك ضل من يزعم أن الوطن ليس لله، أي غباوة هذه

تحاول أن تنسب الشيء لغير صاحبه، بل لغير خالقه {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن

يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الأعراف: 128){وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة:

115) ولقد مهد هؤلاء لهذا الخطأ الفاضح بكلمة لم يفهموها، الدين لله حقًّا،

ولكن ماذا بقي لله على زعمهم إذا كان للأوطان أول ما في الفؤاد وآخر ما في الفم؟ !

ماذا بقي لخالق الفؤاد وما يجول فيه، ولخالق اللسان وما ينطق به؟ ! كلا،

الدين لله والوطن لله، ومصر ومن عليها فدى للإسلام وحده، و {لِلَّذِينَ لَا

يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (النحل:

60) .

إن الشيء الذي يبوء بأشد معاني الاحتقار والذي نجعله محيط عداوتنا الدائمة،

هو هذا الضلال الوقح الذي يحاول - في غير ما حياء - أن ينتظم الإسلام -

وهو دين الله الكريم - والمسيحية واليهودية في سلك واحد، فكيف يرتفع مبدأ من

المبادئ ليضم إلى أحضانه هذه الأديان المختلفة المتئاخية (كذا) ويجمعها في صعيد

واحد؟ ! حدث مرة أن كنت أتصفح إحدى المجلات الأسبوعية، فعثرت على

تصريح سكرتير الماسون الأعظم - وهو رجل مسلم كما يشير إلى ذلك اسمه -

قال: (إن قراراتهم التي تذاع لا يراد بها إلا خير المجتمع من الناحيتين الإنسانية

والاجتماعية، دون تعرض للسياسة ولا للدين) ونحن نتساءل: كيف يجوز

لمسلم أن يلقي كلامًا أو يصدر أعمالاً بعيدًا عن دينه وعن رعاية قيوده وحدوده كلها،

إلا أن يكون مسلمًا يجهل الإسلام، أو منافقًا يبرأ منه دين الله؟ ! ونحن نتساءل

كذلك: أي إخاء عجيب أوى إلى سلامه ووئامه أعضاء المحفل الماسوني المكرمين

وفيهم أحد موظفي الأزهر وأحد أعيان اليهود؟ ! إنه إخاء فرض نفسه على حساب

نكبة أحدهما في عقيدته، أو على الأصح على حساب تنازل المسلم عن دينه جملة.

هناك ما لا يقل خطرًا عن الماسونية العالمية مسخًا للإيمان وتلويثًا للنفس

المؤمنة وهبوطًا بمستواها الذي ينبغي أن تحتفظ به، ومن أمثلة ذلك جميع المبادئ

التي تحمل لقبًا عالميًّا؛ فالرياضة العالمية، والثقافة العالمية، والديمقراطية العالمية،

والأدب العالمي، والفن العالمي، والتمثيل العالمي.... إلخ مما يسير في ظلال

معنى الإخاء الإنساني ووحدة البشرية، والكلمات التي أجاد الأوربيون صناعتها

ودسها محترفو الاستعمار بيننا؛ لينالوا بها ما لا تناله مناشر الأسلحة، وليتوسلوا

بها إلى إفناء العصبيات الإسلامية، وتحطيم فضائلها وتمزيق مقوماتها.

(يتبع)

...

...

...

...

... محمد الغزالي

_________

ص: 561

الكاتب: حسن البنا

‌براءة من القاديانية

كتبنا في الأعداد السابقة في فتاوى المنار عما وصل إلى علمنا عن طالبين

ألبانيين أحمديين ينتسبان إلى القسم العام بالأزهر، وقلنا: إن من واجب المشيخة أن

تتحرى أمرهما وأن تبادر بفصلهما؛ حتى لا تسري منهما عدوى الفكرة الخاطئة إلى

غيرهما من الطلاب.

ويسرنا الآن أن نقول: إن زميلتنا (الفتح) الغراء قد نشرت براءة لهذين

الطالبين من المذهب القادياني، صرحا فيها بتوبتهما توبة نصوحًا ورجوعهما إلى

عقيدة الإسلام الصحيحة، وبراءتهما كل البراءة من المذهب الأحمدي بقسميه

اللاهوري والقادياني معًا.

