المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المحرم - 1354ه - مجلة المنار - جـ ٣٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (35)

- ‌ربيع الأول - 1354ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

- ‌حرمان البنات من الإرثوتعارض القرآن والإجماع

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

- ‌الهمزية في مدح خير البرية

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌شاعر العربالشيخ عبد المحسن الكاظمي

- ‌تفاقم شر الطلاق في أميركا

- ‌العقبة من الحجازفي عهد الدولة العثمانية

- ‌وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌سبب تأخر هذا الجزء من المناروسيكون ما بعده أكبر وأحسن

- ‌ربيع الآخر - 1354ه

- ‌سؤالان عن الربا في دار الحربوعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

- ‌الربا والزكاة والضرائبودار الحرب

- ‌فتاوى المنار

- ‌حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبرالشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌إلى فضيلة الأستاذ الأكبربمناسبة خطابه في حفلة التكريم

- ‌تفسير المنارالجزء الثاني عشر

- ‌نعي فقيد الإسلام والمسلمين

- ‌كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

- ‌كلمة لا بد منها

- ‌الوهابيونوالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌حفلة تأبين فقيد الإسلامالمرحوم السيد محمد رشيد رضا

- ‌خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

- ‌قصيدة الأستاذ الهراوي

- ‌خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

- ‌كلمة الأستاذ عبد السميع البطلفي حفلة تأبين الفقيد

- ‌خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

- ‌خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

- ‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام

- ‌قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

- ‌تعزية الجمعية السورية العربية

- ‌مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

- ‌تعزية جمعية الرابطة العلوية

- ‌كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندرفي حفلة التأبين

- ‌تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

- ‌عواطف ابن زيداننحو فقيد الفضل والعرفان

- ‌وصف المقطم لحفلة التأبين

- ‌كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

- ‌كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

- ‌كلمة المجاهدين السوريين في الصحراءبوادي السرحان

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌المستشرقون والإسلام

- ‌الفصل الأولأسباب ونتائج

- ‌الفصل الثانيمحمد قبل البعث

- ‌الفصل الثالثالتحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

- ‌الفصل الرابعمحمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

- ‌الفصل الخامسالتوحيد هو روح الحرية

- ‌الفصل السادسأثر التوحيد الاجتماعي

- ‌الفصل السابعتعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

- ‌الفصل الثامنحكاية فنسنكوالمجمع اللغوي الملكي

- ‌الفصل التاسعحكاية فنسنك [

- ‌جمادى الآخرة - 1358ه

- ‌تصدير

- ‌في الميدان من جديد

- ‌بين طائفتين من المؤمنين

- ‌نشأة المنار والحاجة إليه

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌بين الشرق والغرب

- ‌ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

- ‌تطور الإسلام

- ‌صاحب المنارالسيد محمد رشيد رضا

- ‌فلسفة النفاقالمنافقون في فلسطين وحكمهم

- ‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

- ‌المنار والإصلاح

- ‌اتجاه محمود في الشرق العربي

- ‌ظهور المنار ودلالته

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌رجب - 1358ه

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌دعوى علم الغيبومنابذتها لأصول الإسلام

- ‌وصف الدنيا

- ‌الشيخ محمد عبده(1)

- ‌من كلام الإمامعلي رضي الله عنه

- ‌انتقاد المنارحول فتوى آيات الصفات وأحاديثها

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي

- ‌تعليق

- ‌السيد محمد رشيد رضا

- ‌ استحضار الأرواح

- ‌ربيع الأول - 1359ه

- ‌الأحمدية(القاديانية واللاهورية)

- ‌ماذا في إندونيسيا

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌في محيط الدعواتتحليل ومقارنة

- ‌مشكلة المرأة في مصر

- ‌ربيع الثاني - 1359ه

- ‌احتجاب المنار

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌خطيئة آدم

- ‌في محيط الدعوات(2)

- ‌براءة من القاديانية

- ‌الشيخ محمد عبده [*](2)

- ‌انتقاد المنار

- ‌السيد الكامل آل رضارحمه الله

- ‌جمادى الآخرة - 1359ه

- ‌ حكم الدخان والتنباك

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌السيد الإمام محمد رشيد رضاناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

- ‌من مشكاة النبوة

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌شعبان - 1359ه

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌ حكم الصلاة في النعلين

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌المرأة المسلمة(2)

- ‌إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم

- ‌بيان الحكومة المصريةعن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة

- ‌من كلام الإمام علي في نهج البلاغة

الفصل: ‌المحرم - 1354ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ

الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .

{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .

{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) .

نرجو أن ندخل بهذه السَّنة في عهد جديد لدعوة القرآن نفتتح بها المجلد 35

من المنار المجلد 13 من تفسير القرآن الحكيم والطبعة الثالثة من كتاب الوحي

المحمدي، بعد أن بينَّا للمسلمين في السنين الخالية جميع الأسباب والعلل التي فقدوا

بها هداية دينهم ومجد ملكهم وحضارته بالإعراض عن تدبر القرآن وجميع ما يجب

عليهم من علم وعمل لاستعادة ذلك بالقرآن، وإقامة الحجج والآيات على ذلك من

كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تبليغه وتنفيذه؛ وسنة

خلفائه الراشدين في فتوحه، وتأسيس دولته، وإقامة أحكامه بين الشعوب المتباينة

الأجناس واللغات، والملل المختلفة الأصول والمذاهب والحضارات.

وإننا نذكِّر القراء بخلاصة من ذلك:

أمة موسى وأمة محمد والتوراة والقرآن:

في مدة أربعين سنة انقرض جيل من بني إسرائيل في التيه، ونشأ جيل آخر:

انقرض الجيل الذي تعبَّده فرعون واستذله، فقال زعماؤه لموسى لما دعاهم إلى

دخول الأرض المقدسة، التي كتبها لهم، ووعدهم بالغلبة على أهلها إذا دخلوها:

{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) ، ونشأ جيل جديد أخذ

التوراة بقوة، ودخلوا البلاد، ففتحها الله كما وعدهم.

وفي عشرين سنة أسس محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله

عليه وسلم - بدعوته دينًا كاملاً وأمة متحدة ودولة قوية عادلة، فقد ربَّى الجيل الأول

من قومه بالقرآن من أول يوم، فأخرجهم بدعوته من الظلمات إلى النور في عشر

سنين، وفتح بهم جزيرة العرب في عشر سنين، وفتح خلفاؤه من بعده ملك

كسرى وقيصر في عشرين سنة، ولم ينقضِ القرن الأول من هجرته إلا وقد تمَّ

لأمته نشر ملكهم ودينهم من آخر حدود أوربة في الغرب إلى جدار الصين في

الشرق، وأدى لهم " فغفور " الصين الجزية.

بماذا فعل المسلمون هذه المعجزات في الفتح الديني الاجتماعي السياسي؟ ما

فعلوها إلا بأخذهم القرآن بقوة، كما أخذ بنو إسرائيل التوراة بقوة، وكان تأثير كل

من الكتابين بقدْره: التوراة هداية لشعب صغير، وُعِد بوطن صغير إلى أجل معلوم

ففتحوه، وتمكنوا فيه إلى أجل معلوم، ثم عاقبهم الله بظلمهم وإفسادهم في الأرض

فسلط عليهم من شاء من عباده إلى أجل آخر، ثم سلب ملكهم ببغيهم. والقرآن

هداية عامة لجميع الشعوب والقبائل، وُعد أهله بخلافة الأرض كلها: {وَهُوَ

الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض} (الأنعام: 165) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ

الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ

بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ووفَّى لهم بما وعدهم في

أكثر الأرض التي عرفوها ما أقاموا القرآن بإقامة الحق والعدل في الناس والشكر

لله، ثم سلب منهم أكبر ما أعطاهم بكفر هذه النعمة والفسوق عن هذه الهداية.

ومن العجب أن يفعل اليهود اليوم ما لا يفعل العرب لاستعادة مجدهم.

ولكن أمة محمد ليسوا شعبًا صغيرًا كقوم موسى - عليهما الصلاة والسلام -

بل أمة دعوته جميع البشر، وأمة الإجابة له هم المهتدون بالقرآن وسنته في إقامته،

وما وعدهم به هو الأرض كلها لا أرض فلسطين، ودينهم عام باقٍ إلى يوم القيامة،

لا خاص مؤقت محدود.

فتح العرب العالم بالقرآن:

إن المسلمين كفروا هذه النعمة قبل أن يتم لهم فتح أكثر الغرب كما

فتحوا أكثر الشرق، بأن استبدلوا بهداية القرآن بدعًا سَرَت إليهم نظرياتها الباطلة

من الأديان والفلسفة والأدب التي كان عليها الشعوب التي فتحوا بلادها بقوة القرآن

لا بقوة السيف والسَّنان، فقوة العرب الحربية كانت دون قوة الرومان، ودون

قوة الفرس، اللتين كانتا أقوى دول الأرض، وكان يدين لهما كثير من

العرب المجاورين لبلادهما، وكانت أضعف من البربر في شمال إفريقية ومن

القوط (والإسبانيول) في غرب أوربة ومن الغال في جنوب فرنسة من الغرب،

ومن الهنود في الشرق، وناهيك ببعد المسافات بين جزيرة العرب وبين هذه

الأقطار، وما يزعمه بعض الإفرنج ومقلديهم من أن سبب فوز العرب بذلك الفتح

السريع الواسع هو ما كان طرأ على تلك الدول والأمم من الفساد والضعف، فهو

تعصب ظاهر؛ فمهما تكن عليه تلك الأمم من ضعف وفساد فالعرب كانوا أفسد

وأضعف من كل واحدة منها قبل الإسلام، وبه سادتها كلها؛ وما هو إلا نور

القرآن.

عصر الصحابة ومنتهى علمهم:

إن الصحابة الكرام رضي الله عنهم هم الذين أسسوا هذا الملك الإسلامي

العظيم العادل الرحيم، فيما يسمى العالم القديم، وكان أكثرهم أميين، لم يكن عندهم

كتاب يهتدون به في فتوحهم وحكمهم إلا هذا القرآن وحده. وما كانوا يعتمدون في

فهمه إلا على مَلكَة لغته وما بيَّنه لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هداية

القول والفعل، وهو سنته وهديه؛ تلاهم التابعون الذين حفظوا عنهم القرآن

والسنن والآثار؛ فكانوا في الدرجة الثانية لدرجتهم إيمانًا وعلمًا بالإسلام، وعملاً

وتخلقًا به، وجهادًا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وفتحًا للأمصار، وحكمًا بين

الناس بالحق والعدل؛ وقلَّ فيهم الأميون، وكثر المتعلمون، ولكن لم يكن في أيديهم

كتاب غير القرآن، يهتدون به في تزكية أنفسهم وإصلاحها، ويهدون به غيرهم من

الشعوب التي كانت تدخل في دين الله أفواجًا. ويجدون الإسلام خيرًا مما كانوا عليه

هدى وصلاحًا، وعلمًا وعدلاً، وأدبًا وفضلاً.

عصر التابعين في هديهم وحكمهم وفتحهم:

وبدأ التابعون بكتابة السنن والآثار حفظًا لها من الضياع، بيد أنهم لم يتخذوا

منها كتابًا مدونًا مع القرآن يدينون الله بالعمل به في عبادتهم الشخصية وفي قضاء

حكومتهم وسياستها، بل ظلوا يهتدون بالقرآن وبما كان عليه الصحابة من سنن

النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وبسيرة خلفائه الراشدين في الفتح والسياسة

والقضاء، ومن ذلك الاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي من القرآن أو سُنَّة عملية لا

تختلف فيها الأفهام والآراء: اجتهاد الأفراد لأنفسهم في الأحكام الشخصية الخاصة،

واجتهاد أولي الأمر من الأئمة والقضاة وقواد الجيوش في الأحكام العامة، مع

مراعاة الشورى فيها؛ فكانوا على منهاج الصحابة في ذلك كله، وناهيك بكتب عمر

وعلي إلى عمالهما: ككتاب عمر إلى شريح في القضاء، وكتاب عليّ إلى الأشتر

النخعي في السياسة العامة.

عصر العلم وما يجب من النظام الواقي من الشقاق فيه:

ثم جاء عصر التدوين والتصنيف للحديث والسير الآثار والفقه، تلا ذلك

تدوين اللغة وفنونها ووقائع التاريخ، وترجمة علوم الأوائل بأنواعها: كالرياضيات

والتاريخ الطبيعي، والطب، والفلك، والفلسفة بأقسامها، والتصوف بنوعيه الخلقي

والفلسفي، ودرسوا هذه العلوم واجتهدوا فيها، ونقدوا ونقحوا، وأتموا ما كان

ناقصًا، وزادوا على من كان قبلهم؛ عملاً بإرشاد القرآن إلى النظر في آيات

السموات والأرض وما بينهما وما خلق الله من شيء وسنن الله في الأمم.

كان من سنة العمران وطبيعة الاجتماع في ذلك أن تصير علوم الدين والدنيا

كلها فنونًا صناعية، وأن يختص بكل جنس منها طوائف من الناس للتوسع والنبوغ

فيها، وأن يكون لكل منها تأثير في أنفس النابغين فيه، قد يعارض غيرهم باختلاف

الفهم والقصد من العلم وموضوعه وفائدته.

وكان يجب في هذه الحال أن يكون للتعليم نظام جامع يوجه كل علم إلى الغاية

منه؛ دينيه كانت، أو عقلية، أو علمية، كما أرشد إليه القرآن الحكيم، وأن يظل

القرآن والأسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه وتربية الأمة، كما

كان في عهده وعهد خلفائه الأربعة هديًا إلهيًّا علميًّا لا نزاع فيه وينزه عن أن يكون

صناعة بشرية، وفنًّا جدليًّا يضرب بعضه ببعض لتأبيد المذاهب والشيع الدينية

والسياسية، وأن تكون حرية الدين على أكملها فيما هو من كسب البشر ونتائج

أفكارهم وأفهامهم؛ فالإسلام أباح لأهله الحرية في هذا دون ما هو فوقه وفوق كل

شيء بشري، وهو كلام الله اليقيني القطعي الرواية أو الدلالة من الدين الذي شرعه

الله لهم، وأما ما كان ظنيَّ الرواية أو الدلالة منه فقد أباح لهم الاجتهاد فيه بشرط ألا

يكون اختلاف الفهم والرأي سببًا لتفرق الأمة والشقاق بين أهلها، ولو فعلوا ذلك

لاتقوا الشقاق والتفرق بما حدث من البدع في الدين، ولكنهم لم يفعلوا فَضَلُّوا

وابتدعوا، فتفرقوا واختلفوا، وفسقوا وضعفوا.

كان هذا التأليف بين العلوم والفنون والدين أول واجب على الإمام الأعظم

خليفة المسلمين، ولكن خلفاء العباسيين أطلقوا العنان أولاً فلم يقوموا بالواجب، ثم

نصروا بعض المتفرقين في الدين على بعض بما أضعف سلطان الدين في الهداية،

وفوائد العلوم والفنون في الحضارة، وأنَّى للمعتصم العامي، وكذا المأمون العالم

المتفنن أن يفهم حكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عقاب صبيغ المجادل

المشكك في القرآن، ونفيه من المدينة إلى البصرة، وأمر الناس بهجره حتى تاب،

تلك جناية فوضى العلم في العرب، وجنايتها على هداية القرآن بالابتداع والتفرق

والاختلاف.

حضارة العرب وتأثير الإسلام فيها:

وقد كانت للمسلمين من جملة ذلك كله حضارة عربية زاهية زاهرة، جمعوا

فيها بين زينة الدنيا ونعمتها والاستعداد لسعادة الآخرة، ألطف مثل لها ما حُكِي عن

امرأة كانت ترفل في حليها وحللها، مخضبة الكفين، مطرفة البنان، وهى تسبح

الله تعالى وتذكره، فرآها رجل ناسك فقال لها: ما هذا مع هذا؟ ! فقالت:

ولله مني جانب لا أضيعه

وللهو مني والخلاعة جانب

وكانت قيانهم ووصائفهم تحفظ القرآن، وتروي الحديث بالأسانيد، وتنظم

الشعر وتلحنه، وما كان من إسراف بعضهم وفسوقهم تجد تجاهه غلو آخرين في

دينهم، وانقطاعهم إلى العبادة وجهاد النفس بحرمانها من الطيبات المباحة.

كان أهل بغداد في عهد حضارة العباسيين يتنزهون في زوارق دجلة أصيل

كل يوم، كما يتنزهون في هذه الأيام، فاتفق أن اقترب قاربان منها في أحدهما مغنٍّ

يعزف على عوده، وفي الآخر قارئ يرتل سورة التكوير، فأنصت المغني واستمع

للقرآن يتدبره، حتى إذا بلغ القارئ قوله تعالى:{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (التكوير: 10) ضرب بعوده جانب الزورق فكسره ورماه في دجلة خاشعًا

متصدعًا من خشية الله، فكان ترتيل القرآن أفعل في نفسه من توقيع الألحان،

ومثل هذا لا يقع الآن، والقوم هم القوم، ولكنهم ضعفوا في لغتهم، فلم يبقَ للقرآن

سلطان على قلوبهم، وغلوا في الدين والحضارة معًا؛ فحرَّم السماعَ بعضُهم،

واتخذه آخرون عبادة.

لو جرى المسلمون في حضارتهم وعلومها وفنونها على صراط القرآن بكفالة

الخلافة لاستفادوا من فلسفة اليونان وتصوف الهند وفنون الروم والفرس وصناعاتهم

وتنظيم حكومتهم ما يزيدهم إيمانًا بالله وبصيرة في دينه وقوة في دولتهم، واعتدالاً

في نعمة حضارتهم، ولما وجدت بدع النظريات الفلسفية والصوفية وفتن السياسة

الشعوبية سبيلاً إلى التفريق بينهم في دينهم وحكمهم، ولكنهم نكبوا عنه فانقلبوا بعد

ألفتهم وتوادهم أعداء يتنازعون في متشابه القرآن الذي ألَّف بين قلوب سلفهم بعد

تعاديهم وتقاتلهم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وهم يقرءون قوله عز وجل:

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (آل عمران: 7) الآية، وقوله: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً

بَيْنَهُم ْ} (البقرة: 213) الآية، وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:

59) .

سنن الاجتماع في قلب الإسلام لنظم الأمم السريع:

كل ما جرى للأمة الإسلامية كان مقتضى سنن الاجتماع في دين قلَب نظم

الأمم والملل كلها في أديانها ودنياها في جيل واحد، ودخل فيه أفواج لا تحصى من

كل جنس وكل ملة وكل حضارة وكل بداوة، قضى شرعه أن يكونوا إخوانًا

متساوين في جميع الحقوق، لا يتفاضلون إلا باستعدادهم الشخصي؛ فمنهم من فهمه

بلغته وثقافة من جاء به، وهم العرب؛ لأنه لم يكن عندهم ما يزاحمه من التقاليد

الدينية والعادات المدنية، بل كانوا كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا

ومنهم مَنْ لم يفهم منه إلا بعض تقاليده الظاهرة، ولم يره إلا في مرآة ما كان

عليه قومه من دين وحضارة، ومنهم من كان مخلصًا فيه، ومن كان يكيد له

عصبية لقومه وملته ودولته التي قضى عليها، ومن كان يبتغي به الحياة الدنيا

وسلطانها وزينتها، ومن كان يريد به وجه الله والدار الآخرة.

حكمة الله في ترتيب الخلفاء الأربعة:

وكان من حكمة الله ورحمته أن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه

خير أصحابه علمًا وحكمة وإخلاصًا؛ ليكونوا قدوة لمن بعدهم وحجة لله عليهم،

وألهم أهل الحل والعقد أن يقدموا أقصرهم فأقصرهم عمرًا من حيث لا يدرون؛

لتستفيد الأمة من كل واحد، وهذه حكمة ألهمني الله تعالى إياها منذ عشرات السنين

لم أروها ولم أسمعها من أحد، وهاك وجه كل واحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين.

قدموا أبا بكر أولاً؛ فكان في عهده تمحيص الأمة العربية، وتصفيتها من

النفاق والضعف، وكان هو أولى الناس بتنفيذ هذه التصفية في حروب الردة

ودعوى المتنبئين النبوة وبقايا العصبية الجاهلية، وهو مشهود له بأنه كان أعلم

الناس بأنساب العرب وأخلاقهم وأحوالهم، فتم ذلك بسياسته على أكمل وجه.

وخلفه عمر فكان في عهده فتح الأمصار والقضاء على ملك كسرى برمته،

وملك قيصر الروم في الشرق كله، والاستيلاء على الأمم والملل الكثيرة

وخضوعها للإسلام في دينه وحكمه، أو في حكمه فقط، وقد ظهر لجميع الأمم في

عهده ومن بعده أنه خير من قام بهذا الفتح ونظمه علمًا وعقلاً وعدلاً وقوة وإخلاصًا.

فبحكمة أبي بكر صارت الأمة العربية أمة واحدة موحدة مثقفة، وبحكمة عمر

صارت أمة فاتحة حاكمة عادلة مصلحة للبشر؛ ولما كان من سنن الاجتماع أن

يظهر في هذه الدولة العربية ما هو كامن في بعض أهلها من الاستعداد للفتن

والمطامع، وما ينفخ في ضرمه خصومها الذين قضت على ملكهم، ومن المصلحة

أن يظهر حكم الإسلام في إخماده بالحق والعدل - ألهم الله أهل الشورى أن يقدموا

عثمان على عليّ، وجل عصبة الأول من بني أمية الطامعين في الملك، وجل

عصبة الثاني من بني هاشم الذين يغلب على أكثرهم الزهد في الدنيا، وقد كان

بينهما في الجاهلية ما كان من (التنازع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم)

الذي ألَّف المقريزي فيه مصنفًا خاصًّا بهذا الاسم.

كان عثمان على عدله وفضله شديد الحياء، لين العريكة؛ فغلبه قومه على

وصية عمر السياسي الحكيم له بأن لا يحمل أبناء أبي معيط على رقاب الناس،

فركبوا الرقاب من غير أن يحملهم هو عليها، فنجمت رءوس الفتنة في عهده،

وكان كارهًا لها، إلا أنه لم يستطع كبح جماحها، فكان شهيد أول ثورة على ولي

الأمر في الدولة العربية، وكان هذا أشأم سنة في الحكم الإسلامي.

ثم جاء عليٌّ ونار الفتنة مشتعلة، وكان أولى إمام في الأمة أن يقاومها علمًا

وعدلاً، وإيثارًا للحق على الخلق، وللهدى على الهوى؛ ولو لم يكن لها في تأخر

زمنه - وقد أطال الله عمره - إلا هذه الحكمة والرحمة لكفى؛ فهو قد سنَّ من سنن

الحق والعدل في قتال البغاة والخارجين على حكم الإسلام ما لم يكن يرجى من غيره

مثله، وخيرها اتقاء تكفير أهل القبلة بخطأ الاجتهاد، كما كان هذا التكفير شر ما

فعلوه، فالإيمان والكفر إنما يكونان بالقطع لا بالاجتهاد.

وقد بينَّا من قبل أن التنازع في الإمامة بين شيعة علي وجمهور الأمة قد كان

تنازعًا بين ما يسمى في هذا العصر السلطة الأرستقراطية، أي: حكم الأشراف،

والسلطة الديمقراطية، أي: حكم الأمة الشوري الانتخابي؛ ولذلك كان أشد أنصار

الشيعة من بعده الأعاجم الوارثين للعبودية للملوك، وأن عليًّا لو ولي الأمر من أول

الأمر بسبب قربه من النبي صلى الله عليه وسلم أو بحجة وصيته له ولذريته

من فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم لكانت فتنة عبادته وعبادة آله

ودعوى عصمتهم قضت على توحيد الإسلام من أول وهلة إن ثبتت.

استحالت خلافة النبوة بعد عليّ والحسن عليهما السلام ملكًا عضوضًا، كما ورد

وهو من سنن الاجتماع، وكان بنو أمية وقد صفا لهم الملك من أقدر قريش على

استمرار الفتح وتوسيع دائرة الدولة وعظمتها؛ ولكن تحويل زعيمهم الأول

(معاوية) لحكم الإسلام الشوري (الديمقراطي) إلى عصبية النسب (الأرستقراطية)

كان سُنَّة سيئة دائمة قضت على دولتهم قبل أن يتم لها قرن كامل، وهم الذين

أحدثوا بسياستهم الجنسية فتنة الشعوبية فكانت عاقبة هذه العصبية أنْ آل الحكم إلى

الأعاجم، وصار قائمًا على قوة العصبية دون أصل الشرع، وزال سلطان الإمامة

الديني الذي تخضع الأمة له بوازع العقيدة، فصار الحكم الإسلامي عسكريًّا مذبذبًا،

لا أرستقراطيًّا ولا ديمقراطيًّا.

هذه جملة أسباب ترك الدول الإسلامية لهداية القرآن وهداية السُّنة وجماعة

الأمة، ولو ظلت الأمة متبعة لهما لأكرهت الدولة على هذا الاتباع في أي وقت

تجتمع به كلمتها؛ ولكن جمهور الأمة تحولوا عن هذا الاتباع بفساد التعليم،

وتقصير العلماء في بيانه، والدعوة إليه والعمل به، ومطالبة الحكومات بالتزام

هدايته، بل إلزامهم إياها بنظام تكفله الأمة، وتيسير السبيل لذلك بجعل لغته مَلَكة

راسخة في الأمة بتعلمها بالعمل، كما كان عليه أهل العصر الأول، ولم يفعلوا شيئًا

من هذا، وهو الذي أضاع حكم القرآن من ناحية السلطان.

وهو ما نوهنا به في تصدير الطبعة الثالثة التي نشرناها في هذا الشهر،

وصرحنا فيه بأنه حدث لنا به أمل جديد في حياة المسلمين الملية، لا تعرف حقيقتها

إلا بتجربة عملية جديدة، وهو ما عزمنا عليه في هذه السنة.

الدعوة الجديدة هي أساس الإصلاح كله:

سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة

المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها، أو فيما عدا

التعليم الإسلامي المدرسي منه، الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له،

وتولي النهوض به، فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة

القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته، ولا يصلح له غيرهم.

لما ألَّفنا جماعة الدعوة والإرشاد، وأنشأنا مدرستها وجدنا عقلاء المسلمين

وأذكياءهم في مصر، وإستانبول، وأمصار الهند الإسلامية الكبرى، وبغداد،

وسوريةَ متفقين على أنها أعظم عمل إسلامي لا يُرجى الإصلاح المنشود بدونه؛

حتى إن كبار رجال الترك أكبروه، وعلموا أنه يحيي الدولة العثمانية حياة جديدة إذا

هي كفلته ونفذته على الوجه الذي اقترحته عليها وقررته الجمعية التي أسست له من

أذكى رجال الدولة، ولكن زعماء جمعية الاتحاد والترقي - الملاحدة منهم - كانوا

قد أجمعوا أمرهم على إسقاط دولة آل عثمان وخلافتهم، وإقامة دولة تركية لا دينية

على أنقاضها، ولولا ذلك لما منعوا الحكومة من تنفيذه بعد أن صدر به أمر مجلس

الوزراء، وقرر أن تكون نفقات المدرسة السنوية في ميزانية وزارة الأوقاف.

وكان الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر علم بالأمر وأكبره، فلما عدت من

إستانبول والأمر مقرر رسميًّا، أقنعني بأنه هو يكفل مساعدتي على تنفيذه في

مصر، وبأن الدولة العثمانية إن أرادت تنفيذه في إستنابول فإن من السهل أن يكون

في كل من العاصمتين مدرسة تابعة لمقاصد الجمعية ومنهاجها، ففعلت وصدق هو

وعده، وفتحت المدرسة أبوابها لجميع الشعوب الإسلامية، وتعاون على نفقتها

ديوان الأوقاف الخيرية العامة ومصلحة الأوقاف (الملكية) الخاصة، حتى إذا ما

اشتدت سيطرة الإنكليز على مصر في عهد الحرب الكبرى، كادوا للمدرسة كيدهم،

وأوعز عميدهم إلى وزير الأوقاف (إبراهيم فتحي باشا) وكان من صنائعه؛

فقطع الإعانة التي كانت قررت لمدرسة الدعوة والإرشاد، وتعذر عودة الخديو إلى

مصر، فاضطررت بعد صبر جميل إلى تعطيلها.

وجملة القول أنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر

مشتركي المنار، وعلى ما أقر به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة

والعامة بالأولى، وعلى دخولي في سن الشيخوخة وضعفها، لم أرد إلا ثقة ورجاء

بنجاح السعي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وجديد أمر الدين بما يظهره الله به

على الدين كله، حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة

من المسلمين بذلك؛ تصديقًا لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم

بأنه لا يزال في أهله طائفة ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى تقوم

الساعة (رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق) . وهذه

الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب عناوين

خيار الرجال المتفرقين في الأقطار، الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على

اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم لمخاطبتهم في الدعوة إلى العلم، وأرجو من كل

من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا

عنوانه، وما هو مستعد له من العمل معهم، إلى أن تنشر دعوتهم الرسمية.

وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر

الذي تقارب فيه البشر بعضهم من بعض، فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على

أمر الله، وتعاونها على نشر الدعوة، وجمع كلمة الأمة، بعد وضع النظام لمركز

الوحدة الذي يرجى أن نثق به؛ فهي لا ينقصها إلا هذا، وقد طال تفكيري فيه،

وعسى أن أبشرها قريبًا بما يسرها منه.

وأعجل بحمد الله تعالى أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي ولشيخنا

الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر - وهو ما يعبر عنه

في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية - وقد قضى هو يائسًا مما كان يحاول فيه،

وظللت أجاهد في سبيل إصلاحه على ما عرض من أسباب اليأس منه، التي تفاقم

أمرها أخيرًا، وكتبت فيها بضع مقالات في المقطم، ثم (كتاب المنار والأزهر)

وما هذا إلا لأنني لم أيأس، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد

مصطفى المراغي عظيم، أشرت إليه في تصدير الطبعة الثالثة من كتاب الوحي

المحمدي، بعد أن كتبت عنه في الجزء الماضي من المنار ما كتبت.

كان الأزهر كَنْزًا خفيًّا، أو جوهرًا مجهولاً عن أهله وحكومته، وعقلاء بلده

لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به، والاستيلاء

على زعامة جميع الشعوب الإسلامية في الدين والأدب واللغة بإصلاح التعليم العام

فيه، ولكن تعليم الإمام رحمه الله وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في

طائفة من شيوخه، والاستعداد في جمهور طلابه، ولم يبق إلا العمل الجادّ، ولله

الحمد.

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حرمان البنات من الإرث

وتعارض القرآن والإجماع

(س1) لصاحب الإمضاء في مصر القاهرة:

حضرة صاحب السيادة: مولانا الأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا،

صاحب المنار الأغر - نفعنا الله بعلمه وفضله.

عرض بعض فقهاء المسلمين في مصر إلى مسألتين: الأولى احتيال الآباء

على حرمان بناتهم من أموالهم بطريق النزول عنها إلى أولادهم الذكور ببيع ما

يملكونه لهم، حتى إذا ماتوا لا تجد البنات ما ترثه من أموال آبائهن.

فقال بعض الفقهاء بجواز هذا، ونشرت قوله كذلك في " الوطنية "، وقال آخر

بالتحريم، ونشرت قوله كذلك في الوطنية؛ فأصبح المسلمون في حيرة من أمرهم

بين هذين القولين المتناقضين، وقد لجأت إلى فضيلة مفتى الديار المصرية ليكون

حَكَمًا بينهما، فأحالني على سيادتكم، وأجَّل فتواه إلى ما بعد اطلاعه على فتواكم.

تعارض القرآن والإجماع

المسألة الثانية: إذا تعارض القرآن والإجماع في أمر؛ فبأيهما نأخذ؟ قال

بعض العلماء: نأخذ بالقرآن، وقال أحد كبار الفقهاء: نأخذ بالإجماع. واستشهد

الفقيه المشار إليه على صحة رأيه بقوله: إن القرآن فرض نصيبًا من الصدقة

للمؤلفة قلوبهم، وجاء الإجماع فقرر إلغاء هذا النصيب؛ لأن الإسلام أصبح قويًّا

ومنتشرًا، وليس بحاجة إلى تأليف القلوب؛ فماذا ترون سيادتكم في هاتين

المسألتين، فإن العالم الإسلامي ومفتي الديار في انتظار فتوى سيادتكم في كلتيهما؟

...

...

...

...

أيوب صبري

...

...

...

... صاحب جريدة الوطنية

(1)

الاحتيال لحرمان البنات من الميراث:

الاحتيال لحرمان البنات من الميراث ببيع المورث بعض عقاره أو كله للذكور

من الوارثين بيعًا صحيحًا في الظاهر، أو هبته لهم في غير مرض الموت أو بغير

ذلك من الوسائل - هو كالاحتيال لمنع الزكاة أو أكل الربا المحرم قطعًا - حرام لا

شك فيه، وقد حررنا هذه المسألة في الكلام على الحيلة لأكل الربا، وأشد الفقهاء

جمودًا على ظواهر الأحكام يصرحون بحرمة هذا إذا قصد به تعطيل حكمة الشارع؛

وإنما يكابر من يكابر في حكم ظاهر العمل بصرف النظر عن النية فيه. وقد أمر

النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل والمساواة بين الأولاد في عطايا الدنيا،

فضلاً عن الميراث المقرر في كتاب الله تعالى، ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن

النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قال عَلَى الْمِنْبَرِ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً،

فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ (يعني أمه) : لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى

اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ

ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ

سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ لا، قَالَ:(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ)، قَالَ:

فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. وفي رواية لمسلم زيادة: (لا تشهدني على جَوْر) وفي

أخرى: (فلا تشهدني فإني لا أشهد على جور) وفي أخرى (اعدلوا بين أولادكم

في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) والنِّحَل: جمع نِحْلة بالكسر،

وهي العطية التي لا مقابل لها.

والظاهر أن هذه التسوية واجبة، وإن قال بعض الفقهاء إنها مندوبة،

واختلف في صفتها فقيل: لا فرق فيها بين الذكر والأنثى، وقيل هي كالميراث،

ويتجه التفصيل فيما كان من طعام أو زينة، وما يعطى من الدراهم في الأعياد

فالظاهر فيه المساواة لاستواء الحاجة؛ ولأن التفضيل يسوء البنات، وما يُقتنى

ويدخر أو يستغل لكثرته فالظاهر فيه أنه يراعَى فيه نصيب كلٍّ في الميراث؛ لأنه

أقرب إليه، وعلى الأول يحمل حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا:

(سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحدًا لفضلت النساء) رواه سعيد بن

منصور، والبيهقي من طريقه وإسناده حسن، كما قال الحافظ ابن حجر.

* * *

(2)

التعارض بين القرآن والإجماع:

إني لأستنكر هذا التعبير، وأقول: إن القرآن أعظم وأجل من أن يعارضه

دليل، وكل ما خالفه فهو خطأ مردود، ومن سوء الأدب أن يقال إنه معارِض له،

وأسوأ من ذلك أن يقال إنه يرجح عليه.

