المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الوحي المحمدي - مجلة المنار - جـ ٣٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (35)

- ‌ربيع الأول - 1354ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

- ‌حرمان البنات من الإرثوتعارض القرآن والإجماع

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

- ‌الهمزية في مدح خير البرية

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌شاعر العربالشيخ عبد المحسن الكاظمي

- ‌تفاقم شر الطلاق في أميركا

- ‌العقبة من الحجازفي عهد الدولة العثمانية

- ‌وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌سبب تأخر هذا الجزء من المناروسيكون ما بعده أكبر وأحسن

- ‌ربيع الآخر - 1354ه

- ‌سؤالان عن الربا في دار الحربوعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

- ‌الربا والزكاة والضرائبودار الحرب

- ‌فتاوى المنار

- ‌حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبرالشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌إلى فضيلة الأستاذ الأكبربمناسبة خطابه في حفلة التكريم

- ‌تفسير المنارالجزء الثاني عشر

- ‌نعي فقيد الإسلام والمسلمين

- ‌كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

- ‌كلمة لا بد منها

- ‌الوهابيونوالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌حفلة تأبين فقيد الإسلامالمرحوم السيد محمد رشيد رضا

- ‌خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

- ‌قصيدة الأستاذ الهراوي

- ‌خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

- ‌كلمة الأستاذ عبد السميع البطلفي حفلة تأبين الفقيد

- ‌خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

- ‌خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

- ‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام

- ‌قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

- ‌تعزية الجمعية السورية العربية

- ‌مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

- ‌تعزية جمعية الرابطة العلوية

- ‌كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندرفي حفلة التأبين

- ‌تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

- ‌عواطف ابن زيداننحو فقيد الفضل والعرفان

- ‌وصف المقطم لحفلة التأبين

- ‌كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

- ‌كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

- ‌كلمة المجاهدين السوريين في الصحراءبوادي السرحان

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌المستشرقون والإسلام

- ‌الفصل الأولأسباب ونتائج

- ‌الفصل الثانيمحمد قبل البعث

- ‌الفصل الثالثالتحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

- ‌الفصل الرابعمحمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

- ‌الفصل الخامسالتوحيد هو روح الحرية

- ‌الفصل السادسأثر التوحيد الاجتماعي

- ‌الفصل السابعتعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

- ‌الفصل الثامنحكاية فنسنكوالمجمع اللغوي الملكي

- ‌الفصل التاسعحكاية فنسنك [

- ‌جمادى الآخرة - 1358ه

- ‌تصدير

- ‌في الميدان من جديد

- ‌بين طائفتين من المؤمنين

- ‌نشأة المنار والحاجة إليه

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌بين الشرق والغرب

- ‌ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

- ‌تطور الإسلام

- ‌صاحب المنارالسيد محمد رشيد رضا

- ‌فلسفة النفاقالمنافقون في فلسطين وحكمهم

- ‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

- ‌المنار والإصلاح

- ‌اتجاه محمود في الشرق العربي

- ‌ظهور المنار ودلالته

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌رجب - 1358ه

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌دعوى علم الغيبومنابذتها لأصول الإسلام

- ‌وصف الدنيا

- ‌الشيخ محمد عبده(1)

- ‌من كلام الإمامعلي رضي الله عنه

- ‌انتقاد المنارحول فتوى آيات الصفات وأحاديثها

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي

- ‌تعليق

- ‌السيد محمد رشيد رضا

- ‌ استحضار الأرواح

- ‌ربيع الأول - 1359ه

- ‌الأحمدية(القاديانية واللاهورية)

- ‌ماذا في إندونيسيا

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌في محيط الدعواتتحليل ومقارنة

- ‌مشكلة المرأة في مصر

- ‌ربيع الثاني - 1359ه

- ‌احتجاب المنار

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌خطيئة آدم

- ‌في محيط الدعوات(2)

- ‌براءة من القاديانية

- ‌الشيخ محمد عبده [*](2)

- ‌انتقاد المنار

- ‌السيد الكامل آل رضارحمه الله

- ‌جمادى الآخرة - 1359ه

- ‌ حكم الدخان والتنباك

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌السيد الإمام محمد رشيد رضاناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

- ‌من مشكاة النبوة

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌شعبان - 1359ه

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌ حكم الصلاة في النعلين

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌المرأة المسلمة(2)

- ‌إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم

- ‌بيان الحكومة المصريةعن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة

- ‌من كلام الإمام علي في نهج البلاغة

الفصل: ‌كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الوحي المحمدي

لداعية الإصلاح العالم المستقل، والمناظر المستدل

الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

بأسيوط

وهو مما جاءنا بعد الطبعة الثانية (قال) :

نظر أبو العلاء المعري إلى نفسه فرآها وقد صفت ونجت من مزالق معظم

النفوس، وأدرك عقله نقيًّا من الخرافات والأوهام التي أضلت العقول، وألفى

روحه غنية بالفلسفة الصحيحة، التي ترى في المادة ستارًا كثيفًا يسدل على الحقائق،

ووجد شعريته فياضة بأرقِّ المعاني، في أدق الألفاظ والمباني، فهتف من أعماق

قلبه منشدًا:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

ونحن بدورنا ننظر إلى نفس السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار فنراها

وقد أشربت حبَّ الدين الإسلامي الحنيف والدفاع عنه إشرابًا، ونرى عقله وقد

أدرك أسرار الإسلام إدراكًا، ونلفي روحه صافية تقية نقية قد أنجبت أسمى الآثار

إنجابًا، ونسبَحُ في مؤلفاته فنعلمه الطود الأشم والفارس المجلَّى، والمحقق النادر

المثال، والكاتب المبخوت، الذي لا يُشَق له غبار، ثم نقع في سياحتنا على كتابه

(الوحي المحمدي) فنقف طويلاً، ونهتف مثل ما هتف المعري منشدين مخاطبين

السيد الرشيد المرشد:

وأنت وإن كنت الأخير زمانه

أتيت بما لم تستطعه الأوائل

ولقد كنا نؤمن بأن الله تعالى أوحى إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم

ما أوحى، مستدلين بنصوص القرآن الكريم وببعض البراهين العقلية التي تخير (؟)

الوحي إلى النفوس الصافية الراقية، ولكنا ما كنا قادرين أن نقنع بهذا ذوي

العقول العصرية، وأولي البحوث الدقيقة القوية؛ فإذا دار النقاش بيننا وبين فريق من

هؤلاء لم يعجبهم كثيرًا مما ندلي به وألقوا في سبيلنا عقابًا، وافتجروا [1] حفرًا،

وأقاموا متاريس، وغرسوا أشواكًا؛ فتنتهي المناظرة ولا اقتناع ولا رضاء وينشر عنا

العجز عن بيان وجه الحق في هذه المسألة مع أهميتها ونفاستها ونفعها العظيم إذا

أحسن تبيانها، وأتقن توجيهها وعرضها على طالبيها، فكان كتاب (الوحي المحمدي)

للسيد الشريف والمصلح الكبير، أستاذنا محمد رشيد رضا، صاحب المنار - وافيًا

بالمطلب على أتم وجوهه، كافيًا في الإقناع لأكبر متشبث متعنت، حجة صادقة لا

تُدفع على صحة الوحي الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العالمين

وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.

يرى قارئ " الوحي المحمدي " مقدمة وجيزة بديعة تجمل الكتاب وتبرز مغزاه

في صورة مستملحة جزلة طيبة، يعلم منها ما يحجب الإفرنج عن الإسلام: من

الكنائس المعادية، والسياسية الخادعة، وحال المسلمين الواهية، وما يعوق

الأجانب عن فهم القرآن: من جهل بلاغته، وقصور ترجمات القرآن عن إدراك

غايته، وعدم وجود دولة إسلامية تدافع عن هدايته، ويفهم منها القصد من الكتاب

على أتم وجه من وجوه الصواب.

ويجول القارئ بعد ذلك في جنة الكتاب الغنَّاء فيعرف معنى النبوة والوحي

والرسالة وحاجة الناس إليها، ويدرك عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -

ومقدار ما جنت عليها كتب السابقين بما يجرئ على الشرور والمفاسد، ويتيقن

وجوب إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتباعه هو الدواء

الناجع لأدواء الهيئة الاجتماعية.

ويتنقل القارئ من شجرة النبوة الوارفة الظلال إلى أن نبوة الرسول - صلى

الله عليه وسلم - هي الممتازة، فنبوة الأنبياء الإسرائيليين كانت - على قولهم -

أشبه بصناعة تتلقى في مدارس خاصة، ونبوة موسى الكليم عليه السلام قد

ينكرها الملاحدة؛ لأنه تربى في بيت فرعون وهو بيت علم وتشريع، فلا عجب

إذا جاء بشريعة كالتوراة. ونبوة المسيح عليه السلام يعقب عليها الملاحدة

أيضًا فينقصون قدرها ويغضون من قيمتها، ويقولون إنه لم يأت بشيء جديد. أما

نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن الطعن عليها بمثل هذا؛ لأن سيدنا

محمد صلى الله عليه وسلم كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولا يتصل ببيئة علم

أو شريعة، فمجيئه بهذا الدين دليل صدقه وحقيقة رسالته، والحقيقة أن نبوة

الرسول صلى الله عليه وسلم مثبتة لغيرها من النبوات لا تصح إلا من طريقها

ومشكاة نورها.

ويمتلئ القارئ بعد هذا علمًا وتحقيقًا حين يقرأ الفصول البليغة عن الأدلة

العقلية والكونية على صدق الوحي المحمدي الإلهي فيطمئن قلبه وتستريح نفسه،

وينشرح صدره، ويشكر لله توفيق السيد رشيد حتى ألف هذا الكتاب الذي أنار

طريق الوحي بآلاف المصابيح الكهربائية الساطعة القوية، ثم يرتوي القارئ من

نهر فياض، عذب صافٍ، يجري منه التحقيق ذهبيًّا عسجديًّا، فيعرف مقاصد

القرآن الكريم وهدايته للبشر وإظهار الحق في الإيمان بالله تعالى وفي عقيدة البعث

والجزاء، ويلمس الإصلاح القرآني العظيم للنفس والروح والجسد والأفراد

والجماعات، والنهضة التي أزجاها في الدولة السياسة والاجتماع والاقتصاد

والآداب وحياة الأسرة. فإذا انتهى من الكتاب خرج منه بكنز ثمين من العلم

الصحيح النقي، وانتقل إلى جو من السعادة فسيح بما وصل إليه من هدوء في نفسه

واطمئنان في قلبه، واقتناع في عقله لا يملك نفسه أن يصيح: حياك الله أيها

السيد الرشيد، لقد سدت بإصلاحك، ورشدت بمباحثك القيمة الدالة على إشراق نور الحق في قلبك، فهنيئًا لك عملك، ومشكور لك سعيك.