ولقد كان لأخينا الداعية المسلم الموفق محمد أفندي توفيق أحمد في إقناعها أثر

صالح، فجزاه الله خيرًا.

وسننشر نص هذه البراءة في العدد القادم، إن شاء الله.

_________

ص: 566

الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود

‌الشيخ محمد عبده [*]

(2)

عهد الطفولة

في عام 1266 الهجري، الموافق 1849 الميلادي، نزل إلى الوجود مولود

جديد، ارتفعت صيحاته وصرخاته معلنة قدومه إلى عالم الدنيا، ومبشرة باندراجه

في صفوف الناس.

ونفذت هذه الصيحات إلى مسامع الناس من أهل القرية فتناقلوا الخبر، وجاء

الريفيون من هنا وهناك يهنئون الشيخ الوقور (عبده بن حسن خير الله) بهذا

المولود الجديد، الذي أنار هذه القرية الصغيرة من قرى مديرية الغربية - كما

يقولون - ويتمنون له من كل قلوبهم السعادة والهناءة؛ فهم يحبون هذا الوالد الكريم،

الذي لا يعرف كرمه البخل، ولا يشوبه الحرص والشح، وكم كان تفاؤلهم عظيمًا

عندما علموا أن اسمه (محمد) ؛ فهذا هو الاسم الحبيب لدى كل مسلم، والعزيز عند

كل مؤمن، فخير الأسماء ما عُبد وحُمد.

وامتلأت نفس الشيخ غبطة وهناءة وسرورًا، وراح يدعو الله أن ينظر إليه

ويوفق وليده إلى خير السبيل وأقوم الطرق، وأن يجعل هذا الرضيع سيفًا من

سيوفه المصلتة، ووليًّا من أوليائه المقربين، ناصراً للحق وأهله، خاذلاً للباطل

وأعوانه.

وذكر حينذاك كيف خرج هاربًا من قريته فرارًا من ظلم الحكام الأتراك

واستبدادهم في مديرية البحيرة أواخر حكم محمد علي باشا الكبير، فعلت وجهه

كهومة واكفهرارًا، وأنكر نفسه؛ إذ أنه تركي الأصل، نزلت أسرته بأرض

البحيرة واستوطنتها حتى انطبعت بطابع الفلاحين المصريين، وأصبحت وكأنها

منهم الجزء الذي لا يتجزأ، والصنو الذي لا يختلف عن صنوه، فكيف إذن يناله

الظلم ممن يمت إليهم بصلة، ويرتبط بهم بوشيجة؟ هذا لعمر الله غريب وعجيب!

ولكنه سرعان ما استبشر وانفرجت أسارير وجهه؛ إذ تذكر حرصه الشديد

على أن يكون له نسل قوي سليم، وذرية صالحة تحمل اسمه مع الزمان، وولد

يخلد اسمه في سجل الخالدين، ويكون له نعم الخلف ونعم الذكرى، فتمنى لو

اتصل حبله بفتاة لها من المزايا الجميلة والصفات الحميدة ما يكون خليقًا أن ينحدر

إلى ذلك المولود الجديد الذي ينحدر من أصلابه.

(يتبع)

...

...

... عبد الحفيظ أبو السعود

_________

(*) اعتمدنا في هذه الترجمة على مجموعات المنار، والضياء لليازروجي، ومشاهير الشرق، ومصنفات الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وكتاب الإسلام والتجويد في مصر، وغير ذلك مجلات وصحف كثيرة، منها العروة الوثقى والهلال والأهرام.

ص: 567

الكاتب: حسن البنا

‌انتقاد المنار

حول ما نُشر في آيات الصفات وأحاديثها أيضًا

جاءنا هذا الخطاب بتوقيع مبهم، ونحن نتسامح بنشره إيثارًا لتجلية الموضوع

تجليةً تامةً - بحول الله وقوته - مع ردنا عليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب الفضيلة الشيح حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار: السلام

عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد اطلعنا على ما نشر في العدد الأخير من

المنار تحت عنوان نقد المنار، ردًّا على رسالة أحد القراء الكرام، وشجعنا ذلك

على الكتابة إليكم في شيء من الصراحة.