وما ذكر في السؤال من سقوط سهم المؤلفة قلوبهم من مستحقي الزكاة لا يصح

بل هو باقٍ، ولو صح لما كان حكمه معارضًا للقرآن وراجحًا عليه، بل يقال فيه

إن حكمه قد تعذر تنفيذه بفقد المستحق له، كما يقال في غيره من غير حاجة إلى

ادعاء الإجماع: كالغارمين وابن السبيل، إذا فقدوا من بعض البلاد، ومثل ذلك

كفارة العتق في البلاد التي فقد منها الرقيق.

قد بينت في تفسير آية الصدقات أن المؤلفة قلوبهم عند الفقهاء قسمان:

(1)

كفار، وهم ضربان. (2) مسلمون، وهم أربعة: وأنه حدث في

عصرنا أقسام أخرى أولى بالتأليف (فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد

جمع المسلمين، وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهمًا للمؤلفة

قلوبهم من المسلمين؛ فمنهم من يؤلفونه لأجل تكفيره وإخراجه من حظيرة الإسلام،

ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة

الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها! ! أفليس المسلمون أولى

منهم بهذا؟ !) (ص495، ج10 تفسير المنار) .

وقلت: إنه روي عن أبي حنيفة أنه قد انقطع سهم قسم من الكفار بإعزاز الله

للإسلام، كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم هوازن، ثم

منعهم عمر، وقلت: إن هذا اجتهاد من عمر رضي الله عنه أي: فهو يختلف

باختلاف الزمن، وقد استمر في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما.

(وأما من ادعى أنه منسوخ بالإجماع لما تقدم من عمل الخلفاء والسكوت

عليه من سائر الصحابة فدعواه ممنوعة: لا الإجماع ثابت بما ذكر، ولا كونه حجة

على نسخ الكتاب والسنة صحيحًا، وإن اختلف فيه الأصوليون بما لا محل لذكره

هنا) .

وجملة القول: إن سهم المؤلفة قلوبهم ضروري في هذا الزمان بأشد مما كان

في أو ل الإسلام؛ لضعف المسلمين ودولهم، وضراوة الأجانب بهدم دينهم وملكهم،

وأنه لا إجماع على ما ذكر في السؤال، وأن الإجماع الأصولي يختلف في إمكانه

وفي وقوعه وفي العلم بوقوعه إن وقع، وفي كونه حجة.

_________

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الوحي المحمدي

(تصدير الطبعة الثالثة)

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد والشكر، إياه نعبد وإياه نستعين

أما بعد: فقد أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في موعد ذكرى مولد

النبي صلى الله عليه وسلم من ربيع الأول سنة 1352؛ تيمنًا بظهور نوره

المُشرق، الذي أضاء الكون كله، وإنما أضاءه بزوغ شمس هذا الوحي الإلهي،

ونزوله عليه؛ فما أتى على صدوره بضعة أشهر إلا وكانت نسخه قد نفدت،

فأعدت طبعه في تلك السنة منقحًا مزيدًا فيه قدر الثلث ونيفًا، ولولا خوف الملل

على القارئين لزدته ضعفًا أو أضعافًا؛ ولذلك وعدت بأن أجعل له ثانيًا، وأصدرت

الطبعة الثانية في يوم عرفة الذي أنزل الله عليه في حجة الوداع: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا} (المائدة: 3) تفاؤلاً

بتجديد هذا الكتاب لدعوته صلى الله عليه وسلم. فما جاء يوم عرفة الثاني

(سنة 1353) إلا وكانت نسخ الطبعة الثانية قد نفدت. وشرعت في الطبعة الثالثة،

وتعمدت تأخير إتمامها كالتي قبلها؛ لنشرها في موعد الأولى من هذه السنة

(1354)

.

وفي غضون السنة الماضية تمت ترجمة الكتاب باللغة الأوردية، ونشرت في

الهند، وهي مترجمة من الطبعة العربية الأولى. وتمت ترجمته باللغة الصينية فيها

أيضًا مرتين، ويتولى طبع الأولى في قبودان مترجمها الأستاذ صاحب مجلة ضياء

الهلال، وحمل الثانية مترجَمَةً الأستاذ بدر الدين الصيني من الهند إلى مصر،

وعرضها عليَّ. وكان يريد إرسالها إلى بلد آخر في الصين لطبعها فأشرت عليه

بأن يزيد فيها كل ما زدته في الطبعة الثانية؛ لأنها أجمع وأنفع، ولعلها لا تطبع إلا

وقد نفدت نسخ الترجمة الأولى، ولعله يعيد تنقيحها بمعارضتها على هذه الطبعة

الثالثة فإنها أصح وأكمل. ولم يبلغني أن أحدًا غير هؤلاء قد أتم ترجمته بلغة أخرى.

وزدت في هذه الطبعة قليلاً من الفوائد، وإيضاحًا لبعض المسائل، وجعلت

أكثرها في الحواشي، كما ترى في الحاشية الثانية من ص157، والأولى من ص

158، والحاشية (2) من ص 181، وما جعلته في الصلب أشرت إليه غالبًا

كشرعية عتق الرقيق من غير المؤمنين، وليس فيها شيء من المقاصد الأصلية

المقصودة بذاتها.

علمنا إذن أنه أتى على ظهور الكتاب سنتان كاملتان، فأما انتشاره بالعربية

فهو فوق المعتاد في الكتب الدينية، وقد قررت وزارة المعارف العمومية في هذه

السنة صرفه لطلبة دار العلوم العليا، وهو يدرس في بعض المدارس الإسلامية في

دمشق وبيروت.

ويرجى نشره في السنة المدرسية الجديدة أيضًا بين طلاب الأزهر والمعاهد

الدينية بمصر، وقد تولى رياستها شيخ الإسلام وخليفة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد

مصطفى المراغي) الذي كان أول من قدر الكتاب قدره، وقرأ نصفه في جلسة

واحدة، وأتمه في جلسة أخرى، ثم كتب في وصفه تلك الكلمة البليغة التي يراها

قراؤه في صدر التقاريظ، وقد تنبأ أو بشَّر بأنه سيطبع في كل عام.

ترجمة الكتاب باللغات الإفرنجية:

ولكن قَصَّر المسلمون فيما يجب عليهم من ترجمته بسائر لغاتهم وبلغات

شعوب الحضارة التي دعوناها به إلى الإسلام، وهي الإنكليزية والفرنسية والألمانية

وهو واجب كفائي صرح بتمنيه كثير من أهل العلم والغيرة، وصرح بوجوبه

بعض مقرظي الكتاب؛ فمنهم من تعسف وطالبني بهذه الترجمة أو بالسعي لها،

ومنهم من أنصف وطالب به الأمة الإسلامية أو جمعياتها.

أما الأمة فلا تنهض بالأعمال العامة إلا بزعمائها أو جمعياتها، وأما هذه

الجمعيات عندنا فلا تزال في سن الطفولة، ولا يرجى من أمثالها عمل عظيم كهذا،

فهي أفقر وأضعف همة من جمعيات المرتدين عن الإسلام جملته وتفصيله

كالبهائية، والملاحدة المدعين للنبوة والمسيحية فيه، كالقاديانية، دع جمعيات

النصارى التعليمية والتنصيرية التي تملك مئات الملايين من الجنيهات، وقد بثوا

تعاليمهم في جميع أقطار الأرض، وهم يطمعون في تنصير المسلمين، على حين

تتسلل شعوبهم من النصرانية سراعًا بسلطان ونظام كالشعب الجرماني، أو لواذًا

بدون سلطان دولي ولا نظام كسائر الشعوب، وهي تمهد السبيل لنسخ الإسلام لها،

وحلوله محلها.

ولقد كان أرجى الجمعيات الإسلامية لهذا العمل في مصر، جمعية الدفاع عن

الإسلام، التي هدمت باسم أقوى معول من معاول الإسلام قبل أن يتم بناؤها؛ وإنما

كان هذا الرجاء فيها منوطًا برئيسها الشيخ محمد مصطفى المراغي، وما كان

السعي لهدمها إلا سعيًا لهدم اسمه، وحرمان المسلمين من استعداده، ولكن الله

نصره، وخذل من ناهضه، وجعل معول الهدم الذي كان بأيديهم سيفًا لنصر

الإسلام بيده، فإذا بعصا موسى تلقف ما يأفك سحرة فرعون {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ

مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: 118) ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ

لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .

فإن كان أهلاً للرجاء بأن يسعى لترجمة كتاب الوحي المحمدي ببعض لغات

العلم الغريبة تمهيدًا لتبليغ الدعوة الإسلامية للناطقين بها - وتلك القوة الرسمية تكيد

له - فأجدر به أن يكون أقدر على تحقيق ذلك بالفعل، وتلك القوة الرسمية وما

وراءها من القوة الحقيقية طوع يده، ولن تكون ترجمة هذا الكتاب في موضع الثقة

بها عند جميع الشعوب كما إذا كانت من قِبَل شيخ الإسلام وتحت إشرافه، وكان

نشره وبث الدعوة به بإرشاده أو إجازته، مع العلم بأن مؤلفه قلم من أقلامه، وعلم

من أعلامه، وأحمد الله عز وجل أن جدد لي وللأمة بعودته إلى مشيخة

الأزهر ذلك الأمل بالزعامة الإسلامية العاملة التي فقدناها بوفاة الأستاذ الإمام منذ

ثلاثين سنة.

إن الأمة لم تفقد بوفاة ذلك الإمام شيئًا من علم الإسلام، وإنما فقدت زعيم

الإصلاح العارف بحاجة زمانه، الذي نال الزعامة بسمو عقله، واستقلال رأيه

وفهمه، وعلو همته وشجاعته، وإنصافه بإعطاء كل ذي حق حقه من العلم

الصحيح والإخلاص فيه، وما كان يعوزه للنهوض بالإصلاح العام إلا الاستقلال

بالزعامة التي تمكّنه من العمل؛ ولهذا كنا نسعى، ولكل قدر أجل، ولكل أجل

كتاب.

إذن لقد كان من حكمة الله أن (كتاب الوحي المحمدي) لم يترجمه بلغات

الإفرنج مَنْ ليسوا أهلًا لترجمته، حتى لا أضطر إلى تخطئتهم، فيكون ذلك محبطًا

لعملهم، أو مضعفًا للثقة بترجماتهم؛ وادخرها العليم الحكيم لمن هو أحق بها وأهلها.

بلوغ الدعوة لأحرار الإفرنج، والمستشرقون منهم:

لن يكون بلوغ الدعوة صحيحًا مرجوًّا إلا بوصولها إلى الأحرار، مستقلي

الفكر من هذه الشعوب بلغاتهم، وأكثر أفراد المستشرقين الذين تعلموا العربية ليسوا

من هؤلاء الأحرار المستقلين المنصفين؛ فإنهم ما درسوا العربية، ولا مارسوا كتب

الإسلام ليعرفوا حقيقته ويعرفوا غيرهم بها، بل ليبحثوا عن عورات يتلمسونها فيها

لينفروا أقوامهم عنه بتصويرها لهم بالصور المشوهة التي ينكرونها، كما نرى فيما

اطلعنا عليه من كتبهم وفي معجمهم العلمي الذي سموه بدائرة المعارف الإسلامية،

ومن خيبة الآمال بعلمهم ومصنفاتهم أن وجدت كتاب (مفتاح كنوز السُّنة) على

غير ما كنت ظننت، وخلاف ما قلت في التعريف به، فإنني لم أستفد منه أدنى

فائدة.

وأما المستقلون منهم - وهم الأقلون - فقد غلبتهم الأفكار المادية على عقولهم،

فقضاياها عندهم مسلمات كأنها لا مجال للبحث فيها، وقد قربنا مسافة الخلف بيننا

وبينهم بما أقمناه في هذا الكتاب من البينات العلمية القطعية، على أن القرآن لا

يمكن أن يكون من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا من مدارك عقله الظاهر،

ولا ما يسمونه العقل الباطن؛ فإذا فرضوا أن للإنسان عقلاً باطنًا لا تعرف حقيقته

يدرك به من علم الغيب والشهادة ما هو خفي وخارق للعادة في السنن المعروفة

لكسب العلم من الحواس والفكر، وعللوا به ما يسمونه قراءة الفكرة ومراسلة الأفكار،

وإدراك المنوم بالاستهواء المغناطيسي - وقد بينا لهم أنه لا يكفي لتعليل الوحي

المحمدي - فأي بُعد بين هذا العقل الخفي المفروض في باطن الإنسان وبين وجود

عقل خفي مثله في خارجه (وهو ما نسميه الملك كما نسمي الأول الروح) يكون

الوحي الحقيقي باتصال أحدهما بالآخر كاتصال الكهربائية الإيجابية بالسلبية، وتولد

النور من اتصالهما، فإن ما زعموه من انقداح وحي القرآن من عقل محمد الباطن

وحده محال كما قررنا، وهذا أقرب التعليلين، والفرق بينهما قريب جدًّا؛ فما ثَمَّ إلا

اختلاف الأسماء.

وفوق هذا وذاك قيام البراهين الكثيرة على وجود الله الخالق لكل شيء، الذي

دون الإيمان به لا يمكن القطع بشيء من مسائل الكون وسننه، فإنهم كلما أثبتوا

شيئًا عادوا فنفوه، وكلما أبرموا أمرًا نقضوه.

لقد قرب ظهور الحق لأحرار هذه الشعوب، وسنراهم بعد ترجمة هذا الكتاب

يدخلون - إن شاء الله - في دين الله أفواجًا، وقد بطلت ثقتهم بكل ما عداه من

الأديان.

لعل كتاب الوحي المحمدي قد وصل إلى جميع هؤلاء المستشرقين الذين

يعرفون العربية، فإنني أهديته إلى من عرفت عناوينهم، وأرسله غيري إلى أناس

منهم، ومن عاداتهم أن يبحثوا عن كل كتاب جديد له شأن، وقد شكر لي بعضهم

هذه الهدية بكلمة لم يزد عليها (كصاحب مفتاح كنوز السنة، الدكتور فنسنك)

وانفرد العلامة الدكتور موريتس الألماني منهم بإبداء رأي فيه، فأنشر هنا نص

كتاب الشكر الذي تفضل به، وهو:

برلين 8 سبتمبر سنة 1933

جناب الشيخ العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم.

بعد التحية والاحترام: فتفضلتم بإرسال إليَّ نسخة كتابكم الجديد (الوحي

المحمدي) فالرجاء قبول جزيل الشكر على هذه الهدية النادرة القيمة،

وبالخصوص على ما أظهرتم بها من عدم نسيان شخصي، ولا حاجة للتأكيد لكم

أني اطلعت عليه بغاية الاهتمام، ولا ريب عندي أنه يجد كمثله في عالم العلماء.

وفي أثناء هذا الاطلاع قد عثرت على جملة مسائل ونقط تستحق ملاحظات، لكن

نظرًا لحجم هذا الجواب الذي لا يتسع أن أدخل في جميعها، أقتصر بواحدة منها،

أي في معنى كلمة نبيء الأصلي (ص21) عند العبرانيين القدماء، فكان (نبيأ)

في أوائل عصرهم المتكلم بصوت عالٍ، ثم الناطق في أمور أمته القضائية

والسياسية، أي مثل ناصح ومستشار لإرشادها، لكن شيئًا فشيئًا تتبعًا لتقدم الدين

الإسرائيلي تغير موقعه وصفته فصار واعظًا وناصحًا في الأمور الدينية؛ لأنه كان

معتقدًا أن هذه الوظيفة صارت له، بناء على أمر من الله بذلك، وأنه المتكلم باسم

الله، والدليل على ذلك أنه يستعمل في أول كلامه - أي نبوته - هذه الكلمات:

هكذا قال ياهُو (وهو اسم إله بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الشرقية المنتشرة

بين الحجاز وبين سوريا الشمالية)

إلخ.

وفي الختام أكرر لكم الشكر الواجب مع تمنياتي الصميمة.

...

...

...

...

... المخلص

...

...

...

...

دكتور موريتس

يقول هنا العلامة الكبير: إن هذه الهدية نادرة القيمة، وأنه اطلع على الكتاب

بغاية الاهتمام، وأنه لا يرتاب في أنه يجد في عالم العلماء ما ينبغي لكتاب مثله،

فهؤلاء العلماء قد بلغتهم دعوته، وفهموا ما تحديتهم به من الآية الكبرى على نبوة

محمد صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه من وحي القرآن، ولم يقدر أحد منهم

أن ينقضها، أو يأتي بتعليل لهذه المعجزة الدالة على إتيان محمد - صلى الله عليه

وسلم - بهذا القرآن في أسلوبه ومعانيه، وما فيها من العلوم العالية التي لخصتها

في المقاصد العشرة ولتأسيس أقوم دين وأقوى دولة وأمة في عشر سنين قَلَبا أعظم

دول الأرض وأديانه في ثلث قرن.

وما ذكره الدكتور من الملاحظة على بعض مدلول لفظ (النبي) عند اليهود

فهو منقول من قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوسط، وقد ذكرت المعنى الذي أشار

إليه في كلامي على النبوة من الطبعة الثانية (ص 25) وهو في (41) من هذه

الطبعة الثالثة.

ولا أزال أتمنى لو يتفضل عليّ بغير هذه الملاحظة، وأخص بالذكر ما عساه

ينتقده من جوهر الموضوع ولبابه، وإذن أرويه عنه بنص وأبلغه جوابي عنه.

تعادي الأمم والدول وحاجتها إلى الإسلام:

لا تزال دول أوربة وأمريكة وشعوبهما على ما وصفتهما به في مقدمة هذا

الكتاب من الشقاء والشقاق، والرياء والنفاق، وقد عقدوا في هاتين السنتين مؤتمرًا

بعد مؤتمر واتفاقًا بعد اتفاق، ولا يزالون كحمار الرحى يدور ولا يبرح مكانه،

ليس للحق ولا للصدق عندهم قيمة، فقد ظلوا منذ عقدوا عهد (فرسايل) يجرون

فيه مع ألمانية على قاعدة البرنس بسمارك (المعاهدات حجة القوي على الضعيف)

حتى إذا اضطروها إلى نقضها سرًّا، كما نقضوها جهرا. وتجديد قوة حربية جوية

يرهبونها، أذعنوا لمساواتها لهم في الحقوق والكرامة الدولية كرهًا، وكانوا يمارون

فيها ويأبونها طوعًا، بل صاروا يخافونها أن تسطو عليهم، ويجددون المحالفات

الدفاعية التي أفضت إلى الحرب العامة السابقة، حتى ذلوا لمحالفة الدولة الشيوعية

عدوتهم كلهم، وأنَّى لهم الفرار من حكم كتاب الله في الأمر بالوفاء بالعهود والنهي

عن جعلها دخلاً وخداعًا لأجل أن تكون أمة هي أقوى من أمة، فتكون المعاهدات

أنكاثًا لا مندوحة عن نقضها كما بينا ذلك في محله [1] .

بغوا واستعلوا على ألمانية وهم يعلمون أنها تعلوهم علمًا وصناعة ونظامًا،

وفرائصهم ترتعد فَرَقًا من استعدادها السري للحرب، وقد ذاقوا بطشتها القاهرة،

التي كادت تفتك بهم كلهم من قبل، ولكنهم اتكلوا على خداع معاهدتهم الخاطئة

الكاذبة، وعلى تجديد محالفاتهم التي قصدوا بها أن يكونوا إلبًا واحدًا عليها، وأن

تكون في عزلة لا تجد فيها وليًّا ولا نصيرًا.

صاح زعيمها المجدد (هتلر) صيحة بنقض تلك المعاهدة، وتجديد السلاح

الجوي والبحري والتعبئة؛ فراعتهم كزئير الأسد يجفل الغنم، وقالوا: إن سلم

أوربة وحربها رهن يديه، وعمرانها وخرابها بين شفتيه، ظلوا يصيخون السمع لما

سيقوله في خطابه السياسي العام، حتى إذا ما ألقاه كان حجة بالغة له، دامغة

لخصومه، وصادعة لآخر حصن لدول الاتحاد الثلاث في وجهه (اتفاق ستريزا)

فعادت إنكلترة تفاوض ألمانية في قواتها الجوية والبحرية، وكانت تستكبر عن هذا،

وكشرت عن أنيابها لإيطالية فيما تحشره من جيوش وذخائر للعدوان على دولة

الحبشة المعتصمة معهم بعهد عصبة الأمم، الذي هو في نظرها كسائر العهود

الأوربية حجة القوي على الضعيف، وقد رأوا كيف رفضته بل رفسته كل من

اليابان وألمانية برجلها، ولكن البلية كل البلية في تعارض مطامع الأقوياء، فزعيم

إيطالية مغتر بقوتها، جانح لفتح الحبشة أو نقصها من أطرافها. وإنكلترة أعز منها

وأقوى، وإن هذا لصدع في اتحاد هؤلاء الأحلاف لا يلتئم؛ فهذا الزعيم المعتز

بسلطانه الشخصي يرى خيبته بعد الشروع في وسائل الزحف قضاء على نفوذه،

وأمته في اضطراب لا ينقذها منه إلا فوزه فيه، وألمانية لابد لها من استعادة جميع

مستعمراتها، وهي أقدر على إخضاع إنكلترة في الهواء والماء. وماذا تفعل فرنسة

إذا تركته إنكلترة؟

وجملة القول أن هذه الدول وشعوبها لا تزال - ولن تزال - على ما وصفناها

به في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب من فساد لا علاج له إلا هداية الإسلام، دين

الأخوة الإسلامية والعدل والرحمة والسلام؛ فيجب المبادرة إلى تبليغ دعوته،

وإقامة حجته، وهو قد أعد عقلاء المسلمين لتعميم هذه الدعوة عندما ينهض زعيم

مسلم لكفالتها وتوحيد النظام لها، ويرى قارئه الشواهد على هذا فيما نشرناه من

التقاريظ في آخره، وفي مقدمتها قول شيخ الإسلام المراغي لمؤلفه: إنكم وفقتم

لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي.. . إلخ، وسائرها مؤيد لقوله، يدل على

استعداد في الأمة لتنفيذه.

استعداد المسلمين لدعاية الإسلام:

ذكرت في آراء شيخنا الأستاذ الإمام من تاريخه (ص939، ج1) أن أمم

الحضارة في الغرب سيذوقون من فتن مدنيتهم ومفاسدها السياسية ما يضطرهم إلى

طلب المخرج منها، فلا يجدونه إلا في الإسلام - إسلام القرآن والسنة لا إسلام

المتكلمين والفقهاء - وأنه صرح بهذا مرارًا في دروسه في الأزهر وفي غيره.

وأقول الآن: لكنه ما سمع لقوله هذا صدًى، ولا وجد على نار المسلمين

هدًى، فكان يرجح أن هداية القرآن ستظهر في غيرهم من الشعوب الحية، وأن

هؤلاء المسلمين الجغرافيين سيطلبون إسلام القرآن والسنة منهم تقليدًا لهم كما

يقلدونهم في الزينة والإباحة والإسراف في الشهوات الذي أفسدهم جميعًا.

وسمعت مثل هذا الرأي من الأستاذ المراغي وغيره من الأفراد، ولعلي أوسع

علمًا واختبارًا لمسلمي الأقطار من كل هؤلاء، وأجدر منهم بسوء الظن فيهم، ولكن

ظهر لي بتقبل عقلائهم لكتاب (الوحي المحمدي) بما تقبلوه به من إيمان وشهادة

ورجاء وثناء ودعاء، أن استعدادهم لهداية القرآن والدعاية له قد دخل في طور

جديد، ألم تر كيف تجاوبت أصوات المقرظين له في مصر وسورية والعراق

وغيرها من الأقطار بقول القائلين إنهم كانوا يفكرون ويتمنون ويتساءلون قبله عن

كتاب يصلح للدعوة إلى الإسلام فلا يجدون، حتى إذا رأوه وجدوه الضالة التي

ينشدون؛ أو لم تر كيف شاركهم فيها أئمة المسلمين وملوكهم المتقون؟

فعلم من هذا أن المسلمين لا يمكن أن تعود إليهم الحياة إلا بمثل ما بدأ به

سلفهم من روح القرآن وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام مالك:

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما ذلك إلا أن يكونوا على علم

بالقرآن يوقنون به أنه مصلح لجميع البشر، وأن حملته يجب أن يكونوا أئمة البشر

وهداتهم، والمصلحين لما أفسدته المدنية المادية من عقائدهم وأخلاقهم، فإن لم

يملكنهم هذا اليقين فلا رجاء في دينهم ولا دنياهم، ولكن نشر هذا اليقين فيهم يتوقف

على نظام وزعامة يثق بها الخاص والعام، وسيرون الدعوة له تبث في هذا العام،

وسنرى قد استعدادهم لتأييدها بأموالهم وأنفسهم فيسرنا - إن شاء الله -: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

...

...

...

...

منشئ مجلة المنار

_________

(1)

راجع ص 148 طبعة أولى، وص 252 طبعة ثانية، وص 270 طبعة ثالثة.

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

نَوَّهْنَا في الجزء الماضي بحفاوة الأزهر بعودة الشيخ المراغي إلى رياسة

مشيخة الأزهر والمعاهد الدينية ومشاركة جميع طبقات الأمة لهم فيها، وقد وعدهم

بأن يرد لهم الزيارة في الجامع الأزهر نفسه ويلقي عليهم خطابًا عامًّا، ووفّى بوعده

فكان يومًا مشهودًا ألقيت فيه الخطب والقصائد في تهنئة الأزهر وأهله بإمامهم

المصلح الأكبر، ثم ألقى عليهم الأستاذ الخطاب الآتي الجامع لمقاصد الإصلاح

والتجديد وكانت آلة مضخمة الصوت توصل كلامه إلى أقصى أولئك الألوف

المجموعة كأدناهم، وهذا نص الخطاب، والعناوين في أثنائه من وضع المنار:

بسم الله الرحمن الرحيم

له الحمد على نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه..

وبعد: فقد رأيت واجبًا عليّ أن أزور الأزهر قبل بدء الدراسة لأحيي علماء

الأزهر والمعاهد، وطلبة العلم في الأزهر والمعاهد في دارهم كما حيوني في داري،

والأزهر دار خاصة لكل من ينتسب إلى العلم، ودار عامة للمسلمين،

وقصدت أيضًا إسداء النصيحة إلى إخواني العلماء وأبنائي الطلبة بنسيان ما قد يكون

باقيًا في نفوسهم من ضغائن وإحن سببتها الحوادث الأخيرة التي تعرفونها؛ لنستقبل

الحياة العلمية في صفاء، ونقبل على العلم بقلوب مخلصة لله ورسوله، نقية من

دنس الغل والحقد، عامرة بالإيمان.

والأزهر مكان يستحق الإجلال؛ فقد كان - ولا يزال - مصباحًا تستضيء

به جميع الأمم الإسلامية، ومنبعًا صافيًا لعلوم الدين، ومستودع فنون العربية

وأسرارها وبعض العلوم العقلية.

وقد اضطلع بحمل عبء المعارف الإسلامية وغيرها، وخاصة بعد سقوط

بغداد وضياع ذخائرها العلمية، وصار المثابة الأخيرة، والكعبة التي يؤمها طلاب

العلم من جميع الأقطار، وما من بلد في مصر، بل وما من بلد في أي قطر من

الأقطار الإسلامية إلا وهو مدين للأزهر بما يعرفه أهله من الدين الإسلامي، وبما

بقي عندهم من علوم العربية.

حمل الأزهر هذا العبء وأدى الأمانة كاملة، وله الفضل على المعاهد العلمية

القائمة بجواره في مصر؛ فهو أستاذها، وهو شيخ هذه المعاهد جميعها.

نعم: قد استقلت عنه بعض المعاهد أخيرًا، ولكنه لا يزال له نصيب عظيم

من التثقيف في المعارف الإسلامية وفنون العربية في أكثر هذه المعاهد؛ فلَكُمْ أن

تفخروا بتاريخ طويل كله مجد وعظمة لهذا المعهد الذي تنتسبون إليه: تاريخ ظهر

فيه من الأئمة والعلماء والمؤلفين من خريجي الأزهر من لا يحصيهم العد، وقد

كانوا سبّاقين للخيرات، وكّلوا أمرهم إلى الله - جل شأنه - فحفظهم ورعاهم،

وشرح صدورهم، وأنار عقولهم؛ فترسموا آثار الرسول الأكرم - صلوات الله

عليه - وتخلقوا بأخلاقه، واعتصموا بهديه، وانتفع الناس بعلمهم وتأدبوا، وحلت

آثارهم في البلاد جميعها كما يحل ضوء الشمس ونور القمر.

أولئك آباؤنا وأجدادنا في سلسلة النسب العلمي، رضي الله عنهم ونفعنا بهم.

يجب أن نذكر هذا المجد ونفاخر به، ونحرص على الانتساب إليه كما

يحرص الأشراف على أنسابهم، وأن نحافظ على هذا المجد ونضيف إليه مجدًا

طارفًا، اقتداء بأولئك الآباء والأجداد.

قد يسأل بعض الناس ما فائدة الأزهر؟ أو ما هي رسالة الأزهر كما يقال

اليوم؟ فأقول لهؤلاء: رسالة الأزهر هي حمل رسالة الإسلام، ومتى عرفت رسالة

الإسلام عرفت رسالة الأزهر.

موضوع الإسلام واتفاقه مع علوم العصر والحاجة إليها:

الإسلام دين جاء لتهذيب البشر، ورفع مستوى الإنسانية، والسمو بالنفوس

إلي أرفع درجات العز والكرامة، قد طوح بالوسطاء بين الناس وربهم، ووصل

بين العبد وربه، ولم يجعل لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى، وقدس العلم والعلماء،

وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات. وما قرره في ذلك هو

منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل، وأتى بتعاليم كلها ترجع إلى

تهذيب النفس، وتلطيف الوجدان، وأبان أصول الأخلاق، وشرع حل التمتع

بالطيبات، ولم يحرم إلا الخبائث، ووضع حدودًا تحدُّ من طغيان النفوس ونزوات

الشهوات، ورسم أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين، قواعد كلها لخير

البشر وسعادة المجتمع الإنساني.

هذه صورة مصغرة جدًّا للدين الإسلامي، ورسالة الأزهر هي بيان الدين

الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى هذه الرسالة على وجهها فقد أدى

نصيبًا عظيمًا من السعادة والخير للجمعية الإنسانية.

في القرآن الكريم حثٌّ شديدٌ على العلم، وعلى معرفة الله، وعلى تدبر ما في

الكون؛ وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق، فالدين الإسلامي

يحث على تعلم جميع المعارف الحقَّة، وليس في المعارف الحقَّة الصحيحة المستقرة

شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها.

نعم: قد توجد معارف تناقض بعض ما وضعه العلماء في شرح القرآن

والحديث والفقه وغيرها، ولكنا لا نهتم لهذا؛ فليَسِر العلم في طريقه، ولنصحح

معارف الماضين، لكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني

المستقر.

ولست أقصد بحديثي هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية

للكيمياء أو ما يشبه هذا، ولكني أعني أن هناك علومًا ومعارف لها صلة بالدين

وثيقة تعين على فهمه، وتبرهن على صحته، ويدفع بها عنه الشبهات، هذه العلوم

يجب أن يتعلمها العالم الديني، أو يتعلم منها القدر الضروري لِمَا يوجِّه إليه.

هذا وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها

ضروريًّا لنشرها وترغيب الناس فيها، ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة

الحديثة: وازنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب

النفوس إليها، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر الناس عنها، وقد

توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفًا، وأغلى قيمة، وأمتن مادة، ومع ذلك

هي في كساد.

تغيير طريقة التعليم والتصنيف:

وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث

العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي الملل والسأم.

حدثت هذه الطرق في إلقاء الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب

أيضًا، وهذا المثل ينطبق علينا: ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي

جميع العلوم التي تدرس في الأزهر أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة

العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث

النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس

الآن من غير حرج، وتحقق العدالة في أكمل صورها؛ ولكن هذه النظريات البالغة

منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم.

على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وأن ييسر لهم هذه المعارف،

وأن يعرضها عرضًا حديثًا جذَّابًا مشوقًا.

تطهير الإسلام من البدع:

ومسألة أخرى يجب أن يعنى الأزهر بها: تلك هي تطهير الدين الإسلامي من

البدع وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده. هناك آراء منثورة في كتب

المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها، ضنًّا بكرامة الفقه والدين.

ومن الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في

المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها.

وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب (الولاة والقضاة) للكندي:

(كان في مصر قاضٍ شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي، وكان

يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب، وكان

مرضي الأحكام، لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه، سأل ذلك القاضي

الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الواقعات، فقال الطحاوي: أتسألني عن

رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ فقال القاضي: ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي:

ظننتك تحسبني مقلدًا، فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟

فتَخيُّر الأحكام نوع من الاجتهاد، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه.

إصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم الإسلامية في

مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

بل أقول: إن هذا الإصلاح ضروري للأمم غير الإسلامية كلها بما يؤديه من

الخدمة للحضارة الإنسانية العصرية التي تنقذها مما هي عرضة من خطر الإباحة

المادية والإلحاد، اللذين يبثهما في الأمم دعاة البلشفية والتعطيل الجاحدين لوجود

الخالق والبعث والجزاء على الخير والشر؛ فهذا الخطر لا علاج له إلا هداية

الدين [1] .

وأنا أرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في

النهوض بالأزهر، فإن الإخلاص في ذلك إخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين، وللدين

الحق، الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر.

احترام حرية الرأي:

ونصيحة أقدمها للعلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيًا تدبرها، وهي احترام

حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر.

ولا أطالب بشيء يعد بدعة، ولا أحدث في الدين حدثًا بهذه النصيحة؛ فهي

موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة رضي الله عنهم وترونها مبسوطة

واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي.

وحاصلها - على ما أذكر - أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها [2]

كالصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا.

أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب

الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقًا، على شرط أن

يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع.

على هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم وأجمع عليه الأئمة، ولم

يعرف أن بعضهم أثم بعضًا.

وإجمال القول أنه ما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئًا منه، ولا

يكذب ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم بطرق قاطعة، فهو مسلم لا

يحل لأحد أن يتهمه بالكفر.

عرضت لهذه النصيحة؛ لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس،

والعمل بها يمكِّن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة، والعلم على خلافها

منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة.

أسأل الله أن يهبنا رشدًا، وأن يملأ قلوبنا خشية وهيبة من جلاله، ويملأها

عطفًا وشفقة ورحمة لعباده.

وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم، فمن أول واجب على

أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات: لغات الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولاً إلا

بلسان قومه ليبين لهم.

فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلاً يفقهونهم في دينهم بلسانهم،

وسأُعنَى بهذه المسألة، كما أُعنَى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون (أغرابًا)

فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، وأرجو

أن يفكروا طويلاً فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع.

وخليق بنا أن نذكر ما لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم من منن وأيادٍ

بيضاء على المعاهد الدينية، وأن نسأل الله - جلَّت قدرته - أن يسبغ عليه نعمة

العافية، ويديم على هذه المعاهد خيره وبره، وأن يحفظ حضرة صاحب السمو

الملكي أمير الصعيد، ولي عهده المحبوب، والسلام عليكم ورحمة الله.

_________

(1)

هذه الجملة مما زاده الشيخ الأكبر في خطابه ولم يكن مكتوبًا فيه، ولكننا سمعناه منه.