ولقد استوعبت كتاب الوحي المحمدي وهنئت باغترافه وارتشافه عدة مرات

فرأيته رحيقًا من العلم، مختومًا ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وأنا

أشهد صادقًا أن السيد أدى بكتابه إلى العالم الإسلامي أجلَّ الخدمات، وعبَّد للباحثين

من الغربيين والعصريين منهج البحث الهادي الرزين، القوي المبين، وأسقط حجج

الذين كانوا يحتجون بأنهم غير واجدين من يقدم لهم المطالب سائغة ميسورة.

وسيكون له - إن شاء الله - أثر جليل في توجيه المباحث الدينية وجهة طيبة في

صالح الإسلام ومستقبله العتيد بإذن الله.

ولقد ظهر إخلاص السيد في كتابه فطبع مرتين في أشهر، وأقبل عليه الشرق

والغرب، وتُرجم إلى عدة لغات. أدام الله نفعه، ونشر شذاه وعرفه، وأطال عمر

السيد ليتحف العالم الإسلامي بدرره الغالية وتحقيقاته السامية، إنه أكرم مسئول

وعلى كل شيء قدير.

...

...

...

مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

(المؤلف) : فات المقرظ الكلام في دعوة علماء شعوب الحضارة إلى

الإسلام وتحديهم بمعجزات القرآن.

* * *

الوحي المحمدي

بقلم

الأستاذ العلامة المتكلم الفقيه الكاتب النظار

إبراهيم الطفيش الميزابي الجزائري

أجل كتاب في علوم القرآن، وأفخم سفر في جلال القرآن، ومعجزة من

معجزات القرآن - كتاب (الوحي المحمدي) . طالع أيها المعتز بالقرآن، ويا

طالب منهاج الهداية المحمدية هذا السفر الجليل ترَ أبدع مؤلَّف وأسنى ما جاء به

القرآن من هداية البشر أجمعين. إن (الوحي المحمدي) علم وفق الله إليه مؤلفه

العلامة الجليل السيد رشيد رضا، علم مستخرج من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه

الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لقد كُتب في علوم القرآن كتب كثيرة، ولكنها لم

تبلغ أن تأتي بما جاء في الوحي المحمدي حتى أصبح هذا الكتاب آية في الإبداع،

وغاية في كشف معاني الكتاب المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. فيه

الحجة على البشر أجمعين.

إن القرآن يدعوهم إلى الانضواء تحت لوائه، ضامنًا لهم كمال السعادة

والشمول بالنعم الرحمانية وجلال العزة، إن هم أخذوا بما جاء به من عند الله الرحمن

الرحيم. كشف هذا الكتاب مناهج السعادة للأمم، وسبل الهداية الشاملة لطبقات البشر

وأجناسه، حتى أصبح عَلَمًا برأسه، يجب أن يعتنى بتدريسه بين الفنون العالية

لتخريج رجال عالميين في الهداية إلى شريعة الله التي أكملها وأتم بها نعمته

على خلقه.

لقد أخرج المصنف هذا الكتاب للأمم، وهو أحسن ما أخرج للناس من جهود

العلماء، فلا ريب أن العلماء في جميع الأمم ستتلقاه بالقبول، وسيترجم إلى جميع

اللغات؛ لأنه هو الكتاب الذي تنشده اليوم العقول السليمة في كل الشعوب،

وسيهتدي بهداه من أراد الله له السعادة من بين أولئك العقلاء الذين يسعون وراء

الحق لأنه الحق، ويدركون أن القرآن كتاب من عند الله هدى وبشرى لأولي

الألباب، لا سعادة للبشر إلا به، ولا سلام إلا باتباع هديه.

ولعلي أكون قد أديت واجبًا إذا لاحظت للمؤلف الجليل أن يعيد النظر في

مسألة الرقيق، فإن الإسلام جعلها حكمًا مستمرًّا ما فيه من حكمة اجتماعية، ولم

يوجد وضعًا لإبطال الرقيق بالتدريج السريع، ولكن الرقيق يبطل بطبيعته إذا دخل

كافة الشعوب في الهداية الربانية، فوجدوه وعبدوه واتبعوا النور الذي أنزل على

محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

* * *

أول كتاب من حضرة صاحب السعادة

هارون سليم باشا أبو سحلي

(مدير المنوفية في ذلك المعهد)

سيدي الأستاذ الأجلّ السيد محمد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد وصلني كتاب الوحي المحمدي الطبعة الثانية يوم سفري في رحلة بحرية

إلى مرسيليا، وكانت فرصة لمطالعته كله، وقد خرجت منه بأنه خير ما أخرج

للناس في موضوعه، وقد أعطيت التعليمات لمجلس المديرية لطلب 66 نسخة

ليكون في كل مدرسة أولية وابتدائية نسخة، ولما كان واجب كل مسلم نشر هذا

الكتاب بأوسع ما يمكن أرجو أن ترسلوا باسمي 300 ثلثمائة نسخة على محطة

شبين الكوم لتوزيعها، وثمنها 30 جنيهًا حسب البيان الوارد في كتابكم، نرسلها

عند إتمام التوزيع، وأختم كتابي هذا بتوجيه واجب الشكر لكم تلقاء هذا المجهود

العظيم المضني، وإني في انتظار الجزء الثاني، ولكم وافر التحية من المخلص.

...

...

...

... هارون سليم

...

...

...

في 31 أغسطس سنة 1934 م

(المؤلف) : إن هارون باشا هذا من خير رجال حكومتنا عناية بالدين علمًا

وعملاً، بل لا نعرف له في رجال الإدارة مثلاً، وقد طلب منا بعد ما تقدم مائتي

نسخة، ثم أرسل ثمنها، ولما كان المعهود من أمثاله رجال الإدارة أن يوزعوا على

وجهاء مديرياتهم كثيرًا من الكتب غير النافعة محاباة لأصحابها فيقبلها الوجهاء

إرضاء للمدير على كراهة موضوعها وغلاء أثمانها، وكان يعلم أن مثلي ينكر ذلك

عليهم - كتب إليّ أنه لم يتبع سننهم، وإنما بين للوجهاء موضوع الكتاب في إقامة

حجة الدين وبيان حقيقته، وأنه يعتقد أن قراءته واجبة عليهم وعلى أولادهم، ولا

سيما تلاميذ المدارس، ويخيرهم، وأني إذا شئت كتب إليّ أسماء من اشتروه لأسألهم،

فكتبت إليه: لا إنكار على من يدعو إلى الله فيما يتخذ من حض الناس على معرفة

عقيدتهم وأصول دينهم، فإنه يصدق على هؤلاء ما صح في حديث من (يقادون

إلى لجنة بالسلاسل) ، ثم اتفق أن رأيت نقيب الأشراف للمنوفية بمصر فأخبرني

مسلك المدير في الترغيب في الكتاب، وكيف تلقوه بالقبول شاكرين.

***

تقريظ جريدة حضارة السودان

أهدتنا إدارة مجلة المنار الغراء كتاب (الوحي المحمدي) الذي ألفه العلامة

المحقق مصباح الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء.

وقد جاءت مباحث هذا الكتاب كسائر مباحث مؤلفه الثمينة؛ سواء في تفسيره

القرآن الكريم، أو في مباحث مجلة (المنار) نورًا وهدى للناس في تبيان حقائق

الدين الإسلامي؛ فهو بلا ريب فتح جديد في الدعوة إلى هذا الدين الحنيف القويم،

وقد تمكن مؤلفه، وهو ذلك العبقري الديني الذي سيط دين الإسلام بلحمه ودمه،

من أن يوفق بين الدين والعلم بطريقة يعجز غيره عن الإتيان بها، فالرجل عالم

قوي الإيمان، وناهيك ما تنتجه قوة الإيمان إذا توافر معها العلم، والكتاب نفذت

نسخ طبعته الأولى قبل أن يحول الحول على طبعها لتهافت العوالم الإسلامية على

النهل والعلل من مورده العذب، وقد صدَّر طبعته الثانية بمقدمة استغرقت عشرة

مباحث هي وحدها تعد كتابًا، ثم أتى بعدها بفاتحة لها قد اشتملت على أربع مسائل،

ثم انتقل إلى الفصل الأول؛ وهو يشمل ست مسائل، فالفصل الثاني وفيه عشرة

مسائل، فالفصل الثالث وقد اشتمل على 17 مبحثًا، فالرابع وقد اشتمل على ستة

مباحث، فالفصل الخامس وقد اشتمل على 75 مبحثًا. وما من مبحث من هذه

المباحث يمر عليه المطلع إلا ويشعر أنه في أشد الحاجة إلى تفهمه من الوجهتين

الدينية والمدنية.

وقد ذُيلت طبعته الثانية بنحو 23 تقريظًا في مقدمتها تقريظًا للعاهلين العربيين

ملكي الإسلام: الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن، وصاحب العظمة السلطان عبد

العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد، في كتابين موجهين من لدنهما إلى المؤلف،

وتقريظ صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي المصلح

الإسلامي الكبير المعروف لدى سكان هذه البلاد، وتقريظ أمير البيان المشهور

الأمير شكيب أرسلان، وغيرهم من الأئمة الأعلام ورجال العلم والدين.

وإنا لنرى أن هذا السِّفر واجب على كل مسلم وجوبًا عينيًّا أن يطلع عليه وأن

يتفهمه ليتذوق منه حلاوة الإسلام، ويرى بمرآته بهجة القرآن ونوره ساطعًا يهدي

إلى سواء السبيل.

...

...

...

... عن حضارة السودان

...

...

...

