المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام - مجلة المنار - جـ ٣٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (35)

- ‌ربيع الأول - 1354ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

- ‌حرمان البنات من الإرثوتعارض القرآن والإجماع

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

- ‌الهمزية في مدح خير البرية

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌شاعر العربالشيخ عبد المحسن الكاظمي

- ‌تفاقم شر الطلاق في أميركا

- ‌العقبة من الحجازفي عهد الدولة العثمانية

- ‌وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌سبب تأخر هذا الجزء من المناروسيكون ما بعده أكبر وأحسن

- ‌ربيع الآخر - 1354ه

- ‌سؤالان عن الربا في دار الحربوعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

- ‌الربا والزكاة والضرائبودار الحرب

- ‌فتاوى المنار

- ‌حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبرالشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌إلى فضيلة الأستاذ الأكبربمناسبة خطابه في حفلة التكريم

- ‌تفسير المنارالجزء الثاني عشر

- ‌نعي فقيد الإسلام والمسلمين

- ‌كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

- ‌كلمة لا بد منها

- ‌الوهابيونوالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌حفلة تأبين فقيد الإسلامالمرحوم السيد محمد رشيد رضا

- ‌خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

- ‌قصيدة الأستاذ الهراوي

- ‌خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

- ‌كلمة الأستاذ عبد السميع البطلفي حفلة تأبين الفقيد

- ‌خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

- ‌خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

- ‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام

- ‌قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

- ‌تعزية الجمعية السورية العربية

- ‌مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

- ‌تعزية جمعية الرابطة العلوية

- ‌كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندرفي حفلة التأبين

- ‌تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

- ‌عواطف ابن زيداننحو فقيد الفضل والعرفان

- ‌وصف المقطم لحفلة التأبين

- ‌كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

- ‌كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

- ‌كلمة المجاهدين السوريين في الصحراءبوادي السرحان

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌المستشرقون والإسلام

- ‌الفصل الأولأسباب ونتائج

- ‌الفصل الثانيمحمد قبل البعث

- ‌الفصل الثالثالتحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

- ‌الفصل الرابعمحمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

- ‌الفصل الخامسالتوحيد هو روح الحرية

- ‌الفصل السادسأثر التوحيد الاجتماعي

- ‌الفصل السابعتعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

- ‌الفصل الثامنحكاية فنسنكوالمجمع اللغوي الملكي

- ‌الفصل التاسعحكاية فنسنك [

- ‌جمادى الآخرة - 1358ه

- ‌تصدير

- ‌في الميدان من جديد

- ‌بين طائفتين من المؤمنين

- ‌نشأة المنار والحاجة إليه

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌بين الشرق والغرب

- ‌ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

- ‌تطور الإسلام

- ‌صاحب المنارالسيد محمد رشيد رضا

- ‌فلسفة النفاقالمنافقون في فلسطين وحكمهم

- ‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

- ‌المنار والإصلاح

- ‌اتجاه محمود في الشرق العربي

- ‌ظهور المنار ودلالته

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌رجب - 1358ه

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌دعوى علم الغيبومنابذتها لأصول الإسلام

- ‌وصف الدنيا

- ‌الشيخ محمد عبده(1)

- ‌من كلام الإمامعلي رضي الله عنه

- ‌انتقاد المنارحول فتوى آيات الصفات وأحاديثها

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي

- ‌تعليق

- ‌السيد محمد رشيد رضا

- ‌ استحضار الأرواح

- ‌ربيع الأول - 1359ه

- ‌الأحمدية(القاديانية واللاهورية)

- ‌ماذا في إندونيسيا

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌في محيط الدعواتتحليل ومقارنة

- ‌مشكلة المرأة في مصر

- ‌ربيع الثاني - 1359ه

- ‌احتجاب المنار

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌خطيئة آدم

- ‌في محيط الدعوات(2)

- ‌براءة من القاديانية

- ‌الشيخ محمد عبده [*](2)

- ‌انتقاد المنار

- ‌السيد الكامل آل رضارحمه الله

- ‌جمادى الآخرة - 1359ه

- ‌ حكم الدخان والتنباك

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌السيد الإمام محمد رشيد رضاناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

- ‌من مشكاة النبوة

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌شعبان - 1359ه

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌ حكم الصلاة في النعلين

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌المرأة المسلمة(2)