(2)

المنار: المراد من الضروري: المعلوم من الدين بالضرورة، لا الضروري في العمل، أي الذي يضطر الناس إلى العمل به، واشترطوا في هذا المعلوم بالضرورة مكفرًا أن يكون مجمعًا عليه، وهو يشمل العقائد والأحكام، ولعل الشيخ الأكبر خص المسائل الفقهية بالذكر لأجل التفصيل الذي ذكره بعدها.

ص: 41

الكاتب: محمد توفيق علي

‌الهمزية في مدح خير البرية

والدفاع عن الدين، والرد على المبشرين

(نظمت بمناسبة احتفال الأمة الإسلامية بالمولد الشريف لعام 1354)

بقلم (الأديب الشاعر) اليوزباشى محمد توفيق علي

النور المحمدي - الشريعة السمحة - تحريم الخمر - نجاسة الكلب

والخنزير - حكمة الطلاق - حكمة تعدد الزوجات - تبشير الإنجيل والتوراة بنبي

الإسلام صلى الله عليه وسلم المبشرون بعيسى صلى الله عليه وسلم نقائض معقدة - مقارنة بين معجزات المسيح ومعجزات غيره من الأنبياء والرسل - وجوب توحيد الخالق جلَّ وعلا - التجاء الناظم إليه تعالى.

* * *

النور المحمدي

ذلك النور ساطعًا والضياء

وصفه عنه يقصر البلغاء

نور من سبح الحصى في يديه

وجرى منهما وفاض الماء

أكمل الخلق صورة يبدع اللـ

ـه تعالى من نوره ما يشاء

مرسل جاوز السموات سبعًا

وإليه تناهت العلياء

وارتقى حيث لا ملائكة اللـ

ـه تعالى ارتقت ولا الأنبياء

صاعدًا في معارج القرب يحدو

هـ السنا ضافيًا ويغشى البهاء

ذو محيا يصبو له البدر عشقًا

وله تنتمي ضياءً ذكاء

رحمة كله وعلم وحلم

ووقار ونجدة وسخاء

مثل من أنجبت (كريمة وهب)

لم تلد عاقر ولا عذراء

* * *

الشريعة السمحة

ذو أتى بالنعيم ذكرًا حكيمًا

فإذا الأرض جنة والسماء

وحيه للعقول رَوح وريحا

ن وفيه من كل داء شفاء

آية منه تعجز الإنس والجـ

ـن ولو أن كلهم فصحاء

لم يكذب موسى وعيسى، وبغيًا

كذبته الشرور والأهواء

كيف تأتي على الشرائع آيا

ت وِضاءٌ وسمحة غرَّاء

وكتاب مفصل عربي

ليس يرضى بذلك البخلاء

كلما يرتقي الزمان يرى الخيـ

ـر أفاضته ملة سَحَّاء

سكبت صفوة الشرائع في كأ

س بها ترتوي العقول الظماء

* * *

الخمر

وأشهد اليوم ضجة تنكر الخمـ

ـر وكأس عنها سلا الندماء

بؤرة الشر والجرائر والآثام

أفتى بذلك الحكماء

رب بيت أقامت الخمر فيه

أجفلت عن رواقه السراء

فالعقول اشتكت إلى الله منها

والكلى والكبود والأحشاء

حرمتها دهرًا حكومة أمريـ

ـكا ونادى برجسها الفضلاء

ثم عادت تلغي أوامرها بعـ

ـد اهتداء وضلت الآراء

وسيأتي يوم قريب تزول الـ

ـخمر فيه وتصرع الفحشاء

ويرى الناس أن شرع أبي القا

سِمِ خير ونعمة وهناء

* * *

الكلاب والخنازير

أثبت الطب فضل شرعك والمجـ

ـهر والباحثون والعلماء

فلعاب الكلاب سم زعاف

ولحام الخنزير داء عياء [1]

* * *

الطلاق

واشتراع الله الطلاق أصبح في الـ

ـدنيا مباحًا يقرّه الفقهاء

عانقته كرهًا محاكم أوربا

ونادى بنفعه الأذكياء

كيف عيش الزوجين خانهما الـ

ـحب ولج الأذى وحال الصفاء

أعدوَّان يقرنان بحبل؟

حالة لا يطيقها السجناء

* * *

تعدد الزوجات

(جنسهن اللطيف) يزداد عدًّا

ذلكم ما يقوله الإحصاء [2]

فغدا اليوم الاجتماع مريضًا

واعتناق الزوجات فيه الدواء

ليس في غيرة النساء من المحـ

ـظور ما تستثيره البأساء

كيف تقوى فُضلى على عنت الدهـ

ـر وما قد يجره الإغواء

فتراهن من ثلاث ومثنى

ورباع شعارهن الإخاء

فمن العدل بينهن وفاق

والمساواة ألفة وهناء

وهو فرض على المعدِّد لا يقـ

ـوى على حمل ثقله الضعفاء

إن في رفق شرع أحمد بالأنـ

ـثى لفضلاً يجلّه الشرفاء

وقديمًا حمى الضعاف ونجّا

هن مما يخفنه الأقوياء

* * *

تبشير الإنجيل والتوراة بنبي الإسلام

صلى الله عليه وسلم

عظُمت تلكمو الأناجيل والتو

راة لولا تقوُّلٌ واجتراء

أيّ عهد، لكنهم ضيعوه

إنما يحفظ العهودَ الوفاء

بدلوا الوحي والرسالة إطفاء

لنور ما إن له إطفاء

شهد الصادق المسيح عليهم

في الأناجيل أنهم أشقياء

في ثياب الحملان منهم ذئاب

خاطفات فما همو أنبياء

فاحذروهم وإن أتوا بالأعاجيب

فليسوا مني وهم أدعياء

لست أرضى من قال يا رب منهم

لي ولكن يرضيني الحنفاء

ذلكم ما رواه إنجيل (متّى)

فليراجع نصوصه القراء [3]

* * *

المبشرون بعيسى

عجبًا للمبشرين بعيسى

أمةً دينها الهدى والصفاء

بعد ما بشر المسيح بهاديها

كما بشرت به الأنبياء

فهو (نور الحق) الذي لفت النا

س إليه المسيح وهو (العزاء)

وليراجع من شاء إنجيل (يوحنا)

ففيه للباحثين الرضاء [4]

وهو ذاك النبي يسأل في الإنـ

ـجيل عنه يحيى فأين الخفاء [5]

فلقد بشرت ببعثته التو

راة لولا جحودهم والمراء

فهو ذو من (جبال فاران) مبعو

ث ومن تلكم الجبال (حراء)[6]

أينع الوحي وازدهى في ذراه

وتغنى فأطرب الإنشاء

وتجلى على البسيطة نور

وكسا الكون رونق ورواء

حِكَمٌ حين أُنزلت ختم الوحـ

ـي وتمت على الورى النعماء

وطوت معجزاتِ كل رسول

ولها الخلد وحدها والبقاء

* * *

نقائض معقدة

يا لها من نقائض تحرج الفهـ

ـم عليها لَبسٌ وفيها التواء

واعتقاد مُعقد ذَنَب الضَّبِّ

لديه محجة واستواء

يُصلَب الرب في خطيئة عبد

كيف يرضى بذلك العقلاء

لِمَ لَمْ يغفر الخطيئة غفرا

نًا له فيه عزة وإباء

إن يكن ربَّكم فمن كان يدعو

ربه وهو خاشع بكّاء

أإله في وجهه يبصق الأشرار

هزؤًا ويزدرَى ويُساء

لِمَ لَمْ يُقطِّع اليهود أبوه

كيف تنسى حنوَّها الآباء

وبِكَمْ باع ذا الجلال يهوذا

واشترى منه ربَّه الأعداء

(أثلاثون فضة) ثمن الله

تخطاه بيعهم والشراء

بل أحبوك مسرفين وغالَوْا

في ولاءٍ هُداك منه براء

***

مقارنة بين معجزات المسيح وغيره من الأنبياء

عليهم الصلاة والسلام

أم لأن المسيح قد أنجبته

ذات طهر صِدِّيقة عذراء

مثله آدم: فهل كان ربًّا

آدم؟ أو إلهة حواء؟

أم لأن المسيح أحيا فتاة

إذ دعا اللهَ فاستُجيب الدعاء

" حزقيال " النبي أنشر جيشًا

عاث في البلى وجال الفناء [7]

أم مشى فوق لجة يتهادى

فارعوى خاشعًا وقرَّ الماء

فالعصا قد علمتم انفلق البحر

لموسى بها وحل القضاء [8]

وله البينات والجبل المنتوق

والمن واليد البيضاء

ولخير الورى المكمل صلى

الله

والمتقون والأصفياء

معجزات ما أن يلم بها الحصـ ـر ولايستطيعها استقصاء

نصرته الرياح والرعب في (الخنـ

ـدق) حتى تشتت الحلفاء [9]

وتراءى جبريل يسطع في (بد

ر) تليه كتيبة شهباء

وله الجذع حنَّ والقمر انشـ

ـق وظهر البراق والإسراء

ومشت أيكة إليه دعاها

تسحب الجذع غضة خضراء

ولكَم سحّ -إذ دعا ربه- الغيث

ولانت لوطئه صفواء [10]

ما له إن مشى على الأرض ظل

ساطع النور ما له أفياء [11]

وظللته -بل منه ظللت- الشمس

لزامًا غمامة وطْفاء [12]

كم دعا الله والغذاء قليل

فنما واستفاض ذاك الغذاء

* * *

وجوب توحيد الخالق جل وعلا

آن للأرض أن تقدس ربًّا

واحد الذات ما له أجزاء

آدم عنده ونوح وموسى

والمسيح الذي نجلّ سواء

وغنيٌّ عن العباد جميعًا

ما له زوجة ولا أبناء

وله الخلق أجمعون عبيد

وله المجد كله والبهاء

ورءوس الطغاة موطئ نعليـ

ـه [13] وتلك الجلالة القعساء

ملأ الكائنات حسنًا ولكن

لا ترى الشمسَ مقلةٌ عمياء

فهو نور سطا على كل نور

خفيت في ظهوره الأشياء

تتلاشى الشموس فيه وتخبو

وتغيب البروج والأضواء

أيها المشرك المعدِّد وحِّد

إن قول المعددين هُراء

لو مع الله في السموات والأ

رض شريك لقامت الشحناء

بل هو الله واحد ما له في الـ

ـمُلك ثانٍ ولا له أكفاء

أيها الجاحد المعطل صدِّق

لا يكن من هداتك الأغبياء

وانظر الأرض والسماء وفكِّر

هل بلا صانع يقوم البناء؟

إنما الأرض ذرة في رحيب الـ

ـمُلك فالملك شاسع والفضاء

فاعبد الله -لست شيئًا- ولا تكـ

ـفُر وتذهب بلبِّك الخيلاء

أنت رد على جحودك قاض

فصلته العروق والأعضاء

* * *

التجاء الناظم إليه تعالى

ما الذي تبلغ النوائب مني

يا مليكى ولي إليك التجاء

أنت درعي وأنت سيفي ورمحي

ونبالي وعسكري واللواء

لا أبالي وذو الجلال نصيري

أن خصمي الملوك والوزراء

لست بالأقوياء أحفل لكن

إن شكاني لعدلك الضعفاء

لك يا رب بطشة إن تعاقب

عندها الأرض والسماء هباء

إن تكن غاضبًا عليّ تعاليـ

ـت فلا ناصر ولا شفعاء

عملي سيئ وظلمي لنفسي

ولغيري تضج منه السماء

أستحق الصليّ في النار لكن

لي في عفوك الكريم رجاء

ليس مثلي لجنة الخلد أهلاً

كيف ترنو لمذنب حوراء

ذلك الفضل في غنى عن طلوحي

إنما يستحقه الصلحاء

رُب نُعمى على جحود تولَّت

ما لنُعمى على جحود بقاء

كيف آسى على سرور تولى

ويَسارٍ أودت به ضراء

إن من كنتَ كنزه وغناه

يستوي الضيق عنده والرخاء

ليست الكيمياء منا بعيدًا

إنما حمد ربنا الكيمياء

لست أخشى ضلالة ولقلبي

بسنا وجهك الكريم اهتداء

فاهدنا للفلاح والخير والتقـ

ـوى فمنك الهدى ومنك الحِباء

واحمنا في بلادنا من أوربا

سيلها جارف ونحن الغثاء

(انتهى)

_________

(1)

انتشر إنشاء المستشفيات للمعالجة من داء الكلب، وأثبت العلم وجود ديدان سامة في لحم الخنزير لا تقتلها درجة الغليان.

(2)

ومن ذلك الإحصاء ما جاء بالصفحة السابعة بالعمود الخامس من جريدة الأهرام الغراء الصادرة في 3 - 5 - 1935 تحت عنوان (النساء كثيرات) من أنه يوجد في ألمانيا وحدها مليونان ومائتا ألف امرأة زيادة عما فيها من الرجال.

(3)

جاء بالإصحاح السابع من إنجيل متّى عدد 15 و 21 و 22 و 23 قول المسيح: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان لكنهم من داخل ذئاب خاطفة ليس من يقول لي: يا رب، يدخل ملكوت السماء، بل الذي يفعل: إرادة أبي الذي في السموات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) .

(4)

ورد بالإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا بالآيتين 26 و 27 قول المسيح عليه السلام: (ومتى جاء (المعزى) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب (روح الحق) الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضًا؛ لأنكم معي من الابتداء) وجاء بالإصحاح السادس عشر منه بالآية 6 قوله عليه السلام: (لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم (المعزي) وبالآيتين 13 و 14: (وأما متى جاء ذاك (روح الحق) فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به) .

(5)

(6) يحيى بن زكريا عليهما السلام وهو المعروف في الإنجيل باسم يوحنا المعمدان، فإنه لما جاء قومه - كما هو مذكور بإنجيل يوحنا بالإصحاح الأول بالآيات 19 و20 و21 و22 - وسألوه: آنت النبي؟ أجاب نفيًا، وهذا نص الآيات سالفة الذكر:(19 وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت 20 فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح 21 فسألوه: إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا) وإذًا فقد كانوا يترقبون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما هو مذكور عندهم بالتوراة من أنه يبعث رسول من جبال فاران، وهي جبال بمكة، منها جبل حراء الذي ما زال ينقطع فيه صلى الله عليه وسلم للعبادة إلى أن أوحي إليه.

(7)

من أنبياء بني إسرائيل وقصته مبسوطة في سفره من العهد القديم وليس بثابت عندنا.

(8)

المنتوق: المرفوع.

(9)

الحلفاء: قريش، وغطفان، ويهود.

(10)

الصفواء: الصخرة الملساء.

(11)

الأفياء: الظلال.

(12)

الوطفاء: المسترخية الجوانب لكثرة مائها.

(13)

المنار: هذا كناية عن قهره تعالى لهم، وهو تعبير يتوقف على النص، ولم يرد، ولكن ورد لفظ (القدم) في قهر جهنم.

ص: 47

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الوحي المحمدي

لداعية الإصلاح العالم المستقل، والمناظر المستدل

الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

بأسيوط

وهو مما جاءنا بعد الطبعة الثانية (قال) :

نظر أبو العلاء المعري إلى نفسه فرآها وقد صفت ونجت من مزالق معظم

النفوس، وأدرك عقله نقيًّا من الخرافات والأوهام التي أضلت العقول، وألفى

روحه غنية بالفلسفة الصحيحة، التي ترى في المادة ستارًا كثيفًا يسدل على الحقائق،

ووجد شعريته فياضة بأرقِّ المعاني، في أدق الألفاظ والمباني، فهتف من أعماق

قلبه منشدًا:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

ونحن بدورنا ننظر إلى نفس السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار فنراها

وقد أشربت حبَّ الدين الإسلامي الحنيف والدفاع عنه إشرابًا، ونرى عقله وقد

أدرك أسرار الإسلام إدراكًا، ونلفي روحه صافية تقية نقية قد أنجبت أسمى الآثار

إنجابًا، ونسبَحُ في مؤلفاته فنعلمه الطود الأشم والفارس المجلَّى، والمحقق النادر

المثال، والكاتب المبخوت، الذي لا يُشَق له غبار، ثم نقع في سياحتنا على كتابه

(الوحي المحمدي) فنقف طويلاً، ونهتف مثل ما هتف المعري منشدين مخاطبين

السيد الرشيد المرشد:

وأنت وإن كنت الأخير زمانه

أتيت بما لم تستطعه الأوائل

ولقد كنا نؤمن بأن الله تعالى أوحى إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم

ما أوحى، مستدلين بنصوص القرآن الكريم وببعض البراهين العقلية التي تخير (؟)

الوحي إلى النفوس الصافية الراقية، ولكنا ما كنا قادرين أن نقنع بهذا ذوي

العقول العصرية، وأولي البحوث الدقيقة القوية؛ فإذا دار النقاش بيننا وبين فريق من

هؤلاء لم يعجبهم كثيرًا مما ندلي به وألقوا في سبيلنا عقابًا، وافتجروا [1] حفرًا،

وأقاموا متاريس، وغرسوا أشواكًا؛ فتنتهي المناظرة ولا اقتناع ولا رضاء وينشر عنا

العجز عن بيان وجه الحق في هذه المسألة مع أهميتها ونفاستها ونفعها العظيم إذا

أحسن تبيانها، وأتقن توجيهها وعرضها على طالبيها، فكان كتاب (الوحي المحمدي)

للسيد الشريف والمصلح الكبير، أستاذنا محمد رشيد رضا، صاحب المنار - وافيًا

بالمطلب على أتم وجوهه، كافيًا في الإقناع لأكبر متشبث متعنت، حجة صادقة لا

تُدفع على صحة الوحي الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العالمين

وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.

يرى قارئ " الوحي المحمدي " مقدمة وجيزة بديعة تجمل الكتاب وتبرز مغزاه

في صورة مستملحة جزلة طيبة، يعلم منها ما يحجب الإفرنج عن الإسلام: من

الكنائس المعادية، والسياسية الخادعة، وحال المسلمين الواهية، وما يعوق

الأجانب عن فهم القرآن: من جهل بلاغته، وقصور ترجمات القرآن عن إدراك

غايته، وعدم وجود دولة إسلامية تدافع عن هدايته، ويفهم منها القصد من الكتاب

على أتم وجه من وجوه الصواب.

ويجول القارئ بعد ذلك في جنة الكتاب الغنَّاء فيعرف معنى النبوة والوحي

والرسالة وحاجة الناس إليها، ويدرك عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -

ومقدار ما جنت عليها كتب السابقين بما يجرئ على الشرور والمفاسد، ويتيقن

وجوب إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتباعه هو الدواء

الناجع لأدواء الهيئة الاجتماعية.

ويتنقل القارئ من شجرة النبوة الوارفة الظلال إلى أن نبوة الرسول - صلى

الله عليه وسلم - هي الممتازة، فنبوة الأنبياء الإسرائيليين كانت - على قولهم -

أشبه بصناعة تتلقى في مدارس خاصة، ونبوة موسى الكليم عليه السلام قد

ينكرها الملاحدة؛ لأنه تربى في بيت فرعون وهو بيت علم وتشريع، فلا عجب

إذا جاء بشريعة كالتوراة. ونبوة المسيح عليه السلام يعقب عليها الملاحدة

أيضًا فينقصون قدرها ويغضون من قيمتها، ويقولون إنه لم يأت بشيء جديد. أما

نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن الطعن عليها بمثل هذا؛ لأن سيدنا

محمد صلى الله عليه وسلم كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولا يتصل ببيئة علم

أو شريعة، فمجيئه بهذا الدين دليل صدقه وحقيقة رسالته، والحقيقة أن نبوة

الرسول صلى الله عليه وسلم مثبتة لغيرها من النبوات لا تصح إلا من طريقها

ومشكاة نورها.

ويمتلئ القارئ بعد هذا علمًا وتحقيقًا حين يقرأ الفصول البليغة عن الأدلة

العقلية والكونية على صدق الوحي المحمدي الإلهي فيطمئن قلبه وتستريح نفسه،

وينشرح صدره، ويشكر لله توفيق السيد رشيد حتى ألف هذا الكتاب الذي أنار

طريق الوحي بآلاف المصابيح الكهربائية الساطعة القوية، ثم يرتوي القارئ من

نهر فياض، عذب صافٍ، يجري منه التحقيق ذهبيًّا عسجديًّا، فيعرف مقاصد

القرآن الكريم وهدايته للبشر وإظهار الحق في الإيمان بالله تعالى وفي عقيدة البعث

والجزاء، ويلمس الإصلاح القرآني العظيم للنفس والروح والجسد والأفراد

والجماعات، والنهضة التي أزجاها في الدولة السياسة والاجتماع والاقتصاد

والآداب وحياة الأسرة. فإذا انتهى من الكتاب خرج منه بكنز ثمين من العلم

الصحيح النقي، وانتقل إلى جو من السعادة فسيح بما وصل إليه من هدوء في نفسه

واطمئنان في قلبه، واقتناع في عقله لا يملك نفسه أن يصيح: حياك الله أيها

السيد الرشيد، لقد سدت بإصلاحك، ورشدت بمباحثك القيمة الدالة على إشراق نور الحق في قلبك، فهنيئًا لك عملك، ومشكور لك سعيك.

ولقد استوعبت كتاب الوحي المحمدي وهنئت باغترافه وارتشافه عدة مرات

فرأيته رحيقًا من العلم، مختومًا ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وأنا

أشهد صادقًا أن السيد أدى بكتابه إلى العالم الإسلامي أجلَّ الخدمات، وعبَّد للباحثين

من الغربيين والعصريين منهج البحث الهادي الرزين، القوي المبين، وأسقط حجج

الذين كانوا يحتجون بأنهم غير واجدين من يقدم لهم المطالب سائغة ميسورة.

وسيكون له - إن شاء الله - أثر جليل في توجيه المباحث الدينية وجهة طيبة في

صالح الإسلام ومستقبله العتيد بإذن الله.

ولقد ظهر إخلاص السيد في كتابه فطبع مرتين في أشهر، وأقبل عليه الشرق

والغرب، وتُرجم إلى عدة لغات. أدام الله نفعه، ونشر شذاه وعرفه، وأطال عمر

السيد ليتحف العالم الإسلامي بدرره الغالية وتحقيقاته السامية، إنه أكرم مسئول

وعلى كل شيء قدير.

...

...

...

مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

(المؤلف) : فات المقرظ الكلام في دعوة علماء شعوب الحضارة إلى

الإسلام وتحديهم بمعجزات القرآن.

* * *

الوحي المحمدي

بقلم

الأستاذ العلامة المتكلم الفقيه الكاتب النظار

إبراهيم الطفيش الميزابي الجزائري

أجل كتاب في علوم القرآن، وأفخم سفر في جلال القرآن، ومعجزة من

معجزات القرآن - كتاب (الوحي المحمدي) . طالع أيها المعتز بالقرآن، ويا

طالب منهاج الهداية المحمدية هذا السفر الجليل ترَ أبدع مؤلَّف وأسنى ما جاء به

القرآن من هداية البشر أجمعين. إن (الوحي المحمدي) علم وفق الله إليه مؤلفه

العلامة الجليل السيد رشيد رضا، علم مستخرج من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه

الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لقد كُتب في علوم القرآن كتب كثيرة، ولكنها لم

تبلغ أن تأتي بما جاء في الوحي المحمدي حتى أصبح هذا الكتاب آية في الإبداع،

وغاية في كشف معاني الكتاب المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. فيه

الحجة على البشر أجمعين.

إن القرآن يدعوهم إلى الانضواء تحت لوائه، ضامنًا لهم كمال السعادة

والشمول بالنعم الرحمانية وجلال العزة، إن هم أخذوا بما جاء به من عند الله الرحمن

الرحيم. كشف هذا الكتاب مناهج السعادة للأمم، وسبل الهداية الشاملة لطبقات البشر

وأجناسه، حتى أصبح عَلَمًا برأسه، يجب أن يعتنى بتدريسه بين الفنون العالية

لتخريج رجال عالميين في الهداية إلى شريعة الله التي أكملها وأتم بها نعمته

على خلقه.

لقد أخرج المصنف هذا الكتاب للأمم، وهو أحسن ما أخرج للناس من جهود

العلماء، فلا ريب أن العلماء في جميع الأمم ستتلقاه بالقبول، وسيترجم إلى جميع

اللغات؛ لأنه هو الكتاب الذي تنشده اليوم العقول السليمة في كل الشعوب،

وسيهتدي بهداه من أراد الله له السعادة من بين أولئك العقلاء الذين يسعون وراء

الحق لأنه الحق، ويدركون أن القرآن كتاب من عند الله هدى وبشرى لأولي

الألباب، لا سعادة للبشر إلا به، ولا سلام إلا باتباع هديه.

ولعلي أكون قد أديت واجبًا إذا لاحظت للمؤلف الجليل أن يعيد النظر في

مسألة الرقيق، فإن الإسلام جعلها حكمًا مستمرًّا ما فيه من حكمة اجتماعية، ولم

يوجد وضعًا لإبطال الرقيق بالتدريج السريع، ولكن الرقيق يبطل بطبيعته إذا دخل

كافة الشعوب في الهداية الربانية، فوجدوه وعبدوه واتبعوا النور الذي أنزل على

محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

* * *

أول كتاب من حضرة صاحب السعادة

هارون سليم باشا أبو سحلي

(مدير المنوفية في ذلك المعهد)

سيدي الأستاذ الأجلّ السيد محمد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد وصلني كتاب الوحي المحمدي الطبعة الثانية يوم سفري في رحلة بحرية

إلى مرسيليا، وكانت فرصة لمطالعته كله، وقد خرجت منه بأنه خير ما أخرج

للناس في موضوعه، وقد أعطيت التعليمات لمجلس المديرية لطلب 66 نسخة

ليكون في كل مدرسة أولية وابتدائية نسخة، ولما كان واجب كل مسلم نشر هذا

الكتاب بأوسع ما يمكن أرجو أن ترسلوا باسمي 300 ثلثمائة نسخة على محطة

شبين الكوم لتوزيعها، وثمنها 30 جنيهًا حسب البيان الوارد في كتابكم، نرسلها

عند إتمام التوزيع، وأختم كتابي هذا بتوجيه واجب الشكر لكم تلقاء هذا المجهود

العظيم المضني، وإني في انتظار الجزء الثاني، ولكم وافر التحية من المخلص.

...

...

...

... هارون سليم

...

...

...

في 31 أغسطس سنة 1934 م

(المؤلف) : إن هارون باشا هذا من خير رجال حكومتنا عناية بالدين علمًا

وعملاً، بل لا نعرف له في رجال الإدارة مثلاً، وقد طلب منا بعد ما تقدم مائتي

نسخة، ثم أرسل ثمنها، ولما كان المعهود من أمثاله رجال الإدارة أن يوزعوا على

وجهاء مديرياتهم كثيرًا من الكتب غير النافعة محاباة لأصحابها فيقبلها الوجهاء

إرضاء للمدير على كراهة موضوعها وغلاء أثمانها، وكان يعلم أن مثلي ينكر ذلك

عليهم - كتب إليّ أنه لم يتبع سننهم، وإنما بين للوجهاء موضوع الكتاب في إقامة

حجة الدين وبيان حقيقته، وأنه يعتقد أن قراءته واجبة عليهم وعلى أولادهم، ولا

سيما تلاميذ المدارس، ويخيرهم، وأني إذا شئت كتب إليّ أسماء من اشتروه لأسألهم،

فكتبت إليه: لا إنكار على من يدعو إلى الله فيما يتخذ من حض الناس على معرفة

عقيدتهم وأصول دينهم، فإنه يصدق على هؤلاء ما صح في حديث من (يقادون

إلى لجنة بالسلاسل) ، ثم اتفق أن رأيت نقيب الأشراف للمنوفية بمصر فأخبرني

مسلك المدير في الترغيب في الكتاب، وكيف تلقوه بالقبول شاكرين.

***

تقريظ جريدة حضارة السودان

أهدتنا إدارة مجلة المنار الغراء كتاب (الوحي المحمدي) الذي ألفه العلامة

المحقق مصباح الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء.

وقد جاءت مباحث هذا الكتاب كسائر مباحث مؤلفه الثمينة؛ سواء في تفسيره

القرآن الكريم، أو في مباحث مجلة (المنار) نورًا وهدى للناس في تبيان حقائق

الدين الإسلامي؛ فهو بلا ريب فتح جديد في الدعوة إلى هذا الدين الحنيف القويم،

وقد تمكن مؤلفه، وهو ذلك العبقري الديني الذي سيط دين الإسلام بلحمه ودمه،

من أن يوفق بين الدين والعلم بطريقة يعجز غيره عن الإتيان بها، فالرجل عالم

قوي الإيمان، وناهيك ما تنتجه قوة الإيمان إذا توافر معها العلم، والكتاب نفذت

نسخ طبعته الأولى قبل أن يحول الحول على طبعها لتهافت العوالم الإسلامية على

النهل والعلل من مورده العذب، وقد صدَّر طبعته الثانية بمقدمة استغرقت عشرة

مباحث هي وحدها تعد كتابًا، ثم أتى بعدها بفاتحة لها قد اشتملت على أربع مسائل،

ثم انتقل إلى الفصل الأول؛ وهو يشمل ست مسائل، فالفصل الثاني وفيه عشرة

مسائل، فالفصل الثالث وقد اشتمل على 17 مبحثًا، فالرابع وقد اشتمل على ستة

مباحث، فالفصل الخامس وقد اشتمل على 75 مبحثًا. وما من مبحث من هذه

المباحث يمر عليه المطلع إلا ويشعر أنه في أشد الحاجة إلى تفهمه من الوجهتين

الدينية والمدنية.

وقد ذُيلت طبعته الثانية بنحو 23 تقريظًا في مقدمتها تقريظًا للعاهلين العربيين

ملكي الإسلام: الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن، وصاحب العظمة السلطان عبد

العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد، في كتابين موجهين من لدنهما إلى المؤلف،

وتقريظ صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي المصلح

الإسلامي الكبير المعروف لدى سكان هذه البلاد، وتقريظ أمير البيان المشهور

الأمير شكيب أرسلان، وغيرهم من الأئمة الأعلام ورجال العلم والدين.

وإنا لنرى أن هذا السِّفر واجب على كل مسلم وجوبًا عينيًّا أن يطلع عليه وأن

يتفهمه ليتذوق منه حلاوة الإسلام، ويرى بمرآته بهجة القرآن ونوره ساطعًا يهدي

إلى سواء السبيل.

...

...

...

... عن حضارة السودان

...

...

...

بتاريخ 29 أكتوبر سنة 1934م

***

كتاب للفاضل الغيور الشيخ

محمد عثمان

- في إِلدورت - غنيا

بسم الله

حجة الله على العالمين فضيلة الأستاذ الأفخم، والمصلح الأعظم، السيد محمد

رشيد رضا، المجدد لدين الله والناشر لوحيه، أمد الله له في الحياة منصورًا، ولا

زال لإعلاء كلمة الله ظهيرًا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأرفع لفضيلتكم بأنه وافاني كتابكم (الوحي المحمدي) فخررت ساجداً لله

شكرًا عندما ظهر لي انتصار نوره الساطع، المنذر من لا يؤمن به بعذاب واقع،

ما له من دافع، وكم كان فرحي عظيمًا، وسروري جسيمًا، لا أستطيع أن

أشرحهما، فتلوته مرارًا، وكلما كررته ازداد شغفي حبًّا لتلاوة كتاب الله وتدبر

معانيه، وزادني همة ونشاطًا في تبليغه إلى أبناء وطني المهاجرين، وحضهم

على نشر الدين في هذه المستعمرة وأحيائها التي تقلص منها ظل الإسلام السائد

سابقًا، وتهدمت فيها لغة القرآن، وتقوض منها مجد الإسلام العربي الزاهر، في

العصر الغابر، بسبب تفريط مسلميه في نصرته، وركونهم إلى التوسل بأصحاب

القبور والتقرب إليهم بالقرابين والنذور، والآن بفضل الله وإرشاد مناركم الأغر،

شرعت تتلاشى البدع والخرافات، وتضمحل العقائد الفاسدة في أبناء الناطقين

بالضاد.

نعم يا صاحب الفضيلة، لقد أرهقتمونا بنعمكم الروحية، وتعاليمكم الدينية،

التي أخرستنا حيرة بأي لسان نقدم شكرًا، وجوارحنا وإحساساتنا كلها ألسنة شكر،

يا ليت شعري كيف أشكر، ويا ويح قلبي كيف أثني وأحمد بعد أن أثنت عليكم

نجوم الهدى، وكواكب الإرشاد، وشموس البلاغة، وأعلام الإسلام، وأرباب

الأقلام، وأمراء البيان، ولا يسعني والضعفاء إلا الدعاء لكم بما يحبه الله ويرضاه،

وأن أهنئكم بأصدق التهاني على نجاحكم الباهر في هذه المساعي الجليلة للإسلام

وأهله التي سيشتاقها كل سيد، ويقصر عن إدراكها المتناول، لاسيما إبرازكم لهذا

الوحي المحمدي المقدس أمام الأديان والملل نقيًّا من الخرافات والبدع التي ألصقها

بها علماء السوء المبتدعون، وكن عليه حجابًا من اهتداء العقلاء ومفكري الأمم

الراقية بهديه المبين، ووسائل لمطاعن الملحدين، ومثالب المكذبين، ولمَّا مزقت

هذه الحجب الجسام ببيانك، ودمغت حججهم ببلاغته السماوية، انقلبوا على أعقابهم

خاسئين، بتحدي آياته الكونية وعجائبه العصرية، ومعجزاته السرمدية؛ فأخرست

أفواههم عن الجدال، وبهرت أعينهم عن الاحتقار، ودككت عقائدهم عن النضال،

حتى آمنت القلوب، ولكن الألسنة والأفواه بآيات الله يجحدون

إلخ.

* * *

كلمة الأستاذ العلامة النقادة الشيخ

محمد البشير النيفر التونسي

(من علماء جامع الزيتونة الأعلام من كتاب طويل له في رمضان سنة 1353)

وكنت في أثناء هذه المدة أطالع مناركم المنير، وما يتخلف عني من أعداده

أشتريه من إحدى المكتبات، وكان فيما قرأت من مباحث التفسير ما كتبتم عن

الوحي المحمدي، فحمدت الله أن كان في علماء المسلمين في هذا العصر مثلكم،

وكنت أقول: لو قرأ هذا منكرو الرسالة المحمدية بإنصاف وفهموه حق فهمه لآمنوا

بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعون.

وقد كنت قرأته في المنار متفرقًا، ثم أعدت قراءاته متصلاً في الجزء الحادي

عشر من التفسير، فجزاكم الله أفضل ما جزى به خادمًا لدينه، وبارك في عمركم

تخرجون للناس أمثاله، فتكون كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى.

وما أنكرت فيه إلا كلمات في آيات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أذكر أنني

رأيت مثلها في إحدى مقالاتكم في (شبهات النصارى وحجج الإسلام) ا. هـ.

قد اختصرت في هذه الطبعة الثالثة أكثر التقاريظ التي نشرت فيما قبلها،

وحذفت بعضها لطولها وما فيها من التكرار ونقل بعض مسائل الكتاب للتنويه بها أو

مشاركة أصحابها لنا فيها، وبهذا وجدنا مكانًا لغيرها، ولم نتصرف بشيء من ذلك

بزيادة ما، ولا باختصار يغير المعنى.

