الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: حسن البنا
احتجاب المنار
تأخر صدور المنار عن موعده هذه الشهور الماضية لأسباب رسمية كانت بيننا
وبين وزارة الداخلية المصرية، وقد زالت والحمد لله، وها هي المنار تعود إلى
الظهور لتقوم بواجبها في ميدان الدفاع عن الإسلام الحنيف والدعوة إليه.
ولغلوِّ الورق غلوًّا عظيمًا وصل إلى أكثر من الضعف، اضطررنا إلى جعل
العدد ثمانٍ وأربعين صفحة بدلاً من ثمانين، ونحن نأسف لهذا أسفًا شديدًا، ولكن
للضرورة حكمها.
وسيصدر العدد التاسع - إن شاء الله - في أوائل شهر جمادى الأولى، والعاشر
في أوائل جمادى الثانية بحول الله وقوته، وبذلك يتم المجلد الخامس والثلاثون
ويبدأ السادس والثلاثون، والله الموفق والمستعان.
_________
الكاتب: حسن البنا
خطيئة آدم
حضرة المحترم رئيس تحرير المنار:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد
…
فأرجو التكرم بإيضاح معنى خطيئة آدم عليه السلام، وكيف يوسوس إليه الشيطان؟
وكيف يتفق ذلك مع العصمة؟ مع بيان توبته، وهل ما يقال من أنه أمر في الباطن
ونهي في الظاهر صحيح؟ وهل جاءت هذه القصة في القرآن على سبيل التمثيل
كما قال بعض المفسرين؟ وما معنى التمثيل عند من يقول به؟ أفيدونا، أثابكم الله،
وغفر لنا ولكم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمود عسكر
…
...
…
...
…
...
…
... معلم بملجأ بنها قليوبية
والجواب، والله أعلم:
قص الله علينا في القرآن الكريم قصة آدم عليه السلام وأنه خلقه
وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أمره ألا يأكل من
الشجرة {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) فوسوس لهما الشيطان
وخدعهما وأقسم لهما إنه لمن الناصحين، فاغترا بنصيحته، ونسي آدم ما عهد به
إليه ربه، فأكلا من الشجرة - مع تحذير الله إياه من إبليس وجنوده - ثم علما ما
كان من أمرهما فندما، وألهمها الله تبارك وتعالى صيغة التوبة، فقالا:
23) فقبل الله توبتهما، ولم يؤاخذهما على هذا العصيان إلا بأن أنزلهما إلى
الأرض حيث استعمراها ونسلا فيها، واستمرت الحرب سجالاً بين ذريتهما وبين
الشيطان إلى يوم يبعثون؛ فمن تبع الشيطان فهو من الآثمين المعذبين، ومن حذره
وخالفه فهو من المهتدين الناجين، وسيبرأ هذا الشيطان من أتباعه يوم الدين،
ويكون بينه وبينهم ما قصَّه الله علينا من نبأه في سورة إبراهيم.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} (إبراهيم: 22 - 23) .
هذا مجمل ما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مواضع عدة، ومنه تعلم:
(1)
أن خطيئة آدم عليه السلام هي حسن ظنه بوسوسة إبليس حتى
أكل من الشجرة.
(2)
وأن توبته إنما كانت بإلهام الله تبارك وتعالى إياه أن يدعوه بما
جاء في الآية الكريمة في سورة الأعراف: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وقد كان عن هذه التوبة أن
غفر الله له وتاب عليه، كما قال تبارك وتعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى} (طه: 122) .
أما كيف يوسوس له إبليس؟ فذلك لأن قبول النفس البشرية للوسوسة أمر
جِبِلِّيّ خِلقي فيها، والوسوسة تصل إلى النفس الإنسانية وإن كان الشيطان بعيدًا
عنها كما يصل الصوت البعيد على تموجات الهواء أو ما هو أرق منه؛ ولهذا لا
تقدح الوسوسة نفسها في العصمة، فكل بني آدم قابلون لها معرضون إليها بأصل
الخلقة، وإنما يعصم عن ذلك من عُصم منهم برعاية إلهية وحفظ رباني من الله -
تبارك وتعالى مع حسن الاحتراز ودوام اليقظة والبصر، وسد مداخل الشيطان
إلى القلب وتضييق مجاريه، وشغل القلب بذكر الله تبارك وتعالى {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء: 65) . على أنه قد
ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا مانع من أن يكون إبليس قد
دخل الجنة بعد أن طُرد منها، مخالفًا بهذا الدخول أمر الله تبارك وتعالى
عاصيًا له، وما زال يزين له الأكل من الشجرة (ويفتله في الذروة والغارب،
ويمنيه بمعسول الأماني، ويرفؤه بالقول اللين حتى تمكن من نفسه، وأنساه أنه
عدوه الذي حذره الله منه أشد الحذر) .
وأما كيف يعصي آدم وهو نبي، والأنبياء معصومون من الوقوع في الذنوب؟
فقد أجاب كثير من الناس عن ذلك بوجوه:
الأول - أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان، وسمي خطيئة أو معصية
وغواية لعلو منزلته، وعظيم تقريب الله إياه وكبير فضله عليه، وكلما قرب العبد
من ربه وعلت منزلته كلما كان ذلك أدعى إلى اليقظة وتمام التذكر والانتباه.
وقد صرحت الآية بلفظ النسيان، ويؤيد هذا قراءة {فَنُسِّيَ} (طه: 115)
بالتشديد على أن المراد فأنساه إبليس أمر الله تبارك وتعالى. وبهذا قال بعض
المفسرين، وإن كان الجمهور على أن " نسي " هنا بمعنى ترك لا بمعنى سها.