- ‌إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم

- ‌بيان الحكومة المصريةعن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة

- ‌من كلام الإمام علي في نهج البلاغة

الفصل: ‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام

الكاتب: إسماعيل الحافظ

‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ

في تأبين السيد الإمام

محمد رشيد رضا رحمه الله

داعٍ إلى الحق غالت صوتَه النوبُ

أصيب في فقده الإسلام والعرب

وكوكب من سماء الفضل حين هوى

هوى منار الهدى وانثالت الكرب

وأصبح المجد مهجور الحمى وبكى

من ثكله شرف الأعراق والنسب

قضى الإمام فوجه الحق مكتئب

مما دهاه وطرف الهدي منتحب

والحزن مستعر النيران متصل

والصبر منقطع الأوصال منقضب

والزهد والرفد والإرشاد في ترحٍ

والبر والدين والأخلاق والأدب

ومعقل العلم والعرفان مضطرب

يكاد من برحاء الهول ينقلب

والشرق يندب والأقطار واجفة

كأنما دب فيها الويل والحرب

يا ناعي الحي حق ما رويت لنا

أن الإمام حواه الترب أم كذب

ويح الردى كيف أخبى نجمَه ومتى

كن المنايا من الأفلاك تقترب

كادت تضل عقول فيه من جزع

تقول: هل مات أم دارت به الشهب

أم راح يبغي سماء عن سماوته

أم استسر فقامت دونه الحجب

لا تنكروا رقدة الهادي الرشيد فقد

أعيا وقد يستريح الدائب الدرب

دعاه ومذ لبت الألباب دعوته

هفا بها لمغاني قدسه الأرب

والبدر مهما تناهى في تنقله

في الفلك فهو إلى مغناه منقلب

لئن طوت فضله أيدي الردى فطوت

مساعيًا لم تزل تُرجى وتُرتقب

فرُب ليل طواه كله نسك

ورُب يوم قضاه كله قُرَب

ورُب خافية الأعلام نائية

يعيى بها الفكر إدراكًا ويضطرب

ألقى عليها شعاعًا من بصيرته

بدت به وهي في عين النهى كثب

ورُب سنة هدى قد تكنفها

وهمٌ ورانت على أنوارها الريب

أعادها برزة للناس هادية

كما انجلت عن سنا أقمارها السحب

ورُب آيات تنزيل سرائرها

ظلت زمانًا عن الألباب تحتجب

سما إليها وعانى سترها فبدا

للمستريبين من تفسيرها عجب

يعنو لها العلم منقادًا ويأخذه

من روعة الحق سلطان فيتئب

وغارة في سبيل الله ظافرة

يهفو لها المجد والإسلام والحسب

قد شنها منه ماضي العزم ينجده

من حزمه وحجاه جحفل لجب

دارت على محور البرهان دورتها

حتى تجلت وهو في أرجائها قطب

ثم انثنى وهو مخفوض الجناح تقي

والحق مرتفع الرايات منتصب

في ذمة الله نفس ما ألم بها

رضا لغير رضا الخلاق أو غضب

وهمة ما نأى عن باعها أمل

ولم يفتها من العلياء مطلب

لهفي على القائم الهادي إذا خفيت

معالم الحق أو ضنت به العصب

ومن إذا نابَتِ الإسلامَ نازلة

علا به الجد والإقدام والدأب

وإن دجا الخطب واسودت جوانبه

بدت لنا فيه من آرائه شهب

القانت العف والأطماع دانية

والمقدم الندب والأهوال تصطخب

والمؤثر الجد يقضي ليله سهدًا

فيه إذا جد بالمستهتر اللعب

والقائل الصدق لا يدنو به رغب

في قوله لا، ولا ينأى به رهب

فما أطبت قلبه الدنيا بزخرفها

ولا ثنى عزمه مال ولا نشب

غايات مبدئه الإيمان في عمل

وروح نهضته الإقدام والغلب

سائل به الليل هل شقت غياهبه

عن مجاهد مثله لله يحتسب

وسائل العلم والعرفان: هل رفعت

لمثله في ذرى عليائهما الرتب

وهل شكا الوطن المحزون نكبته

إلا ولباه ذاك المشفق الحدب

يا صاحب القلم الكافي بفتكته

يوم التناضل ما لم تكفه القضب

إذا انبرى فهو طورًا في الحشا ضرم

وإن جرى فهو حينًا في المها ضرب

(أما وقتك ظبى الأقلام مشرعة)