* * *

حكمة نشر هذه التقاريظ

(ختمت بها تقاريظ الطبعة الثالثة)

الغرض من نشر هذه التقاريظ إعلام قراء الكتاب من غير المسلمين (ومن

الجامدين على تقليد المتقدمين منهم، الذين إذا رأوا كتابًا في الدين لمؤلف عصري

أعرضوا عنه ولم يقرءوه لظنهم أن الأحياء لا يوثق بعلمهم) أن ما فيه من أصول

الإسلام وحكمته متفق عليه ليس رأيًا مني فيه، وإن كان فيه ما لا يوجد في غيره.

ذلك بأن الأحرار المستقلي الفكر منهم يقيسون دين الإسلام على غيره من

الأديان فيظنون أنه أكثر عقائده وأصوله مسلمات غير متفقة مع العقل والعلم

الصحيح والمصالح العامة، ويظنون أن ما يسمعون من حكماء المسلمين موافقًا لذلك

هو رأي لهم، كما قال بعضهم في رسالة التوحيد للأستاذ الإمام إنها فلسفة الشيخ

محمد عبده سماها إسلامًا، وقال لي مستر متشل أنس الإنكليزي الذي كان وكيلاً

للمالية بمصر مرارًا عندما كنت أشرح له بعض أصول الإسلام وحكمته: هذا

فلسفة لا دين، حتى قال لي مرة: إذا كان علماء الأزهر يوافقونك ويوافقون الشيخ

محمد عبده على ما تقولون فأنا أعلن أني مسلم.

وهذا كتاب فيه من حكم الإسلام في أهم أصوله وفروعه أكثر مما في رسالة

التوحيد ومما كان يسمعه مني متشل أنس وأمثاله، وفيه من شواهد القرآن ما لا

يمكن أن يقال معها إنه من رأيي، وقد اتفق على الشهادة له العلماء والأدباء والكتاب

في الأقطار ومن جميع الطبقات، وفي مقدمتهم شيخ الأزهر بما هو صريح في

تفضيله على جميع الكتب في موضوعه (إثبات الوحي والنبوة وإعجاز القرآن

وأصول الإسلام الدينية والمدنية) ، وسيرون من فائدته في دعوة غير المسلمين إلى

الإسلام وفي تثبيت المسلمين في دينهم ما هو فوق ذلك - إن شاء الله تعالى - ولله

الفضل والمنة: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58) ، وصلوات الله وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وآله

وصحبه الهادين المهديين، وجميع المهتدين بهديه إلى يوم الدين، وسلام على

المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_________

(1)

افتجر الكلام: اختلقه لم يتبع به أحدًا ولم يتابعه عليه أحد، فلعل الأصل افتجروا شبهًا واحتفروا حفرًا.

ص: 55

الكاتب: محمد زهران

كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم

الحكم بين المختلفين فيه

(2)

المنكرات التسعة التي خصها بالذكر الأستاذ الشيخ

محمد زهران

أبدأ بكلام وجيز على هذه المنكرات، فأبين أنه ليس فيها شيء مما عبر عنه

الأستاذ الشيخ محمد زهران بصوادم الحجج القاطعة، التي لجأ إليَّ لاستئصال

شأفتها ببواهر البراهين الساطعة، ثم أعود إلى مسألة أحاديث المعجزات وهي أهم

وأكبر فأقول:

(1)

قصة أبرهة والكعبة في الصفحة 64:

لم أر في هذه الصفحة شيئًا يصح أن يقال: إنه من الإلحاد، ولا من صوادم

البراهين القاطعة، ولا مما هو من مخالفة أصول الإسلام ولا فروعه. وخلاصة ما

فيها أن أبرهة أجمع أمره على هدم البيت الحرام، وأن عبد المطلب ومن معه دعوا

واستنصروا آلهتهم وانصرفوا، وخلت مكة منهم، وكان وباء الجدري قد تفشَّى في

جيش أبرهة، وفتك بهم فتكا ذريعًا لم يُعهد من قبل قط، وأصابت العدوى أبرهة

ملكهم فأمر قومه بالعودة إلى اليمن، وبلغ هو صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض

حتى لحق بمن مات من جيشه. قال: (وبذلك أرَّخ أهل مكة بعام الفيل هذا وقدسه

القرآن بذكره) وذكر السورة بنصها ولم يقل في تفسيرها شيئًا، فمهما يقل فيه

فهو لا يرد عليه.

(2)

أسطورة شق الصدر: هكذا عنوانه ص 72:

أخطأ الدكتور محمد حسين هيكل أن نقل خبر هذه المسألة عن مؤلف أصل

كتابه بالفرنسية، وسيرة ابن هشام، واعتمد على نقدهما له، واستشكال وقوع ذلك

في بني سعد؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة، وكان المخبر لحليمة

الخبر أخوه ابنها الرضيع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في سِنِّه.

وقد أخرج هذا الحديث عنها ابن إسحاق وغيره من طريق عبد الله بن

جعفر بن أبي طالب، وهو لم يسمع من حليمة، وإنما قال الذين أخرجوه عنه أنه

قال: حُدثت عن حليمة، ولم يذكر من حدثه. وقد أخرجه ابن إسحاق من طريق

نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع الحديث. وعبد الله بن جعفر

ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها.

وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة

مخالفة للرواية الأولى في سياقها وفي موضع وقوعها، وهي التي يذكرونها في

بعض قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الغلابي وقد قال الدارقطني

مخرجه عنه أنه كان يضع الحديث، وصرح غيره بكذبه أيضًا. فمن اطلع على

هذه الروايات في تعارضها فله العذر في الطعن عليها مع استشكال متنها وكونه غير

معقول.

ولكن مسلمًا أخرج عن أنس ما يقوي معنى رواية عبد الله بن جعفر من

طريق شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عنه، وشيبان كان يَهِمُ،

أي يخطئ، وحماد هذا من أثبت من روى عن ثابت، ولكنّ ثابتًا تركه البخاري

وقد تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، ويقال إن مسلمًا تحرى من رواية حماد عن

ثابت ما سمعه منه قبل تغيره. على أن أنسًا نفسه كان بعد كبر سنه ينسى بعض ما

حدث به، وهو لم يرفع حديثه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرج أيضًا عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك

يحدثنا عن ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة

نفر قبل أن يوحى إليه - وهو نائم بالمسجد الحرام - وساق الحديث بقصته نحو

حديث ثابت البناني، وقدم فيه وأخر، وزاد ونقص، ورواية شريك أخرجها

البخاري في كتاب التوحيد برمتها، وفيها أن قصة الإسراء والمعراج في جملتها -

ومنها شق الصدر - كانت رؤيا منامية. وقد غلطوا شريكًا فيها من جهات خالف

فيها من هو أوثق منه.

وأقوى الروايات في شق الصدر حديث الإسراء والمعراج الطويل الذي

أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - وليس لمالك غيره

- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في

الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعًا إذ أتاني آتٍ فقدَّ - قال: وسمعته يقول

فشق - ما بين هذه وهذه - أي وأشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج

قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملؤءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد

إلخ) .

وفي رواية شريك بن أبي نمر أنه جاءه ثلاثة نفر وهو نائم، وهم الذين تعاونوا

على عملية شق الصدر، وأشرنا إليها آنفًا.

فأنى للدكتور هيكل أن يحيط بهذه الروايات وأسانيدها واختلاف متونها الدال

على روايتها بالمعنى في موضوع من الخوارق، ويحكم فيها بين ما حكاه عن

المستشرقين وغيرهم حكمًا معقولا؟ ولقد كنت سئلت عنها فلخصت الروايات بأوسع

مما هنا، واستظهرت من مجموعها أنه تمثيل لتطهير قلب النبي صلى الله عليه وسلم

وحفظ نفسه من كل ما لا يليق به من وسوسة الشيطان والشهوات والأهواء، كما

تمثل له كثير من المعاني والحقائق في تلك الليلة وفي رؤاه الصادقة بصورة مناسبة

لمعانيها، ولعالم المثال في الكشف الروحاني شأن عظيم عند أهله. ومن المعلوم

بالضرورة أن الإيمان والحكمة اللذين حشيا في قلبه صلى الله عليه وسلم

ليسا من المواد الجسمانية التي توضع في الطست ثم تحشى في القلب. ومن

شاء التفصيل في المسألة فليراجع الفتوى 12، من المجلد 19، ص 529 -

537، ودونها في 8، ج 4، م 33.

وجملة القول أن الدكتور محمد حسين هيكل لم يطلع على حديث يعتقد صحته

ويعبر عنه بأنه أسطورة، فإن كان مقصرًا في هذا الاطلاع فليس بمليم بأكثر مما

يُلام أكثر علماء هذا العصر، ومما تلام عليه مجلة الأزهر (نور الإسلام) بما

تذكره كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، وكذا الموضوعة أحيانًا. فلا يصح أن يجعل

طعنًا في دينه.

(3)

مسألة بدء الوحي ص 95:

لا أدري ما الذي أنكره الأستاذ زهران من كلام الدكتور هيكل في هذه المسألة،

وأما أنا فإنني أنكرت عليه متابعته فيها (لإميل درمنغام) مؤلف الأصل بما يستدل

به الماديون على دعوى الوحي النفسي الذي بسطته، ورددت عليه في كتاب الوحي

المحمدي بالتفصيل، كما أشرت إليه في مقدمة المقالة الأولى وسأعود إليه، فإنني

رأيت المنكرين على كتاب هيكل والمعجبين به سواء في عدم فهم هذه المسألة

المهمة وهي أساس الدين؛ ولهذا أقول إنه يجوز أن يكون مثلهم؛ لم يفطن لكون تلك

المسائل العشر شبهات يستدل بها الماديون على أن ذلك الوحي ذكاء نفسي وعمل

كسبي استعد له محمد صلى الله عليه وسلم بما زعموه من الروايات الباطلة والآراء

المخترعة، التي فندناها في كتاب الوحي المحمدي تفنيدًا.

وأنكرت عليهما مع العلم بعذرهما الاعتماد على رواية سيرة ابن هشام في

مسألة بدء الوحي، وما صورا به جزئياتها من التخيل الشعري الذي تعارض بعضه

الروايات، ولا شك في حسن نية هيكل فيها ومراعاته للأدب الواجب، فإن كان

الأستاذ زهران ينكر شيئًا كتبه بعينه فعليه أن يكتبه لنا، لا أن يكلفنا قراءة الكتاب

كله والرد على كل ما أنكره هو منه لظنه أن رأينا فيه كرأيه، ولكننا أقدر على الرد

عليه بما (يروق الكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة) كما قال، ورب شيء

أنكره أنا من هذه السير لا ينكره الأستاذ زهران، وقد ينكر إنكاري إن لم يقف على

دليلي مفصلاً.

إنني يا أخي أُنكر كل ما رواه ابن إسحق، وما تبعه به ابن هشام مخالفًا

لرواية الصحيحين في بدء الوحي، حتى رواية عبيد بن عمير التي قال شيخنا

الأكبر في الحديث (الحافظ ابن حجر) إنه يمكن الجمع بينها وبين حديث البخاري

في أول صحيحه. وما أظن أنك أنت ولا أمثالك من المبالغين في الإنكار على كتاب

(حياة محمد) تنكرون مثلي رواية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ملك الوحي في

المنام، وتلقيه منه أول سورة العلق مكتوبة في صحيفة أقرأه إياها، وهي مرسلة

لا ندري لعل الساقط من سندها أحد زنادقة اليهود، وأُنكر كذلك جميع الروايات

التي في كتب السير ودلائل النبوة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى ويسمع

من الإرهاصات ما اعتقد به أنه سيكون نبي هذه الأمة فتعلق به رجاؤه، وأنا أعهد

أن أمثالكم يطعن على من ينكرها أشد الطعن إلا من طريق علمي: كجرح الرواية

أو معارضة المتون بمخالفة القرآن مطلقًا والضعاف منها للصحاح، كما فعلت في

كتاب الوحي المحمدي مما تلقاه كل قارئيه بالقبول.

(4)

ما نسبه إلى السيدة خديجة ص 100:

يعني الأستاذ زهران بهذه المسألة قول الدكتور هيكل: إن خديجة قالت للنبي

صلى الله عليه وسلم عندما فتر الوحي: (ما أرى ربك إلا قد قلاك) أي أبغضك.

وقد تابع بهذا درمنغام، وهما لم يخترعاه اختراعًا. وكان من شأن المنكِر عليهما أن

يعلم أن ابن جرير رواه مرسلاً عن طريقين قيل إن رواتهما ثقات، ولكنهما

معارَضان بما رواه الشيخان عن جندب قال: اشتكي النبي فلم يقم ليلة أو ليلتين،

فأتته امرأة فقالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله:

{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1 -

3) اهـ.

وأقول إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب عدوته صلى الله عليه وسلم،

وما قيل في الجمع بينها من أن خديجة قالت له ذلك توجعًا وأم جميل قالته شماته فهو

مردود، وكان يجب على هيكل ألا يأخذ كلام درمنغام قضية مسلمة، ولو بحث

وراجع لعرف الصحيح، وعلم أن هذه الفترة القصيرة في الوحي ليست هي التي

استوحش لها النبي صلى الله عليه وسلم وكبر عليه الأمر، بل تلك الفترة هي التي

كانت بين بدء الوحي في حراء وبين الأمر بالتبليغ، وهي ثلاث سنين، كما بينته

في كتاب الوحي المحمدي وكان ينبغي للدكتور هيكل أن يتأمله ويعتمد عليه فهو لباب

التحقيق.

بل هذه الفترة مشهورة في كتب الحديث وكتب السير لا ينبغي لمن يجهلها أن

يكتب مصنفًا في حياته صلى الله عليه وسلم، يدعي أنه يتحرى فيه الحقائق؛ فماذا

فعل بالكتب التي طالعها لأجله؟

(5)

ما قاله في الإسراء والمعراج ص 153:

أجمل الأستاذ زهران إنكاره على ما كتبه الدكتور في هذه المسألة، وكلفني أن

أبين ما أُنكره منها وأُثبت ما أعرفه، وهو إرهاق يتقاضاني أن أصنف كتابًا أو

رسالة طويلة فيها، وقد سبق لي أن ارتجلت محاضرة فيها استغرقت ساعتين ونيفًا

في جمعية مكارم الأخلاق؛ إذ كانت في قاعة دار السادات.

الدكتور يثبت الإسراء والمعراج، وينقل فيهما ما هو مشهور بين الناس من

الاختلاف بين العلماء؛ هل كان في النوم أو اليقظة؟ وبالروح والجسد، أم بالروح

فقط؟ وينفرد بتعليل القصة بأنها من مشاهد وحدة الوجود الخيالية، ويصف هذه

الوحدة بغير ما يصفها به أهلها من الصوفية الغلاة الذين يُعرفون بصوفية الحقائق؛

لأنه موضوع ليس من علمه، كما أن التمييز بين صحاح الروايات وضعافها

ومنكراتها واختلاف متونها وتعارضها في المعراج ليس من شأنه بالأولى، وقد

أشرت إلى بعضها آنفًا في الكلام على حديث شق الصدر، والجمع بينها متعذر

حتى قيل بتعددها وهو لا يعقل.

ومما أخطأ فيه - كما نرى - ما نقله عن (موسيو أميل درمنغام) في

وصف المعراج وقد خلط فيه بين الروايات المضطربة، فلم يميز بين صحيحها

ومنكرها.

ووصفها وصفًا شعريًّا خلب الدكتور ببلاغته الفرنسية، فعرج هو من أفقه إلى أفق

أبعد منه في التخيل الشعري وهو أفق وحدة الوجود، التي يعجز صوفية الهند

ومقلدتهم من الإفرنج أن يبلغوا فيها شأوَ محيي الدين بن عربي في نثره وعمر بن

الفارض في شعره، وقد قال الدكتور فيها بما لم يعقله من الجمع بين الأزل والأبد.

مسألة وحدة الوجود عقيدة هندية قديمة لا تتفق هي وعقيدة الإسلام في كون

الخالق تعالى فوق جميع خلقه بائنًا منهم، وخلاصتها أن وجوده تعالى وتقدس عين

وجودها، وهي مظاهر له كمظاهر الماء من جامد ومائع وبخار وغاز، كما قال

عبد الكريم الجيلي:

وما الخلق في التمثيل إلا كثلجة

وأنت لها الماء الذي هو نابع

وأقرب مما ذهب إليه الدكتور في تصوير مسألة الإسراء والمعراج أو تقريبها

إلى الأذهان، يوافق العلوم العصرية - هو ما ثبت عند القائلين باستحضار

الأرواح من تمثل أرواح الموتى المجردة بصور جسدية من الأثير تتكاثف أحيانًا بما

تستمده من مادة الكون أو من جسم الوسيط، حتى يمكن تصويرها بالآلة العاكسة للنور

وقد قرأنا في كتاب (المذهب الروحاني) وغيره من الكتب والصحف شواهد

على ذلك، وأصل هذا معروف عند أهل الدين بما ثبت من تمثل أرواح

الملائكة والشياطين بصور البشر وغيرهم وأمثلته كثيرة في كتب أهل الكتاب

المقدسة وفي القرآن العظيم والأحاديث الصحيحة، ويحكون في كتب الصوفية أن

بعض الروحانيين منهم يتجردون من أجسادهم الكثيفة ويتمكنون من تحويلها إلى

أجساد أثيرية لطيفة أحيانًا تقطع المسافات البعيدة في طرفة عين وتنفذ من الأجسام

الكثيفة، فالمسألة معروفة مسلمة عند غير الماديين من المليين، وغيرهم من

الروحانيين.

فعلى هذا يمكن أن يقال إن روح النبي صلى الله عليه وسلم أعطيت من القوة

في تلك الليلة ما كانت به كقوة روح جبريل الذي كان يتمثل له صلى الله عليه وسلم

بصورة دحية الكلبي وغيره، وتمثل للسيدة مريم عليها السلام بشرًا سويًّا، وفي

هذه الحالة تتصرف الروح بجسدها الأثيري اللطيف فتحمله من مكة إلى بيت

المقدس، ومنه إلى حيث شاء الله من السموات العلى إلى سدرة المنتهى، وقد

بينت هذا من قبل في المنار وفي محاضرتي الطويلة التي أشرت إليها آنفًا، وقلت

إنه مذهب الصوفية الموافق لقول جمهور المحدثين إن الإسراء والمعراج كانا

بالروح والجسد.

ولعل هذا ما أشار إليه الأستاذ الأكبر المراغي في التعريف بالكتاب بقوله:

(وعلم استحضار الأرواح فسَّر للناس شيئًا كثيرًا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على

فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها، وفهم انفصالها، وفهم ما تستطيعه من السرعة

في طي الأبعاد، وقد انتفع الدكتور بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى

بشيء طريف) ا. هـ.

اشتبه بعض قراء هذه العبارة المجملة الوجيزة في فهمها فظنوا أن الأستاذ

وافق المؤلف على القول بأن الإسراء كان بالروح منفصلة من الجسم، وعلى مسألة

وحدة الوجود، ولكن قوله:(فأتى بشيء طريف) لا يدل على فهمهم هذا؛ ولذلك

لم يقل: (بشيء طريف فيه) ، بل هو يشير إلى ما قلته.

وجملة القول: أن الدكتور هيكلاً نقل بعض أقوال علماء المسلمين في مسألة

الإسراء والمعراج وقول درمنغام من غير تمحيص ولا تحقيق، كما فعل بعض أهل

السير وغيرهم من المسلمين، وزاد عليها مسألة وحدة الوجود بعبارة مبهمة تدل

على أنه لا يعتقد أنها مخالفة لنصوص الكتاب والسنة لخفائها المعروف، فلا يباح

لمنكريها عليه الطعن في دينه، ولا يصح للمعجبين به أن يقولوا: إنه محقق لروايات

السيرة.

(6)

ما عقب به معجزة الغار ص 177:

يعني الأستاذ الناقد المنكر بهذه المعجزة ما نقله الدكتور هيكل عن أميل

درمنغام عن بعض كتب السير كالسيرة الحلبية: من أن النبي صلى الله عليه

وسلم حين دخل مع صاحبه الغار وجاء المشركون يبحثون عنه وجدوا شجرة تدلت

فروعها إلى فوهته، وبيتًا من العنكبوت يستر من فيه، وحمامتين باضتا عند بابه.

وذكر أن وجه المعجزة في هذه الأشياء أنها لم تكن موجودة، وإنما وجدت وقتئذ،

وأن درمنغام قال: (هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقص التاريخ

الإسلامي الجد (كذا) ، وهي أعاجيب ثلاث، لها كل يوم في أرض الله نظائر) .

(أقول) : حديث هذه الثلاث أخرجه ابن سعد وابن مردويه والبيهقي

وأبو نعيم عن أبي مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم

والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي e ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في

وجه النبي e فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي e فسترته،

وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن

رجل بعصيهم وهراويهم وسيوفهم

إلخ.

قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان بعد ذكر حديث أبي مصعب هذا: قال

العقيلي مجهول ذكره في ترجمة عون بن عمرو. وذكر الحافظ في ترجمة عون هذا

أنه منكر الحديث مجهول، وذكر حديثه هذا عن أبي مصعب وقال إنه لا يعرف.

فهذه المعجزات لم يصح بها الخبر، بل انفرد بروايته مجهول منكر الحديث

عن رجل لم يعرف قط، فالظاهر أنه هو الذي وضعه عليه، ولو كان له أصل

لأمكن أن يقال من ذا الذي حقق أن هذه الثلاث وجدت عند دخوله e في الغار،

وأنها لم تكن من قبل، وكيف كان عبد الله بن أبي بكر وراعي غنمه مولاه عامر

ابن فهيرة يدخلان الغار في كل ليلة؟ ولِمَ لمْ يحدِّثا بها أحدًا ولا حدث بها من أكرمه

الله بها وهو النبي صلى الله عليه وسلم وكذا صاحبه رضي الله عنه حتى حدث

بها أبو مصعب المجهول الذي أعيا رجال الجرح والتعديل أن يعرفوه أو يعرفوا عنه

شيئًا، ولم يحدث بها عنه إلا عون بن عمرو المنكَر الحديث؟ وأي حاجة إليها في

حفظ من كفل الله حفظه، وعبر عن ذلك بأنه تعالى معه ومع صاحبه؟ ههنا يظهر

الفرق بين شعور الأستاذ زهران والدكتور هيكل وأمثالهما:

الفريق الأول يرتاح إلى روايات خوارق العادات مطلقًا، ويرون أنها أعظم

الحجج على إثبات النبوة، فلا يعنون بتحقيق رواياتها.

والآخرون ينفرون منها لكثرتها عن جميع الملل ولا يرون فيها حجة قاطعة

على النبوة كالآيات العلمية والعقلية وأعظمها القرآن؛ ولذلك يميلون إلى تكذيب

روايات تلك الخوارق، وسنبين تحقيق الحق في ذلك.

(للنقد بقية)

_________

ص: 64

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شاعر العرب

الشيخ عبد المحسن الكاظمي

فاجأنا في ضحوة يوم شديد الحر من هذا الشهر المحرم (سنة 1354 -

مارس سنة 1935) نبأ وفاة شاعر العرب المطبوع وعلم الفصاحة المرفوع الشيخ

عبد المحسن الكاظمي بعد مقاساة أمراض طال أمدها عدة سنين، صبر عليها صبر

الكرام، ويحزنني أنه لم يتح لي تشييع جنازته، وقد قمت بكل ما استطعت من

حقوق مودته (المادية والأدبية) في أكثر من ثلث قرن، حتى إنني عرضت نفسي

لمرض طويل كاد يكون مزمنًا بزيارتي له ليلاً وأنا مصاب بنزلة صدرية شديدة،

وكان يزورني في وسط العهد بيننا في يوم الجمعة من كل أسبوع، وقد يزيد عليها

لأسباب عارضة، وإنني أنشر هنا ما كتبته في شأنه بعد تعارفنا بمصر بأيام قليلة،

وهو ما تراه في ص 328 من مجلد المنار الثالث، بتاريخ ربيع الأول سنة

1318، يوليو سنة 1900 بعنوان:(القديم في الحديث، والأول في الآخر)

وهذا نصه:

(ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي

كله ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام، وحتى صرنا نعد وجود مثل

سعادة محمود سامي باشا البارودي من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة

العربية رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها،

والظاهر أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد،

وأن النابغين فيها أكثر منهم في غيرها.

ولقد وافى هذه البلاد من أشهر رجل فاضل جدير بلقب (الأديب) وقلَّ

الجدير به في العصر، ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن الكاظمي (نسبة إلى

الكاظمية بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح والأخلاق الحسنة من

الشاعر المفلق، العذب المنطق، الذي ناهز المقدمين، وخاطر المقرمين، ومن

السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس، حتى إنك لا تشعر في أول عهدك

به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة.

قال صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب

في مصر: (إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته، فلما خبرته

علمت أنه لا تطيب مفارقته) ا. هـ.

وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير الطرابلسي:

إباء فارس في لين الشام مع الظر

ف العراقي واللفظ الحجازي

أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة، طريقة الشريف الرضي

ومهيار الديلمي، وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود الأهم

من بلاغة القول) ا. هـ.

ونشرت بعد هذا قسمًا من قصيدته العينية، وهي أول ما سمعناه من إنشاد

شعره، ونشرت القسم الآخر منها في جزء آخر، ولعمري إن إنشاده للشعر لأبلغ

من نظمه له في إثارة الشعور، بما شاء من شجو وشجن، وحنين إلى سكن ووطن،

وشوق إلى لقاء حبيب، وحزن على فراق عشيق أو صديق، وإن أنسَ فلن أنسى

إنشاده إيانا قول الشاعر:

وارحمتا للغريب في البلد النازح

ماذا بنفسه صنعا

فارق أحبابه فما انتفعوا

بالعيش من بعده وما انتفعا

فلئن قال ابن المنير في يائيته:

وما المدامة بالألباب ألعب من

فصاحة البدو في ألفاظ تركي

فإن لنا أن نقول: ما لعب المدامة بالعقول، ولا عزف الفارابي بالقانون، بما

أضحك الثغور وأثار الشجون، وأجرى الشئون وران على العيون، ولا نعي جميل

لبثينة أمام دارها، ولا كلمتها للناعي سافرة نابذة لوقارها - بأعظم سلطانًا على

القلوب من إنشاد الكاظمي لهذين البيتين بصوته الرخيم ولهجته العراقية، وتقطيعه

للبيت بغير أوزانه الشعرية، كوقوفه على كلمة الغريب، والنازح، والعيش، فإني

لأتذكر الآن خفقات قلبي لسماعهما، فأجد الذكرى تعيدها سيرتها الأولى، ولقد

كانت كلمة بثينة أشجى كلمة سمعتها من كلام البشر، ولا بأس بذكرها هنا.

لَمَّا شعر جميل العذري بدنو أجله في مصر عهد إلى رجل أن ينعاه إلى بثينة

في حي أهلها، وأعطاه حلته آية لها، فوقف فأنشد هنالك:

صرخ النعيّ وما كنى بجميل

وثوى بمصر ثواء غير قفول

فخرجت حاسرة وقالت: يا هذا إن كنت كاذبًا فقد فضحتني، وإن كنت

صادقًا فقد قتلتني! ! فأخرج لها حلته فأنشدت:

وإن سلوي عن جميل لساعة

من الدهر لا حانت ولا حين حينها

سواء علينا يا جميل بن معمر

إذا مت بأساء الحياة ولينها

هكذا كان الكاظمي يخلب ألبابنا بإنشاده العراقي الشيعي، وكل أدباء العراق

يخلبون الألباب بضروب الإنشاد، وإن كان لأشجى من سمعنا منهم، ولقد أحببناه

لإنشاده ولشعره معًا، ثم اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام وخصه بمدائحه المؤثرة،

وكان بالمدائح ضنين، فعشقناه لتنويهه بالإصلاح وإمامه، وقد ذكرته في تاريخ

الأستاذ الإمام منوهًا بما كان من عطف الإمام عليه ومواساته له، ومما لم أذكره أنه

كان له منه راتب شهري قدره عشرة جنيهات ما عدا الهدايا، وكان أنكر ما عددته

عليه من كنوده عدم رثائه له، وكان يعتذر لنا بوجده وكمده، ثم علمنا أنه إنما كان

يخشى غضب الخديوي عليه إذا هو رثاه، إذ سعى له صاحب المؤيد عند سموه

براتب من الأوقاف.

إنني كنت صدقت الكاظمي زعمه أن شدة الحزن والأسى على الإمام أخرست

لسانه، وحيرت وجدانه، وأطاشت جنانه، فأمسى عاجزًا عن رثائه لا يستطيع منه

شيئًا. وظللت سنين مصدقا له، وأرى من حق الوفاء لأستاذنا عليّ بره والوفاء

له، على أنه حدثني فيما كان يقصه عليَّ من سيرته الشخصية أن الخطوب ليس

لها على نفسه سلطان، وأن الحزن ليس له في شجون قلبه ولا في شؤون عينيه

مكان، وأنه كاد هجومها عليه يغلبه على جَلَده، مرة أو مرتين، ففطن لذلك فكان

لإرادته الغلب والرجحان، فكان عصي الدمع شيمته الصبر، ليس للحزن عليه

نهي ولا أمر.

ولقد كان يقول لي إنه لم يجد بعد الأستاذ الإمام من أخلص له الوفاء مثلي،

ويظهر لي أنه على رأيي ومذهبي فيما أدعو إليه، وأحيا لأجله من الإصلاح

الإسلامي والوحدة العربية، وكان ينشدني بعض قصائده في مدح من يرجو برهم

ويقف لي عندما تتضمنه من الإشارة إلى ما أحب من المصلحة العامة، في

تضاعيف ما أكره من المدائح الشخصية، بله ما نظمه في المسألة العربية ورجالها،

ومنه ما يخصني بزعمه دون غيري، ولم أكن لأحفل بالتصريح بشيء يخصني؛

فكيف أحفل بالتلويح والتعريض الذي لا يكاد يفهم المراد منه أحد؟ ولكن خطر

ببالي كثيرًا ما لم أذكره له ولا أشرت إليه من تقصيره في رثاء شقيقي اللوذعي

الأحوذي السيد حسين الشاعر الأديب الخطيب، وقد كان عشقه للكاظمي غرامًا،

ووده له لزامًا، وكان وكيلي في إدارة المنار مدة غيبتي في الآستانة عامًا كاملاً لم

يكد يفارقه فيه يومًا، ثم عاد إلى سورية فقتل بيد مجرم أثيم، فكان من إكبار خطبه

عندي أن قلت في تأبينه إنه ليعز علي أن أرثيه، وكنت أرجو أن يرثيني، وأكبر

المصاب فيه أهل الفضل والأدب في جميع البلاد العربية، وعقدوا له في بيروت

حفلة رثاء وتأبين تبارى فيها أدباء الطوائف الدينية بما كان أقوى مظهر لرابطة

الأدب الجامعة، فكانت حفلة نادرة في ذلك الوقت، ولكن كان صديقي وصديقه

أبخل بشعره عليه منه بدمعه، وهو الغني المليء بالشعر، الفقير الشحيح بالدمع،

وإنما يجود بالشعر حيث يرجى به النوال الجزل.

لقي الملك فيصلاً في مصر فرأى من لطفه وتواضعه وتكريمه له ما أحدث له

أملاً بأن يحيا بجوده حياة جديدة من الإتراف والسعة، أقلها أن يكون له راتب

شهري كبير وهو في مصر، أو ينقل إلى منصب كبير في بغداد، فمدحه كما مدح

أخاه الأمير عبد الله وبيتهم الشريف بقصائد غر، كان ينشدها كلها أو بعضها قبل

إرسالها، ويحاول إرضائي وأنا المنكر لسياستهم البريطانية بما فيها من التنويه

بالإصلاح والوحدة العربية، حتى إذا ما خاب أمله فيهم، وغلبهم ابن السعود على

الحجاز، وحدث له من الرجاء في جوده وسخائه ما يئس من مثله منهم، طفق

يمدح هذا وآله؛ ويعرض، بل يصرح، بهجو أولئك، ومن ذلك قصيدة في الفرق

بين الفيصلين فيصل بن عبد العزيز وفيصل بن الحسين، وكان يدعي أنه لم يكن

له من باعث على هذا وذاك إلا ما يهمنا جميعًا من مصلحة العرب والإسلام.

كذلك كان يستشيرني في القصائد التي كان ينظمها في القضية العربية، التي

يقيمها حزب الاتحاد السوري، فاللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني؛ ويكل

إليَّ السعي لما يرجوه من الجائزة عليها من الوجيه ميشيل بك لطف الله، وهي من

غر قصائده.

وكثيرًا ما كان يزيد في هذه القصائد التي نظمها ولم يكتبها، وكثيرًا ما كان

يرتجل غيرها، فقد ثبت عندنا أنه أوتي من ملكة الارتجال ما يساهم به فحول

العرب من الجاهليين والمخضرمين والمولدين، وهو يعد من فصحائهم لا من بلغائهم،

فشعره فحل في لغته وأسلوبه، دون فلسفته وتأثيره الروحي.

وما كان لي أن أطمع بإرجاعه عما يبغيه من الكسب بشعره، وهو بضاعته

الرائجة، فكنت أحمد من قصائده ما فيها من الآراء العامة، وأقتصد في الإنكار

على المبالغة الشعرية في المدح فيوافقني على ما أقول، ولا أدري ما يكتبه بعد ذلك

ويرسله، وما يثبته في ديوانه الذي يدخره لمستقبله وورثته؛ فقد كان يحفظ كل ما

ينظمه، وينشدني وينشد غيري من حفظه، وقد ينقح ما ينتقده عليه السامع في

المجلس، ويزيد فيه ما شاء وينقص منه؛ وكان يرجو أن يبذل له أحد الملوك أو

الأمراء أو الكبراء ما يكفي لوفاء ما يذكر من دَينه وطبع ديوانه، فإن لم يتح له ما

يرجو، وَكَل أمر طبعه من بعده إلى أبر الأوفياء له، الذي اختار أن يجعله وصيًّا

على كريمته الرباب، وإياي كان يعني.

هذه خلاصة ما يقال في شعره وأدبه ومودته وكسبه، ولقد علمت أنه كان له

كسب نسائي خفي من كتابة التمائم للحب والبغض، وكان أمين سره في هذا العمل

صديقه المرحوم توفيق أفندي الرافعي، وأول من أفشاه لنا امرأته الأولى التي عشق

أختها وتزوجها، حملت إلى أهل بيتنا بعض هذه التمائم فأبيت أن أنظر فيها،

وحدثتْهن عن إسرافه في النفقة، وما كان يوهمني (قبل بنته الرباب) من أن له

عيالاً ينفق عليهم، وقد سمعت منه ورأيت ما يعد من عجائب إسرافه، فلقد كان

يشتري ثمر المنجا الجيدة بالعشرات أو مائة بعد مائة وهي أغلى الثمار ثمنًا، وكان

دائمًا يشكو الحاجة أو الضرورة، ويطرق أبواب الكبراء الواسعة والضيقة، وقد

لجأ أخيرًا إلى المرحوم سعد باشا زغلول ومدحه بالقصائد الفياضة التي ذكر فيها

الأستاذ الإمام أول مرة بعد وفاته، ثم لجأ إلى زعيم الوفد من بعده، وظهر في هذه

الأثناء بشعر بنته الرباب، وقد شبت على استبدال البرنيطة بالحجاب.