لما اطلعت على عدد المنار الذي بدأتم بإصداره وبادرنا إلى تصفحه، حاك

في نفسي ما جاء في رسالة القارئ إليكم، وفهمت من كلامكم فيما بين المجلتين

(الهدى والإسلام) من الخلاف نفس ما فهمه الناقد، ولعلي أخطأت الفهم أنا أيضًا،

إلا أنكم في ذلك المقال لم تقولوا بخطأ المجلتين، ولم تشيروا إلا إلى إخلاصهما

وجهادهما، وكان من العجب في رأينا ما ذكرتم في العدد الأخير من خطأ المجلتين

فيما ذهبتا إليه.

وبالرجوع إلى أقوال المجلتين ومقالات كتابهما ظننا أن حكمك بخطأ المجلتين

يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما، فقد أجهدنا أنفسنا في مطالعة المجلتين فلم

نعثر على عقيدة تفسير الاستواء بالاستقرار، كما لم يجزم الفريق الآخر بتأويل

الاستواء إلى الاستيلاء وحده.

فلعلكم تأثرتم في حكمكم هذا بما يقال ويشاع فقط، وهذا ما نرجو أن يكون

المنار بعيدًا عنه.

ولذلك نرى - إحقاقًا للحق ووضعًا للأمور في نصابها - أن ترجعوا إلى كلام

المجلتين، وتحكموا عليهما بما تقولان لا بما يقول بعضهم على بعض، ولا بما

يشاع عنهما بين العامة والدهماء.

وملاحظة أخرى في العدد الأخير نحب أن تبينوا لنا حقيقتها، وهي ما

نسبتموه لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في باب التفسير، ذلك الكلام

العجيب الذي لا يشبه في أسلوبه ولا معانيه ما تواتر إلينا من كلامه رضي الله

تعالى عنه، ففي أي ديوان من دواوين السنة المعتبرة عند المسلمين وجدتم هذا

الخبر؟ أفيدونا رحمكم الله، وإن لم يوجد في شيء منها، فهل ترون أن أمثال

هذه (الحواديت) التي ملئت بها بعض الكتب المجهولة الأصل مثل نهج البلاغة

وغيره، تصلح للاحتجاج ولتقرير عقيدة إسلامية؟

وإني وإن كانت بيني وبين فضيلتكم معرفة، إلا أني أحب أن أكون - إلى

حين - مستترًا والسلام عليكم ورحمة الله.

...

...

...

...

أحد قراء المنار

ملاحظة: فاتنا أن نذكر لفضيلتكم أن خصوم الهدي النبوي اليوم هم بذواتهم

وأقلامهم خصوم المنار وصاحبه، عليه رحمة الله.

الجواب

هذا الخطاب يتناول أمورًا أربعة:

أولها - أننا في المقال الأول لم نقُل بخطأ المجلتين.. إلخ، ونحن نعتقد أن

هذا المعنى إن لم يصدر في كلامنا تصريحًا فقد كان واضحًا كل الوضوح، ونحن

نؤْثِر دائمًا أدب القول والكتابة وعفة اللسان والقلم، في عصر أغفل الكاتبون فيه

هذا المعنى، وعلى كل حال فكلامنا في المقال الثاني قد أوضح ما أبهمه المقال

الأول - إن كان ثمة إبهام - فلا نطيل القول في أمر قد وضح، والحمد لله.

وثانيها - أن ما نسبناه إلى المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما

إلخ، ونحن نقول إن ما كتبناه هو ما فهمناه من مجموع ما كتب الكاتبون فيهما،

فإذا لم يكن كذلك فليتكرم حضرة الكاتب علينا وعلى القراء ببيان ما فهم هو من كلام

كل منهما، وبيان وجه الخلاف بينهما، وليؤيد ذلك بنصوص الكاتبين مستوفاة،

وليحكم بينهما إن شاء ذلك، ونحن على استعداد لنشر ما يكتب، وللرد عليه

إن كان فيه ما يستحق الرد، وموافقته إن كان مما نرى أنه الحق، على أن يكون

هذا آخر ما نكتب في هذا الباب، نقول هذا ونستحسن لأنفسنا ولحضرة الكاتب

وللقراء كذلك أن نغلق هذا الباب من الآن، وخصوصًا بعد أن انصرف الجانبان

إلى ما هو أجدى وأنفع، وفيما كتبناه في بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون في

هذا المعنى كفاية.