والثاني - أنه تأول فيما فعل بأنه فهم أن المراد بالأمر والنهي الإرشاد فقط لا
الإلزام، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدين على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب ولا
إثم في تركه، ويرد على هذا تصريح القرآن بالظلم المترتب على قربان الشجرة
في الآية الكريمة {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) .
والثالث - أن ما حصل من الذنب صغيرة. ويرد على هذا أن القول بعدم
عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الصغائر قول مرجوح، ويرد عليه
كذلك تصريح القرآن الكريم بأن هذه المخالفة عصيان وغواية ترتب عليها عقاب
وتوبة وإخراج من الجنة.
والرابع - أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية. وإلى هذا
ذهب أبو بكر بن فورك، قال: بدليل ما في آيات (طه) من ذكر المعصية قبل ذكر
الاجتباء والهداية. وهو كلام حسن؛ لولا أن ورود الأمر والنهي من الله - تبارك
وتعالى - لآدم بدون واسطة من أمارات النبوة ودلائلها، وقد كان ذلك قبل الأكل
قطعًا، ومن جهة أخرى فإن النفس أمْيَل إلى أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه
عليهم - معصومون من المعصية على كل حال، وإن لم يكن ذلك رأي جمهور
علماء العقائد وإن لم ينعقد الإجماع إلا على العصمة بعد النبوة.
والخامس - أن الله تبارك وتعالى أمر آدم بعدم الأكل من شجرة وأراه
إياها، فظن آدم أنه منهي عن هذه الشجرة بعينها لا بجنسها، فأكل من شجرة
أخرى من جنسها ولم يأكل من التي انصبَّ عليها النهي بالذات، وهذا تأويل حسن
وإن كان عليه مسحة التحايل.
وهناك تصوير تطمئن إليه النفس، وذلك أن يقال إن حقيقة المعصية مخالفة
أمر الله تبارك وتعالى قصدًا، وحقيقة الطاعة هي امتثال أمر الله - تبارك
وتعالى - قصدًا كذلك، فمناط المؤاخذة أو المثوبة في الطاعة والمعصية النية
والقصد، مصداق قوله تبارك وتعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) .
ولا شك أن آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة لم يكن يضمر معنى
المخالفة ولم يكن يسر العصيان، بل لعله كان يتحرى بذلك المبالغة في طاعة الله -
تبارك وتعالى بأنه سيصير ملكًا خالدًا دائم الطاعة والعبادة لربه، وقد خدعه قسم
إبليس له، فآخذه الله بهذا الانخداع مع سابق التحذير، وإلى هذا المعنى أشار ابن
قتيبة، فقال: أكل إبليس من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخداعه إياه،
والقسم له بالله إنه لمن الناصحين، حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذلك عن اعتقاد
متقدم ونية صحيحة، ويؤيد ذلك أن آدم لم يتفطن إلى أنه أخطأ إلا بعد أن عاتبه
ربه، كما قالت الآية الكريمة: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل
لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف: 22) ، وحينئذ ألهمهما التوبة
فجأرا إلى الله تبارك وتعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وهذا المعنى واضح مفهوم
في سياق الآيات كلها تقريبًا.
وقد آخذه الله على هذا التأثر بوسوسة الشيطان وخداعه مؤاخذة شديدة حتى تاب
عليه، على حد القاعدة المعروفة حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وما يقال من أنه أمر في الباطن ونهي في الظاهر كلام مردود، ولا دليل عليه،
والأخذ به هدم للتكليف في الحقيقة، وقد جاء في كلام بعض الصوفية شيء من
هذا في التفريق بين معصية الولي والفاسق، وأفضل ما قالوه في ذلك أن الولي لا
يقصد المعصية ولا يفرح بها ولا يُصر عليها، وهذا كلام لا غبار عليه، وأما ما
زاد عليه فغلو لم يقم عليه دليل.
وأما القول بأن هذه القصة وردت في القرآن الكريم على سبيل التمثيل، فهو
قول مردود كذلك، والآيات الكريمة صريحة فيما وردت له لا تحتمل التأويل، وإذا
جاز لنا أن نتأول هذه الآيات مع صراحتها ووضوحها، فقد صار ذلك ذريعة
للخروج بالقرآن كله عن معانيه الواضحة، وهذا مذهب لا يدع من نحلة الباطنية
شيئًا، وليس هناك ما يقتضي العدول عن الظاهر.
وقد ادعى بعض المتعلمين الذين تشربت نفوسهم المعارف والعلوم الإفرنجية،
أن ظاهر هذه الآيات يصطدم بالنظريات العلمية الحديثة التي جاء بها (دارون)
وأمثاله من علماء الحيوان والبحث في أصل الأنواع، وهذا كلام لا تدقيق فيه،
ودعوى لا صحة لها؛ فإن دارون نفسه لم يدَّع أن الإنسان فرع عن غيره من
الحيوان، سواء أكان هذا الحيوان قردًا أم غيره.
كان دارون يدرك تمام الإدراك أن نظريته لا تفسر وجود الأنواع تفسيرًا نهائيًّا
يُثلج الصدر، ويعترف بأن هناك عوامل خفية لا يعرفها اشتركت مع ناموس
الانتخاب الطبيعي في تنويع الأحياء؛ فقد قال في كتابه أصل الأنواع: (أنا مقتنع
بأن ناموس الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي لحدوث التنوعات في الأنواع؛
ولكنه لم يكن العامل الوحيد في إحداث ذلك التغير) فهو هنا يشير إلى أمرين
هامين: الأول أن ناموس الانتخاب الطبيعي في رأيه السبب الرئيسي لحدوث
التنوعات في الأنواع لا في حدوث الأنواع نفسها، والثاني أنه ليس الناموس الوحيد
في ذلك.