بتاريخ 29 أكتوبر سنة 1934م

***

كتاب للفاضل الغيور الشيخ

محمد عثمان

- في إِلدورت - غنيا

بسم الله

حجة الله على العالمين فضيلة الأستاذ الأفخم، والمصلح الأعظم، السيد محمد

رشيد رضا، المجدد لدين الله والناشر لوحيه، أمد الله له في الحياة منصورًا، ولا

زال لإعلاء كلمة الله ظهيرًا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأرفع لفضيلتكم بأنه وافاني كتابكم (الوحي المحمدي) فخررت ساجداً لله

شكرًا عندما ظهر لي انتصار نوره الساطع، المنذر من لا يؤمن به بعذاب واقع،

ما له من دافع، وكم كان فرحي عظيمًا، وسروري جسيمًا، لا أستطيع أن

أشرحهما، فتلوته مرارًا، وكلما كررته ازداد شغفي حبًّا لتلاوة كتاب الله وتدبر

معانيه، وزادني همة ونشاطًا في تبليغه إلى أبناء وطني المهاجرين، وحضهم

على نشر الدين في هذه المستعمرة وأحيائها التي تقلص منها ظل الإسلام السائد

سابقًا، وتهدمت فيها لغة القرآن، وتقوض منها مجد الإسلام العربي الزاهر، في

العصر الغابر، بسبب تفريط مسلميه في نصرته، وركونهم إلى التوسل بأصحاب

القبور والتقرب إليهم بالقرابين والنذور، والآن بفضل الله وإرشاد مناركم الأغر،

شرعت تتلاشى البدع والخرافات، وتضمحل العقائد الفاسدة في أبناء الناطقين

بالضاد.

نعم يا صاحب الفضيلة، لقد أرهقتمونا بنعمكم الروحية، وتعاليمكم الدينية،

التي أخرستنا حيرة بأي لسان نقدم شكرًا، وجوارحنا وإحساساتنا كلها ألسنة شكر،

يا ليت شعري كيف أشكر، ويا ويح قلبي كيف أثني وأحمد بعد أن أثنت عليكم

نجوم الهدى، وكواكب الإرشاد، وشموس البلاغة، وأعلام الإسلام، وأرباب

الأقلام، وأمراء البيان، ولا يسعني والضعفاء إلا الدعاء لكم بما يحبه الله ويرضاه،

وأن أهنئكم بأصدق التهاني على نجاحكم الباهر في هذه المساعي الجليلة للإسلام

وأهله التي سيشتاقها كل سيد، ويقصر عن إدراكها المتناول، لاسيما إبرازكم لهذا

الوحي المحمدي المقدس أمام الأديان والملل نقيًّا من الخرافات والبدع التي ألصقها

بها علماء السوء المبتدعون، وكن عليه حجابًا من اهتداء العقلاء ومفكري الأمم

الراقية بهديه المبين، ووسائل لمطاعن الملحدين، ومثالب المكذبين، ولمَّا مزقت

هذه الحجب الجسام ببيانك، ودمغت حججهم ببلاغته السماوية، انقلبوا على أعقابهم

خاسئين، بتحدي آياته الكونية وعجائبه العصرية، ومعجزاته السرمدية؛ فأخرست

أفواههم عن الجدال، وبهرت أعينهم عن الاحتقار، ودككت عقائدهم عن النضال،

حتى آمنت القلوب، ولكن الألسنة والأفواه بآيات الله يجحدون

إلخ.

* * *

كلمة الأستاذ العلامة النقادة الشيخ

محمد البشير النيفر التونسي

(من علماء جامع الزيتونة الأعلام من كتاب طويل له في رمضان سنة 1353)

وكنت في أثناء هذه المدة أطالع مناركم المنير، وما يتخلف عني من أعداده

أشتريه من إحدى المكتبات، وكان فيما قرأت من مباحث التفسير ما كتبتم عن

الوحي المحمدي، فحمدت الله أن كان في علماء المسلمين في هذا العصر مثلكم،

وكنت أقول: لو قرأ هذا منكرو الرسالة المحمدية بإنصاف وفهموه حق فهمه لآمنوا

بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعون.

وقد كنت قرأته في المنار متفرقًا، ثم أعدت قراءاته متصلاً في الجزء الحادي

عشر من التفسير، فجزاكم الله أفضل ما جزى به خادمًا لدينه، وبارك في عمركم

تخرجون للناس أمثاله، فتكون كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى.

وما أنكرت فيه إلا كلمات في آيات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أذكر أنني

رأيت مثلها في إحدى مقالاتكم في (شبهات النصارى وحجج الإسلام) ا. هـ.

قد اختصرت في هذه الطبعة الثالثة أكثر التقاريظ التي نشرت فيما قبلها،

وحذفت بعضها لطولها وما فيها من التكرار ونقل بعض مسائل الكتاب للتنويه بها أو

مشاركة أصحابها لنا فيها، وبهذا وجدنا مكانًا لغيرها، ولم نتصرف بشيء من ذلك

بزيادة ما، ولا باختصار يغير المعنى.

* * *

حكمة نشر هذه التقاريظ

(ختمت بها تقاريظ الطبعة الثالثة)

الغرض من نشر هذه التقاريظ إعلام قراء الكتاب من غير المسلمين (ومن

الجامدين على تقليد المتقدمين منهم، الذين إذا رأوا كتابًا في الدين لمؤلف عصري

أعرضوا عنه ولم يقرءوه لظنهم أن الأحياء لا يوثق بعلمهم) أن ما فيه من أصول

الإسلام وحكمته متفق عليه ليس رأيًا مني فيه، وإن كان فيه ما لا يوجد في غيره.

ذلك بأن الأحرار المستقلي الفكر منهم يقيسون دين الإسلام على غيره من

الأديان فيظنون أنه أكثر عقائده وأصوله مسلمات غير متفقة مع العقل والعلم

الصحيح والمصالح العامة، ويظنون أن ما يسمعون من حكماء المسلمين موافقًا لذلك

هو رأي لهم، كما قال بعضهم في رسالة التوحيد للأستاذ الإمام إنها فلسفة الشيخ

محمد عبده سماها إسلامًا، وقال لي مستر متشل أنس الإنكليزي الذي كان وكيلاً

للمالية بمصر مرارًا عندما كنت أشرح له بعض أصول الإسلام وحكمته: هذا

فلسفة لا دين، حتى قال لي مرة: إذا كان علماء الأزهر يوافقونك ويوافقون الشيخ

محمد عبده على ما تقولون فأنا أعلن أني مسلم.

وهذا كتاب فيه من حكم الإسلام في أهم أصوله وفروعه أكثر مما في رسالة

التوحيد ومما كان يسمعه مني متشل أنس وأمثاله، وفيه من شواهد القرآن ما لا

يمكن أن يقال معها إنه من رأيي، وقد اتفق على الشهادة له العلماء والأدباء والكتاب

في الأقطار ومن جميع الطبقات، وفي مقدمتهم شيخ الأزهر بما هو صريح في

تفضيله على جميع الكتب في موضوعه (إثبات الوحي والنبوة وإعجاز القرآن

وأصول الإسلام الدينية والمدنية) ، وسيرون من فائدته في دعوة غير المسلمين إلى

الإسلام وفي تثبيت المسلمين في دينهم ما هو فوق ذلك - إن شاء الله تعالى - ولله

الفضل والمنة: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58) ، وصلوات الله وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وآله

وصحبه الهادين المهديين، وجميع المهتدين بهديه إلى يوم الدين، وسلام على

المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_________

(1)

افتجر الكلام: اختلقه لم يتبع به أحدًا ولم يتابعه عليه أحد، فلعل الأصل افتجروا شبهًا واحتفروا حفرًا.

ص: 55

الكاتب: محمد زهران

كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم

الحكم بين المختلفين فيه

(2)

المنكرات التسعة التي خصها بالذكر الأستاذ الشيخ

محمد زهران

أبدأ بكلام وجيز على هذه المنكرات، فأبين أنه ليس فيها شيء مما عبر عنه

الأستاذ الشيخ محمد زهران بصوادم الحجج القاطعة، التي لجأ إليَّ لاستئصال

شأفتها ببواهر البراهين الساطعة، ثم أعود إلى مسألة أحاديث المعجزات وهي أهم

وأكبر فأقول:

(1)

قصة أبرهة والكعبة في الصفحة 64:

لم أر في هذه الصفحة شيئًا يصح أن يقال: إنه من الإلحاد، ولا من صوادم

البراهين القاطعة، ولا مما هو من مخالفة أصول الإسلام ولا فروعه. وخلاصة ما

فيها أن أبرهة أجمع أمره على هدم البيت الحرام، وأن عبد المطلب ومن معه دعوا

واستنصروا آلهتهم وانصرفوا، وخلت مكة منهم، وكان وباء الجدري قد تفشَّى في

جيش أبرهة، وفتك بهم فتكا ذريعًا لم يُعهد من قبل قط، وأصابت العدوى أبرهة

ملكهم فأمر قومه بالعودة إلى اليمن، وبلغ هو صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض

حتى لحق بمن مات من جيشه. قال: (وبذلك أرَّخ أهل مكة بعام الفيل هذا وقدسه

القرآن بذكره) وذكر السورة بنصها ولم يقل في تفسيرها شيئًا، فمهما يقل فيه

فهو لا يرد عليه.

(2)

أسطورة شق الصدر: هكذا عنوانه ص 72:

أخطأ الدكتور محمد حسين هيكل أن نقل خبر هذه المسألة عن مؤلف أصل

كتابه بالفرنسية، وسيرة ابن هشام، واعتمد على نقدهما له، واستشكال وقوع ذلك

في بني سعد؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة، وكان المخبر لحليمة

الخبر أخوه ابنها الرضيع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في سِنِّه.

وقد أخرج هذا الحديث عنها ابن إسحاق وغيره من طريق عبد الله بن

جعفر بن أبي طالب، وهو لم يسمع من حليمة، وإنما قال الذين أخرجوه عنه أنه

قال: حُدثت عن حليمة، ولم يذكر من حدثه. وقد أخرجه ابن إسحاق من طريق

نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع الحديث. وعبد الله بن جعفر

ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها.

وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة

مخالفة للرواية الأولى في سياقها وفي موضع وقوعها، وهي التي يذكرونها في

بعض قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الغلابي وقد قال الدارقطني

مخرجه عنه أنه كان يضع الحديث، وصرح غيره بكذبه أيضًا. فمن اطلع على

هذه الروايات في تعارضها فله العذر في الطعن عليها مع استشكال متنها وكونه غير

معقول.