وجملة القول فيه أنه كان شاعر العرب المرتجل المفلق، كما كان قال قبل

اختيار هذا اللقب لنفسه.

لتُخلِ القوافي ميادينها

فقد عصف الشاعر المفلق

وكانت حياته الشخصية في داره ومع أصدقائه وزواره مفاكهات أدبية أكثرها

في شعره وأغراضه منه، ثم لم يكن يتحدث في السنين الأخيرة إلا عن مصائبه

وأمراضه وخُلته، حتى صار مملولاً بالطبع. نذكر هذا للعبرة والموعظة، ونسأل

الله تعالى لنا وله العفو والمغفرة والرحمة الواسعة.

ويسرنا جد السرور عناية الحكومة العراقية بإكمال تربية كريمته، وعناية

أدبائها وأدباء فلسطين وسورية بتأبينه، وهمَّ بعض أصحابنا بإقامة حفلة تأبين

حافلة، ثم أرجؤوها إلى انتهاء هجير الصيف، وما كان لمصر أن تهضم حق أدبه

وما كان ظهوره واشتهاره إلا فيها.

_________

ص: 72

الكاتب: مراسل الأهرام في أمريكا

‌تفاقم شر الطلاق في أميركا

لمراسل الأهرام في أمريكا

أشرت في إحدى رسائلي الماضية إلى القاضي بن لندسي في مدينة لوس

أنجلوس بولاية كليفورنيا الملقب بقاضي الطلاق لتساهله في تسهيل سبله على

الطالبين، ولكثرة عدد الذين أعتقهم من ربقة الزواج كما يعتق السجناء حال انتهاء

المدة المحكوم عليهم بها، وقد أعلن هذا القاضي اليوم اعتقادًا جديدًا أبداه بشكل

نبوءة مفادها إمحاق عهد الزواج بهذه البلاد في وقت غير بعيد؛ إذ قال:

(إن الزواج في هذه البلاد صائر إلى حالة توجب الأسف وتحمل على

الاحتساب، فإن لم نفتح عيوننا للحقائق، ونصرح بها غير متهيبين، ونعمل على

تغيير ما نفهمه من علائق الجنسين، تصبح الإباحة في الحب والفوضى في الزواج

والتطرف في حسبان الطلاق من ضروريات المعيشة الهنيئة شيئًا سهلاً وواجبًا،

وإن كان مخالفًا لما قررته الأديان وأوجبته قوانين الهيئة الاجتماعية) .

(فالزواج عندنا قد أصبح ألعوبة أو مهزلة بحيث لا يختلف عن شركة

تجارية يعقدها شخصان، ويبقيان فيها متعاونين ما بقيت رابحة، وما اتفق ذوقاهما

وينفصلان عندما يشعران بالخسارة أو بالنفور المتبادل. ولا ريب في أن البواعث

الطارئة على تمدننا في هذا الزمان تعمل على تقويض أركان التوازن الديني

وتشويه آداب المجتمع، وتمهد السبل للطبيعة البشرية الميالة إلى الشر في طغيانها

فتتمادى فيه بلا وازع من الدين ولا رادع من القانون. والقاضي الذي تبدو له هذه

المساوئ في القضايا المختلفة لا يرى سوى علاج واحد ناجع وهو أن تستعين

الهيئة الاجتماعية بالدين والعلم والتهذيب على استئصال ما طرأ في هذا العصر

من التطورات الغريبة العاملة على خراب الحياة الزوجية وفساد أخلاق الناشئة) .

(وقد يحسبني بعضهم من المفكرين المتفوقين في هذا الباب بالنظر إلى كثرة

عدد الذين أفلتوا من قيود الزواج في محكمتي، فأنا على الرغم مما يقال من تساهلي

في حل ما عقده الشرع، من أشد الناس تمسكًا بزي الزواج القديم القائل ببقاء

الاثنين جسدًا واحدًا إلى أن يفرقهما الموت، ولا يحل هذا الشكل إلا العمل بهذه

القاعدة، وأعتقد أن أجدادنا كانوا أسعد حالاً وأهنا عيشًا من الوجهة الزوجية مما

نحن عليه الآن) .

(ومهما كان اعتقادنا بنظرياتهم فإن تلك النظريات قد انطوت ومعها الحياة

الزوجية القديمة المبنية عليها، أو أنها تنطوي الآن بسرعة، وحل محلها جنوح [1]

لا يعترف بقيود، خالٍ من كل مسئولية ومن الحب الحقيقي في تعاقد الجنسين

بحيث أصبح الناس يعتقدون أن الزواج قضية مؤقتة يحافظون عليها ما وفرت لهم

الغبطة، وضروب الشهوات والمسرات، فإذا عدمت هذه الميزات ذهبوا إلى

المحامي) .

ويظن هذا القاضي أن الحالة الاقتصادية في الحياة العصرية التي تزاحم فيها

المرأة الرجل في الأعمال على اختلافها، والتي جعلت الزواج صعبًا أو مستحيلاً

على الشبان من سن 20 إلى 30 لقلة دخلهم - هي التي سببت هذا التشويش

والفوضى في الطلاق أيضًا؛ لأن الزوجة التي تفرك [2] ، أو يحاول زوجها

التخلص منها، قلما تعارض لانفتاح أبواب العمل أمامها بخلاف ما كانت الحال

عليه في الماضي.

وتنبأ القاضي لندسي من سبع سنوات عن أن عدد المطلقين في السنوات

العشر التالية سيضارع عدد الذين يتزوجون، وقد مضى من تلك الأعوام سبعة وبقي

ثلاثة، ومع ذلك فقد تم ما خمنه قبل انتهائها حسبما يقول. اهـ.

(المنار)

إن سوء عاقبة هذا الفساد أكبر مما يحسب هذا القاضي ويقدر، وإن له أسبابًا

وعللاً كثيرة، وإن علة العلل كلها انحلال العقيدة الدينية وما تعقبه مع الحرية

الواسعة من إباحة الشهوات، وقد كان الدين عندهم نظامًا اجتماعيًّا أدبيًّا، تكفله

التربية والتعليم، وتحميه القوانين، فضعفت الكفالة والحماية بحرية التعليم العالي

للنساء والرجال معًا، فصار من المتعذر أن يدين هؤلاء بالنصرانية المبنية على

التسليم بما يقال لهم من غير برهان معقول مقنع، وهذا الدين لا يجدونه إلا بالإسلام؛

فهو العلاج الوحيد لجميع مفاسد الحضارة الغربية، كما فصلناه في كتاب الوحي

المحمدي.

_________

(1)

كذا، والجنوح الميل، ومنه ميل السفينة إلى حيث ترتطم بوحل فتقف.

(2)

فركت المرأة: أبغضت زوجها، فهي فارك وفروك.

ص: 78

الكاتب: شكيب أرسلان

‌العقبة من الحجاز

في عهد الدولة العثمانية

حضرة الأستاذ العلامة حجة الإسلام بهذا العصر، وقائد كتيبة المحققين الذي

كُتب له النصر، السيد رشيد رضا، أطال الله بقاءه ونفع به:

قرأت في الجزء المؤرخ في 30 المحرم 1354 من المنار فصلاً وافيًا عن

العقبة، وفيه كلام نقلتموه عن أمين أفندي سعيد معناه أن العقبة أدخلت سنة 1906

ضمن الحدود العثمانية وألحقت بلواء الكرك (شرقي الأردن اليوم) وصارت

جزءًا من أجزائه.

والذي أعرفه أنا أن العقبة لم تلحق في وقت من الأوقات بلواء الكرك، وهذا

هو أصل المعترك، فإن الإنجليز يريدون أن يجعلوا العقبة من البلاد التي كانت

الدولة العثمانية ألحقتها بلواء الكرك حتى يقولوا: إنهم لم يغيروا شيئًا من الوضع

القديم، بل أبقوا العقبة تابعة للخطة التي كانت تابعة لها من قبل. والحقيقة أنه لما

تشكل لواء الكرك ألحقوا به قصبة معان وتوزيعها ما عدا العقبة، وكان ذلك من

الدولة قصدًا وعمدًا، حتى لا تجعل العقبة تخرج من أرض الحجاز نظرًا لاستثناء

الحجاز من أمور كثيرة، كان متفقًا عليها بين الدولة والدول الأجنبية، ومن جملتها

عدم جواز تملك الأجانب. وقد كنت مرة في دمشق في أيام ولاية ناظم باشا وعلمت

من المرحوم محمد فوزي باشا المعظم وكان هو عمدة مجلس الإدارة أن ولاية

سورية راجعت الباب العالي في أن العقبة باتصالها بأرض معان وبكونها ميناء

لمعان وبلاد الشراة يجب إلحاقها بمتصرفية الكرك تسهيلاً للأشغال.

فأجاب الباب العالي ولاية سورية قائلاً: (إن هذه الملاحظة لا تخفى علينا،

ولكن هناك ملاحظات سياسية أهم منها، وهي: أنه إذا ألحقت العقبة بلواء الكرك

صارت من ولاية سورية ودخلت تحت المعاهدات التي بين الدولة والدول الأجنبية،

فصار يجوز للأجانب أن يتملكوا فيها بخلاف ما إذا كانت تابعة للحجاز، فليس

للأجانب حق أن يتملكوا شيئًا في الحجاز، وهو أمر متفق عليه بين الدولة والدول،

فبقيت العقبة إذن تابعة للحجاز، ولم تتبع الكرك كما طلبت ولاية سورية، فقصدت

أن أصحح هذه الرواية التي نقلتموها عن أمين أفندي سعيد والتي لو صحت لما كان

محل للتعجب من سعي الإنكليز بإلحاق العقبة بشرقي الأردن لأنهم يكونون حينئذ

بنوا على أساس قديم. والحال أن هذا الأساس لم يوجد، وأن العقبة كانت ولم

تخرج من الحجاز لا أولًا ولا أخيرًا ووضعها الحاضر لا يستند على شيء قانوني.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

شكيب أرسلان

...

...

...

...

... جنيف

(المنار)

هذا ما يقال من جهة ما يسمى التشكيلات الإدارية في الدولة. وأما من الجهة

الشرعية الإسلامية فالعقبة وما حولها من الحجاز. وبصفة أوسع نقول: من جزيرة

العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بألا يبقى فيها دينان كما بيناه مرارًا،

فاحتيال إنكلترة للاستيلاء عليها أفظع اعتداء على دين الإسلام.

_________

ص: 80

الكاتب: أحد محرري المقطم

‌وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

خطب الأستاذ فارس بك الخوري الوزير السوري الأسبق ومن كبار مسيحيي

سوريا في إحدى الحفلات التي أقيمت بدمشق لإحياء ذكرى المولد النبوي، ومما

قاله:

(إن محمدًا أعظم عظماء العالم، ولم يَجُدْ الدهرُ بعدُ بمثله، والدين الذي

جاء به أوفى الأديان وأتمها وأكملها، وإن محمدًا أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف

مسألة علمية واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا

الاعتراف بفضل الذي دعا الناس إليها باسم الله، وبأنها متفقة مع العلم، مطابقة

لأرقى النظم والحقائق العلمية) .

(إن محمدًا الذي تحتفلون به وتكرمون ذكراه أعظم عظماء الأرض سابقهم

ولاحقهم، فلقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم، وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت

العالم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عينت للناس حقوقهم وواجباتهم

وأصول تعاملهم على أسس تُعَدُّ من أرقى دساتير العالم وأكلمها) .

...

...

...

...

...

(المقطم)

_________

ص: 81

الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي

مأساة أميرة شرقية

بقلم الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي

نزيل البصرة

(2)

ونحن مع احترامنا للنبي المكرم عيسى نقول: قد أجاد الأستاذ في تنظيره

وتمثيله، ألا يعلم لويس أن شرب الدخان في النارجيلة أو غيرها إنما حدث بعد

اكتشاف كولومبوس أمريكا، ولم ينتشر إلا في الأزمنة الأخيرة، بل في هذا الزمان

نفسه لو دخلت مجلس أمير من بني تميم أهل اليمامة لم تر فيها نارجيلة فضلاً عن

الخمر؛ فهل بلغ به هوان نفسه عليه أن يزعم أن مجالس أمراء أبي بكر وعمر

كانت محتوية على الخمر؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فأي رجل من زنوج إفريقية،

بل قبائل إسكيمو يلقي نظرة إجمالية على التاريخ ويتوهم وجود الخمر في مجالس

أمراء الخلفاء ولم تمضِ على انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى إلا أيام قلائل ولم

يروِ لنا التاريخ شرب الخمر في مجالس الأمراء إلا بعد ذلك بأزمان طويلة؟

وليس مقصودي أن أبرئ خالدًا من الوجهة الدينية، أو أدعي له العصمة

الواجبة للأنبياء؛ لأن الكاتب لم يتصدَّ لهذا الأمر إلا من الوجهة التاريخية والأدبية؛

ولذلك أحصر ردي عليه فيهما؛ فهل يستطيع أن ينقل لنا كلمة واحدة من التواريخ

المعتبرة يثبت بها ما افتلعه؟ هيهات ذلك.

لقد كنا نظن أن مجلاتنا الأدبية لمَّا تصل بعد إلى المستوى الأعلى من التحقيق

في التاريخ والأدب، وأن كتابنا لا تزال بضائعهم مزجاة في ذلك، ولكننا بعد ما

رأينا هذا المقال اغتبطنا أيما اغتباط بمجلاتنا وكتابنا. وكنا نظن أن كاتبًا شهيرًا قد

تصدى لكتابة سلسلة مقالات في التاريخ والشرقيين في أشهر المجلات الإنكليزية في

الهند وعرضها على علماء الشرق والغرب يربأ بنفسه أن يرتكب الخلط والخبط

والكذب البحت، ولكن أبى الله إلا أن يفضح هذا الأديب الكبير ليعلم مطايا الإفرنج

ومقلدوهم أن أدباءهم ليسوا معصومين كما يزعمون من الوهم والغلط والجهل

والكذب، بل ربما فاقوا غيرهم في ذلك، وسترى في الرد على مقاله ما يجلو كل

شك ويلاشي كل ريب.

ومن العجيب أن الأديب " كرهام " جعل من خالد خالدَيْنِ، ولرجل واحد

صورتين، فالصورة الأولى التي تقدم الكلام عليها تخالف تمامًا صورة خالد التي

نشر تحتها ترجمة خالد بن الوليد وأعماله وسيرته في المجلة نفسها، في جزء 8

أكتوبر 1933 فخالد الأول مستطيل الوجه مائل إلى الاستدارة، ذو لحية مقصوصة

قصًّا غير بليغ؛ وأما الثاني فإن وجهه صغير مخروطي، وملامحه مخالفة أشد

المخالفة لملامح الأول، ذو لحية فرنسية مخروطية منهوكة بلا عارضين، فهكذا

يكون التخبط، وإلا فلا.

* * *

الرد على مقاله

ومناقشته الحساب

(1)

زعم الكاتب الكاذب أن ليلى بنت الجودي الغسانية كانت زوجًا لمالك

بن نويرة ثم تزوجها خالد بن الوليد ثم تعشقها وغنى بحبها عبد الرحمن - يعني ابن

أبي بكر الصديق - ومازال ملحًّا في طلبها إلى أن ظفر بها أخيرًا، ففتن بها حتى

أعرض عن نسائه وسراريه وجعلها سيدة البيت، ثم لم يلبث أن هجرها وفارقها

فرجعت إلى بيت والدها بدمشق، وقضت بقية حياتها فيه، هذا ملخص قصة ليلى

بزعمه.

أقول: وهذا كذب محض، وجهل فاضح؛ فإن ليلى بنت الجودي لم

يتزوج بها مالك بن نويرة، وكيف يتزوج بها وهو من أهل اليمامة في قلب جزيرة

العرب وكان وثنيًّا مشركًا، وليلى بنت الجودي نصرانية، وأبوها أحد رؤساء

النصرانية في دمشق. وامرأة مالك بن نويرة التي تزوجها خالد بعد قتل زوجها

اسمها أم تميم بنت المنهال، لم يتعشقها عبد الرحمن، ولم يتغن بحبها ولا تزوجها.

وقد التبس الأمر على هذا الكاتب المسكين لفقره في الأدب الشرقي، فمزج امرأتين

وعجنهما وجعلهما شيئًا واحدًا لحول في عين بصيرته، وسيجيء الكلام على

ليلى بنت الجودى في آخر الرد، إن شاء الله.

(2)

زعم أن ليلى زوجة مالك بن نويرة وقعت مع زوجها في أسر خالد،

وهو كذب أيضًا؛ إذ لم يذكر أحد من المؤرخين (فيما نعلم) أن خيل خالد أخذت

مع مالك زوجته، والحقيقة - كما في الطبري والكامل وابن خلدون وغيرها - أن

خالد ابن الوليد نزل بالبطاح، وبث سراياه، فجاءته الخيل بجماعة من بني يربوع،

منهم مالك بن نويرة، فسأل خالد الذين جاءوا بهم: أهم مسلمون فيبقيهم أم

مرتدون فيقتلهم؟ فاختلفوا فشهد أبو قتادة ونفر أنهم مسلمون، وأنهم أذَّنوا وصلوا

معهم وشهد آخرون أنهم غير مسلمين فأمر بهم خالد فقتلوا، ولم يذكر أحد أنه

كانت معهم امرأة، مع أن الرواة ذكروا كل شيء، حتى إنهم لم يغفلوا عن ذكر أن

ذلك كان ليلاً، وأن البرد كان شديدًا.

(3)

زعم أن امرأة مالك كانت قد وهبت قلبها لزوجها، وأزمعت أن تبذل

كل مرتخص وغالٍ في فدية زوجها، فتزينت بحليها وحللها وذهبت إلى خالد لتشفع

لزوجها؛ فلما رآها عشقها، وأصدر أمره بقتل زوجها، ودعوة إمام لعقد النكاح،

وخلق لها عباءة كثيفة، وزعم أن النساء يومئذ كن محتجبات وكان كشف وجوههن

عارًا، وهذا كله كذب وجهل، فإن الحجاب لم يكن له وجود في ذلك الزمان حتى

في نساء المسلمين؛ فكيف بنساء المرتدين؟ وإنما حدث الحجاب بعد ذلك بزمن

طويل. (انظر كتابنا: الإسفار في مسألة الحجاب والسفور) ولم يكن عقد النكاح

يتوقف على إمام المسجد في بلاد العرب في ذلك الزمان ولا في هذا أيضًا، وإنما

هي عادة من عادات المسلمين في الهند وفي كثير من البلاد الإسلامية، وليس ذلك

بمشروع في الإسلام، ويكفي لعقد النكاح أن يشهد شاهدا عدل من المسلمين، ولكن

أهل البلاد المتحضرة يحضرون القاضي أو نائبه عادة، وأما خالد فلم يكن له إمام،

بل هو القائد والإمام كما هي العادة في ذلك الزمان أن يكون الأمير هو الإمام، ولم

يدخل خالد بامرأته في تلك الليلة، بل تركها حتى تنقضي عدتها كما في ابن جرير:

مجلد 64، ص 192.

(4)

لو فرضنا أن أم تميم ذهبت إلى خالد لتشفع في زوجها لما أمكن أن

يتصور متصور - حتى في هذا الزمن - أن امرأة شريفة زوج أمير تنزين بما

عندها من حلي وحلل وتذهب في الليل البهيم، فتدخل على رجل أجنبي يملك

ناصيتها، وتخلو به في خيمته، لأمور:

(أ) أن التجمل والتحلي إنما يكون وقت الفرح لا وقت الحزن، ولا سيما في

ذلك الوقت العصيب حين أحب الأحباب إليها تحت خطر الموت، ينتظر كلمة

تخرج من بين شفتي القائد تحييه أو تقتله، فتزينها في ذلك الوقت مما لا يعقله أحد

يعرف عادات العرب وأحوالهم؛ لأنها لو فعلت ذلك لقضت على نفسها وعلى خالد؛

إذ الخلوة بالأجنبية - ولا سيما في الليل - فسق موجب للعزل والتعزير، ولا يمكن

لامرأة عرفت بذلك أن تكون زوجة لسيد من سادات العرب، بل ولا من أوساطهم

ولا لرجل عرف بذلك أن يكون أميرًا لأبي بكر.

(ب) أن (الديمقراطية) عند العرب كانت في عنفوان شبابها، ولم يكن

الجنود يخضعون ولا يطيعون الأمير إذا رأوا منه منكرًا، والدليل موجود في نفس

القصة وهو شيئان:

(الأول) : أن بعض الجند - وهم الأنصار - اختلفوا مع قائدهم خالد في

التوجه إلى البطاح [1]، فقال لهم خالد: لا أكره أحدًا منكم، أما أنا فذاهب؛ فتخلفوا

عنه وذهب، ثم بعد ذلك ندموا ولحقوا به.

(الثاني) : أن أبا قتادة أعلن إنكاره على خالد في قتل مالك وأصحابه،

حتى ذهب مغاضبًا له إلى المدينة، واشتكى لأبي بكر الصديق الخليفة ما رأى من

خالد، واستعان بعمر واجتهدا أن يحملا أبا بكر على عزل خالد فلم يفعل.

(ج) لو أن أبا قتادة ومن وافقه من الناقمين على خالد، وفيهم عمر بن

الخطاب الذي كان كالوزير لأبي بكر، وكان إذ ذاك مجتهدًا في حمل أبي بكر على

عزل خالد، وبقيت في قلبه حزازة على خالد حتى إنه حين تولى الخلافة عجل

بعزله، فلو أن قتادة رأى خالدًا قد خلا بامرأة مالك ليلاً قبل عقد النكاح، بل في

حياة زوجها، لأخبر بذلك عمر، وكانت حجته قائمة على فسق خالد، ثم لشنع

عمر بذلك على خالد، وألزم أبا بكر عزله، فلا يجد منه بدًّا.

(4)

ربما تكون العادة عند الأوروبيين - قوم الكاتب - أن المرأة إذا أرادت

أن تشفع عند أمير تجملت وتزينت وتغنجت وتدللت لتسبي قلب ذلك الأمير،

فيقضي حاجتها، وأما العرب فإن العادة عندهم على خلاف ذلك، فإن المرأة إذا

ذهبت إلى رجل أجنبي ولم يكن أميرًا تذهب إليه حزينة متبذلة باكية حيية خاشعة،

وأما المرأة التي تتزين وتتبرج وتذهب للأجانب فهي في نظر العرب بغيّ فاجرة،

لا تتمكن من الدخول على الأشراف.

(5)

زعم " كارهام لويس " أن تلك الليلة كانت ليلة هياط ومياط، وأكل

وشرب، وسكْر ورقص، وخلاعة وبطر؛ احتفالاً بالنصر والظفر، وقد زل

حماره في الطين في هذا أيضًا، ولو أشرف إشرافة على التاريخ الإسلامي أو ألمَّ

إلمامة به، ولا سيما في أوله لعلم أنه كاذب، ولخجل من نفسه (كما يقول الإنكليز)

قبل خجله من الناس. لو كانت الجنود المحمدية يا مستر كراهام تحتفل عند

الانتصار بالأكل والزمر والخمر والعهر، ما أكلت جنود أسلافكم وسادتكم الذين

استعبدوكم قرونًا - أعني الروم الجبابرة - في ربع قرن أو أقل على قلة

عددهم وعُددهم.

إني أرثي لجهلك يا مستر كراهام، وأتمنى أن تعلم - ولو قليلاً - سيرة محمد

وأصحابه الأبرار الأطهار. أفتظن أن أصحاب محمد كأصحاب نابليون وكجنودكم

في الوقت الحاضر: كلما انتصروا فزعوا إلى اللهو والفواحش كالدواب؟ إن

أصحاب محمد كانوا يحيون لياليهم في معسكرهم بالصلاة وتلاوة القرآن اقتداء

بنبيهم، اقرأ يا كراهام في سورة السجدة من القرآن: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ

المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 16) ثم

اقرأ في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ

بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ

السُّجُودِ} (الفتح: 29) ثم اقرأ في سورة الذاريات: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا

يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 17 - 19) وكذلك كان هدي نبيهم وإمامهم كما وصفه الشاعر بقوله:

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

_________

(*) نشرها (كرهام لويس) المستشرق الإنكليزي في جريدة المصور الأسبوعي للهند، صور فيها الصحابي خالد بن الوليد القائد الحربي الأعظم في فسطاط كمجالس راجات الهند تدار فيه كؤوس المُدام، واصطفت نراجيل دخان التبغ، وصور ليلى بنت جويد متزينة بأحدث أزياء نساء أوربة وحلي الشرق، تدخل عليه لتشفع لمالك بن نويرة زوجها بزعمه إذ أسرها معه في حرب الردة، فعشقها، وأمر بقتله وتزوجها. وقد نشرنا الفصل الأول في ج 7 م 34.

(1)

أرض بني يربوع، قوم مالك بن نويرة.

ص: 82

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(تأخر عدة أشهر)

(كتاب المُحلى للإمام أبي محمد علي بن حزم)

من حسنات المطابع في هذا العصر أن يسرت لكل مشتغل بفقه الحديث أن

يقتني كتاب المحلى مطبوعًا أحسن طبع على أجود ورق في أحد عشر جزءًا، بعد

أن كان من كنوز أغنى الخزائن، وأندر الذخائر، وحسبك من فضله ونفعه شهادة

سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه هو والمغني لابن قدامة أحسن ما

كتب المسلمون في الفقه؛ فهي تغني عن وصفه وبيان إمامة مؤلفه وفضله، وثمن

النسخة منه 150 قرشًا، وهو يطلب من طابعه الأستاذ الشيخ محمد منير الدمشقي

ومن مكتبة المنار.

* * *

(كتاب الفتح الرباني

لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني

وكتاب بلوغ الأماني، من أسرار الفتح الرباني)

الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - إمام أئمة السنة حفظًا ورواية ودراية وفقهًا،

وجرحًا وتعديلاً، ومسنده أوسع الأصول في الحديث وأعمها فائدة، والمسانيد

موضوعة لحفاظ الحديث، يشق على غيرهم الاستفادة منها، فإن كان تلاميذه منهم

لم يحتاجوا إلى ترتيب أحاديثه على أبواب كتب السنن كما فعل الحافظ أبو داود

السجستاني من أعلامهم، فالفقهاء من أتباعه كانوا أحوج الناس إلى ذلك، ونحن لا

ندري هل وجد فيهم من قام بهذه الخدمة أم لا، وإنما ندري أنه ليس في الأيدي

شيء من ذلك، وكأن الله تعالى ادخرها لأحد إخواننا أصدقاء المنار وهو الأستاذ

الفاضل خادم السنة السنية الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، ولعمري

أنه قد قاسى من العناء في هذا الترتيب ما لم يكن يُظن أن أحدًا يطيقه في هذا

العصر، وسلك فيه سبيلاً لم يُسبق إلى مثله: جعل الكتاب كله اثني عشر جزءًا،

وكل جزء منه أربعين ملزمة (كراسة) من ملازم الطبع بالقطع الكامل، وعد

أحاديث كل كتاب بالأرقام، واقتصر في السند على اسم الصحابي، وطبعها بحرف

كبير مضبوط بالشكل الكامل؛ فهذا كتاب الفتح الرباني. وأما كتاب بلوغ الأماني

فهو شرح وجيز له في أدنى الصفحات بحرف أصغر من حرف المتن. يبدأ فيه

بذكر السند، فتفسير غريب الحديث، فالضروري من معناه، فتخريجه فنحث

المهتدين بالسنة على المبادرة إلى اقتنائه.

_________

ص: 87

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سبب تأخر هذا الجزء من المنار

وسيكون ما بعده أكبر وأحسن

أخرنا هذا الجزء، وهو الأول من هذا العام؛ انتظارًا لأجوبة المشتركين

الذين خيرناهم في الجزء الماضي بين أكرم الخصال وأشرف الخلال، ولم أرضَ

لأحد منهم إلا ما يرضاه الله عز وجل للذين أورثهم الكتاب من عباده

المصطفين لدينه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ

اللَّه} (فاطر: 32) ويؤسفنا أن كثيرًا منهم رضي لنفسه ما لا يرضاه الله لأحد

من أهل دينه وارثي كتابه، حتى أدنى الطبقات وهم الظالمون لأنفسهم، رضوا بأن

يأكلوا حقه بالباطل سحتًا، واختاروه على أكله حلالاً عن سماح ورضا، وعفوا عما

مضى؛ كما علم كل من قرأ الجزء الماضي، ومنهم من وفّى واعتذر فقبلنا عذره،

ومنهم من وعد وطلب النظرة إلى الميسرة فأنظرناه، ومنهم من طلب العفو والسماح

فسامحناه، ولكن أكثر مشتركي هذا القطر لم يردوا لنا جوابًا، فهؤلاء لا نرسل

إليهم هذا الجزء، وإن جاز أن يكون بعضهم لم يقرأ خطاب التخيير بعد، وأما أهل

الأقطار البعيدة، ولا سيما جزائر الهند الشرقية، فموعد رجع الخطاب منهم قد صار

قريبًا.

وعَدت بتجديد حياة المنار صورة ومعنى، فأما الورق فكما يرى القراء جودة

وحسنًا، وأما الحروف فلما يتم كل ما أوصينا عليه منها، وأما الصحائف فقد زدنا

في هذا الجزء كراسة، ونرجو أن نزيد فيما بعده أيضًا حتى يعود مجلده كما كان -

إذ كانت سنته اثني عشر شهرًا أو أكثر - إن وفَّى لنا المشتركون في تجديد النظام،

وصاروا يؤدون قيمة الاشتراك في أوائل العام، ونفتح لهم فيه الأبواب الأدبية

والعلمية التي عزمنا عليها.

ونحمد الله أن الذين يعرفون قدر المنار لا يعدلون به غيره من المجلات

الدينية التي قلما يجدون فيها شيئًا إلا منقولاً من الكتب المطبوعة الرخيصة، يمكن

أن يستغنوا به عنها، وما يجدونه فيه من حقائق التفسير وحل المشكلات بالفتاوى

وغيرها لا يجدونه في غيره ألبتة، وإنما يجدون شيئًا تطمئن به القلوب، وتنشرح

له الصدور، كما تراه في تفسير أمر يعقوب عليه السلام أبناءه بالدخول من

أبواب متفرقة، والحاجة التي كانت في نفس يعقوب فقضاها بهذه الوصية، فاقرأ

جميع التفاسير من أقدمها إلى أحدثها، ثم ارجع إلى تفسير المنار، وكذلك سائر ما

تقدم وما تأخر من هذه السورة وغيرها، واسأل عقلك، واستفت قلبك في ذلك كله.

_________

ص: 88

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سؤالان عن الربا في دار الحرب

وعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

(س 3 و4) من صاحب الإمضاء في بنجر نقارا (جاوه) :

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة الأستاذ القدير السيد محمد رشيد رضا المحترم، أطال الله عمره:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن لمناركم الأغر مكانة في قلب كل

مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وبما كان للإسلام من مجد لعبت به الأهواء، لا

زال مناركم يرسل أشعته إلى أقصى بلاد الشرق والغرب؛ ليستضيء بنوره من

أضله الله وأعماه عن الحق.

وبعد فأقدم لفضيلتكم سؤالين أيها البحر الزاخر علمًا مسترحم الجواب عليهما

على صفحات مجلتكم الغراء لتعم الفائدة، والله ولي التوفيق.

(1)

إن الربا انتشر في أرض جاوا في هذه الأيام انتشارًا لا عهد لنا به،

حتى إن بعض الأساتذة الذين كانوا في مقدمة الآمرين بالمعروف والناهين عن

المنكر والمقاومين للربا - خرجوا من المدارس وأصبحوا اليوم في مقدمة المرابين،

فإذا سألناهم عن الدافع إلى هذا أجابونا بلسان واحد بأن صاحب المنار أفتى بجواز

الربا على الإفرنج، وإذا رأينا أحدًا يرابي على الوطنيين أجابنا بأن موظفي

الحكومة لا دينيين، وأننا في دار حرب. وقد أفتى صاحب المنار بجواز الربا في

دار الحرب؛ فهل لما أشيع عن مناركم من صحة؟ إذا قلتم نعم، فستقفل الحوانيت،

ويقف دولاب تجارة العرب بجاوا، ويتوجهون إلى الربا اعتمادًا على فتواكم؛ فما

رأي فضيلتكم؟ أرجو الجواب في أول عدد من مناركم ليحق الحق ويزهق الباطل

(إن الباطل كان زهوقًا) .

(2)

هل الدين الإسلامي دين سياسة أم لا؟

لأن في أرض جاوا حزبين كبيرين متشاجرين أحدهما حزب المحمديين،

والآخر شركة إسلام إندونسيا، وهذان الحزبان مع اتفاقهما في المبادئ السلفية

ما زالا مختلفين في هذا الأمر.

فالمحمديون يقولون بأن الدين الإسلامي ليس دين سياسة، ولا يمنعنا عن

الاشتراك مع الحكومة والتوظيف بدوائرها السياسية وغيرها، وحجتهم قوله تعالى:

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ

وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) إلى آخر الآية، ومدارسهم مرتبطة بوزارة

المعارف. أما حزب شركة إسلام فإنهم يقولون إن الدين الإسلامي دين سياسة، ولا

يسمح لنا بالتوظف في دائرة الحكومة والارتباط بدوائرها السياسية وغيرها،

وحجتهم قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (المجادلة: 22) إلى الآخر الآية.

ويحتجون على حجج المحمديين بأن الله نهانا عن الذين قاتلونا في الدين،

والقتال يكون بالسيف أو بالضغط والإرهاق والاضطهاد ومنع نشر الإسلام وفضائله

لهذا أرجو أن تشرحوا لنا الحق في هذا الأمر لعل الله يهدي الفريقين والذي مال

عن الطريق السوي، فيتفق الفريقان على نشر الإسلام ومبادئ السلف الصالح بدلاً

عن النزاع الذي لا نتيجة من ورائه إلا الاضمحلال.

أرجو نشر الجواب في أول عدد من مناركم والسلام عليكم.

...

...

...

من تلميذكم المخلص

...

...

... أبو بكر بن سعيد باسلامة

جواب المنار

(1)

أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب:

إن ما تعنونه من إفتائي بحل أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب ليس كما

ذكرتم أو نقلتم، وإنما هو جواب عن سؤال ورد على المنار من مدير جريدة الوفاق

(هستنبرغ جاوه) ونشر في (ج 8 مجلد 27) ، الذي صدر في ربيع الآخر

سنة 1346 (في فتوى بعض العلماء بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة

والخيانة ونحوها مما كان برضاهم وعقودهم، فهو حِلّ لنا مهما يكن أصله حتى

الربا الصريح) .