وقد كتب دارون إلى المستر هيات يقول له: (اسمح لي بأن أضيف إلى هذا
بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان
أصل الأنواع) فأين هذا من غلو قليلي العقول من جامدي مقلدة الفرنجة؟ على
أن هذا ليس كل ما في الأمر؛ فقد هبَّ كثير من العلماء الغربيين يخطئون نظرية
دارون تخطئة تامة وينتقضونها من أساسها، ويؤلفون في ذلك الكتب الضافية،
ويدللون على ذلك بأدلة علمية يعتقدون صحتها كل الاعتقاد، وإليك بعض الشواهد
من كلام هؤلاء الناس أنفسهم:
(1)
قال الأستاذ فون باير الألماني، وهو من أقطاب الفزيولوجيين
والحفريين والبيولوجيين وأستاذ علم الأميريولوجيا (علم الأجنة) في كتاب أسماه
(دحض المذهب الداروني) بالنص: (إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من
القردة السبماتية هو بلا شك أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان،
وجدير بأن ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد،
يستحيل أن يقوم دليل هذا الرأي) .
(2)
وقال الأستاذ فيركو الألماني موافقًا الأستاذ دوكانزفاج الفرنسي في
كتابه (النوع الإنساني) بالنص: (يجب عليَّ أن أعلن بأن جميع الترقيات الحسية
التي حدثت في دائرة علم الأنترويولوجيا - علم التاريخ الطبيعي للإنسان - السابقة
على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقرد تبعد عن الاحتمال شيئًا
فشيئًا، فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع وهو الذي يجب أن يكون
الإنسان فيه أقرب إلى أسلافه، نجد إنسانًا مشابهًا لنا كل الشبه، فإن جماجم جميع
الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة بأنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا
للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء
إذا كان لهم رأس مثله.
وإذا قابلنا مجموع الرجال الحفريين الذين نعرفهم للآن بما نراه في أيامنا هذه
استطعنا أن نؤكد - بكل جرأة - بأن الأشخاص ناقصي الخلقة هم بين الرجال
العصريين أكثر منهم بين الرجال الحفريين، ولا أتجاسر أن أفترض بأننا في
اكتشافاتنا الحفرية لم نصادف غير أصحاب القرائح السامية من أهل العهد الرابع،
والعادة أننا نستنتج من تركيب هيكل عظمي حضري تركيب معاصريه الذين عاشوا
معه في وقت واحد، ومهما كان الأمر فيجب عليَّ أن أقول بأنه لم توجد قط جمجمة
قرد تقرب حقيقة من جمجمة الإنسان! ! على أنه يوجد بين الإنسان والقرد خط
انفصال نهائي آخر؛ فإننا لا نستطيع فقط أن نعلم الناس بأن الإنسان يتولد من القرد
أو من أي حيوان آخر، بل لا نستطيع أن نعتبر ذلك من الأمور العلمية) .
(3)
وقال الأستاذ إيلي دوسيون من العلماء الفيزيولوجيين عن مذهب
دارون في كتابه (الله والعلم) ما يأتي: (بعد أن قاوم المذهب الداروني عشرين
سنة تلك المكافحات الحقة التي قصده بها خصومه، قضي عليه قضاء غريبًا بأن
يهلك تحت ضربات أشد أشياعه غيرة عليه) ثم ذكر بعد ذلك ما كتبه هربرت
سبنسر في هدم ناموس الانتخاب الطبيعي، وما كتبه (ويسمان) في هدم ناموس
انتقال الصفات والخصائص المكتسبة، وقد كانا عماد مذهب دارون.
هذا قليل من كثير جدًّا جدًّا من أقوال العلماء الأوروبيين في كتبهم ومجلاتهم
في نقض رأي يعتقده جامدو مقلدة الأوربيين عندنا كل شيء في العلم الحديث،
ويتشدقون في الكلام عنه والذهاب إليه، وليس ذلك كل ما في الأمر، بل تغالى
بعض العلماء الأوربيين، فأخذ يحاول إثبات عكس هذا المذهب.
فهل يحق لنا أمام كلام كهذا - مهما تغالينا في قيمته علميًّا، فهو لم يخرج عن
أنه فرض من الفروض العلمية - أن نؤول كلام العليم الخبير ونصرفه عن
الظاهر إلى التأويل والتمثيل؟
ويعجبني كلام تقدم في هذا المعنى في تفسير المنار في سورة البقرة، عند
قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) جاء هناك ما نصه: (كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو
الأصل فيُرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقًا، والحق كما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلاًّ من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي،
فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب
ترجيح القطعي مطلقًا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول
على المعقول؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما
ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا الضئيلة التي يكثر فيها الخطأ جدًّا، فظواهر الآيات
في خلق آدم مثلاً مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين
في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع)
ا. هـ.