أما توافت لك الآثار والكتب

أما إقالتك أيام محجلة

يبلى المدى وهي في آثارها قشب

لك المواقف يختال الزمان بها

والباقيات على الأيام والخطب

السائرات مسير النيرات هدى

والساطعات وآفاق النهى كهب

والخالدات فما إن فاتها زمن

والدائبات فما إن مسها نصب

والملقيات على سمع الورى عبرًا

تمشي على ضوئها الأجيال والحقب

منار هديك برهان يقوم على

أشكله عمد الإصلاح والطنب

وغيث تفسيرك المأثور سلسلة

من منبع الوحي والإلهام ينسكب

ذخران للدين والدنيا إذا جليا

للناس حفهما الإعجاب والعجب

قم وانظر الشرق يصغي السمع ملتمسًا

هداهما وعيون الدهر ترتقب

هيهات قد خمد النور الذي يرتقبوا

وقد مضى ذلك العهد الذي طلبوا

تبكيك أبناء عدنان وإخوتهم

والمسلمون إذا مستهم النوب

كنت الرجاء لهم إن عوزت عدد

تحمي العقيدة والأخلاق أو أهب

وكنت سيفا على الإلحاد ذا شطب

من الجهاد على أفرنده ندب

يبكون نعيك في تأليف وحدتهم

تقيم في نظمها طورًا وتغترب

ركبت في مبتغاهم كل سابقة

واليوم بعدك لا سرج ولا قتب

فدتك من عثرة الأيام شرذمة

راموا علاك فما نالوا ولا قربوا

جروا وراءك حتى حُزتها رتبًا

أوفت سموًّا على هام السهمي انقلبوا

مقصرين فلم يقضوا حياتهم

كما قضيت، ولم تذهب كما ذهبوا

ذهبت كالغيث ولَّى بعدما رُويتْ

منه البطائح واهتزت به الهضب

ذهبت برا بأوطان وفيت لها

تكاد إثرك عن أوطانها تتب

غادرتها وهي أوزاع ممزقة

يعيث منتدب فيها ومغتصب

تدعوك للنجدة الغراء رازحة

يؤدها المضنيان الهم والوصب

إذا رأت بعدك الآمال مخفقة

طغى من الوجد في أحشائها لهب

تؤم قبرك مثوى رحمة وهدى

للبر في لحده مغنى ومضطرب

كنز من الحكمة العلياء قد ضربت

من الجلال على أركانه قبب

يكاد حين تحييه ضمائرنا

يصبو إليها صدى منه وينجذب

إذا أطافت به أوحى لها مثلاً

من الثبات وشملاً ليس ينشعب

وإن شكَت خطبها كادت جوانبه

تئن للخطب إشفاقًا وتنتحب

يا أكمل الناس إيمانًا وأخلصهم

ودًّا وأكرمهم جزمًا إذا انتسبوا

من لي بأيامك اللاتي نعمت بها

دهرًا يظللني من دوحها عذب

أيام أرشف من صفو الرسائل أو

نجوى الحديث كئوسًا ما بها لغب

واهًا لها، قد مضت فاليوم لا رسل

تفي أمانة نجوانا ولا كتب

أحس أن نميز الماء في كبدي

يحيله الحزن جمرًا فهو يلتهب

وأن سوداء قلبي حين أذكرها

تفور من مقلتي دمعًا وتنسرب

سأحفظ العهد، فاحفظه، وأنثر من

فيض الشؤون رثاءً ليس ينقضب

ولو نظمت الثريا في رثائك ما

قضيت للحق إلا بعض ما يجب

...

...

...

...

إسماعيل الحافظ

* * *

تاريخ هذا العدد

الحق أننا طبعنا هذا العد في أوائل ربيع الأول سنة 1355 وأواخر شهر مايو

سنة 1936؛ وذلك لنعوض للقراء ما فاتهم من أعداد لإكمال المجلد الخامس

والثلاثين.

* * *

العدد القادم

سنجعل العدد القادم خاصًّا ببحث إسلامي عظيم هو (المستشرقون والإسلام) ،

وقد تولى تحريره حضرة النطاسي البارع الدكتور حسين الهراوي مفتش صحة

مصر القديمة، وهو المسلم العالم الغيور. وسيصدر بعد هذا العدد بعشرة أيام،

بإذن الله.

_________

ص: 211

الكاتب: محيي الدين رضا

فقيد العرب والإسلام

المرحوم السيد محمد رشيد رضا

كلمة سريعة [1] بقلم ابن أخيه الحزين

(1)

سألَنا كثير من الأصدقاء والمحبين من مريدي فقيدنا الكبير أسئلة شتى،

فرأيت أن أكتب ما يلي ردًّا على ما حضرني من تلك الأسئلة حتى يطلع عليه

الجميع، ولا يزال القلب كسيرًا والحزن عامًّا، فمعذرة من القراء الكرام إذا وجدوا

شيئًا غير ممحص، والله يتولانا برحمته ويحسن عافيتنا جميعًا، إنه خير مسئول

وأكرم مجيب.

كيف بُلِّغت الخبر؟

قرع باب مسكني في نحو الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر يوم الخميس 22

أغسطس الماضي، وكنت ممددًا في سريري بعد ما تغديت ففتحته القرينة،

وسرعان ما دخلت علي تقول: (قم حالاً وكلِّم عبده) فظننت أنها تقصد ابن

عمي السيد عبد الغني رضا، فقلت:(ولماذا لم تدعيه للدخول عليَّ؟) . فقالت:

(قم فكلمه) . فنهضت مسرعًا إلى الباب فوجدت عبده بواب دار المنار، فأخذتني

رعشة الوجل؛ لأنه حضر في ساعة غير مألوف حضوره فيها، وقد سبق أن

حضر في مثلها يوم أخبرني بوفاة جدتي. فقلت: (ماذا تريد يا عبده؟) . قال:

(السيد عبد الغني عاوزك) ورأيت دموعه تترقرق في مقلتيه، وصوته يتهدج،

فقلت له: (قل، أسرع، ما الذي حصل؟) . فقال: (مات السيد!) .

وهنا انهمرت دموعه، وأصبت أنا بذهول، فدخلت غرفة النوم لألبس،

فقالت القرينة: (ماذا حدث؟) . قلت: (مات عمي) . وصرت لا أعرف ماذا

أصنع، فأردت التوضؤ، فصرت أبحث عن القبقاب وهو أمامي فلا أجده، وبعد ما

توضأت صرت أنتقل في المنزل مفتشًا فيه عن الذي ألبس وأين أجد البذلة والحذاء

وما إليهما، ولقد لقيت في ذلك عناء كبيرًا.

وفي أثناء ذلك كانت القرينة قد فهمت من عبده أن الوفاة حدثت وهو عائد من

السويس، وأنه لا يزال في مصر الجديدة. سرت في الشارع وأنا أحس أني على

وشك السقوط أتهادى يمينًا وشمالاً.