هذا موضوع الاستفتاء، والمستفتي فيه منكر له أشد الإنكار كما هو مبين

بنص كلامه في السؤال؛ إذ جعل هذه الفتوى خطرًا على التوحيد ومقتضية لتحليل

جميع المحرمات. وقد بينا في جوابه أصل الشريعة في إباحة أموال الحرب بإجماع

المسلمين وما قيد العلماء به عمومه. ولم يخالفنا أحد في ذلك فراجعوا فتوانا في

(ص 575 من مجلد المنار 27) ، فإن بقي في أنفسكم شبهة فيه فبينوه لنا. وقد

كتبنا في آخره (إن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد ولا تقتضي تحليل شيء

من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها) ا. هـ.

وجملة القول: أنني ما أفتيت في شيء انفردت به في هذا الموضوع، وإن

الذين ذكرتم أنهم يستحلون أخذ الربا من المسلمين بدعوى أنهم (لا دينيين) أي

كفار تعطيل وإباحة - لا يمكنهم أن يدَّعوا أن صاحب المنار أفتى بتكفيرهم ولا بأخذ

الربا منهم، ولا بجعله حرفة للمسلمين، وإنما يتبعون أهواءهم، على أننا سنصدر

إن شاء الله تعالى في هذا العام كتابنا في مباحث الربا والمعاملات المالية

العصرية، التي نشرناها في مجلدات المنار بعد تلك الفتوى، فانتظروا فالمسألة

ليس من البداهة بحيث يحررها المرابون والتجار، وخطر الاستدانة من الإفرنج

بالربا أضعف مما تتصورون من عكسه، بل هو الذي جعل المسلمين أفقر الشعوب.

* * *

(2)

الدين الإسلامي دين سياسة أم لا؟

إن قول حزب المحمديين إن الإسلام ليس دين سياسة خطأ، وإن استنباطهم

من هذا القول أن الإسلام لا يمنعهم من الاشتراك مع الحكومة في وظائفها وأعمالها

غريب، فهو مبني على أصل فاسد، ولو لم يكن الإٍسلام دين سياسة لكان منعه من

الاشتراك مع غير المسلمين في أعمال حكومة غير إسلامية أشد وأقوى.

وأما احتجاجهم بآيات سورة الممتحنة {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} (الممتحنة: 8) إلخ،

فهو في غير محله، فإن موضوعها أن الإسلام لا ينهى أهله في داره عن البر

والعدل في معاملة الكفار غير المحاربين لهم في دينهم ووطنهم، وإنما ينهاهم عن

تولي المحاربين المنازعين لهم في دينهم ووطنهم، والمراد بتوليهم مساعدتهم على

أعمالهم الحربية وكل ما فيه جعل السلطان والقوة لهم على المسلمين. فإذا كان جعل

مدارسهم تابعة لمدارس الحكومة غير الإسلامية يضر الذين يتعلمون فيها بإفساد

عقائدهم وأخلاقهم ودينهم أو يؤيد سلطانهم عليهم - تكون تابعيتها لها مما نهى الله

عنه من توليهم؛ سواء سمي الإسلام سياسيًّا أم لا، فإن الحكم منوط بنص القرآن

لا بتسمية الدين سياسة أو عدمه، وإذا كان ذلك نافعًا للمسلمين بحفظ حقوقهم ويمنع

أو يخفف الأذى الذي يقع عليهم، فإنه لا يكون محرمًا، وقد يكون بمقتضى السياسة

الإسلامية مستحبًّا أو واجبًا، فهؤلاء أحوج إلى إثبات كون الإسلام دينًا سياسيًّا فيما

يعملونه ويطلبونه.

وأما قول (حزب شركة إسلام) إن دين الإسلام دين سياسي، فهو لا يبيح لهم

التوظف في مصالح حكومة بلادهم غير الإسلامية فأصله هو الصحيح، وما بني

عليه من الحُكم ففيه نظر ظاهر، فإن سياسة الملة والأمة ليست منصوصة في

الكتاب والسنة بعبارات جلية يفهمها كل أحد أو يقدر كل أحد على استنباطها

من النص، وإنما أساسها المصلحة العامة وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان

والأحوال، وأقوم وسائلها التشاور بين أهل الحل والعقد من عقلاء علماء الأمة

بمصالحها لا علماء الاصطلاحات الفقهية وحدها؛ ألم تر كيف كان سياسي الخلفاء

الراشدين بل إمام سياسة الإسلام الأعظم عمر بن الخطاب يختار أمراءه من دهاة

الأذكياء، لا من عباد الفقهاء.

وأظهر قواعد أئمة الفقه فيها قاعدة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -

المأخوذة من سياسة السنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وهي أن أحكام العبادات تُبنى

على العمل بظواهر نصوص الكتاب والسنة، وأحكام السياسة والمعاملات الدنيوية

تبنى على جلب المصالح ودرء المفاسد دون ظواهر النصوص، فإن تعارضا يؤول

النص لمراعاة المصلحة.

وعندنا من مجربات الشعوب الإسلامية في ذلك ما وقع لمسلمي الهند مع

الدولة الإنكليزية، فقد كان المسلمون هم حكام الهند، فسلبت هذه الدولة منهم الحكم

بجهلهم، فظنوا أن دينهم يوجب عليهم عدوانها عداوة سلبية بأن يجتنبوا مشاركتها

في شيء من أعمال الحكومة الإدارية والقضائية وأن يجتنبوا تعلم لغتها وعلومها

فكانت عاقبة ذلك أن أضاعوا ثروتهم وقوتهم فصاروا أفقر من الوثنيين والبرس

(أي الفرس) وأضعف؛ فهل هذا مقتضى السياسة الإسلامية التي تحفظ بها مصالح

الإسلام والمسلمين؟ كلا إن المسألة أكبر مما فهمه هؤلاء وأولئك فيجب درسها

وتمحيصها على الجامعين بين معرفة نصوص الشرع وحكمه ومعرفة شؤون العصر

على الأساس الذي وضعناه لهم.

_________

ص: 127

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الربا والزكاة والضرائب

ودار الحرب

(س 5 - 7) من صاحب الإمضاء في بيروت لصاحب الفضيلة الأستاذ

العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) المعظم.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:

فأرجوكم أن تتفضلوا بنشر أسئلتي المحررة أدناه مع الإجابة عليها في (المنار)

وتكرموا بقبول خالص الشكر ومزيد الاحترام.

(1)

هل يجوز شرعًا وضع مال في أحد المصاريف الأجنبية، وأخذ ربا

عنه، ودفعه (أي الربا) إلى الحكومة عن الضرائب المتنوعة التي تفرضها وتجبر

الناس على دفعها؟

(2)

هل يجوز دفع الضرائب - كأعشار الزروع وغيرها - إلى الحكومة

من أموال الزكاة؟

(3)

متى يُدعى الأجنبي وأمته (أمة محاربة) بعرف الشرع؟ وما هي

(بلاد الحرب) ؟

...

...

...

...

أحد قراء المنار

...

...

...

...

... عزت المرادي

(المنار)

هذه المسائل من متممات المسألة الأولى من مسائل استفتاء جاوه الذي قبله،

ونجيب عنها بالإيجاز:

(5)

أخذ الربح من المصارف الأجنبية:

إن الربا المحرم قطعًا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارًا

كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير؛ فهل الربح المسئول عنه كله من الربا

القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟

المشهور أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح

العام الذي تستغله منها، وهو أنواع أقلها ما هو من الربا الذي عرفه الإمام أحمد

وغيره من أئمة السلف، وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أنه كان

يكون للرجل على الرجل دين مؤجل فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به

زاده في المال وزاده صاحب المال في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية

وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها ولا للمودعين لأموالهم فيها.

وأما كونه بعض مالها المحرم في الإسلام، فمثله كثير من أموال الناس،

والعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر الذي قلما يوجد فيه

كسب يُلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام؛ فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟

فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم، لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في

الضرائب المحرمة - من باب دفع الفاسد بالفاسد - لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له

ذلك. ومن اعتقد أنه غير ربا شرعي قطعي لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم

الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون

بنص قطعي، بل قال أبو يوسف: إنه لا يقال في شيء إنه حرام إلا إذا كان بيِّنًا

في كتاب الله بغير تفسير. ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في

ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينَّا حكم

الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل.

* * *

(6)

دفع الضرائب من أموال الزكاة:

أموال الزكاة المستحقة على صاحبها لا يجوز دفعها إلا للأصناف التي

بينها الله تعالى في آيتها المعروفة] إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [..

إلخ (التوبة: 60) ، وزكاة الزرع كالأعشار إذا أخذتها الحكومة تسقط عن

صاحب الزرع المستحقة عليه، ولكن لا يسقط عنه زكاة النقدين بدفعها إلى الحكومة

أداء لضرائب الظلم. وفي هذا الباب مشكلات تختلف باختلاف الحكومات:

إسلامية، وغير إسلامية.

* * *

(7)

الأمة المحاربة التي تسمي بلادها دار الحرب:

دار الحرب مقابلة لدار الإسلام التي تكون فيها الحكومة الإسلامية التي تقيم

أحكام الإسلام، فكل أمة أجنبية لا تعقد حكومتها مع الحكومة الإسلامية معاهدة على

السلام والأمان وعدم الاعتداء تكون أمة محاربة، وتكون دارها دار حرب؛ لأن

الحرب فيها عرضة للوقوع في كل وقت؛ إذ لا عهد يمنعها، وللفقهاء تعريف لهما

لوحظ فيهما جريان الأحكام من الجانبين.

عقد العلامة ابن مفلح الفقيه الحنبلي فصلاً وجيزًا لهذه المسألة في كتابه

(الآداب الشرعية) قال فيه ما نصه (ج 1، ص 231) : (فكل دار غلب عليها

أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفار فدار الكفر ولا دار

لغيرهما) . وقال الشيخ تقي الدين، وسئل عن ماردين: هل هي دار حرب أو دار

إسلام؟ - قال: (هي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الإسلام التي يجري

عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار،

بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة

الإٍسلام بما يستحقه، والأول هو الذي ذكره القاضي والأصحاب والله أعلم) . اهـ.

وقال في كشاف اصطلاحات الفنون: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم

إمام المسلمين من البلاد، ودار الحرب عندهم ما يجري فيه أمر رئيس الكفار

(كلمة الكفار تشمل - في الاصطلاح الشرعي - غير المسلمين من كتابيين ووثنيين

ومعطلة) من البلاد كما في الكافي، وفي الزاهدي أن دار الإسلام ما غلب فيه

المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من الكافرين. ولا خلاف

في أنه يصير دار الحرب دار إسلام بإجراء بعض أحكام الإسلام فيها. وأما

صيرورتها دار الحرب - نعوذ بالله - فعنده بشروط:

(أحدها) : إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم، ولا يرجعون إلى

قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من أحكام الإسلام، كما يأتي في الحرة.

(وثانيها) : الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد

الإسلام يلحقهم المدد منها.

(وثالثها) : زوال الأمان الأول، أي لم يبق مسلم ولا ذمي آمنًا إلا بأمن

الكفار (أي غير المسلمين) ولم يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد

الذمة قبل استيلاء الكفرة. وعندهما لا يشترط إلا الشرط الأول.

وهو يعني بقوله (فعنده) الإمام أبا حنيفة، وبقوله:(وعندهما) أبا يوسف

ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ولفقهاء المذاهب أقوال أخرى في دار الإسلام ودار الحرب وأحكامها،

والأصل فيها أن دار الإسلام ما كان أهلها من المسلمين وغيرهم آمنين بسلطان

الإسلام وحكمه العدل، وجارية فيهم أحكامه؛ ودار الحرب ما كان أمانها وأحكامها

بسلطان غير المسلمين وغير أحكام الإسلام؛ سواء كانت بينهم حرب أم لا؛

فيدخل في دار الحرب ما كان حكامها من المعاهدين المسلمين، ولهذه المسألة فروع

مشكلة في هذا، فإنَّ بعض البلاد التي تسمى حكوماتها إسلامية لا تجرى فيها

الأحكام الإٍسلامية من حيث هي إسلامية، بل لها تشريع وضعي مخالف للشرع

الإٍسلامي يسمى باسم البلد أو القطر، ويسمى رئيس حكوماتها شارعًا، وتنفيذ

الأحكام باسمه؛ بمعني أنه هو الشارع والمنفذ لها بسلطانه واسمه، لا بحكم الله

واسمه، ولا نخوض في بسط هذه المسائل.

_________

ص: 131

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(س8 -10) من صاحب الإمضاء بدمشق الشام:

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ

إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7) .

حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإن الأمر قد أشكل علينا في بعض المسائل، ولم نعثر على شيء منها،

ونريد منكم أن تبينوا أحكامها بالتفصيل التام، ولم نر أحدًا نعتمد - بعد الله تعالى -

إلا جنابكم، وهاهي الأسئلة:

1 -

ما حكم استعمال الذهب في الكتب الإسلامية وغيرها (أي تذهيب

الكتاب في الكعب) ؟

2 -

ما حكم طبع الكتب للأديان الباطلة وتجليدها؟

3 -

هل يجوز حفر الصليب على النحاس أو على الزنك، وطبعها بالذهب

على ظهر الكتاب؟

أفتونا، وانشروها في صفحات مناركم الغراء، ولكم الأجر والثواب على الله

تعالى، ودمتم للمسلمين ذخرًا.

...

...

...

...

... الداعي

...

...

...

... محمد منصور نجاتي

(8)

تذهيب جلد الكتب:

تزيين الكتب المجلدة بطبع أسمائها وأرقام عددها، وغير ذلك من الزينة

بالمادة الذهبية المعروفة عند المجلدين - مباح لا يدخل فيما نهى عنه النبي - صلى

الله عليه وسلم - من الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا ما زيد على

ذلك خاصًّا بالذهب كما بيناه من قبل مرارًا في باب الفتاوى فلا نعيده.

* * *

(9)

طبع كتب الأديان الباطلة وتجديد كتبها:

نشر الأديان الباطلة والمساعدة عليه إقرار لها والمساعدة على الدعوة إليها أو

معرفتها والاطمئنان بها فهو حرام، على الأقل في حال إنكارها والبراءة منها. وأما

الرضا بها واستحلال نشرها والمساعدة عليه فهو كفر.

* * *

(10)

حفر الصليب على النحاس أو الزنك وطبعه:

الصليب شعار لدين غير الإسلام، فلا ينبغي لمسلم أن يساعد أهله على

إظهاره، ولا أن يعارضهم فيه في دار الإسلام؛ ولكن أهله قد يتخذونه علامة

لبعض مصنوعاتهم وتجاراتهم فلا يكون فيه إقرار لشيء من عقائد أهله ولا من

عباداتهم، ففي هذه الحالة لا يعد من يحفره في المعدن لإعلان تجاري مثلاً موافقًا

لشيء من دين أهله، ولا جانيًا على دينه هو.

_________

ص: 134

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

‌حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبر

الشيخ محمد مصطفى المراغي

عزم جماعة من طبقات الأمة العالية والوسطى إقامة حفلة تكريم عامة لشيخ

الإسلام المراغي ابتهاجًا بعودته إلى مشيخة الأزهر ورياسة المعاهد الدينية بعد فترة

خمس سنين كادت تقضي على ما كان فيه من دين قويم وخلق كريم وعلم نافع،

وتجعله بيئة دسائس ورياء وفتن وأهواء وخرافات ونزغات مادية، فكانت كسني

يوسف السبع الشداد، وكان هذا العام بعودة المراغي كذلك العام الذي أغاث الله به

الناس، ذلك العام كان غوثًا من القحط والجدب الذي كاد يقضي على الحياة البدنية،

وجاه هذا العام غوثًا من الجهل وفساد الأخلاق الذي كاد يقضي على الحياة الدينية

العلمية.

ولقد سعى الأستاذ لصرف الناس عن إقامة هذه الحفلة، زهدًا منه في هذا

الظهور والشهرة، بيد أن الأزهر - علماءه وطلابه - لم يتسن لأستاذهم

ورئيسهم صرفهم عن الانفراد بإقامة حفلة باسمهم خاصة بهم، ورياسته عليهم

إسلامية من أقوى دعائمها اتباع الإجماع، وكانوا على التكريم مجمعين، والعلم

بإجماعهم كان نطقيًّا لا سكوتيًّا؛ لأنهم محصورون، فجمعوا النفقة المقدرة للاحتفال

من أنفسهم بنظام اختياري عادل، واختاروا للاحتفال أفسح مكان في مصر، وهو

معرض الجمعية الزراعية الذي تعرض فيه نتائج زراعة القطن وصناعاته، فراعوا

النظير بعرض نتائج العقول والفنون فيه، ودعوا إلى حضوره ألوفًا من رجال

الطبقات العليا والوسطى، وفي مقدمتهم أمراء البيت المالك والوزراء العاملون

والقاعدون، وكبار رجال القصر والدواوين، وممثلو الدول الإسلامية السياسيين،

ووضعوا من موائد الشاي وما يتبعه عادة من أنواع الحلوى والفطائر ما يسع المئين أو

الألوف: منها ما وضع للمتعارفين من جمع القلة، ومنها ما وضع للمتجالسين من

جمع الكثرة، ووضع للمحتفل به ولأعضاء لجنة الاحتفال مائدة في صدر المكان مزينة

بالرياحين والأزهار بجانب منبر الخطابة، وبجانبه الآخر موائد الأمراء والوزراء،

وأمام موقف الخطابة آلة المذياع الكهربائي (الراديو) ووضع في جو المكان

أصوار أو أبواق متفرقة من مضخمات الصوت لتسمع كل من فيه ما يُلقى على

المنبر كأنه بجانبه.

وكان وراء هذا المجلس الفسيح الخاص بالمدعوين مجلس آخر للألوف

المؤلفة من مجاوري الأزهر وهم مع علمائهم أصحاب الدعوة، وقد جلسوا بترتيب

ونظام تام كنظام الجيش الألماني.

ولما كمل الجمع أقبل الشيخ الأكبر فانتصب القاعدون وقوفًا إجلالاً له وتكريمًا،

وهتفت جيوش المجاورين دعاء وترحيبًا، ثم أديرت كؤوس الشاي على جميع

الموائد في وقت واحد، وتلاها الطواف بأكواب شراب الليمون والبرتقال المثلوج،

بنظام دقيق سريع، ولما فرغ الجموع مما لذ لهم وطاب أكلاً وشُربًا افتتحت الحفلة

بتلاوة أشهر القراء لآيات من الذكر الحكيم، ثم نهض رئيس لجنة الاحتفال صاحب

الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد اللبان فألقى خطبة الافتتاح، وتلاه الخطباء

والشعراء من علماء الأزهر ونابغي طلابه، وكان أولهم أشهر علماء الأزهر في

الخطابة الارتجالية والكتابة العصرية: صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور

الزنكلوني، فبدأ خطبته بما يعهد به من مراعاة مقتضى الحال، بصوته الجهوري

المعتاد، وما لبث أن هاجته ذكرى ما سامته المشيخة الساقطة من هضم، وما

أرهقته من عسر وظلم، وما انقلب إليه بانقلابها من عزة وكرامة في وقفته هذه

على أعين عظماء الأمة، ومرأى ومسمع من رجال الدولة، فإذا به وقد غلبه على

رأيه ورويته غاشية من مراقبة الله عز وجل شغلته عن المضي في خطبته

بمداراة خشوعه، وكفكفة دموعه، فمكث هنيهة يستنجد قلبه، ويستلهم ربه، فألهمه

حسن المخلص بتوجيه التهنئة على هذه النعمة إلى الأمة؛ لأن ظفر الأزهر ظفر لها،

وأن يكل أمر تكريم المراغي إلى الله الذي رفع ذكره، وأعلى قدره، ووضعه في

الموضع اللائق به، ومكنه من الإصلاح الذي خُلق له، وختم الخطبة بالدعاء

لجلالة الملك وولي عهده.

لا يتسع المنار لما تحيط به الصحف اليومية من وصف هذه الحفلة بالتفصيل،

ونشر ما ألقاه أعلام الأزهر فيها من الخطب والقصائد؛ وإنما الواجب عليه أن

يبدأ بنشر خطبة المحتفل به، فهي أفصحها لفظًا، وأبلغها معنى، وأصحها بيانًا لما

ينويه من الإصلاح، على منهج المصلح الأول الأستاذ الإمام - قدس الله روحه -

وجعله خير خلف له، فيما نوَّه به من رفع ذكره، وتخليد حمده وشكره.

* * *

خطبة الأستاذ الأكبر في حفلة تكريمه

حضرات السادة الأعزاء:

أحمد الله - جل شأنه - على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم،

وأشكر لحضرات الداعين المحتفلين بِرَّهم وكرمهم، وعاطفة الحب الفياض البادية

في قولهم وفعلهم، في شعرهم ونثرهم، ولحضرات المدعوين تشريفهم واحتمالهم

مشقة الحضور الذي أعربوا به عن جميل عطفهم وحبهم.

ويسهل عليَّ قبول هذه المنن كلها واحتمالها إذا أذنتم لي في صرف هذه

الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف، واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف،

الذي تُجلُّونه جميعًا وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الإسلامية في مصر وغيرها من

البلاد.

ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم فقد دل بالإشارة

والتبع على معانٍ أسمى من غرض التكريم.

دل على أن الأزهر خرج عن عزلته التي طال أمدها، ونهض يشارك الأمة

في الحياة العامة وملابساتها، وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد، وهذه ظاهرة

من ظواهر تغيير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق التعليم فيه، وعن

شعوره بأن في الحياة معارف غير معارفه القديمة يجب أن تدرس وتعرف،

وطرائق في التعليم يجب أن نحتذي ونهتدي بها. ومنذ أربعين سنة اشتد الجدل

حول جواز تعليم الحساب والهندسة والتاريخ في الأزهر وحول فائدة تعليمها لعلماء

الدين، ومنذ أربعين سنة قرأ لنا أحد شيوخنا كتاب الهداية في الفلسفة في داره على

شرط أن نكتم الأمر لئلا يتهمه الناس ويتهمونا بالزيغ والزندقة، والآن تدرس في

كلية أصول الدين الفلسفة القديمة والحديثة، وتدرس الملل والنحل، وتقارن

الديانات وتعلم لغات أجنبية شرقية وغربية.

ومن الحق أيها السادة علينا ألا ننسى في هذه المناسبة - والحديث حديث

الأزهر والأزهريين - ذلك الكواكب الذي انبثق منه النور، الذي نهتدي به في حياة

الأزهر العامة، ويهتدي به علماء الأقطار الإسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه،

ذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية والنشاط الفكري، ووضع المنهج الواضح

لتفسير القرآن الكريم، وعبَّد الطريق لتذوق سر العربية وجمالها، وصاح بالناس

يذكرهم بأن العظمة والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى ومكارم الأخلاق، ذلك

الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته، ولم تقدره قدره إلا بعد أن أمعن في

التاريخ، ذلك هو الأستاذ الإمام محمد عبده - قدس الله روحه وطيب ثراه - وقد

مر على وفاته ثلاثون حولاً كاملة، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين ونحن نتحدث

عن الأزهر أن نجعل لذكراه المكان الأول في هذا الحفل، فهو مشرق النور،

وباعث الحياة، وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتد الظمأ، والدوحة

المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوي لفح الهجير.

الأزهر كما تعلمون أيها السادة هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي

أوجد أممًا من العدم، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة، وكان له هذا الأثر الضخم

في الأرض، فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه وأبنائه واجبات إنسانية، ويشعرهم

بفروض صورية ومعنوية، يعدون مقصرين آثمين أمام الله وأمام الناس إذا هم

تهاونوا في أدائها، وأنهم لا يستطيعون أداء الواجب لربهم ودينهم ولمعهدهم وأنفسهم

إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه، وأجادوا معرفة لغته، وفهموا روح الاجتماع،

واستعانوا بمعارف الماضين ومعارف المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو

متصل بالدين، أصوله وفروعه، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال

بآراء العلماء والاستزادة من العلم، وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي

لا تعرف اللغة العربية، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه، وإلى التساند التام

بين العلماء والطلبة والقوامين على التعليم، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي

مراحل السير في هدوء ونظام وجِدٍّ، وصدق نية، وكمال توجه إلى الله، وحب

للعلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله.

وللمسلمين في الأزهر آمال من الحق أن يتنبه أهله لها:

أولاً - تعليم الأمم الإسلامية المتأخرة في المعارف وهدايتها إلى أصول الدين،

وإلى فهم الكتاب والسنة، ومعرفة الفقه الإسلامي وتاريخ الإسلام ورجاله، وقد

كثر تطلع هذه الأمم إلى الأزهر في هذه الأيام وزاد قاصدوه منها أفرادًا وجماعات،

واشتد طلبها لعلماء الأزهر يرحلون إليها لأداء أمانة الدين وهي بيانه ونشره.

ثانيًا - إثارة كنوز العلم التي خلفها علماء الإسلام في العلوم الدينية والعربية

والعقلية، وهي مجموعة مرتبط بعضها ببعض، وتاريخها متصل الحلقات، وقد

حاول العلماء كشفها فنقبوا عنها وبذلوا جهودًا مضنية، وعرضوا نتائج بعضها

صحيح وكثير منها غير صادق، وعذرهم أنهم لم يدرسوا هذه المجموعة دراسة

واحدة، على أن بعضها متصل بالآخر كما هو الحال في دراسة الأزهر، فإذا وفق

الله أهل الأزهر إلى التعمق في دراسة هذه المجموعة دراسة قديمة حديثة، ودراسة

المعارف المرتبطة بها، وأتقنوا طرق العرض الحديثة - أمكنهم أن يعرضوا هذه

الآثار عرضًا صحيحًا صادقًا بلغة يفهمها أهل العصر الحديث؛ وإذ ذاك يكونون

أداة اتصال جيدة بين الحاضر والماضي، ويطلعون العالم على ما يبهر الأنظار من

آثار الأقدمين، وأعتقد أن التعليم الأزهري على النحو الذي أشرت إليه هو الذي

يرجى لتحقيق الأمل، وأنه مدخر لأبنائه إن شاء الله.

ثالثًا - عرض الإسلام على الأمم غير المسلمة عرضًا صحيحًا في ثوب نقي

خالٍ من الغواشي المشوِّهة لجماله، وخالٍ مما أدخل عليه وزيد فيه، ومن الفروض

المتكلفة التي يأباها الذوق ويمجها طبع اللغة العربية.

رابعًا - العمل على إزالة الفروق المذهبية أو تضييق شقة الخلاف بينها، فإن

الأمة في محنة من هذا التفرق ومن العصبية لهذه الفرقة، ومعروف لدى العلماء أن

الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي يهدي إلى

الحق في أكثر الأوقات، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في

القرون الماضية لمناصرتها، ونشطت أهلها وخلقت فيهم تعصبًا يساير التعصب

السياسي، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسة وبقيت تلك الآراء الدينية لا ترتكز إلا

على ما يصوغه الخيال وما افتراه أهلها، وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها

القرآن، وجعلتها شيعًا في الأصول والفروع، ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء

يلبسان ثوب الدين، ونتج عنه سخف مثل ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد

الشافعي غير كفء لبنت الحنفي، ومثل ما يُرى في المساجد من تعدد صلاة

الجماعة، وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة، وعذبات

العمائم، وطول اللحى حتى إن بعض الطوائف لا تستحيي اليوم من ترك مساجد

جمهرة المسلمين، وتسعى لإنشاء مساجد خاصة.

من الخير والحق أن نتدارك هذا، وأن يُعنَى العلماء بدراسة القرآن الكريم

والسنة المطهرة دراسة عبرة وتقدير، لما فيها من هداية ودعوة إلى الوحدة؛ دراسة

من شأنها أن تقوي الرابطة بين العبد وربه، وتجعل المؤمن رحب الصدر هاشًّا

باشًّا للحق، مستعدًّا لقبوله، عاطفًا على إخوانه في الإنسانية، كارهًا للبغضاء

والشحناء بين المسلمين.

قد أتهم بأني تخيلت فخلت، ولا أبالي بهذه التهمة في سبيل رسم الحدود،

ولفت النظر إليها، وفضل الله واسع، وقدرته شاملة، وما ذلك على الله بعزيز.

الآن - وقد أوضحت بالتقريب آمال المسلمين في الأزهر - ترون أيها السادة

أن العبء الملقى على عاتق الأزهر ليس هين الحمل، فإنه في حاجة إلى العون

الصادق من كل من يقدر على العون، إما بالمال أو العقل، أو بالمعارف والتجارب،

وكل شيء يبذل في طريق تحقيق هذه الآمال هين إذا أتت الجهود بهذه الثمرات

الطيبة المباركة.

أيها السادة:

أكرر لكم شكري، وأبعث من هذا المكان، وفي هذا الجمع المبارك، تحية

الأزهر إلى العالم الإسلامي وإلى دور العلم ومعاهده، وأتشرف برفع ولاء الأزهر

إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الجالس على عرش مصر الملك فؤاد الأول،

وصاحب الفضل العميم في الأزهر في العصر الحديث، أدام الله عزه ومتع جلالته

بالصحة التامة والتوفيق الدائم، وأقر عينه بحضرة صاحب السمو الملكي أمير

الصعيد ولي العهد المحبوب، والسلام عليكم ورحمة الله.

* * *

خطبة الأستاذ الكبير الشيخ

عبد المجيد اللبان

رئيس لجنة الاحتفال

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرات أصحاب السمو..

حضرات أصحاب الدولة والمعالي..

حضرات السادة

أحييكم أطيب تحية، وأشكر لكم أصدق الشكر تلبيتكم دعوتنا، فقد برهنتم

بذلك على ما للأزهر من المنزلة الرفيعة في نفوسكم، والمكانة السامية في قلوبكم،

وضاعفتم معنى التكريم الذي أراده الأزهريون لشيخهم من إقامة هذه الحفلة الكبرى؛

إذ أعلنتم بهذا الاشتراك أن مقام المشيخة الإسلامية الذي يرقاه حضرة صاحب

الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي هو هو مقام الرياسة الدينية

العظمى، الذي يحيطه المصريون بمظاهر الاحترام والإجلال، ويتوجه إليه

المسلمون في شؤون دينهم بأسمى الآمال، كما يدل اشتراككم على أن مصر ممثلة

في صفوة أولي الرأي من رجالها، تعرف ما للأستاذ المراغي من أيادٍ بيضاء على

التعليم الديني، وجهود بارزة في سبيل إصلاح المعاهد الدينية وإعلاء شأنها، وإني

باسم الأزهر وباسم لجنة الاحتفال التي شرفتني برياستها، أرحب بكم وأحيي من

قلبي تلك الرابطة الوثيقة التي تربط الأزهر بهذا الوطن العزيز وبالعالم الإسلامي

أجمع، وأحيي هذا الشعور النبيل الذي يتجلى نحو هذا المعهد الديني الأكبر في

جميع المناسبات.

حضرات السادة:

أنشئ الجامع الأزهر من نحو ألف عام وتاريخه في هذا الزمن الطويل،

يكاد يكون تاريخ الحياة العلمية والدينية والاجتماعية لمصر ولسائر بلاد العالم

الإسلامي؛ إذ كان هو مصدر العلوم ومقر الدراسات لهذه البلاد جميعها [1] ، ثم

طرأت بعد ذلك طوارئ كان من أثرها هذا التحول في الحياة العامة، وفي أساليب

التعليم واتجاهاته، وزخر تيار هذه الاتجاهات الجديدة، وزاحمت الأزهر بمالها من

قوة الشيء الجديد، وكاد الأزهر وسط هذا التطور العام ينفصل عن البيئة المصرية،

وتصبح تعاليمه السمحة مقصورة على رجاله، وأوشك - بفعل الزمن - أن

يصير وطنًا مستقلًّا في قلب هذا الوطن، وكادت فائدته تخفى على بعض الناس،

وشعر الأزهريون أنفسهم أنهم يبتعدون عن شعب مهمتهم الكبرى إرشاده وهدايته،

وينفصلون عن مجتمع عملهم في الحياة تهذيبه وتثقيفه، وإذ ذاك لاحت بارقة أمل

خلال جهود المصلحين في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ثم جاء عصر

جلالة مولانا الملك المعظم فتوجهت عنايته السامية إلى إصلاح الأزهر والمعاهد

الدينية إصلاحًا شاملاً، فوضعت له الأنظمة واللوائح الحالية، وقسمت الدراسات

العالية فيه إلى كليات تقوم كل واحدة منها بنوع من الدراسات الإسلامية والعربية

على نمط جامعي، خشي معه بعض الناس أن يتحول الأزهر عن تقاليده ومميزاته

إلى نظام المدارس المدنية، لكنهم ما لبثوا أن شهدوا معجزة الأزهر تبرز أمام

العيون واضحة جلية، فإذا العلوم والفنون الأزهرية التي استقرت في كتبنا القديمة

تتحول إلى دراسات عصرية منظمة محتفظة بطابع الأزهر في دقة البحث، وعمق

التحليل، وإذا أساتذة العلوم المستحدثة في النظام الجديد المنتدبون لذلك من الجامعة

المصرية والمدارس العالية يلقون محاضراتهم المختلفة في كلياته بجانب شيوخه،

وإذا عقول الطلاب تتسع للجديد الطريف وللقديم العتيد في ثوبه الجديد، وبهذا أخذ

الأزهر يسترد زعامته الأدبية والعلمية بعد أن نافسته معاهد استمدت حياتها منه.

وللأستاذ المراغي في تأسيس هذا النظام عظيم الفضل، ولجهوده كبير الأثر في

تكوينه.

أيها السادة:

أترك لحضرات الخطباء والشعراء بعدي تفصيل الكلام على فضل الأستاذ

الأكبر وجليل أعماله، وأختم كلمتي بالتوجه إلى الله تعالى بالحمد والثناء على

توفيقه وجميل رعايته، وأضرع إليه - جل شأنه - أن يهب الأستاذ الأكبر التوفيق

في عمله، ويرزقه السداد والحزم في رأيه؛ ليحقق بالأزهر وفي الأزهر ما ينشده

العالم الإسلامي من إصلاح بفضل ما يسديه جلالة الملك المفدى من رعاية،

ويخص به الأزهر من عطف وعناية.

أدام الله جلالة الملك ذخرًا للوطن العزيز، ممتعًا بالصحة الكاملة، وأبقاء

حاميًا للعلم والدين، وأقر عينه بسمو ولي عهده المحبوب أمير الصعيد، آمين.

_________

(1)

في هذه الدعوى غلو وشطط، وقد أشرنا إلى الحق في موضوعه في كتاب (المنار والأزهر) .

ص: 136

الكاتب: أحمد محمد شهاب

‌إلى فضيلة الأستاذ الأكبر

بمناسبة خطابه في حفلة التكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ

الجامع الأزهر.

لله أنت فيما ملكت من القلوب، وما مُنحت من التوفيق، وما أُلقي إليك من

مقاليد الأمم الإسلامية وتربية ناشئتهم وكهولهم وشيوخهم، فالله حسبك، ونعم المعين.

يعلم فضيلة أستاذنا الأكبر أن قلوبنا بحبه خافقة، وعيوننا إليه شاخصة، أكفنا

بالضراعة إلى الله بتأييده منبسطة نطلب إليه تعالى دوام توفيقكم، وإطالة عهدكم،

والبركة في عمركم، حتى تجددوا للأمة الإٍسلامية شبابها، وتعيدوا إليها مجدها،

لكي تتبوأ في مشرق الكرامة مكانها، وتلقي إليها الدنيا بزمامها فتعيدها سيرتها

الأولى، فقديمًا أشرق نور الإسلام وارتفع به صوت الداعي، والأمم من ظلمات

الجهل في تداع، طمست البدعُ المعالم، وتنافست الأمم في المظالم، فهامت في

أودية الضلال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) .