على أنه أورد بعد ذلك وقبله كلامًا طويلاً في الآيات، وذكر الرأي القائل
بالتمثيل على أنه رأي الخلف، ورأي الأخذ بالظاهر ونسبه للسلف، وأكد في عدة
مواضع أنه يقول بهذا الأخير. ونسبة القول بالتمثيل للخلف قول فيه نظر، فمن
المقصود هنا بالخلف؟ ومن الذي قال منهم بهذا الرأي؟ سؤالان يحتاجان إلى
الجواب. على أن الذي يعنينا أن نتفق على الاعتقاد بأن الآيات على ظاهرها،
وأن القصة حقيقة واقعة كما قصها الله تبارك وتعالى علينا في كتابه، والله
يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... حسن البنا
_________
الكاتب: محمد الغزالي
في محيط الدعوات
(2)
الكمال المزعوم - المذاهب العلمية السائدة - تقليد أعمى
ولأمر ما وقف تقدم الإسلام، وانحصر النور الإلهي الكريم بين أقوام لا
يقدرونه، ونام المسلمون في النور واستيقظ غيرهم في الظلام، ولم يكن بد لغير
المسلمين من التفكير في قواعد تصح عليها أمورهم بعد أن اتضح قصور الأديان
الباطلة وعدم غنائها في هذه الشئون، وبعد أن عجزت أيدي المسلمين عن التلويح
بالضياء الهادي ليسترشد على شعاعه المدلجون الشاردون، وابتدأ التفكير الإنساني
يخبط في تفهم الحقائق العليا ومدارج ارتقاء النفس، فخلق المجال خلقًا للفلسفة
العملية، وصحيح أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى ينحدر تاريخ الفلسفة وينبت
جذع الشجرة التي تطل الآن علينا فروعها.
وحقًّا أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى يمتد جذر الشجرة الفارعة، شجرة
الفلسفة الحرة التي تظلل فروعها اليوم أكثر بقاع العالم، وسواء أكانت هذه
الأغصان لعوسجة غليظة مؤذية أم لدوحة مورقة فينانة، فإن ما ينبغي أن نطمئن
إليه هو قلة احتمال البشر قديمًا بتطبيق شيء مما وصلت إليه الفلسفة البعيدة عن
روح الأديان تطبيقًا عامًّا شاملاً، بينما نجد اليوم - كأثر حقيقي لوقوف الإسلام في
حدود أوطانه - أن بعض الآثار الفلسفية قد وجدت من الأشياع من يخلصون لها
ويجاهدون لتحقيقها، ويؤسسون لها الحكومات القوية، وينادون بوجوب سيادتها في
أنحاء العالمين، تلك المبادئ - وأكثرها نبت في أودية أوربا المقفرة إلا من أشواك
الوثنية المسيحية - لها شأن عجيب؛ ذلك أنها ظهرت في بيئات أشد ما تكون حاجة
إلى الحرية والانطلاق، وأبعد ما تكون تأثرًا بما عدا ذلك، فهي تسعى وراء ما
تشعر بأن فيه طمأنينتها وسعادتها، وقلما يعنيها بعدئذ أن يوصف ما تظفر به بأنه
حق أو باطل، منكر أو مألوف، إيمان أو إلحاد، وليس من شك في أن النضال
الدموي المروع الذي سوَّد وجه أوربا عصورًا، له أثر بعيد في هذه الحالة.
وفي هوجاء هذه الفتن الخبيثة، وفي مهب أعاصيرها التي لا تكاد إلى اليوم
تهدأ لها ثائرة أو تؤمَن لها غائلة، قامت الماسونية والشيوعية والاشتراكية
والديمقراطية.... . وغير ذلك، ومن ثم نادى أقوام - ممن ذاقوا مرارة الخصام
بين المذاهب المختلفة - بوجوب الإخاء بين جميع المذاهب، أو لو كان إخاء بين
الحق والباطل؟ هذا شيء لا يفكر فيه الماسون، وصاح أقوام ممن عضتهم البأساء
والضراء بوجوب تقسيم كل شيء على الأمة، أو لو كان في ذلك الفوضى
والإباحية؟ هذا شيء يستسيغه الشيوعيون.
وكذلك أسس الفاشيون نظام النقابات أو دولة العمال، ووضع الديمقراطيون
قواعد الحريات العامة للناس؛ كما يقولون. ولكن هل هناك غاية يخدع بريقها
المسلم في ثنايا هذا الغموض والإيهام؟ كلا، إنما هو تهريج عالمي تمخض عنه
حجاج العقل الإنساني أثناء شروده وجحوده، ولا ريب أن توفير حاجات الجسد مما
تنادي به الضرورة، وتكثير أسباب المتع مما تتطلع إليه الرفاهية، ثم إشباع
مطامع بعض النفوس الجياشة بحب التزعم، ثم ذلك التعاون في أي أشكاله بين
شتى العناصر لنيل خير حياة دنيوية ممكنة، لا ريب أن كل هذا هو لباب المذاهب
المتكبرة السائدة هناك، والتي تحاول أن تغزو ميادين الشرق المريض، بل إنها
وجدت فعلاً طريقها إلى بعض النفوس المنحلة في هذه الديار، ولا عجب أن تلقى
بعض النجاح المؤقت إذا كانت قد دعمتها الدراسات المجردة للفلسفة النفسية
والخلقية، هذه الفلسفة التي ادعاها علماء تحرورا من قيود الأديان هزيلها
وخطيرها، واستقامت آراءهم على أسس من تفكيرهم الخاص و (عقولهم الباطنة)
أو الباطلة.
وسنناقش الآن - في إيجاز - أهم المسائل التي قررت في علم النفس كمنهج
للسلوك البشرى الفاضل، ثم نقفي على إثر ذلك بتحليل كامل للمقاييس الخلقية
الموضوعة؛ إذ إن سر الحياة التي تسود اليوم كثيرًا من الطبقات الدعية في كل شيء
إنما يرتد إلى هذه المناهج المصنوعة، وسوف تقر أعين المؤمنين إلى أن الإٍسلام
وحده منهج الحق الواضح، وأنه بحسب المسلم الاعتصام بدينه ليستوى على
صراط تندق دونه أعناق الشياطين {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 53) .