وثالثها - استنكار ما نسبناه لأمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - في باب

التفسير والتهكم عليه بهذا الأسلوب اللاذع، فغفر الله للكاتب سورة قلمه وعفا عنا

وعنه، ونحب له أن يروض قلمه دائمًا على غير هذا الأسلوب؛ فهو أعف وأبر،

ولو أن حضرته التفت إلى أننا إنما سقنا هذا الكلام للبيان والاستئناس لا للاحتجاج

والاستدلال، وهذه واحدة، ونسبناه إلى نهج البلاغة ولم ننسبه إلى الإمام - كرم

الله وجهه، وهذه الثانية، وعلقنا في حاشية المقال بما يستفاد منه أن نسبة هذا

الكتاب موضع خلاف بين الأدباء، وهذه الثالثة. لو أن حضرته التفت إلى هذه

النواحي الثلاث لأعفى نفسه وأعفانا من هذا التعليق القاسي الذي لا مبرر له.

رابعها - يذكر الكاتب أن خصوم اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصومُ المنار

وصاحبه - عليه رحمة الله -، يا سبحان الله! إن الزمن - يا أخي - يدور،

والمدارك تتطور بدورانه، وإن تجارب الناس ودرجة معرفتهم بالأمور تزداد

وتتسع يومًا عن يوم، وإن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء، وإن كثيرًا ممن حمل

السيف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته كانوا بعد ذلك من أشد الناس

حماسةً في مناصرتها وتفانيًا في محبته صلى الله عليه وسلم، وسبحان مَن أعز

الإسلام بقاتل حمزة وجعله قاتل مسيلمة، وأين أنت من خالد وعكرمة، ولا

تجعلني أقول لك أكثر من هذا، ففي مكان القول متسع؛ ولكن ما كل ما يُعرف يُقال،

وجميع الناس متفقون على أن الحق لا يُعرف بالرجال، فهَبْهم لا زالوا في

خصومتهم أفلا نتبع الحق إذا جاء على أيديهم، ونكون أول مَن يناصرهم فيه؟

إنني أعتقد أن ما يمر بنا من هذه الحوادث الجسام سيوحد الكلمة، وسيجمع

الرأي، ويقرب شقة الخلاف، ويسوِّي صفوف العاملين للإسلام إن شاء الله،

فاصبر إن وعد الله حق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

... حسن البنا

_________

ص: 569

الكاتب: حسن البنا

‌السيد الكامل آل رضا

رحمه الله

لبى نداء ربه السيد الكامل آل رضا، رحمه الله، وهو عم السيد محمد

رشيد رضا منشئ المنار، ووالد صديقنا المفضال السيد عبد الرحمن عاصم رضا،

نفع الله به، عن عمر مبارك قضاه في طاعة الله والمبادرة إلى الخيرات.

وكان السيد رشيد رحمه الله يقول عنه إنه حجة الله على أهل هذا العصر؛

إذ كان - أفسح الله له في جنته - رغم كبر سنه وضعف بدنه حريصًا كل

الحرص على المبادرة بالأعمال الصالحة، بعيدًا كل البعد عن كل ما يؤدي إلى

الشبهة - فضلاً عن الحرام - لا نرى في مجلسه إلا ذكر الله وما والاه، والتذكير

بالخير، والنصح لعباد الله، وقد ورث عنه هذه الخصال نجله المفضال السيد عبد

الرحمن حفظه الله؛ فما علمنا عليه إلا خيرًا، ولا نزكي على الله أحدًا.

وإنا لنتقدم بالتعزية إلى آل رضا، ألهمهم الله الصبر، وأجزل لهم الأجر،

وعوضهم الخير، ونسأل الله للسيد الراحل المغفرة والرضوان.