ولكن مسلمًا أخرج عن أنس ما يقوي معنى رواية عبد الله بن جعفر من

طريق شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عنه، وشيبان كان يَهِمُ،

أي يخطئ، وحماد هذا من أثبت من روى عن ثابت، ولكنّ ثابتًا تركه البخاري

وقد تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، ويقال إن مسلمًا تحرى من رواية حماد عن

ثابت ما سمعه منه قبل تغيره. على أن أنسًا نفسه كان بعد كبر سنه ينسى بعض ما

حدث به، وهو لم يرفع حديثه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرج أيضًا عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك

يحدثنا عن ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة

نفر قبل أن يوحى إليه - وهو نائم بالمسجد الحرام - وساق الحديث بقصته نحو

حديث ثابت البناني، وقدم فيه وأخر، وزاد ونقص، ورواية شريك أخرجها

البخاري في كتاب التوحيد برمتها، وفيها أن قصة الإسراء والمعراج في جملتها -

ومنها شق الصدر - كانت رؤيا منامية. وقد غلطوا شريكًا فيها من جهات خالف

فيها من هو أوثق منه.

وأقوى الروايات في شق الصدر حديث الإسراء والمعراج الطويل الذي

أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - وليس لمالك غيره

- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في

الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعًا إذ أتاني آتٍ فقدَّ - قال: وسمعته يقول

فشق - ما بين هذه وهذه - أي وأشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج

قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملؤءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد

إلخ) .

وفي رواية شريك بن أبي نمر أنه جاءه ثلاثة نفر وهو نائم، وهم الذين تعاونوا

على عملية شق الصدر، وأشرنا إليها آنفًا.

فأنى للدكتور هيكل أن يحيط بهذه الروايات وأسانيدها واختلاف متونها الدال

على روايتها بالمعنى في موضوع من الخوارق، ويحكم فيها بين ما حكاه عن

المستشرقين وغيرهم حكمًا معقولا؟ ولقد كنت سئلت عنها فلخصت الروايات بأوسع

مما هنا، واستظهرت من مجموعها أنه تمثيل لتطهير قلب النبي صلى الله عليه وسلم

وحفظ نفسه من كل ما لا يليق به من وسوسة الشيطان والشهوات والأهواء، كما

تمثل له كثير من المعاني والحقائق في تلك الليلة وفي رؤاه الصادقة بصورة مناسبة

لمعانيها، ولعالم المثال في الكشف الروحاني شأن عظيم عند أهله. ومن المعلوم

بالضرورة أن الإيمان والحكمة اللذين حشيا في قلبه صلى الله عليه وسلم

ليسا من المواد الجسمانية التي توضع في الطست ثم تحشى في القلب. ومن

شاء التفصيل في المسألة فليراجع الفتوى 12، من المجلد 19، ص 529 -

537، ودونها في 8، ج 4، م 33.

وجملة القول أن الدكتور محمد حسين هيكل لم يطلع على حديث يعتقد صحته

ويعبر عنه بأنه أسطورة، فإن كان مقصرًا في هذا الاطلاع فليس بمليم بأكثر مما

يُلام أكثر علماء هذا العصر، ومما تلام عليه مجلة الأزهر (نور الإسلام) بما

تذكره كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، وكذا الموضوعة أحيانًا. فلا يصح أن يجعل

طعنًا في دينه.

(3)

مسألة بدء الوحي ص 95:

لا أدري ما الذي أنكره الأستاذ زهران من كلام الدكتور هيكل في هذه المسألة،

وأما أنا فإنني أنكرت عليه متابعته فيها (لإميل درمنغام) مؤلف الأصل بما يستدل

به الماديون على دعوى الوحي النفسي الذي بسطته، ورددت عليه في كتاب الوحي

المحمدي بالتفصيل، كما أشرت إليه في مقدمة المقالة الأولى وسأعود إليه، فإنني

رأيت المنكرين على كتاب هيكل والمعجبين به سواء في عدم فهم هذه المسألة

المهمة وهي أساس الدين؛ ولهذا أقول إنه يجوز أن يكون مثلهم؛ لم يفطن لكون تلك

المسائل العشر شبهات يستدل بها الماديون على أن ذلك الوحي ذكاء نفسي وعمل

كسبي استعد له محمد صلى الله عليه وسلم بما زعموه من الروايات الباطلة والآراء

المخترعة، التي فندناها في كتاب الوحي المحمدي تفنيدًا.

وأنكرت عليهما مع العلم بعذرهما الاعتماد على رواية سيرة ابن هشام في

مسألة بدء الوحي، وما صورا به جزئياتها من التخيل الشعري الذي تعارض بعضه

الروايات، ولا شك في حسن نية هيكل فيها ومراعاته للأدب الواجب، فإن كان

الأستاذ زهران ينكر شيئًا كتبه بعينه فعليه أن يكتبه لنا، لا أن يكلفنا قراءة الكتاب

كله والرد على كل ما أنكره هو منه لظنه أن رأينا فيه كرأيه، ولكننا أقدر على الرد

عليه بما (يروق الكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة) كما قال، ورب شيء

أنكره أنا من هذه السير لا ينكره الأستاذ زهران، وقد ينكر إنكاري إن لم يقف على

دليلي مفصلاً.

إنني يا أخي أُنكر كل ما رواه ابن إسحق، وما تبعه به ابن هشام مخالفًا

لرواية الصحيحين في بدء الوحي، حتى رواية عبيد بن عمير التي قال شيخنا

الأكبر في الحديث (الحافظ ابن حجر) إنه يمكن الجمع بينها وبين حديث البخاري

في أول صحيحه. وما أظن أنك أنت ولا أمثالك من المبالغين في الإنكار على كتاب

(حياة محمد) تنكرون مثلي رواية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ملك الوحي في

المنام، وتلقيه منه أول سورة العلق مكتوبة في صحيفة أقرأه إياها، وهي مرسلة

لا ندري لعل الساقط من سندها أحد زنادقة اليهود، وأُنكر كذلك جميع الروايات

التي في كتب السير ودلائل النبوة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى ويسمع

من الإرهاصات ما اعتقد به أنه سيكون نبي هذه الأمة فتعلق به رجاؤه، وأنا أعهد

أن أمثالكم يطعن على من ينكرها أشد الطعن إلا من طريق علمي: كجرح الرواية

أو معارضة المتون بمخالفة القرآن مطلقًا والضعاف منها للصحاح، كما فعلت في

كتاب الوحي المحمدي مما تلقاه كل قارئيه بالقبول.

(4)

ما نسبه إلى السيدة خديجة ص 100:

يعني الأستاذ زهران بهذه المسألة قول الدكتور هيكل: إن خديجة قالت للنبي

صلى الله عليه وسلم عندما فتر الوحي: (ما أرى ربك إلا قد قلاك) أي أبغضك.

وقد تابع بهذا درمنغام، وهما لم يخترعاه اختراعًا. وكان من شأن المنكِر عليهما أن

يعلم أن ابن جرير رواه مرسلاً عن طريقين قيل إن رواتهما ثقات، ولكنهما

معارَضان بما رواه الشيخان عن جندب قال: اشتكي النبي فلم يقم ليلة أو ليلتين،

فأتته امرأة فقالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله:

{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1 -

3) اهـ.

وأقول إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب عدوته صلى الله عليه وسلم،

وما قيل في الجمع بينها من أن خديجة قالت له ذلك توجعًا وأم جميل قالته شماته فهو

مردود، وكان يجب على هيكل ألا يأخذ كلام درمنغام قضية مسلمة، ولو بحث

وراجع لعرف الصحيح، وعلم أن هذه الفترة القصيرة في الوحي ليست هي التي

استوحش لها النبي صلى الله عليه وسلم وكبر عليه الأمر، بل تلك الفترة هي التي

كانت بين بدء الوحي في حراء وبين الأمر بالتبليغ، وهي ثلاث سنين، كما بينته

في كتاب الوحي المحمدي وكان ينبغي للدكتور هيكل أن يتأمله ويعتمد عليه فهو لباب

التحقيق.

بل هذه الفترة مشهورة في كتب الحديث وكتب السير لا ينبغي لمن يجهلها أن

يكتب مصنفًا في حياته صلى الله عليه وسلم، يدعي أنه يتحرى فيه الحقائق؛ فماذا

فعل بالكتب التي طالعها لأجله؟

(5)

ما قاله في الإسراء والمعراج ص 153:

أجمل الأستاذ زهران إنكاره على ما كتبه الدكتور في هذه المسألة، وكلفني أن

أبين ما أُنكره منها وأُثبت ما أعرفه، وهو إرهاق يتقاضاني أن أصنف كتابًا أو

رسالة طويلة فيها، وقد سبق لي أن ارتجلت محاضرة فيها استغرقت ساعتين ونيفًا

في جمعية مكارم الأخلاق؛ إذ كانت في قاعة دار السادات.

الدكتور يثبت الإسراء والمعراج، وينقل فيهما ما هو مشهور بين الناس من

الاختلاف بين العلماء؛ هل كان في النوم أو اليقظة؟ وبالروح والجسد، أم بالروح

فقط؟ وينفرد بتعليل القصة بأنها من مشاهد وحدة الوجود الخيالية، ويصف هذه

الوحدة بغير ما يصفها به أهلها من الصوفية الغلاة الذين يُعرفون بصوفية الحقائق؛

لأنه موضوع ليس من علمه، كما أن التمييز بين صحاح الروايات وضعافها

ومنكراتها واختلاف متونها وتعارضها في المعراج ليس من شأنه بالأولى، وقد

أشرت إلى بعضها آنفًا في الكلام على حديث شق الصدر، والجمع بينها متعذر

حتى قيل بتعددها وهو لا يعقل.

ومما أخطأ فيه - كما نرى - ما نقله عن (موسيو أميل درمنغام) في

وصف المعراج وقد خلط فيه بين الروايات المضطربة، فلم يميز بين صحيحها

ومنكرها.

ووصفها وصفًا شعريًّا خلب الدكتور ببلاغته الفرنسية، فعرج هو من أفقه إلى أفق

أبعد منه في التخيل الشعري وهو أفق وحدة الوجود، التي يعجز صوفية الهند

ومقلدتهم من الإفرنج أن يبلغوا فيها شأوَ محيي الدين بن عربي في نثره وعمر بن

الفارض في شعره، وقد قال الدكتور فيها بما لم يعقله من الجمع بين الأزل والأبد.