يرى علماء النفس أنه لكيما يستقيم سلوك الإنسان على نهج واضح ينبغي أن
تكتمل عواطفه ثم تدور كلها في فلك، محوره (احترام الذات) تخضع فيه
استعداداته الموروثة والمكتسبة إلى كل ما يسمو بكرامته كإنسان كامل، وعبارة
الإنسانية الكاملة وضعها أناس ينظرون للحياة خلال عدسة سفسطائية تسخر من
الحقائق، وما دمنا قد وصلنا إلى اعتبار الرأي الشخصي وتقريره أساسًا حرًّا
لاكتساب الإنسانية الكاملة، فقد تنكبنا الحق وفقدنا معه الخير المنشود؛ ذلك أن من
الناس من يقوِّم ذاته على أساس اعتناقها مبدءًا ديكتاتوريًّا، ومنهم من يقومها على
أساس اعتناقها مبدءًا ديمقراطيًّا وكلا الرجلين قد حشد استعداداته الموروثة
والمكتسبة لخدمة مذهبة وركزها عند غاية واحدة، وارتضى أن يموت دونها، فهل
معنى هذا أن كليهما ظفر بالكمال الإنساني المزعوم، مع ما في نظريتهما إلى الدنيا
من تناقض يؤكد بينهما الخصام، بل ينشب بينهما القتال.
على أن لنا نحن المسلمين ما نلاحظه على هذه القضية النفسية التي تريد أن
تخلق من أنانية الفرد مذهبًا عامًّا؛ فإن المسلم الذي محق ذاته في ذات الله ووزن
نفسه بنصيبها من دينه يجب أن ينمي عواطفه كلها، ثم يسيرها في نظام يبتدئ
وينتهي عند تمجيد الله، أما ما يقرر لنفسه هو من احترام وتزكية فهو فضل الله
يضفيه على من شاء، والمسلم الذي يستشعر في قرارة نفسه كل معاني العبودية
لمولاه العلي لا يأذن أبدًا لهذه النفس أن ينسب إليها مجدًا ويُشار إليها بأي ضرب
من ضروب الكبر المفتعل، ونحن نحارب بهذا أناسًا معينين، فيهم الكافر وفيهم
المؤمن المدخول العقيدة.
أولئك قوم زعموا أن السمو بالنفس الإنسانية مستطاع في غير جوار الله،
مستطاع في ظلال هذه العواطف المكتملة، فذهبوا يتلمسون الكمال المنشود في
مبادئ يتوارث الناس احترامها وإكبار أصحابها، حتى إذا اصطبغت نفوسهم بما
وهموه من فضل ومجد راحوا يقررون لها حقوقًا من التوقير والإعظام، وكان لزامًا
على الناس أن يتقدموا إليهم بها، ثم يستقر هذا الضلال المبين، فإذا المفتونون أبعد
ما يكونون عن الله، وإذا هم - على ما بهم من ثقة واعتداد - لا يقيم لهم الدين أي
وزن، ولا ينزلهم أبدًا إلا في أمكنتهم من الرغام.
لهؤلاء وأضرابهم نوع من السلطان المادي والمعنوي في هذه البلاد، وهم -
كأقرانهم من الصابئة الغربية - ممثلو الحملة على الأديان ورسالتها الكريمة في
الحياة، وإذا كان ضجيج القوم قد تعالى هنا وهناك وترددت أصواتهم في أنحاء
كثيرة، فما تعدو هذه الصيحات في قيمتها نقيق الضفادع، وربما أطفأت أنفاسهم
اللاهثة شموع الكنائس، ولكنهم - ولو استحالوا عواصف - لن يطفئوا للإسلام
مشعلاً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) .
ولا عجب، فالأمور التي توضع ألغامًا في بنيان المسيحية المتداعي لا يمكن
مطلقًا أن تشعر بها دعائم الإسلام المكينة، وإذا كان صابئة الغرب قد قالوا ما قالوا
فردد المقلدون الحمقى هنا ما قالوا من نظريات انفصال الدين عن السياسة وعن
العلم وخرافة تآخي الأديان أو الدين لله والوطن للجميع، فإن مصير الفريقين
سيختلف حتمًا، وهزيمة المسيحية هناك هي هزيمة الصابئة هنا تمامًا، ولقد أدرك
المسلمون حقيقة دينهم غير منقوصة، وعلموا أن دينهم كما أنه هو دين النفس هو
دين الدولة، بل إن الإسلام لم يتجه للفرد من حيث أنه (شخصية مستقلة منعزلة)
وإنما اتجه إليه من حيث أنه (وحدة من مجموعة مؤلفة متناسقة) وإلى هذا
يرجع السر في أن الخطاب الإلهي يرد دائمًا بطريق الجمع لا الإفراد {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا
فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 77 - 78) ثم كيف يكون بين الإسلام وبين العلم
عداء والعلم نفسه لم يصل إلى الدرجة التي بلغها من التقدم إلا في جو إسلامي
خالص، إن العلم الطبيعي يعتمد على عنصرين خطيرين في جميع بحوثه وكشوفه
هم الملاحظة والاستنتاج، وليس يوجد في الدنيا كتاب أوصى بالتدبر في ملكوت
الله الرحيب واستطلاع بدائعه واستكناه روائعه كما أوصى القرآن {وَفِي الأَرْضِ
آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20 - 21) .