في دار المنار

صعدت إلى الدور العلوي في المنزل فقابلت قرينة عمي وقلت لها: (نحن

إخوتك وأولادك فصبِّري نفسك) . وأرسلت على إثر ذلك تلغرافات للسيد محمد

شفيع نجل الفقيد - وكان لا يزال في سورية - بوجوب حضوره حالاً، وأخبرته

الخبر، وأرسلت تلغرافًا لصهري محمد أفندي السيد بالإسماعيلية ليحضر للمساعدة

في الأمر، وأرسلت رسولاً إلى الأستاذ عبد السميع أفندي البطل فسرعان ما حضر،

وحضر صهري في الليل ومعه الصديق مصطفى أفندي إبراهيم أحمد، وانتشر

الخبر بسرعة مدهشة في القطر المصري فحضر بعض الأصدقاء من طنطا وغيرها

وانهالت علينا البرقيات.

وفي الساعة 7.30 أذاع الراديو النعي في العالم كله، فقوبل الخبر بذهول

ولم يستطع الناس تصديقه بسرعة فشرعوا يستفهمون تلفونيًّا من دار المنار.

في مصر الجديدة

عندما حضرت إلى دار المنار كان ابن عمي السيد عبد الغني لا يزال في

مصر الجديدة متنقلاً ما بين الإسعاف والقسم؛ لإجراء اللازم بنقل جثمان الفقيد،

وحضر فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية إلى دار

المنار فجلس منتظرًا - وأمارات الحزن بادية عليه - وهمَّ بالذهاب إلى مصر

الجديدة ولكننا لما اتصلنا تليفونيًّا بمصر الجديدة فهمنا أن كل الإجراءات تمت ولم

يبق على الحضور إلا القليل من الزمن.

وصول الجثمان

جلسنا نتكلم في وقع المصيبة واستغراب ما حدث إلى أن وقفت أمام دار

المنار سيارة من سيارات نقل الموتى، وحمل الناس نعشًا فيه جثمان ذلك العالم

الكبير الذي طبقت شهرته العالم أجمع، فانهمرت الدموع من العيون، وكان يرافق

النعش جمهور من المحبين وبمقدمتهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني -

وكانت دموعه قد بللت لحيته وعيونه قد احمرت من شدة البكاء والنحيب - واشتد

البكاء من جميع الحاضرين ولا سيما فضيلة المفتى.

فضل التفتازاني

وللسيد التفتازاتي أفضال كثيرة؛ فهو الذي حمل معظم المصاب على أكتافه،

فقد أسرع إلى دار الإسعاف وإلى القسم وبذل مجهودًا عظيمًا في كل منهما، ولما

وصل إلى دار المنار عمل كل ما في قدرته للحصول على الإذن من ورثة المرحوم

الشيخ محمد عبده بدفن عمي بجواره ففاز، وسرعان ما أحضر التُّرَبية والحانوتية

واتفق معهم على بناء التربة في الليل حسب الشريعة الإسلامية، وفاز أعظم فوز،

وبالجملة فالسيد التفتازاني أسدى لصديقه الراحل أعظم خدمة بعد وفاته ولا يزال

يعمل لخدمة أولاده بصدق وقوة مما يسجل له بمداد الشكر الجزيل، حفظه الله

وأبقاه عونا للملهوف فهو أهل خير وفضل ومعدن معروف [2] .

الأستاذ الطاهر

وفي أثناء ذلك كانت حديقة الدار قد امتلأت بالكراسي وازدحمت بالزوار،

وحضر الأستاذ محمد علي الطاهر على غير علم بالذي حصل، فظن نفسه أخطأ

المنزل، ولمَّا أخبره بعضهم كاد يصعق وأخذ يقول: (لقد جئت لأزور رب الدار

محدثًا نفسي أنه إذا قدَّم إليَّ الشاي فإنني سأعتذر عن شربه، وأنه على إثر ذلك

سيقوم إلى الثلاجة فيحضر لي فاكهة من التي تعود أن يتعشى منها) .

وبعد ذلك أخذ يحوقل ويتأسف، ثم انصرف إلى التليفون يخبر الذين يرى

أنه يحسن إخبارهم بالفجيعة، فجزاه الله خيرًا.

الميت المجهول! !

ومما يصح التنويه به هنا أن المرحوم كان يركب سيارة مع تركيين - في

عودته من السويس - لا يجيدان العربية، وفي الطريق كان يحمل مصحفًا صغيرًا

يتلو آيات الله طوال الطريق، إلى أن أحس بتعب فطلب من السائق أن يوقف

السيارة فأوقفها، وقاء بعدما وضع المصحف في جيبه، واستسمح اللذين معه

بالاضطجاع قليلاً؛ لأنه متعب فاضطجع، ولمَّا وصلت السيارة إلى مصر الجديدة

حاولا إيقاظه فوجدا جسمه لا حياة فيه وكانت روحه صعدت إلى الملأ الأعلى

فعاجلا به على الإسعاف، ثم ذهبا إلى دائرة البوليس فكتب البوليس محضرًا بوفاة

(شخص مجهول) في أول الأمر ثم تدارك الخطأ.