مسألة وحدة الوجود عقيدة هندية قديمة لا تتفق هي وعقيدة الإسلام في كون

الخالق تعالى فوق جميع خلقه بائنًا منهم، وخلاصتها أن وجوده تعالى وتقدس عين

وجودها، وهي مظاهر له كمظاهر الماء من جامد ومائع وبخار وغاز، كما قال

عبد الكريم الجيلي:

وما الخلق في التمثيل إلا كثلجة

وأنت لها الماء الذي هو نابع

وأقرب مما ذهب إليه الدكتور في تصوير مسألة الإسراء والمعراج أو تقريبها

إلى الأذهان، يوافق العلوم العصرية - هو ما ثبت عند القائلين باستحضار

الأرواح من تمثل أرواح الموتى المجردة بصور جسدية من الأثير تتكاثف أحيانًا بما

تستمده من مادة الكون أو من جسم الوسيط، حتى يمكن تصويرها بالآلة العاكسة للنور

وقد قرأنا في كتاب (المذهب الروحاني) وغيره من الكتب والصحف شواهد

على ذلك، وأصل هذا معروف عند أهل الدين بما ثبت من تمثل أرواح

الملائكة والشياطين بصور البشر وغيرهم وأمثلته كثيرة في كتب أهل الكتاب

المقدسة وفي القرآن العظيم والأحاديث الصحيحة، ويحكون في كتب الصوفية أن

بعض الروحانيين منهم يتجردون من أجسادهم الكثيفة ويتمكنون من تحويلها إلى

أجساد أثيرية لطيفة أحيانًا تقطع المسافات البعيدة في طرفة عين وتنفذ من الأجسام

الكثيفة، فالمسألة معروفة مسلمة عند غير الماديين من المليين، وغيرهم من

الروحانيين.

فعلى هذا يمكن أن يقال إن روح النبي صلى الله عليه وسلم أعطيت من القوة

في تلك الليلة ما كانت به كقوة روح جبريل الذي كان يتمثل له صلى الله عليه وسلم

بصورة دحية الكلبي وغيره، وتمثل للسيدة مريم عليها السلام بشرًا سويًّا، وفي

هذه الحالة تتصرف الروح بجسدها الأثيري اللطيف فتحمله من مكة إلى بيت

المقدس، ومنه إلى حيث شاء الله من السموات العلى إلى سدرة المنتهى، وقد

بينت هذا من قبل في المنار وفي محاضرتي الطويلة التي أشرت إليها آنفًا، وقلت

إنه مذهب الصوفية الموافق لقول جمهور المحدثين إن الإسراء والمعراج كانا

بالروح والجسد.

ولعل هذا ما أشار إليه الأستاذ الأكبر المراغي في التعريف بالكتاب بقوله:

(وعلم استحضار الأرواح فسَّر للناس شيئًا كثيرًا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على

فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها، وفهم انفصالها، وفهم ما تستطيعه من السرعة

في طي الأبعاد، وقد انتفع الدكتور بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى

بشيء طريف) ا. هـ.

اشتبه بعض قراء هذه العبارة المجملة الوجيزة في فهمها فظنوا أن الأستاذ

وافق المؤلف على القول بأن الإسراء كان بالروح منفصلة من الجسم، وعلى مسألة

وحدة الوجود، ولكن قوله:(فأتى بشيء طريف) لا يدل على فهمهم هذا؛ ولذلك

لم يقل: (بشيء طريف فيه) ، بل هو يشير إلى ما قلته.

وجملة القول: أن الدكتور هيكلاً نقل بعض أقوال علماء المسلمين في مسألة

الإسراء والمعراج وقول درمنغام من غير تمحيص ولا تحقيق، كما فعل بعض أهل

السير وغيرهم من المسلمين، وزاد عليها مسألة وحدة الوجود بعبارة مبهمة تدل

على أنه لا يعتقد أنها مخالفة لنصوص الكتاب والسنة لخفائها المعروف، فلا يباح

لمنكريها عليه الطعن في دينه، ولا يصح للمعجبين به أن يقولوا: إنه محقق لروايات

السيرة.

(6)

ما عقب به معجزة الغار ص 177:

يعني الأستاذ الناقد المنكر بهذه المعجزة ما نقله الدكتور هيكل عن أميل

درمنغام عن بعض كتب السير كالسيرة الحلبية: من أن النبي صلى الله عليه

وسلم حين دخل مع صاحبه الغار وجاء المشركون يبحثون عنه وجدوا شجرة تدلت

فروعها إلى فوهته، وبيتًا من العنكبوت يستر من فيه، وحمامتين باضتا عند بابه.

وذكر أن وجه المعجزة في هذه الأشياء أنها لم تكن موجودة، وإنما وجدت وقتئذ،

وأن درمنغام قال: (هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقص التاريخ

الإسلامي الجد (كذا) ، وهي أعاجيب ثلاث، لها كل يوم في أرض الله نظائر) .

(أقول) : حديث هذه الثلاث أخرجه ابن سعد وابن مردويه والبيهقي

وأبو نعيم عن أبي مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم

والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي e ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في

وجه النبي e فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي e فسترته،

وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن

رجل بعصيهم وهراويهم وسيوفهم

إلخ.

قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان بعد ذكر حديث أبي مصعب هذا: قال

العقيلي مجهول ذكره في ترجمة عون بن عمرو. وذكر الحافظ في ترجمة عون هذا

أنه منكر الحديث مجهول، وذكر حديثه هذا عن أبي مصعب وقال إنه لا يعرف.

فهذه المعجزات لم يصح بها الخبر، بل انفرد بروايته مجهول منكر الحديث

عن رجل لم يعرف قط، فالظاهر أنه هو الذي وضعه عليه، ولو كان له أصل

لأمكن أن يقال من ذا الذي حقق أن هذه الثلاث وجدت عند دخوله e في الغار،

وأنها لم تكن من قبل، وكيف كان عبد الله بن أبي بكر وراعي غنمه مولاه عامر

ابن فهيرة يدخلان الغار في كل ليلة؟ ولِمَ لمْ يحدِّثا بها أحدًا ولا حدث بها من أكرمه

الله بها وهو النبي صلى الله عليه وسلم وكذا صاحبه رضي الله عنه حتى حدث

بها أبو مصعب المجهول الذي أعيا رجال الجرح والتعديل أن يعرفوه أو يعرفوا عنه

شيئًا، ولم يحدث بها عنه إلا عون بن عمرو المنكَر الحديث؟ وأي حاجة إليها في

حفظ من كفل الله حفظه، وعبر عن ذلك بأنه تعالى معه ومع صاحبه؟ ههنا يظهر

الفرق بين شعور الأستاذ زهران والدكتور هيكل وأمثالهما:

الفريق الأول يرتاح إلى روايات خوارق العادات مطلقًا، ويرون أنها أعظم

الحجج على إثبات النبوة، فلا يعنون بتحقيق رواياتها.

والآخرون ينفرون منها لكثرتها عن جميع الملل ولا يرون فيها حجة قاطعة

على النبوة كالآيات العلمية والعقلية وأعظمها القرآن؛ ولذلك يميلون إلى تكذيب

روايات تلك الخوارق، وسنبين تحقيق الحق في ذلك.

(للنقد بقية)

_________

ص: 64

الكاتب: عبد السميع البطل

‌صاحب المنار

السيد محمد رشيد رضا

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ

مُّبِينٍ} (يس: 12) .

مات السيد رشيد رضا، فمات بموته المنار، ونعاه الناعون مع نعيه، وأبَّنه

المؤبنون في حفلة تأبينه، واقترن الأسى على حرمان المسلمين من المنار، بالأسى

على منشئ المنار، وقد مضى أربع سنين خفت فيها ذلك الصوت المدوي الذي كان

يملأ طباق الأرض، وخبا النور الذي كان يشع في الشرق والغرب، أربع سنين

عسعس ليلها، وحار دليلها، ومل حذاقها، حتى إذا استيئس الركب، وظنوا أنهم

قد أحيط بهم، لمع لهم نور (المنار) من مشرق جديد، يبدد الظُّلَم، ويكشف الغمم،

ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيط قلوبهم.

ولقد طالما قال القائلون إن أعمال المسلمين يقضى عليها بالفشل، تموت

بموت أصحابها فلا تحس لها وجودًا، ولا تسمع لها ركزًا، مات (المؤيد) بموت

الشيخ علي يوسف، ومات أمين الرافعي فماتت (الأخبار) بموته، ومات السيد

رشيد فوُدع المنار يوم وداعه، ومات صاحب (الأهرام) فهل أثر موته في انتشار

الأهرام؟ ومات جورجي زيدان منشئ (الهلال) فلم يحُل موته دون ذيوعه واطراد

نموه، ومات الدكتور صروف أحد أصحاب المقطم والمقتطف فلم يفتَّ الوهن في

عضد شريكه، وظل في مده وفراهته.

ألا فليطمئن هؤلاء بالاً، فقد شذت القاعدة، وانخرقت العادة، وانبعث

(المنار) من مرقده، وعاد إلى الظهور وضَّاح المحيَّا، باسِم الثغر، يستأنف جهاده

ويتمم رسالته، ويحتضنه جماعة الإخوان المسلمين المنبثين في العالم الإسلامي

بحرارة إيمانهم، ودافع غيرتهم، متكئين على ماضي (المنار) المجيد وسمعته

الغراء، مترسمين خطا منشئه العظيم في إخلاصه وبلائه، وصبره وأناته،

مغترفين من فيض حكمته، مقتبسين من أنوار معارفه؛ فلقد كان - رحمة الله عليه-

أمة وحده، وكان حجة من حجج الله على عباده، حتى لقد أتعب من بعده، وظل

الفراغ شاغرًا فلم نجد من يسد مسده، وأحجم كل من تقدمنا إليهم في المعاونة على

استمرار (المنار) ، معتذرين بعظم المسئولية، وعدم استكمال الأدوات، يستوي

في ذلك علماء مصر الأعلام، وغيرهم من علماء الإسلام، وأذكر هنا كلمة

المرحوم الشيخ حسين والي - من كبار علماء الأزهر المشهورين - التي قالها لنا

أيام المأتم ونحن نتذاكر الأمر: (إيتوني برجل اجتمع فيه علم السيد رشيد وصلاحه،

وإخلاصه، وصبره، وثقة العالم الإسلامي به، وأنا أضمن لكم استمرار المنار) .