ومهما أظهر المغرضون من عطف ماكر على استقلال العلم، فإنهم لن ينالوا
من الإسلام أي نيل، كذلك ضل من يزعم أن الوطن ليس لله، أي غباوة هذه
تحاول أن تنسب الشيء لغير صاحبه، بل لغير خالقه {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الأعراف: 128){وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة:
115) ولقد مهد هؤلاء لهذا الخطأ الفاضح بكلمة لم يفهموها، الدين لله حقًّا،
ولكن ماذا بقي لله على زعمهم إذا كان للأوطان أول ما في الفؤاد وآخر ما في الفم؟ !
ماذا بقي لخالق الفؤاد وما يجول فيه، ولخالق اللسان وما ينطق به؟ ! كلا،
الدين لله والوطن لله، ومصر ومن عليها فدى للإسلام وحده، و {لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (النحل:
60) .
إن الشيء الذي يبوء بأشد معاني الاحتقار والذي نجعله محيط عداوتنا الدائمة،
هو هذا الضلال الوقح الذي يحاول - في غير ما حياء - أن ينتظم الإسلام -
وهو دين الله الكريم - والمسيحية واليهودية في سلك واحد، فكيف يرتفع مبدأ من
المبادئ ليضم إلى أحضانه هذه الأديان المختلفة المتئاخية (كذا) ويجمعها في صعيد
واحد؟ ! حدث مرة أن كنت أتصفح إحدى المجلات الأسبوعية، فعثرت على
تصريح سكرتير الماسون الأعظم - وهو رجل مسلم كما يشير إلى ذلك اسمه -
قال: (إن قراراتهم التي تذاع لا يراد بها إلا خير المجتمع من الناحيتين الإنسانية
والاجتماعية، دون تعرض للسياسة ولا للدين) ونحن نتساءل: كيف يجوز
لمسلم أن يلقي كلامًا أو يصدر أعمالاً بعيدًا عن دينه وعن رعاية قيوده وحدوده كلها،
إلا أن يكون مسلمًا يجهل الإسلام، أو منافقًا يبرأ منه دين الله؟ ! ونحن نتساءل
كذلك: أي إخاء عجيب أوى إلى سلامه ووئامه أعضاء المحفل الماسوني المكرمين
وفيهم أحد موظفي الأزهر وأحد أعيان اليهود؟ ! إنه إخاء فرض نفسه على حساب
نكبة أحدهما في عقيدته، أو على الأصح على حساب تنازل المسلم عن دينه جملة.
هناك ما لا يقل خطرًا عن الماسونية العالمية مسخًا للإيمان وتلويثًا للنفس
المؤمنة وهبوطًا بمستواها الذي ينبغي أن تحتفظ به، ومن أمثلة ذلك جميع المبادئ
التي تحمل لقبًا عالميًّا؛ فالرياضة العالمية، والثقافة العالمية، والديمقراطية العالمية،
والأدب العالمي، والفن العالمي، والتمثيل العالمي.... إلخ مما يسير في ظلال
معنى الإخاء الإنساني ووحدة البشرية، والكلمات التي أجاد الأوربيون صناعتها
ودسها محترفو الاستعمار بيننا؛ لينالوا بها ما لا تناله مناشر الأسلحة، وليتوسلوا
بها إلى إفناء العصبيات الإسلامية، وتحطيم فضائلها وتمزيق مقوماتها.
(يتبع)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... محمد الغزالي
_________
الكاتب: حسن البنا
براءة من القاديانية
كتبنا في الأعداد السابقة في فتاوى المنار عما وصل إلى علمنا عن طالبين
ألبانيين أحمديين ينتسبان إلى القسم العام بالأزهر، وقلنا: إن من واجب المشيخة أن
تتحرى أمرهما وأن تبادر بفصلهما؛ حتى لا تسري منهما عدوى الفكرة الخاطئة إلى
غيرهما من الطلاب.
ويسرنا الآن أن نقول: إن زميلتنا (الفتح) الغراء قد نشرت براءة لهذين
الطالبين من المذهب القادياني، صرحا فيها بتوبتهما توبة نصوحًا ورجوعهما إلى
عقيدة الإسلام الصحيحة، وبراءتهما كل البراءة من المذهب الأحمدي بقسميه
اللاهوري والقادياني معًا.
ولقد كان لأخينا الداعية المسلم الموفق محمد أفندي توفيق أحمد في إقناعها أثر
صالح، فجزاه الله خيرًا.
وسننشر نص هذه البراءة في العدد القادم، إن شاء الله.
_________
الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود
الشيخ محمد عبده [*]
(2)
عهد الطفولة
في عام 1266 الهجري، الموافق 1849 الميلادي، نزل إلى الوجود مولود
جديد، ارتفعت صيحاته وصرخاته معلنة قدومه إلى عالم الدنيا، ومبشرة باندراجه
في صفوف الناس.
ونفذت هذه الصيحات إلى مسامع الناس من أهل القرية فتناقلوا الخبر، وجاء
الريفيون من هنا وهناك يهنئون الشيخ الوقور (عبده بن حسن خير الله) بهذا
المولود الجديد، الذي أنار هذه القرية الصغيرة من قرى مديرية الغربية - كما
يقولون - ويتمنون له من كل قلوبهم السعادة والهناءة؛ فهم يحبون هذا الوالد الكريم،
الذي لا يعرف كرمه البخل، ولا يشوبه الحرص والشح، وكم كان تفاؤلهم عظيمًا
عندما علموا أن اسمه (محمد) ؛ فهذا هو الاسم الحبيب لدى كل مسلم، والعزيز عند
كل مؤمن، فخير الأسماء ما عُبد وحُمد.