ماذا وُجد معه؟

وكتب البوليس محضرًا بالذي كان معه وسلموه إلى حسين رضوان الموظف

في مطبعة المنار، وقد حضر وسلمني ما أمضى على تسلمه وهو محفظة فيها جنيه

واحد ونظارتان ونظارة كبيرة مقرِّبة وعمامته ومصحف وفك أسنانه، ولم تصل يد

البوليس إلى كيس نقوده ولا إلى قلمه ففقدا ولسنا ندري أين كان فقدهما؟

وقع المصيبة على حرمه

ويظهر أنني كنت سريعًا في إخبار حرم عمي بالمصاب - وكنت أظنها علمت

به من ابن عمي قبل وصولي - وكان غرضي أن أصبِّرها، وبعدما كلمتها بما

قدَّمت نزلت لإرسال التلغرافات ولتدبير ما يلزم، فحضر إليَّ الخادم وقال: (إن

الست أغمي عليها) فوقعت في مشكلتين، ولما صعدت وجدتها في حالة حزن

شديد وبكاء وليس ثمة إغماء - والحمد لله - فهدأت نفسها بما حضرني من كلمات -

وكانت عندها الغسالة وقد تركت الغسيل وهي تنتحب، وعلى إثر ذلك

حضرت قرينتي فاشتد البكاء منهما فزجرت قرينتي وقلت لها: (يجب أن تتحملا

المصيبة بصبر عملاً بوصايا الفقيد) وتركتهما ونزلت لعمل ما يلزم.

سمو الأمير سعود

وكان عمي رحمه الله قد دعا سمو الأمير سعود إلى دار المنار في مساء

يوم الأربعاء 21 أغسطس الماضي لشرب شيء من المثلجات لما لم يتيسر أن يقبل

الأمير دعوة للغداء أو العشاء لارتباطه بمواعيد سابقة. وقد خاطبه في ذلك عند

سفره إلى أوربا ويوم حضر منها - وكان في طريقه إلى فلسطين والشرق العربي -

فوعده بالقبول وترك التدبير لسيادة الشيخ فوزان السابق معتمد المملكة العربية

السعودية في مصر.

ولقد عني رحمه الله بإصلاح مكتبه ومدخل داره استعدادًا لاستقبال الأمير،

وألحَّ على أولاده بسرعة الحضور من سورية لاستقبال الأمير؛ ولكن مرض ابنه

المعتصم أخَّر حضورهم، وقد عاد من سورية قريبًا وهو في دور النقه، والحمد لله.

وحب عمي لآل سعود يعرفه كل الذين يترددون على دار المنار، وحبه

للأمير سعود عظيم جدًّا فقد كنت كلما أزوره يحدثني عن مقابلته للأمير وشغفه بأدبه

وخلقه وحيائه وصلاحه وتقواه وجمال وجهه، وإذا سمعته يتحدث عن كل ذلك

أحسست بأن لعابه يسيل متحركًا بالشهد ولا سيما إذا حدثك عن الحفاوة التي لقيها

الأمير في أوربا وأجوبته لملوك أوربا ورؤساء جمهورياتها وكبار رجالها، وكيف

كان يفاخر بالإسلام وما امتاز به من المزايا.

يود الانفراد بالأمير

وكان رحمه الله يود الانفراد بالأمير للتحدث معه في بعض الشؤون؛

ولكن الأمير اعتذر بضيق وقته وبأنه يود سرعة العودة لتغيير ثيابه والوضوء

والصلاة، ثم هو يود حضور حفلة وفاء النيل تلبية لدعوة سعادة المحافظ، وعلى

ذلك قال للسيد: (إذا بقيت مصممًا على السفر غدًا فتحضر إلى الذهبية في الساعة

الرابعة صباحًا ونجلس معًا في تلك الساعة الهادئة، وسأرسل إليك سيارة خاصة) .

لم يذق طعامًا

وقد جرت عادة المرحوم أن يستيقظ قبل الفجر للتهجد ثم يصلي الصبح في

أول وقته وينام بعد ذلك قليلاً؛ ولكنه في صباح الخميس انتظر السيارة بعد الصلاة

فحضر الشيخ فوزان السابق فركب معه إلى الذهبية، وخرج ولم يذق طعامًا في

داره.

ولما اختلى بالأمير وأفضى إليه بما رآه لازمًا طلب منه الأمير بأن لا يسافر

معه إلى السويس وطلب مثل ذلك من السيد محمد الغنيمي التفتازاني وألحَّ في طلبه

حتى كاد رحمه الله يغضب منه؛ ولكن ذلك كله لم ينفع وركب السيارة إلى

السويس، وفي السويس اختلى مع الأمير مرة ثانية مدة طويلة، وبعد تحرك

الباخرة فضَّل الرجوع حالاً إلى عمله في دار المنار، وفعلاً ركب السيارة عائدًا

فوصل إلى داره محمولاً على النعش - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

استأذن القرينة

ولا يفوتني أن أقول أنه أستأذن قرينته بالسفر فأذنت له في ذلك، ولو استأذن

طبيبه الدكتور أحمد عيسى بك لما أذن له؛ لأنه يعلم أنه مصاب بتصلب الشرايين

والروماتيزم وضعف القلب وكان قد نهاه عن إجهاد نفسه مدة طويلة؛ ولكنه سمح له

بالعمل بعد ذلك، وأما السفر بالسيارة عن طريق السويس فإنه ما كان يأذن له به

ولكن هكذا شاء الله ولا رادَّ لمشيئته.