والآن وقد دار الفلك دورته، لقد أرسلك الله في الناس داعيا إلى الصراط

المستقيم، هاديًا من طَغَتْ عليهم أوشابُ المدنية الحديثة إلى تفهم روح الدين

الصحيح تحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه (إن الله ليبعث لهذه

الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) وإن الأمة لتصيخ لقولكم

وتتهافت على إرشادكم فما من خطة تختطونها، أو حكمة ترسلونها، إلا هبطت

علينا هبوط الماء على الظمآن، والأمن والسكينة على الخائف اللهفان.

سيدي الأستاذ الأكبر: إن أحب الأمور إلى قلوبنا العمل على وحدة الدين

والقضاء على تلك الفروق الخيالية، والعصبيات المذهبية، فتلك من وساوس

الشيطان للإنسان، حتى انتهى الأمر بنا إلى ما أشرتم إليه فضيلتكم في خطابكم

البليغ في حفلة التكريم (من أن ولد الشافعي كفء) لبنت الحنفي، وما نرى من تعدد

صلاة الجماعة في المسجد الواحد، وما نسمع من الخلاف في التوسل والوسيلة،

وعذبات وطول اللحى، حتى أن بعض الطوائف لا تستحي اليوم من ترك مساجد

جمهرة المسلمين وتسعى لإنشاء مساجد خاصة) .

نعم لا يستحيون لأنه (لا حياء في الدين) إننا وأيم الله يا سيدي الأستاذ نرى

هذا بقلوبنا ونحسه بعيوننا ويحز في نفوسنا، وما شيء أحب إلينا من جمع كلمة

المسلمين والقضاء على أسباب التفرقة بينهم، وليس وراء قوله تعالى مزدجر {إِنَّ

الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) .

هذا بيت الداء، وأنتم أخبر بالدواء، ها هي (ذي) الأمة ألقت إليكم قيادها

وها أنتم (أولاء) وضعتم يدكم المباركة على سكان السفينة لتقودوها إلى شاطئ

السلامة إنه لا شيء أغلى وأعز من الدين (دينك دينك إنما هو لحمك ودمك) ألا

وإن الدين قد ذهب، ألا وإنه لم يبق منه إلا الصلاة كما أخبر الصادق المصدوق

(آخر ما يبقى من دينكم الصلاة فمن ضيعها فقد كفر) ألا وإننا قد أضعنا الصلاة،

ومن أداها فقشر ظاهر لا لب فيه، ألا وإن البدع تفسد العلم كما يفسد الخل العسل،

هذه البدع عمت المساجد وتخللت الصلاة، وإنني لا إخال فضيلتكم إلا ذاكرين ما

حدث من ابن عمر رضي الله عنه، ففي المأثور عنه أنه كان سائرًا بالكوفة فمر على

مسجد وسمع المؤذن ينادي بالصلاة فدخل وأخذ يركع تحية المسجد، فلما فرغ

المؤذن من الأذان، ورأى الناس خارج المسجد وقف ببابه وقال: حضرت الصلاة

يرحمكم الله، فسلم ابن عمر رضي الله عنه وخف وأخذ حذاءه وانصرف من

المسجد تاركًا الجماعة، قائلاً: والله لا أصلي في مسجد فيه بدعة، رحم الله ابن

عمر ماذا كان يبدي ويعيد لو بعث اليوم ورأى صلاتنا؟

سيدي الأجلّ: ليت الأمر وقف عند ابتداع البدع في المساجد والصلاة وما

يسبقها ويلحقها ولم يمس جوهر الصلاة، ولم يهدم أركانها هدمًا، ويطمس معالمها

طمسًا: تقصير مخلّ، نقر كنقر الغراب، يسرقون من صلاتهم فهم أسوأ الناس

سرقة، هذه منكرات يجب على من رآها أن يزيلها فإن لم يستطع فليزُل عنها.

هذا ما حمل بعض المتمسكين بدينهم على الفرار بصلاتهم إلى مسجد من

أرض الله يقيمون فيه الصلاة: الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكقوله للرجل الذي صلى بين يديه مرات:

(ارجع فصلِّ فإنك لم تُصلِّ) فقال الرجل في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن

غيرها فعلمني فعلمه. فالمسيء صلاته شر من تارك الصلاة، إذ تارك الصلاة

معترف بتقصيره عالم أنه ظالم لنفسه فترجى له التوبة والإنابة ويحظى بالمغفرة

{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء:

110) أما المسيء صلاته والمدخل فيها البدع فإنه يعتقد عن جهل أنه يتقرب إلى

الله تعالى بصالح الأعمال وأحبها إليه، غافلًا عن إساءته فيها وضلال سعيه، فأنى

ترجى توبته من عمل هو في نظره خير الأعمال؟ فيبقي كذلك حتى يلقى الله تعالى

وقد خسر عمله {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ

الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 103 - 104) فإن لم

يشملهم النص فلا يعدوهم الوعيد.

إن الصلاة لو أُديت على وجهها المشروع كان لها السلطان الأكبر على

النفوس ورقتها وهذبتها ووقتها شر الهلع والجزع، وأعدتها للقيام بجلائل الأعمال

والتحلي بجميل الخصال، والمثابرة في سبيل الحقوق المشروعة على النضال،

وجعلت كل مصلٍّ ينصف أخاه من نفسه، ويعمل لغده ويحاسب نفسه على أمسه.

بهذا تقل الجرائم ويغلق باب السجن ويستريح القاضي، ويكون الدين بحق مستودع

القوة التي ترهب الأشرار وتصد غارة الأشقياء، وتجعل الناس يحافظون على

حقوق بعضهم البعض، ولا يحتاج الأمر إلى قانون المراقَبين والمشبوهين، إذ الكل

يشعر بمراقبة العلي الكبير، فيحافظون على أموالهم، وأرواحهم وأعراضهم،

وينقرض الفساد، وتسود الطمأنينة البلاد] إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ

وَالْمُنكَر? [ (العنكبوت: 45) .

والمأمول من فضيلتكم أن تبينوا كتابة وبواسطة الوعاظ والمرشدين حقيقة

الصلاة وما يجب أن تكون عليه الجماعات في المساجد وأئمتها ورؤساؤها وما يجب

عليهم من رعايتها وتطهيرها من مفاسد البدع، ومن الأدعية المبتدعة، واللغو

والتشويش على المصلين فيها.

إنك يا سيدي إن عملت ذلك - وأنت خير من يعمل - قدِمت إلى الله يوم

الدين بخير زاد {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا

تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 17 - 19) .

فالأمر الآن بين يديك ولا سلطان في الدين لأحد عليك، وما المرء بمستطيع في

كل حال أن يقوم بجلائل الأعمال: فأئمة المساجد ورؤساؤها رعاتها (وكلكم راعٍ

وكل راعٍ مسئول عن رعيته) {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ

العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162 -

163) .

...

...

...

... أحمد محمد شهاب

...

...

... رئيس نقطة صفط الخمار ببوليس المنيا

_________

ص: 145

الكاتب: عبد السميع البطل

‌تفسير المنار

الجزء الثاني عشر

للسيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه

يحزنني أن أقرظ هذا الجزء ونحن في مأتم السيد رشيد رضا، ولا نزال

مأخوذين بدهشة الخبر، وكأننا في حلم مفزع لا أمام حقيقة صادعة، ولا أمام

جرائد تفيض جداولها بالنعي والتأبين، ولا بين معزين من مختلف الطبقات يذرفون

الدمع الهتون، ويتوجعون لمصيبة المسلمين بفقد الراحل الكريم، ويتحدثون عن

الفراغ الذي تركه، وأنهم لا يجدون من يملؤه، فقد كان السيد الإمام رحمه الله

ملء السمع والبصر، وكان الحجة الثبت، والمفزع الذي تطمئن إليه النفوس

الشاردة من وساوسها، وتهدأ به القلوب الواجفة مما يحيك فيها؛ فتجد برد اليقين،

وتشعر ببشاشة الإيمان. يجزنني أن أقدم للأمة الإٍسلامية هذا الجزء من التفسير

وأنا في هذه الحالة النفسية التي لم أرها من قبل، على كثرة النوازل والفواجع،

ولكن كل المصائب تهون وتتضاءل أمام مصيبتنا في الراحل العزيز، أحسن الله

نزله، وحشره مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وبعد:

فتفسير المنار أشهر من الشمس، وأبين من فلق الصبح، يعلن عن نفسه

بنفسه، وقد قرَّظه العلماء والفضلاء في الشرق والغرب، وأثنوا عليه بما هو أهله،

واتخذوه مرجعًا لهم، بل استغنوا به عن كل التفاسير التي تُقتنى، وهو الآن عمدة

المحققين من علماء الأزهر وغيرهم.

ولست الآن بصدد الكلام على مزاياه ومجموعة ما انفرد به عن كل كتب

(التفسير) فذلك له مقام آخر، غير أن الذي أريد أن أعجل للقراء به ونحن في هذه

المحنة القاسية - أن أذكر لهم بعض ما امتاز به الجزء الثاني عشر، وهو آخر

الأجزاء التي أنجز طبعها السيد المبرور، أحسن الله جزاءه، ورفع في الجنة

درجته؛ فقد امتاز هذا الجزء على صغر حجمه بالنسبة لسوابقه بتحقيقات انفرد بها،

كالكلام على حكمة التحدي بالسورة الواحدة وبالعشر، وهنا يفيض السيد إفاضة

يتجلى فيها روح الإلهام الصحيح، والنظر الصادق، فترى من التحقيقات في

الموضوع ما لا ترى في كتاب آخر، فإذا أنت انتقلت إلى آية الطوفان: {وَقِيلَ يَا

أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى

الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) أطلعك على ما في الآية من

بلاغة روحية تهتز لها النفس، وتلمس بصدق جانب الإعجاز في الآية الكريمة،

ويبطل عجبك من تأثير القرآن في نفوس العرب، ذلك التأثير العجيب الذي بدَّلهم

في سرعة لم يعهد لها نظير، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ورفعهم من

الحضيض الأوهد إلى الذروة؛ فكانوا مشاعيل الهداية، ومعلمي الأمم، وقادة

الشعوب بالحق والعدل والعلم، نعم يبطل عجبك فالقوم كانوا مرهفي الحس،

سليمي الذوق، وكانت اللغة لغتهم، وهم أعلم بمرامي الكلام ووقعه وتأثيره، فلا

عجب أن كانت هذه البلاغة العالية الأخاذة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتأطرهم على

الإيمان أطرًا، فاستمع إليه - أثابه الله - يقول:

(ما أفظع هذا المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق

السماء انهمارًا، وأرض تتفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارًا، ماء ثجاج، يصير

بحرًا ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها

وكواكبها، وكانت عليه هذه السفينة كما كان عرش الله على الماء في بدء التكوين،

كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك

التنزيل، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه به الذكر

الحكيم، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرًا، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئًا

مذكورًا) إلى أن يقول: (قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في

الكتاب العزيز أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي

وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة: المعاني والبيان والبديع) .

وإن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام لا ينافي بلوغ

كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز، ولا يعد من التفاوت المعهود في

كلام أشهر البلغاء: كأبي تمام، والمتنبي، وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية، ومن

بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلى وما بينهما، فآياته كلها في الدرجة العليا

المعجزة للبشر، وإن كان لبعضها مزية على بعض، كما تراه في تكرار القصة

الواحدة من هذه القصص، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي بعشر سور مثله

مفتريات من هذه السورة.

مثال ذلك ما نراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من

سياق هذه القصص كلها، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها، وبيانه أن الله

قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة - ومنهم مكذبو الرسل عليهم

السلام - كلها معجزة في بلاغتها، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم

والوعيد عليه نوعًا لا تجده في غيرها؛ لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في

الأرض من مظاهر سخط الله تعالى على الظالمين، وقد علم من أول القصة أنها

عقاب للظالمين بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في

أشد مظاهر هولها، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها بما

تتلاقى فيه نهايتها ببدايتها والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد

والطرد الذي يحتمل عدة معانٍ مذمومة شرها الطرد من رحمة الله تعالى، يمثل لك

هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس لا ترى مثله

في أمثالهم من أقوام الأنبياء على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في

البلاغة وعلم الأسلوب، وإحداثها الرعب في القلوب

إلخ. ثم عقد فصلاً، بل

فصولاً في نهاية القصة كان أحدها للكلام على ما في الآية من بلاغة اصطلاحية،

وإن من يقرأ العبارتين يتجلى له الفرق بين البلاغيتين؛ هنا يشعر بأسلوب يهز

أريحيته، ويملك عليه وجدانه، ويأخذ النفس من أقطارها، وهناك تشغله العبارة

والاصطلاحات الفنية عن المقصود من الآية وهو التأثير والعبرة؛ وبذا

تعرف مبلغ أثر القرآن في نفوس العرب.

وعلى الجملة لقد كتب السيد عدة كراسات في قصة نوح تصلح أن تكون

رسالة وحدها، ولا سيما الفصل الذي عقده لبيان غضب الله على عباده وعقابهم

ببعض ظلمهم وفسوقهم في الدنيا، دع ما ختم به سورة هود من عقد خلاصة وافية

لها، وهي سُنَّة انفرد بها المرحوم السيد وحده دون باقي المفسرين؛ فقد جرت

عادته أن يعقد خلاصة لكل سورة، يبين فيها مجمل ما اشتملت عليه من الأحكام

والحِكم والسنن الإلهية في الأفراد والأمم بأسلوب لا يتيسر لغيره.

ومن مزايا هذا التفسير تحقيق الحق في مسألة الهمِّ في سورة يوسف في قوله

تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: 24)

وهنا ترى في كتب التفسير خلطًا وخبطًا وحشوًا من الإسرائيليات تنافي الذوق

والعقل والشرع واللغة، وترى السيد يجرد قلمه لدحض كل هذه الأقوال، ويبين

الحق فيها بيانًا شافيًا تطمئن إليه النفس، كما جلى القصة للناس جلاء ظهرت فيه

وجوه العبرة منها، ونقاها من كل ما دسته الإسرائيليات فيها؛ ولذلك اقترح عليه

الكثيرون من الأفاضل طبع سورة يوسف على حدة، وقد فعل رحمه الله

وسيراها الناس قريبًا، إن شاء الله. ولولا خوف الإطالة لنقلت إلى القراء نموذجًا

من تحقيقاته في سورة يوسف؛ ليروا كيف يدرك المتأخر ما لا يدرك المتقدم، ولا

سيما في كتاب الله الذي لا يتناهى إعجازه. رحم الله السيد، وأحسن عزاء الأمة

العربية والعالم الإسلامي فيه.

...

...

...

...

عبد السميع البطل

_________

ص: 149

الكاتب: عبد الله أمين

‌نعي فقيد الإسلام والمسلمين

السيد الإمام محمد رشيد رضا - منشئ المنار

رضي الله عنه

ننعي إلى الإسلام والمسلمين، إمام أئمة المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين

غير منازَع، وأحذق الأئمة المحققين السابقين منهم واللاحقين غير مدافَع، زعيم

أهل السنة العاملين، وأنفذهم بصيرة، وأرسخهم عقيدة، وألد خصوم البدعة

وأبطشهم بها يدًا وأثبتهم على قتالها قدمًا، علم الهداية الخفاق، وصوتها الرنان في

الآفاق، المتفاني في تحرير الشعوب الإسلامية لا من البدع والخرافات والأوهام

والضلالات حسب، بل منها ومن أغلال الاستعباد وقيود الاستبداد، وأخلص

المخلصين للإسلام والمسلمين، وعمدة الداعين إلى هدي الرسول الأمين محمد

صلى الله عليه وسلم السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه وأرضاه، وجعل

جنة النعيم مستقرة ومثواه، آمين.

اختاره الحي الباقي لجواره حوالي منتصف الساعة الثانية من مساء الخميس،

الثالث والعشرين من جمادي الأولى، سنة 1354 هـ، الموافق الثاني والعشرين

من أغسطس، سنة 1935، ونعاه من عرف وفاته من أهله وأصدقائه إلى من لم

يعرفها منهم في القاهرة والأقاليم المصرية والأقطار الأخرى، ونعوه إلى الصحف،

ونعاه محط الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة في منتصف الساعة الثامنة مساء إلى من يبلغه

صوته من سكان المعمور، وصدرت الصحف هنا وهناك ناعية باكية مؤبنة مؤرخة،

وارتجت أنحاء القاهرة بهذا النعي وأُقضت المضاجع فيها، وانساب المعزون إلى

دار المنار عدد 14 بشارع الإنشا جنوبي وزارة المعارف مساء الخميس يوم الوفاة

وصبيحة الجمعة التالية له، حتى غصت بهم ساحة الدار والطريق الفسيحة أمامها.

وفي تمام الساعة العاشرة حمل النعش أبناء الفقيد في الهداية والعلم وساروا به،

وخلفه المشيعون، وفيهم أقطاب العلم والأدب في البلاد حتى مسجد السيدة الشامية

بشارع نوبار حيث صلى عليه المصلون جمًّا غفيرًا، ثم حمل على سيارة واستقلت

جمهرة من المشيعين سيارات إلى مدفن أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده في مقابر

المجاورين حيث دفن بجواره، وأبَّنه على قبره ثلاثة من الحاضرين وهمّ آخرون

بالتأبين؛ ولكن رؤي أن الزمان والمكان لا يتسعان له فطلب الكف عنه إلى وقت

آخر، واستمر الناس يفدون على داره أيامًا للتعزية.

وقد روعي في كل مراحل هذا الخطب العظيم من ساعة الوفاة إلى نهاية

التعزية السنة الشريفة النبوية.

وقد نعي الفقيد بعض الأقطار الإسلامية على المآذن، وصلى عليه كثير منها

صلاة الغائب، ولا سيما في المساجد الثلاثة: مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت

المقدس.

ولد السيد الإمام رضي الله عنه في جمادى الأولى سنة 1282 هـ، الموافق

1 أكتوبر سنة 1865 م في قرية تسمى القلمون على شاطئ البحر الأبيض المتوسط

من جبل لبنان تبعد عن مدينة طرابلس الشام زهاء ثلاثة أميال، حين كان جميع

أهل هذه القرية من السادة الأشراف المتواتري النسب، وقد اشتهروا إلى شرف

النسب بشرف الحسب وحسن السيرة، ويمتاز بيته الكريم فيهم بأنه بيت علم

وإرشاد وتقى ورياسة، وبأنه معقِد رجاء ذوي الحاجات، ومحط رحال العلماء

والأدباء والحكام والعظماء، ولذلك نشأ السيد الإمام رضي الله عنه عالي النفس،

كبير الهمة، محبًّا للعلم والتقوى والصلاح، ضاربًا في هذا وذاك بسهام صائبات.

تعلم في كتّاب القرية قراءة القرآن الكريم والخط وقواعد الحساب الأربع، ثم

أدخل المدرسة الرشيدية بمدينتهم طرابلس الشام، وكان التدريس فيها باللغة التركية،

فأقام فيها سنة، ثم انصرف عنها ودخل المدرسة الوطنية الإٍسلامية التي كان

يديرها أحد الساعين لتأسيسها أستاذه العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري، رحمه

الله، ولما لم تقبل الحكومة العثمانية أن تعدها من المدارس الدينية التي يعفى

طلابها من الخدمة العسكرية، ألغيت وتفرق طلابها، فذهب بعضهم إلى مدارس

بيروت المختلفة، وانقطع بعضهم لطلب العلم في المدارس الدينية في طرابلس

والفقيد منهم، فخف في طلب العلوم الدينية والعربية والعقلية ووضع وتلقى على

أقطابها وهم مشايخه حسين الجسر ومحمود نشابة وعبد الغني الرافعي هناك،

ولازم أستاذه الشيخ حسين الجسر دهراً طويلاً حتى أتم دراسته وبرع في العلم

والشعر والكتابة، وكان في إبان طلبه العلم منصرفًا إلى عبادة ربه، داعيًا إلى

الإصلاح حتى علا في بلاده ذكره، وضاقت به حريتها المخنوقة وميدان العلم

والإصلاح فيها، فهمّ بالاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق الأول ولم

يوفق، فقدم مصر، وفي اليوم التالي لقدومه اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده حكيم

الشرق الثاني وبقي ملازمًا له يأخذ عنه ما كان عنده وعند أستاذه من العلم والحكمة

ووجوه الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي ، وأصدر أول عدد من مجلة المنار

في العشر الأخير من شوال لسنة 1315 هـ، مارس سنة 1897 م، وأخذ ينشر

فيه ما عنده وعند أستاذيه من علم وحكمة وهدى وإصلاح، ويشد بذلك وبالكتابة في

الصحف اليومية أزر أستاذه الإمام في دعوته حتى اختاره الله لجواره وبقي هو

وحده في الميدان بعد ذلك دهراً طويلا وفيًّا لأستاذه ولدعوته حتى اختاره الله هو

الآخر لجواره رضي الله عنهم وأرضاهم بعد أن صدر من مجلدات المنار أربعاً

وثلاثين مجلدة وجزءًا من الخامسة والثلاثين، وعدة كتب من إنشائه، وعدة كتب

من إنشاء غيره من المصلحين.

توفي السيد الإمام - أسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والرضوان - عن نحو

اثنتين وسبعين سنة هجرية، أو نحو سبعين سنة ميلادية قضاها إلا قليلًا منها -

وهي سنوات الطفولة- في دراسة العلم ونشره بالكلام وبالكتابة، لا سيما العلم بالكتاب

والسنة وهدايتهما وأحكامهما وأسرارهما، وفي رياضة النفس على العمل بهما،

وعلى التحلي بالخلق الكريم الذي كان عليه جده الأعظم محمد رسول الله صلى الله

عليه وسلم، وفي الدعوة إلى سبيل الله وإلى الإصلاح، وفي محاربة أعداء الدين،

وردِّ الشبهات عنه، حتى بلغ في كل هؤلاء الذروة والغارب، وأصبح منقطع النظير

لا يشق له في ميدان من ميادينها غبار، ولا يدرك له فيها شأو.

وإن أعجب لشيء فعجبي العظيم لآماله الكبار في إعزاز الإسلام والمسلمين،

التي لم يخمد لها لهب ولم يهمد لها جمر، والتي شغلته العمر كله، وأنهكت قواه،

وأقامت العالم الإسلامي وأقعدته.

وكان أكبر همه رضي الله عنه مصروفًا إلى رد المسلمين إلى أصل

دينهم وهو الكتاب والسنة، وإلى تحريرهم من رق البدع والخرافات، وحمايتهم

من عقارب الفتن والشبهات، وسلّ من أجل ذلك حساميه: لسانه وقلمه وكلاهما أحدّ

من الآخر، وما زال يرمي البدع والخرافات والمشكلات والشبهات حتى أصاب منها

الكُلى والمفاصل، وكاد يجهز عليها لانحراف المسلمين بها عن الدين؛ ولأن هذا

الانحراف أصل بلائهم وذلتهم واستعبادهم. وما كان رضي الله عنه يقنع بهذا - وفي

هذا وحده الكفاية - بل كان يسعى ويجاهد ويشارك في تحرير الشعوب الإسلامية

من الاستبداد قولاً وكتابة وعملاً.

ومن أجل هذا وذاك هجر وطنه الشام إلى مصر وسافر إلى الأقطار الإسلامية

الشاسعة: الهند والعراق وتركية أوربا وبلاد العرب، بل وعلى أوربا نفسها لدعوة

علماء الإسلام وملوكه وأمرائه وزعمائه لما يعتقد أنه الحق، ولمشاركته من كان

على شاكلته منهم في السعي والجهاد لإحياء الإسلام والمسلمين.

ومن أجل هذا وذاك كان رضي الله عنه مغتبطًا كل الاغتباط بالمملكة العربية

السعودية؛ لأنها متوجهة حكومة وشعبًا للعمل بالكتاب والسنة في الشؤون الدينية

والدنيوية معاً، منصرفة كل الانصراف عن المنكرات والبدع والخرافات وهو ما

يريد أن يوجه العالم الإٍسلامي كله إليه ويصرفه عنه؛ ولأنها تقيم الدليل الحسيّ

العملي في هذا العصر المادي الطاغي على إمكان حياة الأمم حكومات وشعوبًا

بالكتاب والسنة حياة منزلية اجتماعية سياسية سعيدة، وبذلك يثبت ما يدعو إليه من

أن القرآن الكريم وما يوافق روحه من السنة الصحيحة أصل لسعادة البشر في الدنيا

كما أنه أصل لسعادتهم في الآخرة، وكان لا يدخر جهدًا ولا وقتًا في تأييد هذه

المملكة السعودية السعيدة ومحاربة خصومها بلسانه وقلمه وبمساعيه الحميدة.

ومن أجل هذا وذاك كان يحب آل سعود أعزهم الله وأيدهم بروح من عنده

حبًّا جمًّا، ويقعد للفرص التي يتمكن فيها من الاتصال بهم والإفضاء إليهم بكل ما

عنده من وجوه الإصلاح كل مرصد ويفترصها ولا يدع واحدة منها تفوته.

ومن أجل هذا وذاك كان حريصاً كل الحرص على أن يحتفي بتكريم سمو

الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية حين مروره بالديار المصرية عائدًا

من أوروبا إلى وطنه العزيز، ويمضي معه أكثر أوقاته ويختلي به ليفضي إليه بما

يجيش في صدره من وجوه الإصلاح.

وكان الفقيد - تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته - مصابًا في

آخر أيام حياته بعلة تعرف في الطب الحديث (بضغط الدم) وكان يعلم علم

اليقين أن خير وقاية تُتقى بها أخطار هذه العلة اجتناب الأعمال العقلية والجسدية،

وكان مهدداً بفتكها به، وقد جاءه نذيرها وكشّر له عن نابه وألقي عليه إنذاراً مفزعاً

وهو نوبة قاسية من نوباتها، وحذره الطبيب شرها.

وأشهد أني سألته في الأسابيع الأخيرة من حياته غير مرة عن صحته سؤال

محبٍّ مشفق يعرف هو مقاصده وأنه لا يخشي شيئاً خشية فقده، فكنت أفهم منه أنه

يجد في جسمه كله فتورًا وضعفًا، وكان ذلك يقع من نفسي أسوأ وقع.

وما كان يخفى على السيد الإمام رضي الله عنه وهو حكيم من أرجح

الحكماء عقلا وأبعدهم نظرًا - أنه يستهدف بالمتاعب العقلية والجسدية للخطر

الأكبر وهو الموت الفجائي المقض لمضاجع الأحياء، ولكن إيمانه الصادق الراسخ

بالله سبحانه وتعالى وما أصدق إيمانه وأرسخه - القائل وقوله الحق {قُل لَاّ

أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَراًّ وَلَا نَفْعاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَئْخِرُونَ

سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (يونس: 49) وتعطشه الشديد الدائم إلى بذر بذور

الإصلاح وتعهدها دائمًا بمدارسة أهل الإصلاح، وولوعه الشديد بتأييد آل سعود،

كل هذا دفعه إلى بذل جهوده العقلية والجسدية بسخاء في الحفاوة بالأمير سعود،

وفي مدارسته إياه شؤون الإصلاح حين مروره بالديار المصرية عائدًا إلى وطنه

العزيز، ولم يستطع سمو الأمير - أعزه الله وأيد ملك والده بنصره المبين - ولا

بعض من معه أن يحملوا السيد الإمام رضي الله عنه على القصد في الجهود التي

بذلها على النحو الآتي:

استقبل سمو الأمير على رصيف الميناء في الإسكندرية في منتصف الساعة

الخامسة من مساء الاثنين، الثاني عشر من أغسطس سنة 1935، ساعة قدومه

مصر من أوروبا، ثم بات في الإسكندرية ورافق سمو الأمير منها إلى بنها يوم

الثلاثاء 13 منه وحضر فيها الحفلة التي أقامها لسمو الأمير الكاتب البليغ والخطيب

المصقع الأستاذ الجليل محمد توفيق دياب صاحب الجهاد، ثم عاد إلى القاهرة

واستقبله في محطها في أواخر الساعة الحادية عشرة من مساء الاثنين التاسع عشر

من أغسطس وكان المحط ساعتئذ غاصًّا بالمستقبلين حتى لم يبق فيه موضع لقدم،

وانغمس السيد الإمام في هذه الجموع المحتشدة مكرهًا وقد قال من رآه إنه تعب

كثيراً، وما كادت عين سمو الأمير - حفظه الله - تقع عليه حتى أخذه من يده

وسار به ولكن الزحام غلبهما على أمرهما وحال بينهما، وفي هذا ما لا يخفى من

التعب والضرر اللذين تعرض لهما السيد الإمام، رحمه الله.

وفي يوم الثلاثاء العشرين من أغسطس أخذ سمو الأمير يستقبل المهنئين

فسارع السيد الإمام إلى تهنئته، وتغذى معه ثم حضر الحفلة التي أقامها حضرة

صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا لسمو الأمير، ودعا فيها سموه لزيارة دار

المنار فتفضل بإجابته الدعوة وزارها يوم الأربعاء 21 منه، وكان السيد حريصًا

الحرص كله على أن يخلو بسمو الأمير ساعة يفضي إليه فيها بأشياء في نفسه من

شؤون الإصلاح فلم تتيسر له هذا الخلوة في دار المنار، فاتفق هو وسموه فيها على

أن تكون هذه الخلوة في (الذهبية) التي يقيم فيها سمو الأمير في فجر يوم الخميس

22 منه وهو يوم سفر الأمير، وعلى أن يرسل إليه سيارته تقله من دار المنار إلى

الذهبية وكان الفجر يومئذ على الساعة الرابعة صباحاً إلا دقيقتين، فجاءته السيارة

رحمه الله قبيل الفجر وهو يتنفل، ثم استقلها إلى الذهبية وكان فيها مع سمو

الأمير الدكتور فؤاد سلطان عضو مجلس الإدارة المنتدب ببنك مصر، والسيد محمد

الغنيمي التفتازاني شيخ السادة الخلوتية التفتازانية، ثم حضر بعده الأستاذ الجليل

محمد توفيق دياب صاحب الجهاد، فاختلى فيها السيد بالأمير ساعة أفضى إليه فيها

بما أراد وحينئذ استراح فؤاده وطابت نفسه وقرت عينه ولكنه أبى أن يقتصر في

الحفاوة بالأمير على هذا القدر المضني لأمثاله وهو في مثل حاله، ولم ينم أكثر ليلة

الخميس وعزم أن يودع سمو الأمير في السويس، ولم يقبل رجاءه ولا رجاء بعض

من معه في إعفائه من هذا العناء، وذهب إلى السويس في سيارة مع الذاهبين -

وما أشق السفر بالسيارات، فأقل ما فيه من مشقة أن يبقى الراكب في السيارة قاعداً

في وضع واحد لا يمكنه تغييره طول الطريق وما أطولها - ووقف على الرصيف

يودع سمو الأمير حيث أقلعت السفينة التي تقله وعاد أدراجه بالسيارة إلى القاهرة

من غير أن يلوي على شيء في السويس؛ وذلك لأعمال بدار المنار لابد من

إنجازها.

وبينما هو عائد يجتاز طريق السويس إلى القاهرة بالسيارة مع رفيقيه، وهما

إبراهيم أدهم بك زوج حماة سمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك عبد العزيز سعود

وهو تركي لا يحسن العربية، وزكي أفندي محمد ثنيان شقيق حرم سمو الأمير وهو

شاب يافع، وهو منصرف إلى تلاوة القرآن الكريم في المصحف كعادته في أواخر

أيام حياته كلما خلا من عمل أو كلام نافع، إذ شعر وهو في السيارة بدوار

فاستوقفها ونزل منها، وقاء ثم ركبها وسارت الهوينى، واستأذن زميليه أن

يضطجع واضطجع وظنه رفيقاه نائمًا فتركاه، وقبيل أن يدركوا مصر الجديدة أرادا

تنبيهه فإذا به جثة هامدة، فسارعا به إلى مركز الإسعاف بمصر الجديدة، وهناك

ثبت أنه رضي الله عنه قضى نحبه، فأحضر إلى داره وكان من أمر النعي

والتشييع والدفن والتأبين والتعزية ما بيناه في صدر هذا المقال.

وبعد، فهل مات السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار حقًّا؟ نعم مات،

إذ فارق روحُه الطاهر جسده الشريف، فأودع القبر هذا الجسد العزيز أما الروح

فبقي معنا وسيبقى ما بقيت هذه الدنيا إن شاء الله تعالى. بقي روحه الطاهر

متلألئًا باسمًا في أكثر من أربعين مجلدة من مجلدات المنار، وغيره من مؤلفاته،

وفيما اختاره وقام على طبعه وتصحيحه بنفسه من مؤلفات غيره الأحياء منهم

والأموات، وفي إخوانه وأبنائه الذين اقتبسوا من علمه واهتدوا بهديه وفي سيرته

التي نسج فيها على منوال الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنه وعنهم

أجمعين.

فمن مجموع هذه الثروة التي تركها يمكن - إن شاء تعالى - أن يبقى المنار

حيًّا يمثل السيد الإمام رضي الله عنه ولو بعض التمثيل، وينشر ولو بصيصًا من

النور الذي بعثه السيد رحمه الله إلى مشارق الأرض ومغاربها، ويستمد حياته

ومادته من هذا المجموع، والنية معقودة - إن شاء الله - على إصداره واستمراره.

هذا ما وسعه المقام الآن من نعي السيد الإمام رضي الله عنه، وإن لهذا اليوم

ما بعده وإن لنا لعودًا على بدء، أحسن الله عزاء آل رضا، وعزاء إخوانه وأبنائه،

وعزاء الإسلام والعالم الإسلامي فيه، وأغدق عليه ما هو - إن شاء الله تعالى -

أهل له من سحائب رحمته ورضوانه، وجعله {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ

النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقا} (النساء: 69) .

...

...

...

...

عبد الله أمين

(قلم التحرير)

كتب حضرة العالم الأديب الكبير كلمته هذه من أكثر من ستة أشهر لتنشر في

المنار، وها قد صدق فأله الحسن وصدر المنار بعد استيفاء المعاملات الرسمية

لإصداره. والله نسأل أن يوفقنا للاستمرار في خدمة أثر فقيدنا وفقيد الإسلام

والمسلمين.

_________

ص: 153

الكاتب: علوبة باشا

‌كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

في مهرجان الإصلاح الاجتماعي

أقامت (رابطة الإصلاح الاجتماعي) مساء يوم الجمعة 8 من ذي القعدة

مهرجانها في دار جمعية الشبان المسلمين برئاسة سعادة وزير المعارف الأستاذ

محمد علي علوبة باشا، وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم تقدم فضيلة الشيخ محمد

عبد اللطيف دراز فشكر بالنيابة عن جميعة الشبان المسلمين لرابطة الإصلاح

الاجتماعي عملها، وانتهز فرصة وجود سعادة الأستاذ علي علوبة باشا وزير

المعارف فشكر له حرصه على ترقية الشباب؛ لأنهم عُمُد الإصلاح، وقال: (إن

أُسّ الإصلاح هو الخلق والدين، ولا يصلح الشباب إلا بالخلق والدين) وطلب

من الوزير الجليل أن يجعل نظم التعليم مؤسسة على الدين والخلق، ولا يتم إصلاح

إلا إذا تقرر الدين مادة أساسية في جميع مراحل التعليم، وتمنى للوزارة النهوض

على أساس الخلق والدين.