وقال نحو ذلك الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار، وكان الذين

يتمنون هذه الأمنية، إنما قصارى أمنيتهم أن يكون المنار الجديد صدى المنار القديم،

حتى لا يسكت ذلك الصوت الصارخ، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة.

ولا شك أن المؤمنين سيفرحون بنصر الفكرة، وتحقيق الأمنية، وسيتقبلون

المنار بقبول حسن، وسيرحبون بمبادئ الإسلام الصحيحة قبل أن تتناولها أيدي

التحريف، وتلعب بها رياح التضليل، وسيحملهم ذلك الحرص على الرجوع إلى

مجلدات المنار القديمة، بل الرياض النضيرة، يتفيئون ظلالها. ويقطفون ثمارها،

وإن جناها لدانٍ، وإنه لمستساغ في اللها.

ولما كان المنار الجديد سيعرف قراء جديدين، وستتناوله أيدٍ جديدة، وسينضم

له أعضاء جدد، كان من المستحسن أن نقدم لهم ترجمة مختصرة عن صاحب

المنار: نشأته، وإصلاحه، وآثاره، وسائر ما يتصل بذلك؛ لتكون نورًا بين يدي

القراء، فإلى اللقاء.

...

...

...

... عبد السميع البطل

_________

ص: 61

الكاتب: أحد علماء الأزهر

‌فلسفة النفاق

المنافقون في فلسطين وحكمهم

بقلم أحد علماء الأزهر الفضلاء

{بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ

المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) .

تنادى الناس في فلسطين إلى الدفاع عن أنفسهم، والذود عن بلادهم، والجهاد

في سبيل الله، فنفر فريق بنفسه، وأعان فريق بماله، وساهم فريق بجهده،

وقعد المخلفون.

والمخلفون عن الأمة في كل زمان هم المنافقون فيها، يتخلفون عن جماعتها،

ويخرجون على أمرها، ويقعدون عن نصرتها، ويعملون على خذلانها، ويتولون

أعداءها؛ ذلك أن الإيمان لم يدخل قلوبهم، والإخلاص لا يجد سبيلاً إلى نفوسهم،

والخير بعيد عنهم، والشر قريب منهم، فهم أعداء الله والناس وأعداء أنفسهم لو

كانوا يعلمون {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ

مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون: 4)

هؤلاء المخلفون هم الثلمة التي ينشدها أعداء الأمة في صفوفها المتراصة،

يبصرون منها عوراتها، ويستطلعون أخبارها، ويستكشفون أسرارها، وينفذون

منها إلى معاقلها الحصينة، وحصونها الأمينة، وهم مطايا الاستعباد، ونذر السوء،

وأبواق الشر، وعون العدو؛ ينال بهم ما لا يقدر على نيله بقضه وقضيضه،

وعدته وعديده.

لقد هب الناس جميعًا في فلسطين لدفع كارثة التهويد والاستعمار عن بلادهم،

ورفع الظلم النازل بهم، ونفروا خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يبق

منهم من لم يساهم في هذا السبيل بنصيب كثير أو قليل، إلا أولئك المخلفون

الخائنون، الذين طبع الله على قلوبهم، واستحوذ الشيطان على عقولهم، فانحازوا

إلى العدو، وقعدوا عن نصرة بلادهم، وفرحوا بمقعدهم وراء العاملين المجاهدين

من أمتهم، يتربصون بهم الدوائر، ويترقبون بهم النوائب، وإن تمسسهم حسنة

تسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها، تقر أعينهم بما تفيض له أعين الناس

بالدمع، وتُسر أنفسهم بما تذهب أنفس المؤمنين عليه حسرات، يرون - وقد أعمى

الله بصائرهم، وأمات الفسق ضمائرهم - في ضعف أمتهم قوة لهم، وفي ذلها

عزهم، فهم دومًا يسلكون سبيلاً غير سبيلها، وهم أبدًا يعملون مع عدوها.

هذا هو حال أولئك المخلفين المنافقين في فلسطين اليوم، وكذلك حالهم في كل

زمان، وكذلك يكونون في كل أمة، يدخلون في عدادها وهم أعداؤها، وينتمون

إليها وليسوا منها، وكما في الحيوان والنبات طفيليات تعلق بجسمه وتلصق به

فتأكل غذاءه، وتتنفس هواءه، وتزاحمه في معايشه، وتعوق نموه، فيؤدي ذلك

إلى ضعفه ففنائه.

كذلك في البشر طفيليون هم هؤلاء المنافقون، يعملون في الإنسان عمل ذلك

الحيوان والنبات، حذوك النعل بالنعل.

وكما يعمد صاحب البستان في تعهد نباته إلى المبادرة بإزالة هذه الطفيليات

عنه، والمسارعة في إفنائها استبقاء له، وحفظًا لثمره، كذلك يفعل الناس بالمنافقين

الخائنين منهم، يعمدون إلى إزالتهم، ويعملون على إبادتهم؛ كيما يحفظوا أممهم،

وتسلم لهم نفوسهم وجهودهم.

ولئن كان الناس منذ القديم يرون في أعمال هؤلاء أعظم الضرر وأسوأ

الجريمة، ويعدون فعلتهم خيانة عظمى لا تعدلها أية خيانة، ويجعلون جزاءها

الموت، فكذلك كان حكم الله عليهم، وكذلك كان قوله فيهم إذ يخاطب رسوله بشأنهم،

فيقول: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ

لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً*

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 60-

62) . فالله سبحانه حين ينذر هؤلاء بإغراء رسوله بهم، وبإخراجهم من البلاد فلا

يجاورونه فيها، ولعنهم وطردهم من رحمته، فهو يطالب بتعقبهم داخل البلد

وخارجها، وأخذهم أينما وجدوا، وأن يقتلوا تقتيلاً؛ ذلك أنهم حيث ما كانوا لا

يدخرون وسعًا في أذية أمتهم، والكيد لقوتهم، وموالاة أعدائهم.

وتلك سنة الله في الخائنين من خلقه من قبل ومن بعد، وذلك حكمه في كل

زمان على المنافقين، وعلى الذين في قلوبهم مرض من فجور وفسق يصدهم عن

رضاء الله، وصالح قومهم؛ حبًّا لذاتهم، واتباعًا لشهواتهم، وذلك حكمه أيضًا على

الذين يرجفون حول المؤمنين، فيشيعون أخبارًا سيئة عنهم، ويقومون بالدعايات

المضلة ضدهم؛ لإضعاف شأنهم وتوهين قواهم، وتثبيط عزائمهم كما يفعل

الخائنون المنافقون في فلسطين اليوم.

وما أشبه حال المنافقين اليوم حين أدلى كبيرهم بحديث لبعض الصحف

المصرية، يقول فيه: (لو كنا نعلم أن هذه الثورة تقوم ضد الإنكليز واليهود

لساهمنا فيها؛ ولكنها تقوم ضد العرب أنفسهم) . ما أشبه ذلك بحال المنافقين في

عهد رسول الله فيهم {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ

ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ

بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (آل عمران: 167) .

بل ما أشبه هؤلاء الخائنين في فلسطين إذ تخلفوا عن المؤمنين في قتالهم

وجهادهم، وقعدوا من ورائهم يعوقون الناس عن الجهاد بشتى الوسائل، ويخوفونهم

بأس العدو وقوته، ما أشبههم بأسلافهم المنافقين الأولين، الذين يقول الله فيهم حين

تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله والمؤمنين: {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ

رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي

الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً

بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة: 81-82)، إلى أن يقول تعالى في الحكم عليهم:

{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي

الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 84-85) .

وكما أصدر أحد أئمة النفاق بيانًا أسماه الناس (الورقة الصفراء) لما فيه من

صفرة الخيانة، تودد فيه إلى اليهود، وتغنى بمحاسنهم، ورحب بهم أن يكونوا

أصحاب البلاد، في حين يريد المؤمنون إخراجهم منها، ومَنَّاهم بانتصار حزبه -

حزب الشيطان - لهم، وأغراهم بأن يكون عونهم ليشبع جشعه من أموالهم، فكذلك

قال أسلافه المنافقون لليهود السالفين حين عمل المؤمنون على إخراجهم من المدينة،

وكذلك وعدوهم ومنوهم، فقال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ

لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ

أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ

مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} (الحشر: 11-12) .

ذلك بعض ما يقوم به في فلسطين المنافقون الخائنون، الذين يتولى زعماؤهم

بأنفسهم أكبر أعمال الخيانة لقومهم، والتجسس للعدو عليهم، والإغراء بالمجاهدين

العاملين، والدلالة على معاقلهم ومواطنهم، والإرشاد إلى أماكن أسلحتهم وذخيرتهم،

والمساعدة على قتلهم وتعذيبهم مع أولادهم ونسائهم، وهدم مساكنهم، وإتلاف

مؤنهم وأموالهم، كما صنعوا في قرى بيت فجار، وكفر مالك، وحلحول،

والمزرعة الشرقية، وبيت ريما، وغيرها من القرى والمدن العربية؛ يبتغون بذلك

العزة عند العدو، ويطلبون الرفعة لديه {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ

يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) .

إن ما يقوم به هؤلاء المنافقون من فساد في الأرض وحرب لله ورسوله،

فليأذنوا إذن بحرب من الله والمؤمنين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ

أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) .

ذلك حكم الله على المنافقين المخلفين الخائنين، وذلك قوله فيهم ومن أصدق

من الله قولاً؟ ! ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون؟ !

فليحذر المؤمنون في فلسطين هؤلاء المنافقين، ولينفذوا حكم الله فيهم، من غير

أن تأخذهم بهم رأفة أو تعصمهم منهم صلة وقربى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لَا تَجِدُ قَوْماً

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ

أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ

حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 20-22) .

_________

ص: 63

الكاتب: محمد عبده

‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

وقد شكا المغفور له صاحبه من قلة الإقبال عليه

الناس في عماية عن النافع، وفي انكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم

يشرعوا بالاشتراك في المنار، فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى تغيير

الحاضر بما هو أصلح للآجل، وأعونه على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال ذلك

الميل في الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاً؛ ولكن ذلك لا

يضعف الأمل في نجاح العمل.