كيف قضى ليلته؟

ولما حضر إلى الدار جثة هامدة وأنزلناه من النعش في الدور العلوي، رأيته

كأنه لا يزال حيًّا، ومدَّدناه في غرفة الاستقبال وكنت أظن أنه ربما يستيقظ قريبًا؛

لأن شكله لم يتغير مطلقًا، وفي الليل دعوت حضرتي الدكتورين الفاضلين الدكتور

شهبندر والدكتور حسني أحمد لفحصه، ولمَّا فحصاه نصحا لنا بوضع الثلج حول

جثته خشية الحر ورفع السجاجيد التي تحته وحوله، فصدعنا بالأمر حالاً، ويا

سبحان الله، لقد كتب له أن يحاط بالثلج وهو الذي كان يحب الثلج في الشتاء.

الديون باهظة

ولقد تبين أن الديون التي عليه باهظة وكان الناس يظنون أنه غني جدًّا

وكنت أنا أيضًا أظن فيه ذلك، ومجال الظن متسع فكتبه رائجة، وهذا كتاب

(الوحي المحمدي) طبع ثلاث مرات في عام واحد ولقد نفد من طبعته الأخيرة نحو

ألفي نسخة في زمن وجيز، وهكذا الحال في كتبه وكتب الأستاذ الإمام رحمهما

الله. وإذا راجت الكتب فإن دخلها لا يستهان به؛ ولكن يظهر أن عدم توفقه في

الإدارة وكثرة كرمه أفضى به إلى هذه الحالة، هذا إذا لم نقل غير ذلك. فاللهم

وفقنا لوفاء دَينه، وألهم الذين له عليهم ديون وفاءها سريعًا.

دعاء مستجاب

ولقد أتم رحمه الله تفسير سورة يوسف إلى نهاية الآية 101 التي هي

خاتمة القصة، وهي قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: {رَبِّ

قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ

وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)

فقال رحمه الله:

(تحول عليه السلام عن خطاب والده في بيان هذه العاقبة المثلى في

مقام الشكر لربه وحمده، وبما يناسب المقام من صفاته، إلى مناجاة ربه في

الاعتراف بها والشكر عليها، وسؤاله حسن الخاتمة في الدنيا الرافعة إلى منتهى

السعادة في الآخرة؛ لشعوره بأن ما خلقه له من الخير والنعمة قد تم كما فهمه أبوه،

وكل شيء بلغ حده في هذه الحياة انتهى، فقال:] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ [

أقصى ما ينبغي لمثلي ويصلح له في غير قومه ووطنه، فجعلتني متصرفًا في ملك

مصر العظيم بالفعل، وإن كان لغيري بالاسم والرسم، فكان تصرفي مرضيًا له

ولقومه، ولم يُثر عليَّ حسد حاسد ولا بغي باغٍ مما ذقت مرارته بمجرد تصور وقوعه

على تقدير صدق الرؤيا الدالة عليه] وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [ما أعبر به عن

مآل الحوادث ومصداق الرؤى الصحيحة فتقع كما قلت] أَنْتَ وَلِيِّي [الذي توليت

ولا تزال تتولى أموري كلها في الدنيا وفي الآخرة لا حول لي في شيء ولا قوة

] تَوَفَّنِي مُسْلِمًا [لك إذ تتوفاني بما تتم لي وصية آبائي وأجدادي، وهي المشار إليها

بقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا

تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132) ] وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [منهم واحشرني

معهم. فهذا الدعاء العظيم، بمعنى قوله تعالى في فاتحة القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ

المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6 - 7) ، أي من النبيين

والصديقين والشهداء والصالحين، فنسأله - تعالى - أن يجعل لنا خير حظ منه

بالموت على الإسلام.

انتهى كلامه رحمه الله وأجيبت دعوته، فظل يتلو القرآن إلى آخر نسمة

تنسمها من الحياة.

(المنار)

وهذا آخر ما نشره في الملازم التي طبعت من الجزء الثاني من المجلد

الخامس والثلاثين من مجلة المنار التي نرجو الله أن يوفقنا لإصدارها ثانية ذكرى

لعلمه وآثاره.

_________

(1)

نشرت في جريدة (ألف باء) الدمشقية 10 - 17 أكتوبر سنة 1935.

(2)

وقد توفي رحمه الله ولا بد لنا من كتابة كلمة عنه، والله الموفق.

ص: 215

الكاتب: محيي الدين رضا

فقيد العرب والإسلام

كان دائم العمل

(2)

إن كثيرين من شبان اليوم - وغير اليوم أيضًا - يكثرون من التحدث عن

كثرة أعمالهم إذا كان للواحد منهم عمل منتظم في الحكومة أو في دائرة من الدوائر

الأهلية، وقد لا يتجاوز عمل الواحد منهم ست ساعات يعمل فيها ببطء وتؤدة وهو

يستطيع إنجاز عمله كله في نصف هذا المقدار من الزمن إذا أجهد نفسه قليلاً.