وقد حال احتجاب المنار عن أن يصدر هذا العزاء في حينه، ولعل صديقنا

السيد عبد الرحمن عاصم يوافي قراء المنار بترجمة مفصلة لحياة السيد الوالد -

عليه الرحمة - لتكون لنا وللقراء عظة وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

_________

ص: 572

الكاتب: حسن البنا

(6)

‌ حكم الدخان والتنباك

.. إلخ

الأستاذ رئيس تحرير المنار الأغر:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :

فقد اختلف العلماء في حكم (شرب الدخان) ما بين محرِّم ومجوِّز؛ فما القول

الحق في ذلك؟ وما دليل كل من الفريقين فيما ذهب إليه؟ أفتونا ولكم من الله

المثوبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

أنور الصناديقي

...

...

...

... ديروط المحطة قبلي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله (وبعد) :

فالدخان شجرة لم تُعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في القرون

الإسلامية الأولى، ولم يُعرف استخدامها هذا الاستخدام تدخينًا أو مضغًا.. إلخ،

والقاعدة العامة في المحدثات من هذه الأمور أن يُحكم عليها بآثارها ونتائجها؛ فما

كان منها نافعًا استحب وطلب الانتفاع به، وما كان منها ضارًّا كُره وحُرِّم بقدر

ضرره، وما جرى مجرى العادة ولم تعرف له فائدة ولا ضرر فهو على الإباحة

الأصلية، وهذا وجه اختلاف العلماء في شرب الدخان.

ومن الذين قالوا بحرمته من استدل بحديث أبي داود: (أن النبي صلى الله

عليه وسلم نهى عن كل مُسكر ومُفتر) قالوا: والدخان مفتر، فإن من شربه على

غير اعتياد شعر بدوار وفتور، فهو حرام بالنص، ومن قال بالإباحة نازع في هذا

الأثر، ولم يسلم مما ذهبوا إليه من أنه يحدث الفتور.

وقد أورد صاحب (الروض النضير شرح المجموع الكبير) بحثًا طيبًا قد

يتصل بهذا المعنى عند الكلام على أنواع المسكر في الجزء الثالث، كما أن

للإمام الشوكاني فُتيا في هذه المسألة، ولعل من تمام الفائدة أن نذكر هذين البحثين،

ثم نقف عليهما بما نرى أنه يتفق مع الحق في هذه المسألة:

قال صاحب الروض النضير: (فائدة) قال في البدر التمام: وكذا يحرم ما

أسكر وإن لم يكن مشروبًا كالحشيشة وغيرها.

وقد جزم النووي وغيره، وصرح بذلك الإمام المهدي في الأزهار بأنها

مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة وليست بمسكرة. قال ابن حجر: وهو مكابرة؛

لأنها تُحدث ما يُحدث الخمر من الطرب والنشوة، وإذا سلم عدم الإسكار فهي

مفترة.

وقد أخرج أبو دواد (أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر

ومفتر) . قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخَدَر في الأعضاء.

وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال: ومن

استحلها فقد كفر، قال: وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة لأنها لم تكن في زمنهم؛

وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التنار.

وذكر المازري قولاً أن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد، وكذا ذكر ابن

تيمية في كتاب السياسة أن الحد واجب في الحشيشة كالخمر، قال: لكن لما كانت

جمادًا وليست شرابًا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد

وغيره.

وقال ابن البيطار -وإليه انتهت الرياسة في معرفة خواص النبات والأشجار -: إن الحشيشة - وتسمى القِنَّب - توجد في مصر مسكرة جدًّا إذا تناول الإنسان منها قدر

درهم أو درهمين، ومَنْ أَكَثر منها أخرجته إلى حد الرعونة، وقد استعملها قوم

فاختلت عقولهم، وأدى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت.

قال بعض العلماء: وفي أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية. وقبائح

خصالها موجودة في الأفيون، بل وفيه زيادة مضار، وكذا قال ابن دقيق العيد في

الجوزة إنها مسكرة. ونقله عنه المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه.

وحكى القرافي عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إسكار الحشيشة بين

كونها ورقًا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر، قال:

والصواب أنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون

والبنج، وهي من المسكرات والمخدرات.

وذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة، وقال الزركشي: إن هذه

المذكورات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي تدخله في حد السكران، فإنهم قالوا

السكران الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وقال بعضهم: هو

الذي لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ثم نقل عن القرافي

أنه خالف في ذلك.