_________

ص: 67

الكاتب: عبد الظاهر أبو السمح

‌المنار والإصلاح

بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الظاهر أبو السمح

إمام الحرم المكي

كانت مجلة المنار مجلة إصلاح إسلامي لا يجاريها في مضمارها مُجَارٍ، ولا

يسبقها في حلبتها سابق، كانت تُعْنَى بتفسير القرآن الكريم وشرحه من السنة

المحمدية على طريقة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه بالله؛ فبعد أن

تُقَرِّر المعنى تفضِي بما في الآيات من العبر، مقارنةً بين ما كان عليه المسلمون

الأولون وتمسكهم بالقرآن وعملهم به، وما عليه مسلمو هذا الزمان، مهيبةً بهم،

منذرةً لهم، مبينةً ما يحدثه المبتدعون في الدين من البدع، مجليةً شُبه الضلال

والملحدين من الأمة بالأدلة الواضحة والحجج الساطعة، وكان صاحبها أستاذنا

العلاّمة السيد رشيد رحمه الله لا يخشى في الحق لومة لائم ولا سطوة حاكم،

ولا يجامل صديقًا، ولا يصانع عدوًّا، ولا يرعى غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره،

وكانت خاتمته الحسنى ما علمه الخاص والعام مما انتهى إليه تفسيره {رَبِّ قَدْ

آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي

فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) يا لها

من خاتمة حسنى! وموقف جميل! لم يكن إلا بتوفيق من الله لعبد رضي الله عنه

وتولاه، وأدخله في عباده الصالحين وأوليائه، ولما توفي السيد رحمه الله قلت

وقال الناس معي:

شعلة أطفئت وشمس توارت

وكأن الحياة لمع سراب

ووقف المنار ، وتوارى عن الظهور وخلا الكرسي ، ولم نجد من يملؤه بعده ،

ولا من يسد مسده ذبًّا عن الإسلام ، ودرءًا لشبهات ، وبيانًا لحقيقة الإسلام ، حتى

مضت ثلاث سنين أو أكثر ونحن ندعو الله أن يهب الإسلام مرشدًا رشيدًا يضيء

النهج وليل الجهالات قاتم ، وكأن الله سمع دعاءنا ، فقيض لمجلة المنار من يبعثها

بعثًا جديدًا، مصقعًا إذا خطب، مدرهًا إذا كتب، ذكي الفؤاد ، قادرًا على حمل

الأعباء، عالمًا ألمعيًّا وشجاعًا عبقريًّا ، ذلك هو الأستاذ المرشد الجليل الشيخ حسن

البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين - حفظه الله، فنهنئه بهذا التوفيق،

ونهنئ مجلة المنار وقراءها بتولي حضرته رياسة تحريرها ، ونسأل الله له التوفيق

والسداد والعون على القيام بها.

وقد انتدبني حضرته للكتابة فيها بحسن ظنه، وما كنت لأخالفه، لولا أشغال

كثيرة وأعمال متواصلة تستنفذ الوقت كله؛ ولكن لا بد من تلبية الطلب كلما وجدت

إلى ذلك سبيلاً بحول الله وقوته - وإن كنت مزجى البضاعة عاجز اليراعة، والله

المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وسيكون موضوع كتابتي - إن شاء الله - الكتاب والسنة، والدعوة إلى الله،

والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا

بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

...

...

...

...

كتبه

...

...

...

...

أبو السمح

_________

ص: 68

الكاتب: حسن البنا

لماذا تأخر المسلمون

ولماذا تقدم غيرهم؟

هذا سؤال طالما ردده المصلحون ، وكثيرًا ما حاروا في الإجابة عنه وعظمت

دهشتهم حين رأوا المسلمين ينحدرون إلى هوة الضعف والاستكانة مع كثرة عددهم

وخصب أرضهم وتعدد وسائل النجاح عندهم.

وقد أجاب على هذا السؤال عطوفة الأمير شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر

المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) إجابة شافية جامعة مانعة ، وأبان بأنصع برهان وأقوى

دليل أسباب نجاح المسلمين الأولين وفشل المسلمين الآخرين ، وكشف عن سر تقدم

الغربيين واليابانيين. والكتاب في بابه حجة دامغة، وصفحة مجيدة، وليس لمسلم

غناء عنه، فنشكر لعطوفة الأمير عمله العظيم، ونحض جميع المسلمين على قراءة

كتابه النافع، وهو يباع بمكتبة الحلبي بجوار المشهد الحسيني، وثمنه خمسة قروش.

_________

ص: 69

الكاتب: عيسى عبده

‌اتجاه محمود في الشرق العربي

بقلم الأستاذ عيسى عبده

المدرس بمدارس التجارة المصرية وعضو بعثة المعارف بمنشستر

أرى في أيامنا هذه اتجاهًا طيبًا يتخذه بعض إخواننا في مصر وغيرها من

البلاد العربية، وسيلتهم فيه البحث العلمي المستنير، وغايتهم خدمة السواد من

أممنا العربية. هذا السواد هو من غير شك أولى الناس بجهودنا نبذلها في سبيل

التخفيف عنهم اليوم، وإسعاد أبنائهم في الغد القريب، على أننا لا نزال في أول

الطريق؛ فقد بدأنا بدراسة شئون العامة دراسة تمهد للإصلاح المرتجى، من ذلك

ما يقوم به الأستاذ عمار بجامعة منشتستر، والدكتور الشافعي بجامعة فؤاد بالقاهرة،

والبروفسور تود بجامعة بيروت، والمستر بتلر رئيس المكتب الدولي للعمل

بجنيف، وكلهم تناول شئونًا شرقية أو مصرية بحتة. ولكن الناظر في الشئون

الشرقية والعربية من نواحيها الاجتماعية يجد ظواهر مشتركة بين الأقطار جميعًا،

وهذا أمر طبيعي في بلاد جميع بينها منذ ثلاثة عشر قرنًا أو تزيد وشائج لا تهن ولا

تضعف، أساسها وحدة الدين واللغة، وبعض آثارها هذا الذي نرى من وحدة الألم

والأمل، فمن وصف بعض هذه الأقطار فقد عرف عن بعض ما دام وصفه يتصل

بالنظم الاجتماعية.

وحديثنا اليوم يتناول فريقًا كبيرًا من سكان مصر، ولي منه غرضان: أولهما

أن يكون دعوة إلى الشباب المثقف في الأقطار العربية كافة أن يقوم بعض القادرين

منهم بمثل البحوث التي قام بها الغرب من زمن، والتي بدأتها مصر مؤخرًا.

وثاني الغرضين أن أبين ما ينتظر منا - نحن المتعلمين - من مساهمة في

حركة الإصلاح. حين درست أحوال العمال منذ عامين تقريبًا تكشفت أمور قد

تغيب عن بعضنا، وقد يتجاهلها بعض آخر، سأذكر بعضها تزكية للدعوة التي

أوجهها إلى كل عربي، فالحال في بلادنا كما قدمت واحدة.

طبقة الأُجراء في مصر تشمل العامل الصناعي والعامل الزراعي ومن عداهما

من الأُجراء، وتكوِّن الغالبية العظمى من الشعب، ولئن كانت البيانات التي اعتمدنا

عليها في كلمتنا هذه قد جمعت من نحو (800) ثماني مائة أسرة من أسر العمال

المقيمين في القاهرة، فإنها تعين على تكوين صورة صحيحة عن حال الأجير بوجه

عام، مع تحفظ واحد هو أنها أشبه بالحال في المدائن دون القرى ، فإذا أردنا أن

نرى خلالها بيت العامل الزراعي وعيشه وجب أن نزيد من ألوانها القاتمة.

حياة العامل:

يبدأ الكثير من العمال في سن مبكرة هي الخامسة عشرة ، هذا إذا تجاوزنا

عما هو سائد في القرى من استغلال الأحداث في أعمال لا تتطلب جهدًا كبيرًا؛

ولكنها رغم بساطتها تعوق نموهم ، وتفوت عليهم فرصة تحصيل المبادئ الأولية

التي لا غنى عنها لأبسط طبقات الشعب، على أن هذه الحال تتبدل اليوم إلى ما هو

خير منها فلنتركها جانبًا ، ولنحصر القول فيمن تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر

عامًا وستين عامًا ، هؤلاء موزعون كما يلي:

نسبة من لا تبلغ أعمارهم 20 عامًا من العمال 8 في المائة ، ومن السكان 16

في المائة.

ونسبة من لا تتراوح أعمارهم بين 20 و39: من العمال71 في المائة ، ومن

السكان 56 في المائة.

ومن تتراوح أعمارهم بين 40 و 49: من العمال 16 في المائة، ومن السكان

18 في المائة.

ومن تتراوح أعمارهم بين 50 و 59: من العمال 5 في المائة، ومن السكان

10 في المائة.

أما الذين يتخطون الستين من بين العمال فلا يزيدون على اثنين من كل ألف ،

ونظيرهم من السكان خمسة من كل ألف ، ولقد حسبت هذه النسب على عدد

الذكور دون الإناث؛ فما يزال العرف في مصر والشرق يجري على أن كسب

العيش من وظائف الرجال.

لبعض هذه الأرقام دلالة قوية جدًّا ، فنسبة الشباب الذي تتراوح سنه بين

العشرين والأربعين والذي يستأثر به العمل أكبر من نظيرتها في سائر نواحي

النشاط الاقتصادي، كوظائف الدولة والمهن الحرة؛ من أجل ذلك جاز لنا أن نقول

: إن ما يصيبه هؤلاء من عيش ضنك له أسوأ الأثر في القوى الحيوية للشعب كله.

انظروا إلى الباقين منهم بعد سن الخمسين في معترك الحياة، تجدوهم خمسة من كل

مائة، إذن هذا العدد الضخم من الشبان الأجراء البالغين واحدًا وسبعين في المائة

من عدد العمال ، والذين تتراوح أسنانهم بين العشرين والأربعين عامًا يخرجون من

ميدان العمل خلال الحلقة الخامسة من أعمارهم إلا عددًا منهم قليلاً ، ولقد أثبت

البحث أن عدد من يخرج منهم بالترقي إلى مصاف أرباب الأعمال، أو مستندًا إلى

ثروة جمعها ، أو إلى ولد قادر يكفيه مشقة العمل في سن متأخرة قليل جدًّا، وأنه

أولى بالإغفال، وهكذا تبقى أسباب الخروج من العمل منحصرة في الموت والعجز.

هذه الظاهرة المحزنة إنما هي نتيجة طبيعية لظروف العامل في حياته الخاصة،

وسنرى أنه في حياته القصيرة يرزح تحت عبئين مرهقين من إجهاد وحرمان.