وأما السيد رشيد فقد عرفته من عام 1907 وكنت مقيمًا في منزله إلى أواخر

عام 1922، فكنت أدهش من عمله المتواصل: يستيقظ في الصباح مبكرًا جدًّا

فيصلي الصبح حاضرًا ويكون قد تهجد قسمًا من الليل قبل حلول وقت الصلاة، ثم

يستريح قليلاً وبعد ذلك يجلس في مكتبه فيقرأ ويكتب ويظل على ذلك إلى أن

يحضر له الفطور فيجلس إلى المائدة، وفي أثناء الفطور تتاح له فرصة قراءة

الصحف الصباحية وبعد ذلك يرجع إلى مكتبه إلى أن يحين وقت الغداء فيتغدى ثم

يأوي إلى فراشه قليلاً، وبعد ذلك يصلي العصر ثم يذهب إلى مكتبه للعمل، وقد

يستمر في عمله إلى ساعة متأخرة من الليل، وفي أثناء الليل يصحح كثيرًا من

المسودات التي جمعت من مجلته (المنار) أو مؤلفاته المختلفة أو ما يطبع في

مطبعة المنار من كتب النجديين أو ما شابهها مما يحتاج للدقة في المراجعة من جهة

سند الأحاديث أو صحة النقل أو وجاهة الرأي.

قلت: إنه ينام بعد صلاة الفجر والواقع أنه ينام أحيانًا، وأحيانًا يخرج إلى

النزهة في تلك الساعة الهادئة، وكثيرًا ما يذهب إلى مسافات بعيدة جدًّا ويصل

أحيانًا إلى الأهرام والناس نيام ثم يعود ماشيًا أو راكبًا، وقد اتخذ هذه الخطة

ولا سيما عندما سكن بجوار كوبري الملك الصالح، ويسير في تلك الساعة حاسر

الرأس وقد يكون الجو باردًا.

وفي نزهته هذه يصطحب معه مصحفًا أو مسبحة فيتلو ما تيسر له من القرآن

أو يسبح الله كثيرًا. ولقد اشتهرت فسحته هذه وجعلت كثيرين من أهل الأحياء

المجاورة يقلدونه فيها.

ولقد كان نشيطًا في عمله في مكتبه وفي نزهته وكان يسير بقوة يعجز عنها

الشبان، وأذكر أنني كنت أسير معه أحيانًا - وهو في الكهولة وأنا في أول مراحل

الشباب - فما كنت أستطيع السير بجواره، فكنت أسير وراءه بكل مشقة وعناء،

ولو أنه رحمه الله نظم عمله ووظف من يريحه من قراءة المسودات واشتغل

في الوقت الذي كان يشغله بالمسودات بالتأليف، لزاد عمله نحو النصف، ولكان

محصوله العلمي أكثر مما خلَّفه، مع كثرته وعظيم فائدته العلمية وحسن تنظيمه

وإتقانه وإبداعه.

الإتقان في العمل

وله ذوق مشهور في إتقان كل شيء، ويتجلى ذلك في مؤلفاته وحياته العامة

والخاصة. وقراء مجلته المنار يعرفون له الفضل العظيم في وضع تلك الفهارس

المتقنة للموضوعات والأعلام، ولم يقصر فهارسه المنظمة على المجلة، بل

وضعها لتفسيره فوضع لكل جزء من التفسير فهارس منظمة تسهِّل على الباحث

العثور على طلبته بسرعة.

وعمل هذه الفهارس يأخذ قسمًا كبيرًا من وقته، لو تيسر له العثور على من

يعملها له لوفر جزءًا من وقته.

وأذكر أنني عندما كنت في داره في شارع درب الجماميز - وكنت لا أزال

مراهقا - كنت أساعده في عمل تلك الفهارس مساعدة آلية، فقد كان رحمه الله

يكتبها متتابعة وكنت أتسلمها منه وأقصها ثم أضع ظروفًا عليها حروف الهجاء

فأضع في كل ظرف الموضوعات التي تدخل في حرفه، ثم أرتب كل حرف

ترتيبًا منظمًا وألصقها مرتبة ثم نقدمها للطبع.

وقبيل وفاته أراد أحد الأصدقاء عمل فهرس لمجلد المنار الأخير وعمله بالفعل؛

ولكنني سمعت المرحوم ينتقد عمله بأنه غير وافٍ بالموضوعات المهمة كلها؛

ولذلك لم يعتمد عليه فلم يطبع.

هذا ولكثرة عمله كانت الفهارس تتأخر؛ لأنه ما كان يعتمد على أحد في

عملها، وهذا يرجع إلى عظم دقته وإتقانه في عمله رحمه الله.

ولم تقتصر دقته على أعماله العلمية، بل إنه كان يحب الإتقان والدقة في

مأكله ومشربه وملبسه إلى درجة يعرفها كل من خالطه عن قرب أو بُعد، وأما إتقان

مطبخه فذلك حديث الجميع، حتى إن السيد محمد الغنيمي التفتازاني طالما كان

يتفكه بقوله: (إن الواجب على وزارة المعارف العمومية أن تعهد إلى بعثة من

البنات بالتخصص في فن الطبخ في منزل السيد رشيد رضا) .

وكان كرمه مضرب المثل - ولا يزال كذلك - في جميع البلدان الشرقية؛ فقد

كان حريصًا على إضافة كل قادم إلى مصر، وأما أصدقاؤه فقد كانوا يذهبون إلى داره

من غير كلفة؛ غير أنه في أواخر أيامه كان يواظب على صيام أيام مخصوصة منها

الأيام البيض؛ ولذلك كان أصدقاؤه يعنون بمعرفة أيام صيامه حتى إذا ما حضروا

استطاعوا أن يأكلوا معه فيشبعوا أجسامهم بطعامه وأنفسهم بعلمه ومعارفه.