والأولى أن يقال: إن أريد بالإسكار تغطية العقل، فهذه كلها صادق عليها معنى

الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطية العقل مع نشوة وطرب فهي خارجة عنه، فإن

إسكار الخمر يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية، والسكران

بالحشيشة وغيرها يكون فيه ضد ذلك، فيتقرر من ذلك أنها تحرم لمضرتها للعقل

ودخولها في المفتر المنهي عنه، ولا يجب الحد على متعاطيها؛ لأن قياسها على

الخمر قياس مع الفارق مع انتفاء ببعض أوصافه. اهـ.

وقوله: (كالحشيشة وغيرها) يدخل فيه نوع من القات الموجود في بلاد اليمن

والحبشة، يكون منه اختلاط العقل وتغيره، ومن بعضه خروج آكله عن حيز

الاعتدال في طبيعته. وقد روي في ذلك حكايات، فما بلغ منه هذا التأثير حرم

تناوله، ويؤدب من تعمده بعد علمه بالتحريم، وكذلك القدر المخرج عن الاعتدال

أيضًا من الزعفران والأفيون والعريط وكل نبات مساوٍ لها في الصفة والتأثير،

والله أعلم.

وجاء في رسالة إرشاد السائل إلى أجوبة المسائل للشوكاني:

السؤال الحادي عشر عن شجرة التنباك: هل يجوز استعمالها على الصفة

التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟

أقول: الأصل الذي يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل ما في

الأرض حلال، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص: كالمسكر، والسم القاتل،

وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه؛ وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال

استصحابًا للبراءة الأصلية وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي

الأَرْضِ جَمِيعا} (البقرة: 29)، {قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} (الأنعام: 145) الآية.

وهكذا الراجح عندي أن الأصل في جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شيء

منها إلا بدليل يخصصه: كذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، والكلب أو

الخنزير، وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه، إذا تقرر هذا علمت أن هذه

الشجرة التي سماها بعض الناس التنباك وبعضهم التوتون، لم يأت فيها دليل يدل

على تحريمها، وليست من جنس المسكرات ولا من السموم ولا من جنس ما يضر

آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل.

ولا يفيد مجرد القال والقيل، وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله

تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: 157)

وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول، وقد

غلط في ذلك غلطًا بينًا، فإن كون هذه الشجرة من الخبائث هو محل النزاع،

والاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب مصادرة على المطلوب، والاستخباث

المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل.

فإن من يستعملها هي عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة

إلى بعض هذا النوع الإنساني فقد وجد منهم من استخبث العسل وهو من أطيب

الطيبات، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب، وقال:

أجدني أعافه؛ فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومن

أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التي أحلها الشارع من الحيوانات وغيرها أو

كانت حلالاً بالبراءة الأصلية وعموم الأدلة، في هذا النوع الإنساني من يستخبث

بعضها وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مجرد استخباث البعض

مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر

والدجاج من المحرمات؛ لأن في الناس من يستخبث ذلك ويعافه، واللازم باطل،

فالملزوم مثله، فنقرر بهذا أن الاستدلال على تحريم التوتون لكون البعض يستخبثه

غلطًا أو مغالطة. اهـ كلام الشوكاني في هذه المسألة.

والمعروف أن الدخان يسبب أضرارًا صحية كثيرة نتيجة التسمم

(النيكوتيني) ومن هذه الأضرار - كما قال الأطباء - ازدياد ضربات القلب وعدم

انتظامها، وسوء الهضم، وتهييج الغشاء المخاطي للشعب الرئوية فيورث السعال

المزمن وسوء حركة التنفس، فلا يمكن للشخص إجهاد نفسه من غير أن يعتريه

الإنهاك، وضعف النظر عادة يكون من بعض هذه النتائج، وربما أدى إلى عمى

جزئي، وكذلك تصاب الدورة الدموية بآفات أهمها سرعة حركة القلب وتصلب

الشرايين، وقد يورث ذلك القلب ضعفًا مستمرًّا يؤدي إلى السكتة القلبية بغير ألم أو

سابقة إنذار، وكما تحدث هذه الأضرار الصحية بالتدخين، تحدث كذلك بالمضغ،

بل هي في المضغ أشد وأوضح؛ لشدة تأثير النيكوتين الذي يتخلف معظمه في الفم

بالمضغ، وقد حدثت الوفاة لبعض الناس الذين مضغوه، وكذلك توفي رجل أراد

تهريب الدخان (من الجمرك) بأن خبأه تحت ملابسه ملاصقًا لجلده، والتدخين

يرفع ضغط الدم وينبه العصب الرئوي المعدي فيهبط القلب، وهذا هو سبب الأرق

بعد الإكثار من التدخين.