تزايد السكان:

ربما بدا غريبًا بعد هذا الذي قدمنا أن يتزايد عدد الطبقات العاملة رغم عوامل

الفناء المحيطة بهم؛ ولكن للتزايد أسبابًا قوية؛ منها أن نسبة الزواج بين العمال

تبلغ 76 في المائة، وهي للسكان عامة 66 في المائة، ويبكر العامل بالزواج حتى

أن نسبة المتزوجين قبل سن الخامسة والعشرين تبلغ 10 في المائة، وهي نسبة

عالية لسن مبكرة في طبقات أجورها لا تفي الفرد فضلاً عن الأسرة، وهنا يجدر

أن نلاحظ ظاهرة تميز الشرق بصفة عامة عما عداه، تلك أن الزواج في معظم

الحالات لا يكون نتيجة لحاجة الرجل إلى من يدبر شأنه أو يهيئ له حياة منزلية

هادئة، فبين المتزوجين من العمال ستون في المائة يعولون قريبات لهم كوالدة أو

عذارى وأرامل من ذوي القربى، وقد كان لهؤلاء العمال من قريباتهم غنى من

ناحية الخدمة ودافع من ناحية النفقة على ألا يفكروا في الزواج في سن مبكرة،

ولكنهم يفعلون بدافع ديني، وهذه حال لا يمكن أن تستتبع اللوم؛ وإنما تستحق

العطف والتهذيب.

أما عدد الأطفال فكثير، ولما كان الزواج مبكرًا، فالعمال تبعا لذلك آباء في

سن مبكرة كذلك، فمثلاً بين العمال من سن العشرين نجد اثنين في المائة لكل منهما

ولد أو ولدان، فإذا بلغ الوالد سن الخامسة والثلاثين كان عدد الأبناء كما يلي:

من كل مائة من الآباء:

عشرون لكل منهم ولد واحد

وستة وعشرون لكل منهم ولدان

وسبعة عشر لكل منهم ثلاثة أبناء

وثمانية لكل منهم أربعة أبناء

واحد له خمسة أبناء

وواحد له ستة أبناء أو أكثر

أما إذا تمشينا معهم إلى آخر العمر فطبيعي أن تتزايد النسب الأخيرة ، فتصبح

من كل مائة والد:

أربعة وأربعون لكل منهم ثلاثة أبناء

وأربعة وعشرون

لكل منهم أربعة أبناء

وعشرة لكل منهم خمسة أبناء أو أكثر

كل هذا رغم ارتفاع نسبة الوفيات بينهم ، واستئثارهم بموتى المواليد، ولولا

هذان العاملان لتزايدوا بأسرع مما ترى رغم الظروف القاسية التي تحيط بهم.

أشرنا فيما تقدم إلى أن 60 في المائة من أرباب الأسر يعولون إلى جانب أبنائهم

وزوجاتهم أقارب لهم عاجزين عن الكسب ، هؤلاء من طرحتهم أمواج الحياة

صرعى جهاد ظالم يبعثون فيه بغير سلاح ، آباء قضوا ربيع الحياة في خدمات لا

تعود عليهم إلا بما يمسك الحياة ، فإذا أقبلت سنو المشيب - وهذه تبكر لأمثالهم -

أقعدهم العجز عن كل كسب ، ونساء فقدن العائل بالموت أو بسواه، وورثن عنه

البنين دون المال. هكذا ينشأ الجيل الجديد مرهقًا بتبعات ثقال تنوء بالعصبة أولي

القوة ، فيلتمس السلوى فيما يحط من قواه ولا يصلح له شأنه ، ثم يدفع بولده جاهلاً

هزيلاً إلى معترك الحياة وهو بعد في مقتبل العمر، عساه يلتقط بعض الفتات فيعين

أسرته ، وكذلك ينشأ نشأة أبيه ، وإذا بالمأساة تتصل، وتتسق فصولاً من جديد ، وقد

تبدل اللاعب وما أسدل الستار.

ساعات العمل:

يندر أن تقل عن ثماني ساعات في كل يوم ، ونسبة ذلك 1 على 3 في المائة

من مجموع الحالات، وهي:

ثماني ساعات في 15 في المائة من الحالات.

وعشر ساعات في 70 في المائة.

وأربع عشرة ساعة في 5 في المائة.

وست عشرة ساعة في 10 في المائة.

على أن من هذه الحالات الأخيرة ما يبلغ 17 وأكثر.

الأجور:

منخفضة جدًّا، تبدأ بقرش واحد في اليوم للأحداث في بعض الصناعات،

وتزيد كلما تقدمت السن بنسبة لا تكاد تبلغ الثلث مما يجب أن تكون عليه الحال،

ونتيجة ذلك أن تتزايد التبعات ولا تنمو الموارد بالدرجة الكافية.

ولا يمنح العامل أجرًا عن يوم راحته ، ولا مرضه، وأكثر الفئات شيوعًا هي

فئة العشرة القروش والخمسة عشر؛ إذ يتقاضى أجورًا تقع بين هذين الحدين 30

في المائة من العمالة. وعقود الاستخدام كلها رهينة الظروف، وأكثرها عقد يومي

يتجدد كلما تجددت الحاجة، ولهذا أثر سيئ.

فالعامل لا يرتبط بجهة معينة ، وكل خدماته موزعة بين الناس، ومجهوده

السابق نَهْب الظروف المتقلبة من حوله، فإذا ما بلغ القمة من حياته أتقن عمله

وشارف أجره رقمًا عاليًا - يبلغ ثلاثين قرشًا في ثلاث حالات من كل ألف، ويبلغ

25 قرشا في 22 حالة من كل ألف - لم يستطع أن يحافظ على ما وصل إليه من

أجر عالٍ نسبيًّا؛ لأن رب العمل يتبدل، وقوى العامل تنحط مع الزمن، وله في

كل يوم سوق أصولها منبتة؛ ولذلك نرى الأجور العالية التي ذكرنا لا تكون إلا ما

بين العشرين والخامسة والأربعين من العمر، ثم تنحدر بعد ذلك، حتى إن أعلى

الأجور لمن تبلغ أعمارهم 50 عامًا أو يتخطونها عشرون قرشًا.

ولقد يلقى العامل من عنت رب العمل ضعفًا آخر، فيؤخر أجره ضمانًا

لمواظبته، أو يؤخره حتى يتوافر لديه مال حاضر.

المساكن:

هذه الأنقاض التي يزدحم فيها العمال إنما تسمى مساكن من باب التجوز،

ومن كانت حاله ما قدمت فأنى له المسكن الصحي؟ بحسبنا أن نذكر في هذا الصدد

أن إيجار المسكن يتراوح بين 30 قرشا و60 في معظم الحالات، وأن 35 في

المائة من الأسر تسكن كل منها غرفة واحدة أو أقل من غرفة؛ إذ تشترك أسرتان

أو أكثر في واحدة، وأن 65 في المائة من الأسر تسكن كل منها غرفتين أو أقل،

أما الشمس والهواء والماء وسعة المسكن وأثاثه فلا محل لذكرها فضلاً عن بحثها.

آثار هذه الحال:

هي الآثار الطبيعية لمثلها؛ حياة قصيرة معتلة، وموت مبكر يخلف للأحياء

أعباء تعجل بدورهم، وإنتاج يدوي ضعيف، ومقدرة فكرية أضعف.

وأما المستوى الخلقي فتؤذيه هذه الحال أشد الإيذاء، وكيف تستقيم الحال في

أسر لكل منها مخدع واحد يضم الزوجين وخمسة أبناء أو سبعة منهم شباب وفتيات؟

وكيف نرجو طيب الخصال إذا انعدمت أسباب الثقافة والتربية والتهذيب، وثقلت

أعباء الحياة في وقت معًا؟

الذي أراه أن هذه الحال التي تعالج أخطر من أن نتناولها بالبحث النظري

لنقف عند حد البحث، ربما جاز هذا إذا كان الباحث لا تربطه بهؤلاء الناس

أواصر الأخوة وروابط أخرى لا تنفصم، أما وهم قومنا وإخواننا وأبناؤنا وآباؤنا

فعلينا ما هو أجدى من القول والبحث؛ علينا أن لا نكتفي باقتراح رفع الأجور

والموارد باقية على حالها، أو إدخال نظم التأمين والعامل لا يملك أسباب العيش

الخشن فضلاً عن نفقات هذه النظم، علينا - نحن معاشر المتعلمين - واجبان أحب

أن ننهض بهما اليوم راغبين، فهذا خير وأبقى، وهو أولى بنا من أن يضطر

إليهما أبناؤنا في غد كارهين؛ فأما الأول: فهو أن ننزل عن بعض نعيمنا

الشخصي في سبيل هؤلاء الذين طال حرمانهم صابرين.

فمثلاً إذا زيدت الضرائب على دخلنا من أجلهم دفعنا مغتبطين، وإن لم تزد

دعونا إلى هذا بما أوتينا من علم وبيان، وإن قلَّت رواتبنا من أجلهم كذلك قبلنا في

غير ضيق ولا حرج. وأما واجبنا الثاني: فهو أن ينبث بينهم القادرون منا على

معالجة الشئون الاجتماعية، ينظمون صفوفهم، ويرشدونهم إلى ما فيه خيرهم،

وهذا يتطلب تضحية بالوقت والمال في سبيل الدعاوة، والمعونة الأدبية والمادية.

ولنذكر جيدًا أن منا - نحن المتعلمين - من سينتظم في هذه الصفوف إن

عاجلاً أو آجلاً، وهذه بعض آيات الرقي في الأمم، فلنهيئ إذن الجو لصغار

إخواننا ولأبنائنا، وهذا دافع شخصي يضاف إلى ما تقدم من إيثار كريم.

كذلك فلنذكر أن هذه الجموع التي بدأنا اليوم نفكر فيها هي التي تمد الدولة

بأكبر عدد من الرجال، فتنتظم بهم صفوف الدفاع، وفي السلم كلما زادت كفايتهم

زاد الإنتاج الأهلي، وارتفع المستوى للخاصة والعامة، غير أن الخطوات الأولى

تتطلب كثيرًا من جهاد النفس وشجاعة الرأي، ولقد تخطت الحركة طور البحث

وتجاوبت أصداء الدعوات

فلنكن ممن يبادرون بتلبية النداء.

...

...

...

...

... عيسى عبده=

_________

ص: 70