وامتلأت نفس الشيخ غبطة وهناءة وسرورًا، وراح يدعو الله أن ينظر إليه
ويوفق وليده إلى خير السبيل وأقوم الطرق، وأن يجعل هذا الرضيع سيفًا من
سيوفه المصلتة، ووليًّا من أوليائه المقربين، ناصراً للحق وأهله، خاذلاً للباطل
وأعوانه.
وذكر حينذاك كيف خرج هاربًا من قريته فرارًا من ظلم الحكام الأتراك
واستبدادهم في مديرية البحيرة أواخر حكم محمد علي باشا الكبير، فعلت وجهه
كهومة واكفهرارًا، وأنكر نفسه؛ إذ أنه تركي الأصل، نزلت أسرته بأرض
البحيرة واستوطنتها حتى انطبعت بطابع الفلاحين المصريين، وأصبحت وكأنها
منهم الجزء الذي لا يتجزأ، والصنو الذي لا يختلف عن صنوه، فكيف إذن يناله
الظلم ممن يمت إليهم بصلة، ويرتبط بهم بوشيجة؟ هذا لعمر الله غريب وعجيب!
ولكنه سرعان ما استبشر وانفرجت أسارير وجهه؛ إذ تذكر حرصه الشديد
على أن يكون له نسل قوي سليم، وذرية صالحة تحمل اسمه مع الزمان، وولد
يخلد اسمه في سجل الخالدين، ويكون له نعم الخلف ونعم الذكرى، فتمنى لو
اتصل حبله بفتاة لها من المزايا الجميلة والصفات الحميدة ما يكون خليقًا أن ينحدر
إلى ذلك المولود الجديد الذي ينحدر من أصلابه.
(يتبع)
…
...
…
...
…
... عبد الحفيظ أبو السعود
_________
(*) اعتمدنا في هذه الترجمة على مجموعات المنار، والضياء لليازروجي، ومشاهير الشرق، ومصنفات الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وكتاب الإسلام والتجويد في مصر، وغير ذلك مجلات وصحف كثيرة، منها العروة الوثقى والهلال والأهرام.
الكاتب: حسن البنا
انتقاد المنار
حول ما نُشر في آيات الصفات وأحاديثها أيضًا
جاءنا هذا الخطاب بتوقيع مبهم، ونحن نتسامح بنشره إيثارًا لتجلية الموضوع
تجليةً تامةً - بحول الله وقوته - مع ردنا عليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة الشيح حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار: السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد اطلعنا على ما نشر في العدد الأخير من
المنار تحت عنوان نقد المنار، ردًّا على رسالة أحد القراء الكرام، وشجعنا ذلك
على الكتابة إليكم في شيء من الصراحة.
لما اطلعت على عدد المنار الذي بدأتم بإصداره وبادرنا إلى تصفحه، حاك
في نفسي ما جاء في رسالة القارئ إليكم، وفهمت من كلامكم فيما بين المجلتين
(الهدى والإسلام) من الخلاف نفس ما فهمه الناقد، ولعلي أخطأت الفهم أنا أيضًا،
إلا أنكم في ذلك المقال لم تقولوا بخطأ المجلتين، ولم تشيروا إلا إلى إخلاصهما
وجهادهما، وكان من العجب في رأينا ما ذكرتم في العدد الأخير من خطأ المجلتين
فيما ذهبتا إليه.
وبالرجوع إلى أقوال المجلتين ومقالات كتابهما ظننا أن حكمك بخطأ المجلتين
يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما، فقد أجهدنا أنفسنا في مطالعة المجلتين فلم
نعثر على عقيدة تفسير الاستواء بالاستقرار، كما لم يجزم الفريق الآخر بتأويل
الاستواء إلى الاستيلاء وحده.
فلعلكم تأثرتم في حكمكم هذا بما يقال ويشاع فقط، وهذا ما نرجو أن يكون
المنار بعيدًا عنه.
ولذلك نرى - إحقاقًا للحق ووضعًا للأمور في نصابها - أن ترجعوا إلى كلام
المجلتين، وتحكموا عليهما بما تقولان لا بما يقول بعضهم على بعض، ولا بما
يشاع عنهما بين العامة والدهماء.
وملاحظة أخرى في العدد الأخير نحب أن تبينوا لنا حقيقتها، وهي ما
نسبتموه لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في باب التفسير، ذلك الكلام
العجيب الذي لا يشبه في أسلوبه ولا معانيه ما تواتر إلينا من كلامه رضي الله
تعالى عنه، ففي أي ديوان من دواوين السنة المعتبرة عند المسلمين وجدتم هذا
الخبر؟ أفيدونا رحمكم الله، وإن لم يوجد في شيء منها، فهل ترون أن أمثال
هذه (الحواديت) التي ملئت بها بعض الكتب المجهولة الأصل مثل نهج البلاغة
وغيره، تصلح للاحتجاج ولتقرير عقيدة إسلامية؟
وإني وإن كانت بيني وبين فضيلتكم معرفة، إلا أني أحب أن أكون - إلى
حين - مستترًا والسلام عليكم ورحمة الله.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحد قراء المنار
ملاحظة: فاتنا أن نذكر لفضيلتكم أن خصوم الهدي النبوي اليوم هم بذواتهم
وأقلامهم خصوم المنار وصاحبه، عليه رحمة الله.