وهو بعد هذه الأضرار الصحية إسراف في المال بغير سبب، فهو إضاعة له

وتبذير، وقد نُهينا عن التبذير وإضاعة المال، وقد أثبتت الإحصائيات أن المدخن

ينفق في الدخان أربعة أمثال ما يصرفه في الملبس، وهو عبث فارغ لا فائدة ترجى

من ورائه، والعاقل بله المؤمن ينزه نفسه عن أن يضيع وقته في العبث، فهو

ضار ولا شك، وقد نفى الإسلام الضرر والضرار.

وقد يقال: إن هذه الأضرار جميعًا إنما تحدث حين الإفراط لا حين الاعتدال فيه

والتقليل منه، والجواب على ذلك أن يقال وأين ضمان الاعتدال، وقد أثبتت

الإحصائيات الدقيقة أن الاعتدال نادر بين المدخنين، فسهولة تناول اللفافة وتحكم

العادة وما يتخيله المدخن من لذة التدخين كل ذلك يجره إلى الإفراط، حتى أنه

ليشعل اللفافة من الأخرى بشكل ميكانيكي من غير أن تكون في نفسه حاجة إلى

التدخين، وكثير من المدخنين من هالته كثرة أعقاب اللفائف التي استهلكها بعد أن

ينتهي من عمله أو وحدته.

وإذا تقرر هذا فالذي يظهر لي أن تعاطي الدخان تدخينًا بأية كيفية أو مضغًا

أو سعوطًا بأية كيفية كذلك: حلال بأصله - إذ الأصل في الأشياء الإباحة - حرام

لغيره، وهو ما يترتب عليه من الأضرار، والقليل منه يلحق بالكثير سدًّا للذريعة

ومنعًا للقدوة الفاسدة، وأما التداوي بتعاطيه فجائز بالقدر الذي يتم به الغرض،

ومثله في هذا التنباك والقات وما جرى مجراها.

ولهذا أنصح للمدخنين من المسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة ولو بالتدريج،

والذين لم يعتادوا هذه العادة أن يحذروها ما استطاعوا.

ذلك ما ظهر لي في هذه المسالة، وأنا على استعداد للرجوع عنه إذا ما نبهت

إلى غيره مما هو أولى بالاتباع، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

* * *

فائدة لغوية

يطلق بعض الناس على (الدخان) الطباق، والمعروف لغةً أن الطباق نبات

بري تتغذى به الظباء وأبقار الوحش، وقد ورد ذكره في شعر أبي العلاء، فهو

يقول في وصف غانية وتشبيهها بالظباء:

ومن العجائب أن حليك مثقل

وعليك من سرق الحرير لفاق

وصويحباتك بالفلاة ثيابها

أوبارها وحليها الأرواق

لم تنصفي غذيت أطيب مطعم

وغذاؤهن الشث والطباق

_________

ص: 550

الكاتب: حسن البنا

‌أسرار البلاغة في علم البيان

أصدرت (دار المنار) في هذه الأيام هذا الكتاب النفيس لمؤلفة الإمام (عبد

القاهر الجرجاني) مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد صقيل. والكتاب ومؤلفه غنيان

عن التعريف. وقد وضع في وقت تحكمت دولة الألفاظ، واستبدت على المعاني،

وهو خير ما كتب في موضوعه عبارة وأسلوبًا، وإيضاحًا للمسائل، وبسطًا للدلائل؛

وقد امتاز بإرجاع الاصطلاحات الفنية إلى علم النفس، وتأثير الكلام البليغ في العقل

والقلب؛ وقد عني بتصحيحه عالما المعقول والمنقول المرحومان الشيخ (محمد

عبده) والشيخ (محمد محمود الشنقيطي) ، وعلق حواشيه المرحوم (السيد محمد

رشيد رضا) .