عطفه وكرمه

ولا زلت أذكر عندما كنت يافعًا وكنت في داره بشارع درب الجماميز، وكان

الوقت وقت شهر رمضان، فكان إذا أحس أن الوقت أشرف على الفجر ولم يبق

مجال للأكل فكان يسرع إلى إيقاظي ويحضر لي اللحم المحمر وما أشبه، ويقف

فوق رأسي يحثني على الأكل بسرعة، قالت مرة جدتي - والدته -: (إن محيي

الدين يجزع من رمضان كثيرًا) فقال لها ضاحكًا: (الله يحفظك يا والدة، أنت

سمينة تتغذين من شحوم جسمك، وأما هو فنحيف يحتاج للغذاء حتى يستطيع

النهوض والعمل) .

وكان كريمًا جدًّا بالمال ولا سيما في الأعياد والمواسم؛ فكان يعطيني في العيد

ما لا يقل عن نصف جنيه ذهبًا - طبعًا عندما كنت صغيرًا - فلما كبرت صار

ينفح أولادي بالنقود، وكنت أراه يعطي كثيرين من الشبان الشرقيين وطلاب العلم

نقودًا، ولا زلت أذكر مرة أنه دفع لشاب عراقي جنيهًا ذهبًا في أيام الحرب وكان

بائسًا، فامتنع عن الأخذ فألح بقوة، وقال له: (إنني لا أتصدق عليك، وإنما

يمكنك أن تحسبه سلفة من محيي الدين، وعندما توسر ترده إليه) وبذلك أخذ

الجنيه، وهو الآن محامٍ وكان موظفًا بالحكومة العراقية في بغداد.

ولطالما مد إليه كثير من العظماء أيديهم فردها مملوءة، ولم يكن يذكر ذلك لأحد

ما؛ وإنما سمعت هذا من الخادم الذي كان واسطة الدفع، وهنا أنقل للقراء كتابًا

ورد إليَّ من الشيخ محمد بن سياد أمين مكتبة الحرم المكي، قال - حفظه الله -:

عزيزي السيد محيي الدين:

حزني على الأستاذ السيد مثل حزن الولد على الوالد، فإنا لله وإنا إليه

راجعون.

كان سمع نبأ وفاته رحمه الله ورضي عنه - ليلة الجمعة التي قبض فيها

في جدة في الراديو، وبلَّغنا الخبر الأخ محمد أفندي نصيف صباحًا بالتلفون

فأحسست بالمصيبة ودب الحزن في نفسي، غير أني كابرت الناس فيه وأنكرت

وقع ذلك الخبر وكذَّبت الخبر بادئ بدء، ثم جعلت أتمنى أن يكذب الناس معي هذا

الخبر، وهيهات أن يفعل الناس ما تمنيته وقد أرغمتهم الحقيقة على الاعتراف بالواقع، فإذا هم يكتبون به في جرائدهم ويتحدثون في أنديتهم ويصلون على المرحوم في

مساجدهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأعظِم اللهم لنا الأجر وأحسن لنا العزاء

وألهمنا السلوان يا سيد محيي الدين في هذا العالم الكبير والأستاذ الجليل والمرشد

العظيم، وتغمده الله وأخاه الوالد المرحوم برحمته، وقابلهما برضوانه، وجعلهما

في فسيح جناته.

أذكره رحمه الله حين كان يمدني وأمثالي من طلبة العلم المنقطعين في

أثناء الحرب العمومية بشيء من ماله الخاص، وكان رحمه الله يمثل بعمله

الصالح هذا ما قيل في جده الأكبر صلى الله عليه وسلم: (إنك لتحمل الكل وتكسب

المعدوم) وأذكره رضى الله عنه حين أنقذني من السجن بكفالته الشخصية - ونعمت -

يوم اعتقلني الإنكليز في أوائل الحرب العمومية اعتقالاً سياسيًّا، ولولاه رضي

الله عنه لامتد اعتقالي إلى أواخر الحرب كما وقع لكثيرين أمثالي، وكذلك كان يمثل

بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأعظم صلى الله عليه وسلم (وتعين على نوائب

الدهر) وكان رحمه الله يعمل حسبة لله لا عن إيعاز من أحد ولا عن مسألة

وتعرض، فواحسرتاه على هذا البر المجسم الذي فقدناه وواحسرتاه، وكان - رحمه

الله - ذا الجناحين يعلم علوم الدين ويفقه في أمور السياسة، وما أعظم فقر العالم

الإسلامي إلى مثله وما أشد الخطر على الثغر الذي كان رحمه الله مرابطًا عليه

يدافع عن بيضة الإسلام بعد فقدانه.

* * *

هذا ما كتبه عالم صوفي جليل، وهو يكشف لنا عن ناحية كانت مخفية من

نواحي عظمة فقيدنا، وما إنشاء دار الدعوة والإرشاد إلا غرة في جبينه، رحمه

الله؛ فقد جمعت طائفة من طلاب العلم من بلدان الشرق أحدثوا أثرًا محمودًا في

النهضة الإسلامية العربية.

...

...

...

...

... الحزين

...

...

...

...

محيي الدين رضا

...

...

...

...

... القاهرة

_________

ص: 222