الجواب
هذا الخطاب يتناول أمورًا أربعة:
أولها - أننا في المقال الأول لم نقُل بخطأ المجلتين.. إلخ، ونحن نعتقد أن
هذا المعنى إن لم يصدر في كلامنا تصريحًا فقد كان واضحًا كل الوضوح، ونحن
نؤْثِر دائمًا أدب القول والكتابة وعفة اللسان والقلم، في عصر أغفل الكاتبون فيه
هذا المعنى، وعلى كل حال فكلامنا في المقال الثاني قد أوضح ما أبهمه المقال
الأول - إن كان ثمة إبهام - فلا نطيل القول في أمر قد وضح، والحمد لله.
وثانيها - أن ما نسبناه إلى المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما
…
إلخ، ونحن نقول إن ما كتبناه هو ما فهمناه من مجموع ما كتب الكاتبون فيهما،
فإذا لم يكن كذلك فليتكرم حضرة الكاتب علينا وعلى القراء ببيان ما فهم هو من كلام
كل منهما، وبيان وجه الخلاف بينهما، وليؤيد ذلك بنصوص الكاتبين مستوفاة،
وليحكم بينهما إن شاء ذلك، ونحن على استعداد لنشر ما يكتب، وللرد عليه
إن كان فيه ما يستحق الرد، وموافقته إن كان مما نرى أنه الحق، على أن يكون
هذا آخر ما نكتب في هذا الباب، نقول هذا ونستحسن لأنفسنا ولحضرة الكاتب
وللقراء كذلك أن نغلق هذا الباب من الآن، وخصوصًا بعد أن انصرف الجانبان
إلى ما هو أجدى وأنفع، وفيما كتبناه في بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون في
هذا المعنى كفاية.
وثالثها - استنكار ما نسبناه لأمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - في باب
التفسير والتهكم عليه بهذا الأسلوب اللاذع، فغفر الله للكاتب سورة قلمه وعفا عنا
وعنه، ونحب له أن يروض قلمه دائمًا على غير هذا الأسلوب؛ فهو أعف وأبر،
ولو أن حضرته التفت إلى أننا إنما سقنا هذا الكلام للبيان والاستئناس لا للاحتجاج
والاستدلال، وهذه واحدة، ونسبناه إلى نهج البلاغة ولم ننسبه إلى الإمام - كرم
الله وجهه، وهذه الثانية، وعلقنا في حاشية المقال بما يستفاد منه أن نسبة هذا
الكتاب موضع خلاف بين الأدباء، وهذه الثالثة. لو أن حضرته التفت إلى هذه
النواحي الثلاث لأعفى نفسه وأعفانا من هذا التعليق القاسي الذي لا مبرر له.
رابعها - يذكر الكاتب أن خصوم اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصومُ المنار
وصاحبه - عليه رحمة الله -، يا سبحان الله! إن الزمن - يا أخي - يدور،
والمدارك تتطور بدورانه، وإن تجارب الناس ودرجة معرفتهم بالأمور تزداد
وتتسع يومًا عن يوم، وإن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء، وإن كثيرًا ممن حمل
السيف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته كانوا بعد ذلك من أشد الناس
حماسةً في مناصرتها وتفانيًا في محبته صلى الله عليه وسلم، وسبحان مَن أعز
الإسلام بقاتل حمزة وجعله قاتل مسيلمة، وأين أنت من خالد وعكرمة، ولا
تجعلني أقول لك أكثر من هذا، ففي مكان القول متسع؛ ولكن ما كل ما يُعرف يُقال،
وجميع الناس متفقون على أن الحق لا يُعرف بالرجال، فهَبْهم لا زالوا في
خصومتهم أفلا نتبع الحق إذا جاء على أيديهم، ونكون أول مَن يناصرهم فيه؟
إنني أعتقد أن ما يمر بنا من هذه الحوادث الجسام سيوحد الكلمة، وسيجمع
الرأي، ويقرب شقة الخلاف، ويسوِّي صفوف العاملين للإسلام إن شاء الله،
فاصبر إن وعد الله حق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... حسن البنا
_________
الكاتب: حسن البنا
السيد الكامل آل رضا
رحمه الله
لبى نداء ربه السيد الكامل آل رضا، رحمه الله، وهو عم السيد محمد
رشيد رضا منشئ المنار، ووالد صديقنا المفضال السيد عبد الرحمن عاصم رضا،
نفع الله به، عن عمر مبارك قضاه في طاعة الله والمبادرة إلى الخيرات.
وكان السيد رشيد رحمه الله يقول عنه إنه حجة الله على أهل هذا العصر؛
إذ كان - أفسح الله له في جنته - رغم كبر سنه وضعف بدنه حريصًا كل
الحرص على المبادرة بالأعمال الصالحة، بعيدًا كل البعد عن كل ما يؤدي إلى
الشبهة - فضلاً عن الحرام - لا نرى في مجلسه إلا ذكر الله وما والاه، والتذكير
بالخير، والنصح لعباد الله، وقد ورث عنه هذه الخصال نجله المفضال السيد عبد
الرحمن حفظه الله؛ فما علمنا عليه إلا خيرًا، ولا نزكي على الله أحدًا.
وإنا لنتقدم بالتعزية إلى آل رضا، ألهمهم الله الصبر، وأجزل لهم الأجر،
وعوضهم الخير، ونسأل الله للسيد الراحل المغفرة والرضوان.
وقد حال احتجاب المنار عن أن يصدر هذا العزاء في حينه، ولعل صديقنا
السيد عبد الرحمن عاصم يوافي قراء المنار بترجمة مفصلة لحياة السيد الوالد -
عليه الرحمة - لتكون لنا وللقراء عظة وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
_________