وثمن النسخة 25 قرشًا.

_________

ص: 646

الكاتب: حسن البنا

(7)

‌ حكم الصلاة في النعلين

(هل يصح تأدية الصلاة في الأحذية ومعاملتها معاملة الخفين، وإن صح

ذلك فما هي شروطه؟ وهل جميع المذاهب تجيزه؟ أفيدونا مشكورين، والسلام

عليكم ورحمة الله وبركاته) .

...

...

...

... إسماعيل محمد سالم

...

...

...

...

شبين القناطر

في هذا السؤال أمران: حكم الصلاة في النعلين، وحكم اعتبارهما خفين

يجوز المسح عليهما.

فأما عن الأمر الأول فالصلاة في النعلين الطاهرين جائزة بإجماع المذاهب

لورود الأحاديث الصحيحة بذلك: (فعن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنسًا

أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم) (متفق عليه) وقد

ورد ذلك في كثير من الأحاديث الصحيحة، وهل الصلاة في النعلين من العزائم

والمستحبات، أم هي من الرخص والتيسيرات، أم هي من المباحات فقط؟

أقوال واردة لاختلاف الأدلة.

وممن ذهب إلى الاستحباب: الهادوية، وروي عن عمر رضي الله عنه

- بإسناد ضعيف أنه كان يكره خلع النعال، ويشتد على الناس في ذلك، وكذا عن

ابن مسعود، وقال ابن بطال: الصلاة في النعال والخفاف من الرخص - كما قال

ابن دقيق العيد -: لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من

الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها

النجاسات، قد تقصر عن هذه الرتبة، وقال القاضي عياض: الصلاة في النعلين

رخصة مباحة؛ فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وذلك

ما لم تعلم نجاسة النعل، وممن كان لا يصلي في النعلين عبد الله بن عمر وأبو

موسى الأشعري.

وكل هذا إذا كانتا طاهرتين أو لم تعلم النجاسة عليهما، أما إذا كانتا نجستين

فالإجماع على خلعهما ما لم تطهرا؛ لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى فخلع نعليه، فخلع

الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله، رأيناك

خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا جاء أحدكم

المسجد فليقلب نعليه، فلينظر فيهما، فإن رأى بهما خبثًا فليمسحه بالأرض، ثم

ليصل فيهما.

وهل تطهران بالدلك بالأرض، أم لا بد من التطهير بالماء؟ في ذلك تفصيل

قال القاضي عياض من المالكية: إن علمت النجاسة، وكانت متفقًا عليها لم

يطهرها إلا الماء، وإن كانت مختلفًا فيها كأرواث الدواب وأبوالها ففي تطهيرها

بالدلك بالتراب قولان: الإجزاء، وعدمه؛ وأطلق الأوزاعي والنووي إجزاء الدلك

لحديث أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (إذا وطئ أحدكم

الأذى بخفيه فطهورهما التراب) ويرى أبو حنيفة إجزاء الدلك إلا في البول

ورطب الروث، ولا يرى الشافعي الإجزاء إلا بالغسل بالماء، وعند الحنابلة هذه

الأقوال جميعًا.

ومن متممات هذا البحث أن يلفت النظر إلى هذه الأمور:

(1)

إذا تعذر خلع النعلين لمانع قهري - كما يكون ذلك للضباط والجنود

ومَن في حكمهم - فعلى المفتي أن ييسر الأمر عليهم، ويجيز لهم الصلاة في

النعلين، ويحملهم على أيسر الأمور، وحسبهم الدلك بالأرض.

(2)

يلاحظ في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالنعال أن

المسجد لم يكن فيه فراش حينذاك، وأن النجاسات المغلظة لم تكن قد أحاطت بحياة

الناس هذه الإحاطة، وأن كثرة المشي في الرمال كفيلة بالتطهير، وأن الأمر لا

يعدو أن يكون رخصة جائزة، فالتشبث بهذا المظهر - بحجة أنه إظهار سنة مهملة -

فيه نظر، والأولى إيثار الخلع، وخصوصًا وقد تغيرت كل هذه الاعتبارات

جميعًا، والله أعلم.

_________

ص: 654