فوقف سعادة الأستاذ محمد علي علوبة باشا وألقى الكلمة التالية:

إخواني، سادتي:

لم أجد فرقًا بين اليوم والأمس، ولا أعرف لي وصفًا إلا أني (محمد علي) من

قبل ومن بعد، أضيف إليّ اليوم تكليف في عنقي أرجو الله أن يوفقني للنهوض به،

ولقد دلتني التجارب وتاريخ قبل الإسلام وبعده على أنه لم ترق أمة بلا دين، ولا

فائدة من وطنية بلا دين، ولا دين بلا وطنية.

سادتي: صدق الشاعر الجاهلي الحكيم في قصيدته الخالدة، إذ يقول:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا

والبيتُ لا يبنى إلا على عمدٍ

ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ

ما أصدق هذا القول على الأمم والجماعات، وما أصدقه على الأفراد أيضًا،

نعم على الأفراد.

ولا عجب في ذلك، فكما أن الأمم لا سبيل إلى نجاحها واستقرار أمورها إذا

اختلط فيها الحابل بالنابل، وتنوسيت كفاية المستنيرين، وكرامة الأكرمين، فكذلك

الأفراد، لا سبيل إلى إسعادهم إذا سادت فيهم أحط غرائزهم فخذلت أسمى مواهبهم:

العقل سيد الملكات، والخلق الفاضل سبيل السعادة، فهما وحدهما الجديران بأن

يسودا ويُهيمنا على الإنسان، كما يجب أن يهيمن أشراف القوم ومفكروهم على

عامتهم وسوادهم.

ولا سبيل إلى استقرار الأمور في نصابها إذا اختلط الأمر وتُرك الحبل على

الغارب، واستسلم كل إنسان لأهوائه ونزعاته، وتركها تستبد بخلقه وتطغى على

عقله، فإن مآل ذلك الخسران المحقق والبوار الذي لا شك فيه.

أيها السادة:

لعلكم تذكرون حكمة الرسول عليه صلوات الله وسلامة حين عاد من غزوة

بدر الكبرى فقال لصحابته قولته المأثورة: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد

الأكبر) يعني من جهاد الغزو إلى جهاد النفس ومغالبة أهوائها، وكبح جماحها

الثائر.

وإنما أذكركم بهذا لأبين لكم الحافز القوي الذي يحفزنا إلى تقديم هذا الواجب-

واجب الإصلاح وتقوم الأخلاق - على كل واجب آخر.

وما ذلك المهرجان الذي أقمناه بالأمس في مؤتمر الشباب الأخلاقي لنصرة

الخلق الفاضل القويم، ولا هذا المهرجان الحاشد الذي نقيمه اليوم للأخذ بناصر

الإصلاح والمصلحين، إلا مثلين من أمثلتنا التي أخذنا بها نفوسنا لنفع أمتنا وتسديد

خطواتها في طريق السعادة الحقيقية والخير العميم.

أيها السادة:

إن الإصلاح الاجتماعي غايتنا التي طوينا فيها أمانينا، وعلقنا عليها كل ما

نسعى إلى تحقيقه في إسعاد الأمة وإبلاغها أعلى درجات العزة والرفعة، وإن

الدعاية للأخلاق الفاضلة لهي أهدى سبيل يصل بنا إلى تلك الغاية المنشودة التي

تعلقت بها آمالنا ووقفت عليها جهودنا.

على أن الطرق المؤدية إلى ذلك المقصد الشريف، وتلك الغاية الموجودة

لتختلف وإن كانت لا تتناقض، والوسائل التي يتوسل بها المصلحون والدعاة إلى

الأخلاق لتتعدد وإن كانت تجتمع آخر الأمر وتأتلف تحت راية واحدة. فما أجدر

الدعاة إلى الأخلاق والمصلحين أن يجتمعوا في أول الطريق صفًّا إلى صف ما

داموا يعلمون علم اليقين أنهم متلاقون ومجتمعون آخر الأمر في الغاية والهدف.

لقد نشطت في هذه الأيام جماعات من الشباب الناهض، يروجون لأغراض

إصلاحية شريفة بوسائل شريفة، وأخذت تعقد اجتماعاتها في مختلف الأندية،

وتلقي خطبها في شتى المنابر، وتنشر آراءها على صفحات الصحف، وقد التفت

الجمهور حولها، وأنصت لقولها. فأوشكت هذه الجماعات المتباينة أن تتبوأ مقاعدها

اللائقة بشرف أغراضها، ونبل مقاصدها، ولقد ظللت أتتبع أخبار تلك الجماعات

بعين الرضا، مُكِنًّا لها في أعماق قلبي أكبر الترحيب، غير ضانٍّ عليها بكل ما

أملك من جهد؛ رغبة في تشجيعها وتقويتها، مرددًا قول شاعر إنكليزي ساغه

الأديب كامل كيلاني في شعر عربي:

قطرات المياه منها محيط

وصِغار الحصى تُكوِّن أرضا

ودقيقاتنا تؤلف جيلاً

بعد جيلٍ في إثره يتقضى

وقليل الجنان والحب مما

يجعل الأرض جنة الخُلد خفضا

ثم جعلت أنعم النظر، وأطيل التأمل في هذه الجماعات المتشعبة، التي

اختلفت أسماؤها وأنصارها، واتفقت أغراضها ووسائلها؛ فوجدت أن لا مندوحة

من تضافر هذه القوة المشتتة، وتجمع تلك الروابط المتعددة؛ لتنضوي جميعها

تحت لواء واحد، فيتكون منها اتحاد قوي يوحد طريقها ويلائم بين خطاها، ويرسم

لها أعلام الطريق وسواه، فتمضي على اسم الله راشدة موفقة إلى الخير.

ولست أبغي بذلك أن تتفرق هذه الجماعات ثم تندمج في هيئة واحدة باسم

واحد، فإن هذا الاندماج يحد من نشاطها الفردي، ويفتر من عزيمتها؛ ولكني أريد

أن يكون الاتحاد لها بمثابة الأب أو القائد الأعلى، وتبقى هي على حالها؛ فلكل

جماعة نظامها، ولها استقلالها ونشاطها.

وإن ذلك ليذكي في هذه الجمعيات روح التقدم والنجاح بفض ما ينشأ بينها من

التنافس والتسابق، وهما دائماً أكبر دواعي النشاط والإقدام، وأقوى مشجع على

الاضطلاع بأنبل الفروض، وأعظم الواجبات.

ذلك - أيها السادة - رأيي، وتلك هي أمنيتي، ولست أرى هذا اليوم السعيد

الذي تتحقق فيه هذه الأمنية ببعيد، وما ذلك على إخلاص الشباب بعزيز.

أيها السادة:

إن جميع الأمم التي تقدمت في طريق الحضارة والحربية أشواطًا بعيدة لم

تصل إلى ما وصلت إليه من الرفعة، ولم تبلغ ما بلغته من المجد إلا بفضل نجاحها

الاجتماعي الذي تأسس على قوى متينة من الأخلاق، وارموا بأنظاركم نحو أية أمة

من كبريات الأمم تروا أن التفاضل بينها وبين غيرها في القوة والمنعة يمشي جنبًا

إلى جنب مع التفاضل في الرقي الاجتماعي، فإذا كانت أمنيتنا أن ننهض بهذه الأمة

نهوضًا حقًّا، فلنا بالأمم أسوة حسنة، وما علينا إلا أن نسعى لإصلاح كياننا

الاجتماعي إصلاحًا تقر به عين الخلق القويم.

أيها السادة:

إن وجوه الإصلاح الاجتماعي شتى، وليس من همي أن أفصل القول فيها

تفصيلاً بعد أن أجملته، فقد قام بذلك حضرات الأماثل الأعلام، الذين أخذوا على

عاتقهم - متفضلين - أن يحاضروكم الليلة في كثير من نواحي الإصلاح الاجتماعي،

وستكون هذه البحوث القيمة مع غيرها محل تمحيص وفحص لتكون نواة للنهضة

التي نسعى لتحقيقها وما وسعنا الجهد.

وقد عنيت في خطابي هذا أن أوجه أنظاركم إلى وجوب تنظيم جمعيات

الإصلاح التي نشطت في هذه الأيام، ووجوب اشتراك كبار القوم في العناية بها

وتشجيعها، والأخذ بناصرها؛ حتى تؤتي أكلها، وترجع على الأمة بأبرك الثمرات.

ويسرني ألا أختم كلمتي قبل أن أشكر لحضراتكم تفضلكم بإجابة دعوتنا لكم

لحضور هذا المهرجان، وأن أشكر حضرة الشاب النشيط سيد أفندي مصطفي

سكرتير رابطة الإصلاح الاجتماعي؛ فلقد كان له أكبر الأثر في تهيئة هذا

المهرجان، والله أسأل أن يهبنا الرشاد في القول والعمل، والسلام عليكم ورحمة الله.

_________

ص: 162

الكاتب: محيي الدين رضا

‌كلمة لا بد منها

بسم الله الرحمن الرحيم

رأيت أنه لابد من إصدار (المنار) ذلك الأثر الخالد الذي دوى صوته أربعين

عامًا في العالم مجاهداً في نشر الإصلاح، ومحاربة البدع والخرافات.

فتوكلت على الله وطلبت تجديد الرخصة باسم أكبر نجلي الفقيد السيد (محمد

شفيع رضا) حرسه الله، وبما أن سنه وعمره المدرسي لا يسمحان له بأن

يكون رئيسًا للتحرير مسئولاً، تقدمت أنا لهذا.

وإني أعاهد الله سبحانه وتعالى أن أبذل ما أستطيع من مالي ووقتي في

هذا العمل الجليل، وأدعو محبي فقيدنا العزيز من إخوانه وتلاميذه ومريديه إلى شد

أزري وإرشادي ومعاضدتي كلٌ بما يدخل في طاقته، والله ولي التوفيق.

ويرى القراء أن فقيدنا رضي الله عنه قد كتب أهم أبواب هذا العدد: التفسير

والفتاوى، فهما آخر ما خطّه قلمه، وسيرون في الأعداد القادمة كثيرًا من مذكراته

وآثاره.

وإني لأشكر سعادة رجل مصر والإسلام محمد طلعت حرب باشا فإنه -

حفظه الله - قدم للمجلة مساعدة يُشكر عليها.

...

...

...

...

محيي الدين رضا

_________

ص: 166

الكاتب: محيي الدين رضا

‌الوهابيون

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

همس في أذني بعض الحجاج المصريين ونحن في الباخرة (كوثر) في العام

الماضي أثناء تأديتي فريضة الحج، أن الوهابيين يمنعون الناس من الصلاة على

النبي، وإذا صلى أحد عليه أمامهم أنزلوا به عقابًا شديدًا. فقلت له: هذا وهم يود

إذاعته بعض رجال السوء من القالين للوهابيين، فقال: بل هو عين الحقيقة،

وسترى الأمر بنفسك.

ولما قابلت جلالة الملك عبد العزيز آل سعود في يوم 12 مارس الماضي

لأول مرة وكان أحد العلماء يتلو على مسامعه تفسير القرآن، فلما انتهى المفسر من

التلاوة أخذ جلالته في سرد طائفة من فضائل الدين الإسلامي الحنيف، وكان إذا

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتبع اسمه بالصلاة عليه ولا يغفل عن الصلاة عليه

مرة مطلقًا.

وقابلت بعد ذلك حضرة العالم النجدي المشهور الشيخ عبد الله بن بليهد فقدم

إليَّ رسالة اسمها (جامع المسالك في أحكام المناسك) وضعها في مناسك الحج

توزعها الحكومة مجانًا، كما توزع رسالة أخرى وضعها الشيخ سليمان ابن الشيخ

عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأشرف الشيخ ابن بليهد على طبعها

فتصفحت الرسالة الأولى فلحظت أن الشيخ ابن بليهد يلتزم ذكر الصلاة على النبي

صلى الله عليه وسلم في كل مرة يرد اسمه فيها، فقلت له: إن بعضهم يتهم

الوهابيين بإهمال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أراكم التزمتم

إيراد الصلاة عليه في كل مرة يرد اسمه الشريف فيها، بينما نرى غيركم لا يلتزم

ذلك، وبعضهم يضع حرف (ص) أو حروف (صلعم)، فقال: إن وضع هذه

الحروف قبيح، والواجب أن يتبع اسم النبي بالصلاة عليه كما التزم ذلك العلماء

الموثوق بهم، وأورد أسماء طائفة من العلماء المتقدمين وما قالوه في هذا الباب مما

لا يحضرني الآن؛ لأنني أكتب هذه الكلمة بعد مضي نحو ثلاثة أشهر على المقابلة.

ولما قابلت جلالة الملك في قصره بمكة في يوم 19 مارس الماضي مع وفد

الصحافة وتحدثنا مع جلالته وكنت أطرح الأسئلة عليه. قلت لجلالته: إنني ألحظ

أنكم تصلون على النبي في كل مرة يرد ذكره فيها ومع ذلك نرى بعضهم يتهم

الوهابيين بعدم الصلاة على النبي، فقال جلالته:

هذا أمر غريب جدًّا، كيف لا نصلي عليه؟ ومن الذي نحبه بعد الله أكثر من

نبينا صلى الله عليه وسلم، فوالله إنه أحب إلينا من كل شيء، وإنا نغار عليه

وندافع عن دينه كما نغار على حريمنا وأكثر، بل إننا نحب خلفاءه الراشدين،

ونحب كل خادم للإسلام ولا سيما الأئمة الأربعة، ونحن طلاب حق نتبعه أينما

وجدناه ونأخذ الصحيح في أي مذهب كان أو على يد أي عالم أتي به لا نفرق بين

أحد، وها نحن نحب تفسير ابن كثير ونعنى به كثيراً وصاحبه شافعي، وإذا نحن

جنحنا إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه فلأنه يعنى بحديث رسول الله صلى الله

عليه وسلم أكثر من غيره من الأئمة كما هو معلوم. فهل بعد ذلك يقال عنا أننا لا

نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي جاء بالدين الحق الذي ندين الله به؟ وتوسع جلالته في ذلك كثيرًا، وكانت أمارات التأثر بادية على محياه بجلاء تام.

وفي المدينة المنورة قابلت حضرة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم أمير المدينة،

ولاحظت أنه يلتزم الصلاة على النبي أيضًا فنوهت باتهام بعضهم للوهابيين بترك

الصلاة عليه، فانطلق يسفِّه مزاعم أولئك ويفصِّل القول بوجوب الصلاة على النبي

صلى الله عليه وسلم، ومما قاله: إننا معشر الوهابيين نعتبر الصلاة والسلام عليه

في الصلاة ركنًا من أركان الصلاة لا تتم إلا به، بينما بعض المذاهب لا يعتبرها

ركنًا، وهذه حجة دامغة للمزاعم الباطلة.

فهذه أقوال ثلاثة من أقطاب الوهابية، بل هي أقوال جلالة الملك العظيم محيي

المملكة وحامي الجزيرة العربية كلها تقريباً، وأكبر علماء مملكته، وحاكم أشرف

إمارة من إماراته، أجمعت قولاً وكتابة على أن ما رُميت به الوهابية محض افتراء،

وإفك وبهتان.

_________

(1)

فصل من كتاب " رحلتي إلى الحجاز " بقلم محيي الدين رضا، وقد أتمت طبعه مطبعة المنار، ويطلب من مكتبتها، وثمنه خمسة قروش صاغ، وعدد صفحاته 160 بقطع المنار.

ص: 167

الكاتب: محمد شفيع بن محمد رشيد رضا

‌حفلة تأبين فقيد الإسلام

المرحوم السيد محمد رشيد رضا

في يوم الخميس 10 محرم سنة 1355

قالت جريدة (الجهاد) الغراء في عددها الصادر بتاريخ 11 المحرم:

أقيمت بعد ظهر أمس بدار جمعية الشبان المسلمين حفلة تأبين المرحوم فقيد

الإسلام السيد محمد رشيد رضا برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ

محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر. وحضر الحفلة جمهور غفير من

رجال العلم والفضل والأدب، واعتذر صاحب السمو الأمير عمر طوسون لتغيبه،

وصاحب المعالي وزير المعارف لارتباطه بموعد آخر، وصاحب السعادة محافظ

العاصمة وغيرهم. وتلقت اللجنة برقيات وخطابات كثيرة من الأقطار العربية.

وافتتح الحفل بآي الذكر الحكيم، ووقف فضيلة الأستاذ الأكبر، وألقى كلمة

الافتتاح، وتعاقب بعده الخطباء على الترتيب الآتي:

الأستاذ حبيب جاماتي: حياة السيد محمد رشيد رضا.

فضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني: السيد رشيد المفسر (ألقاها

فضيلة الشيخ محمود شلتوت) .

الأستاذ محمد لطفي جمعة: السيد رشيد رضا واتصاله بالمستشرقين.

الأستاذ الحاج محمد الهراوي: قصيدة.

فضيلة الشيخ محمد العدوي: السيد رشيد رضا والإصلاح الديني.

الأستاذ عبد السميع البطل: السيد رشيد رضا ومدرسة دار الدعوة والإرشاد.

الدكتور عبد الرحمن شهبندر: الرابطة الشرقية.

الأستاذ عبد الله عفيفي: قصيدة.

كلمة الأسرة: ألقاها نجل الفقيد.

_________

ص: 185

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

‌خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تبارك وتعالى: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ

خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الحكمة هي الفقه في القرآن.

وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها معرفة القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه

ومحكمه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه - وهي تفصيل للرواية الأولى عنه.

وروي عن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وعن غيره أنها معرفة ما في

القرآن من عجائب وأسرار.

ونحن نضم هذه الروايات بعضها إلى بعض فنقول: إن الحكمة هي الفقه في

القرآن، وذلك لا يكون إلا بمعرفة ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وحلاله

وحرامه، وما اشتمل عليه من عجائب وأسرار، وعبر وعظات، ونظم صالحة

للاجتماع، ومعانٍ سامية للأخلاق، وهذا محتاج إلى وسائل، أولها العقل الراجح،

والبصيرة النافذة، ودقة الملاحظة، وسعة الاطلاع على سنة الرسول صلوات الله

عليه، وأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، وآراء السلف الصالح، ومذاهب

الأئمة، ومعرفة أحوال المجتمع الإنساني، وأسرار تطوره، وخصائص البيئات

المختلفة، وروح العصور السابقة، ونتيجة ذلك كله هي الإصابة في القول والعمل

أو خلق يوجه الإرادة إلى أعمال الخير طبقًا للعلم الصحيح، فيصدر العمل نافعًا

موصلاً إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وقد كان فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا محيطًا بعلوم القرآن، وقد رزقه

الله عقلاً راجحًا في فهمه ومعرفة أسراره وحِكمه، واسع الاطلاع على السنة

وأقضية الصحابة وآراء العلماء، عارفًا بأحوال المجتمع، والأدوار التي مر بها

التاريخ الإسلامي. وكان شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه، خبيرًا

بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية، ملمًّا بما في العالم من بحوث جديدة، وبما

يحدث من المعارك بين العلماء وأهل الأديان؛ فهو ممن أوتي الحكمة، ورزق

الخير الكثير.

وقد كان - بلا شبهة - أكبر المدافعين عن قواعد الإسلام وأشدهم غيرة عليها،

فني في خدمة دينه، وجاهد في الله حق جهاده، وأوذي في سبيل مبادئه، وصبر

وصابر إلى أن توفي رحمة الله عليه.

كان خصوم السيد رشيد ثلاث فرق: فريق الملحدين الذين لا يؤمنون بدين،

وفريق أهل الكتاب من غير المسلمين، وفريق من المسلمين الذين جمدوا على

أقوال الناس وابتعدوا عن معرفة السنن وعن هدي القرآن، وقد جاهد هذه الفرق

جميعها، ولقي من الفريق الثالث أشد العنت وأشد المقاومة؛ لأن بيده سلاحًا من

أشد الأسلحة خطرًا أمام العامة هو سلاح اتهام السيد رشيد بالكفر والزندقة في

الإسلام، والدليل بيد هذا الفريق قائم، وهو عدم موافقة السيد رشيد لمن يعتقدهم

العامة ويقدسونهم، وكيف يكون السيد رشيد على الحق مع أن فلانًا وفلانًا لا يقولون

قوله ولا يعملون عمله؟ وإقناع هؤلاء يحتاج إلى زمن طويل أطول من عمر السيد

رشيد، لكن الحق الذي يؤيد السيد رشيد أقوى من هؤلاء جميعهم.

لذلك ظفر السيد رشيد، وكثر أنصاره ومريدوه، بعد أن كان قليل الأنصار،

قليل المريدين، ووجد في الأوساط العلمية من اتخذ مبدأه وقفى على طريقه، ووجد

في العامة من تفتحت أعينهم للنور، وزالت عن قلوبهم غشاوات الجهل والباطل.

ولم يكن للسيد رشيد مبدأ جديد في الإسلام حتى يصح أن يقال إن له مذهبًا

ينسب إليه، بل كان مبدؤه مبدأ جميع علماء السلف: التحاكم إلى الله ورسوله عملاً

بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ،

وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف أيضًا: تخير الأحكام المناسبة للزمن والنافعة للأمم

في مواضع الاجتهاد، وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف في كل ما يتعلق بذات الإله

سبحانه وصفاته، وكل ما يتعلق باليوم الآخر، فهو رجل سني سلفي، يكره التقليد،

وينادي بالاجتهاد، ويراه فرضًا على نفسه وعلى كل من قدر عليه.

من الحق أن نعد السيد رشيدًا من المجددين، وأن نعده من المجاهدين في

إحياء السنة؛ ومن الحق أن نعتبر بما كان للسيد رشيد من أناة وصبر في البحث

والقراءة والتأليف، والفتوى والمناظرة، ومن الحق أن نذكر أن هذه الأعمال

الصالحة قام بها احتسابًا، وأداها في سبيل الله.

فرحمة الله على السيد رشيد، وجزاه الله عن الإسلام أحسن ما يجازي به

رجلًا وهب حياته للعلم وللدين.

* * *

تعزية ملك العربية السعودية

وولي عهده

الرياض في 25 جمادى الأول سنة 1354

حكومة الحجاز

المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة

أسأله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاءكم بفقيد الإسلام والمسلمين، وأن

يعوضه عنا بجناته ورضوانه، وأن يعوضنا في الله من يقوم مقامه في خدمة هذا

الدين والدعوة إلى الله.

...

...

...

...

... عبد العزيز

* * *

جدة في 25 جمادى الأولى سنة 1354

المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة

إن مصابنا ومصاب الإسلام بفقد والدكم السيد رشيد عظيم جدًّا، أسأله تعالى

أن يتغمده برحمته، وأن يعوضنا عنه خيرًا بفقده.

...

...

...

...

...

سعود

_________

ص: 186

الكاتب: محمد الهراوي

‌قصيدة الأستاذ الهراوي

أي صرح هوى وحصن حصين

ولواء طوته أيدي المنون

وكتاب في الرشد يهدي إلى الر

شد وسيف مهند مسنون

مات رب المنار والأمر لله

وما مات غير داع أمين

عاش لله مخلصًا في جهاد

نصف قرن مبارك في القرون

ومضى باليراع يدعو إلى الحق

وبالقلب واللسان المبين

لا يطيق السكون في حرج الديـ

ـن ويمضي يرح أهل السكون

لم يدع راحة له أي حين

وهو في حاجة لها كل حين

طاح بالقلب حين أودى به الجهد

وجهد الغيور نار أتون

فقد العلم منه أي كتاب

فقد الدين فيه أي معين

شعر الناس باحتياج إليه

بعد أن لم يروا له من قرين

* * *

عز عن صاحب المنار حمى الشام

وعز الأحساب في (قلمون)

بلدة في ذرى طرابلس قرت

من طرابلس غرة في الجبين

بلدة أنجبت إلى الشرق قومًا

هم نجوم الهدى وأسد العرين

غاب عنها منارها فتوارت

من جوى الحزن بالسحاب الجون

بعثتني جماعة الفضل في مصر

رسول القريض في التأبين

بعثتني لأندب العلم والدِّين

وأبكيهما بدمع سخين

بعثتني وساقَها حسن ظن

في ضعيف ينوء تحت الظنون

ولعمري لو لم تكن بعثتني

لرأتني بالدمع غير ضنين

فلقد كان بي حفيًّا وكانت

بيننا عروة الوداد المتين [1]

عقدت بيننا المودة قربى

زاد توثيقها توالى السنين

شيبتني مواقف الحزن تترى

ورثاء الخدين إثر الخدين

ووقوفي على الربوع الخوالي

وبكائي المكان بعد المكين

والتياعي على أيامي تخلت

عن حماها يد الكفيل المعين

ويتامى تذوق في العيش بؤسًا

بعد خفض من الزمان ولين

برح الحزن والجوى بفؤادي

قرَّح الدمع والبكا من جفوني

مَن مجيري مِن بعدها ومقيلي

من وقوفي بطرْف باكٍ حزين

* * *

يا غريب الديار لم تفقد الأهل

فما مصر غير أم حنون

جئتها عالمًا وطالب علم

فتلقتك في الحشى والعيون

يا ربيب الإمام في مجلس العلم

وفي موطن الهدى واليقين

كنتَ أوفَى بنيه حفظًا لذكرا

هـ وأبقى على الوفاء المصون

لم تفارقه في الحياة وميتًا

لم تفارقه في الثرى المسكون

فسلام عليك حيًَّا وميتًا

وسلام على الإمام الدفين

الحاج محمد الهراوي

_________

(1)

كان الفقيد يلقب الناظم بشاعر الشرق والإسلام.

ص: 189

الكاتب: علي سرور الزنكلوني

‌خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

أيها السادة:

كان لصاحب المنار منذ عرفته مصر وجود قوي، وشخصية بارزة، امتد

صوتها إلى الأقطار العربية والأقطار الشرقية، بل كان لهذا الصوت أثر في بعض

الأمم التي ليست شرقية ولا إسلامية؛ لأن الأبحاث التي تعرض لها صاحب المنار،

وإن اتصلت بالشرق وبالإسلام اتصالاً قويًّا، فإنها متصلة بالغرب أيضًا؛ لأن

عيون الغرب لا تنام عن المسلمين ولا عن الشرقيين.

اشتغل صاحب المنار طوال حياته بقضية الإسلام وقضية العرب، وبما

يتصل بالإسلام من أمر الخلافة، وبما يتصل بالعرب من هجمات الاستعمار، ولم

تحرم مصر من زعامة السياسة في ظروفها المختلفة فكان بهذا كله لمصر، وللشرق

وللإسلام والمسلمين.

أيها السادة:

ليس في وسعي أن أوفي صاحب المنار حقه في مثل هذا الموقف، ولكني

أردت أن أساهم مع المساهمين؛ وفاء لحق الصداقة وتقديرًا لتلك الشخصية

النادرة.

عرفت المغفور له صاحب المنار منذ ابتدأ الأستاذ الإمام - رضوان الله عليه-

دروسه في الأزهر، ولم يكن صاحب المنار في ذلك العهد يدهشنا وجوده العلمي؛

لأن طلاب الشيخ جميعًا كانوا يغترفون من بحر واحد، وإن تفاوتت مراتب

جهودهم واستعدادهم.

ولم يكن لصاحب المنار ميزة في ذلك الوقت سوى أنه كان يكتب ما يلقيه

أستاذنا علينا، وقد كان مثل هذا العمل في نظر الأزهريين عملاً عاديًّا لا أثر

لموهبة خاصة، ولا لنبوغ ممتاز.

تآخينا وتآخى معنا السيد رشيد بحكم صلة الدرس العامة، وبقدرها، وكان

هذا لا يمنع بعضنا من توجيه النفس إلى السيد رشيد، توجيهًا خاصًّا كلما ظهر

السيد رشيد بموهبة ممتازة، قد يطول الحديث عنها؛ حتى هوجم الأستاذ الإمام في

آرائه الدينية والإصلاحية مهاجمة عنيفة، من كل القوى التي توافرت لها عوامل

الكيد والاستبداد، وإذا بالسيد رشيد يبرز في وجوده القوي لمناصرة خصوم الشيخ

بقلمه ولسانه، وينشر في مجلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته. وما كان يتلقاه من

دروس شيخه، وكان يعلق عليهم بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال

الفكر، وكذلك كان أمر السيد رشيد في كل ما كان يكتب من مقالات وما يدون من

أبحاث؛ لأن أسلوب الأستاذ الإمام خلق ممتازًا، وسيبقي ممتازًا.

مات الأستاذ الإمام، وللسيد رشيد في نفوس إخوان الشيخ وأبنائه منزلة سامية،

ومع سمو هذه المنزلة لم يخطر ببال أحد أن السيد رشيدًا سيرث الشيخ فيما كان

يدعو إليه، وأنه سيرتفع صوته في بلاد الإسلام الغائبة، ولكن أبى الله سبحانه إلا

أن يسير السيد رشيد بخطى واسعة إلى الأمام، وقدر الله لصوته وهو على منبر

مناره أن يدوي في بلاد الإسلام والشرق، ولم يعتر جهاده في سبيل العلم والدين بعد

وفاة شيخه مع كثرة المخاطر شيء من الوهن والفتور.

ولا جرم أن هذه الميزة هبة إلهية، لا تمنح إلا للقليل من أفذاذ الرجال؛ لأن

حياة الأستاذ الإمام كانت قوية في مصر وفي غير مصر.

لهذا كان بقاء صاحب المنار ثلاثين عامًا بعد وفاة شيخه في وجوده القوي

يصد عادية جيوش الباطل التي لم تفتر ولم تنم، دليلاً ملموسًا على أنه من الأفذاذ

الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك أن مهمة السيد

رشيد العلمية لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد أو جماعة على كثرة العلماء

والكاتبين.

أيها السادة:

إن لصاحب المنار - رحمة الله عليه - من حياته العلمية آثارًا كثيرة وجوانب

قوية، لا أستطيع أن أوفيها حقها.

وقد أردت أن تكون كلمتي فيه الآن مقصورة على علمه بالقرآن وبأسرار

القرآن؛ لأن صلتي به لم تتأكد إلا من درس التفسير على الأستاذ الإمام، ولأن

آثاره في تفسير القرآن هي أقوى الآثار وأظهرها في الإقناع والإلزام، ولأن مفسر

القرآن إذا أخلص وصدق استحق الثناء الخالد؛ لأنه بصدقه وإخلاصه يشرف

عقله على الوجود، وعلى ما وراء الوجود، وقد تحقق ذلك للسيد رشيد، رحمة

الله عليه.

فالقرآن كتاب الوجود، وكتاب ما وراء الوجود، وكل من جهله واتجه إلى

غيره مهما كان قويًّا في نظر نفسه، وفي نظر أمثاله، فحياته غير صادقة،

وسعادته لا ضمان لها، ولا استقرار، بل المسلمون إذا أخلصوا للقرآن فهمًا وعملاً،

وعرضوا جواهره السماوية على عقول البشر، فقد ملكوا كل شيء؛ لأن العقول

من مادة السماء، ومادة السماء إذا تركزت في الأرض محال أن تطغى عليها

شهوات النفس الترابية.

والإنسان إذا أهمل فهم القرآن والتبصر فيه، وقد أحاط بما في الأرض علمًا؛

فليس من الله ولا من الوجود الحق في شيء، فحصر العقل في جزء صغير من

الوجود يستخدمه في حياته المادية لا يصور الحقيقة، ولا يحقق معنى الحياة

والسعادة؛ إذ الحياة الإنسانية مسبوقة بوجود لانهائي، وبعدها وجود لانهائي.

ومن حق العقل أن يفكر طويلاً في ذلك الوجود اللانهائي، هذا لا يتم إلا بفهم

القرآن، ومن أجل ذلك يقول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ

الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7) ويقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ

كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) .

أيها السادة:

إن لأهل القرآن وأنصاره مرتبتين: المرتبة الأولى في فهم معانيه

الصحيحة وامتزاجها بالعقل والروح والنفس، فيشع منها النور والقوة بحيث يعملان

عملهما في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وهذه هي مرتبة النبي صلى الله عليه

وسلم، ومرتبة الصديقين من أصحابه وأمته إلى يوم الدين.

المرتبة الثانية - هي فهم معانيه فهمًا صحيحًا، وامتزاجها بالعقل، وبالنفس

في أغلب أحوالها، وهذه هي مرتبة كبار العلماء والصالحين مع ما في كل من

المرتبتين من المنازل المتفاوتة بتفاوت الاستعداد، وصفاء الجوهر.

وإني أؤمن إيمانًا قويًّا بأن السيد رشيد قد تمت له المرتبة الثانية في أرقى

منازلها، وأرجو أن يكون له نصيب من المرتبة الأولى.

أيها السادة:

إذا علمتم أن القرآن هو كلام الله، وأنه كتاب الوجود، تعلمون مقدار ما بذلته

وتبذله العقول في استخراج جواهره منذ أنزل إلى اليوم، ولا يتم للعقل استقصاء

كل ما فيه وتحديده بالدقة ما دام الوجود قائمًا، ولكن العقل يأخذ منه ما يستكمل به

وجوده، وطمأنينته في الدنيا والآخرة على قدر فهمه.

ومن هنا تعددت آراء المفسرين لاختلاف وجوه النظر؛ ولذلك كان تفسير

القرآن في أكثر العصور فن علم وجدل، مع أن التفسير يجب أن يكون زبدًا

مستخلصًا بالمقاييس العلمية الصحيحة المستمدة من الفن والبحث، كما أن التفسير

الذي لا يعتمد على مقاييس العلم والعقل، لا يسمى على الحقيقة تفسيرًا للقرآن

الكريم، ويجب أن يدخل في مقاييس العلم ما يستظهره العقل من أسرار الوجود

بالدلائل القاطعة، وليس من التفسير مظاهر الحياة التي تعتمد على نزعات النفس

في إنسانيتها الضعيفة المضطربة.

وهذا هو ما وفق إليه الراحل الكريم في تفسيره للقرآن وفي علاجه للأبحاث

الدينية، فقلما كان يتعرض السيد رشيد لبحث لا يتصل بالقرآن اتصالاً جوهريًّا إلا

بقدر ما تمس إليه الحاجة.

وكثيرًا ما كان يتعرض لأقوال المفسرين، وما يستدلون به، ولكنه لم يترك

القرآن في المكان الذي تتجاذبه فيه الآراء كما فعل أكثر المفسرين، بل كان في

تفسيره يستخلص القرآن للعقل مؤيدًا للغة وبالشواهد والأدلة من ظواهر الوجود.

وأول من فتح هذا الطريق وعبَّده الأستاذ الإمام رضي الله عنه، وقد سار فيه

تلميذه صاحب الذكرى شوطًا بعيدًا انتهى فيه إلى آخر سورة يوسف عليه الصلاة

والسلام، وقد فسر من القرآن على هذا المنوال الحكيم اثني عشر جزءًا، وهي

أصعب أجزاء القرآن فهمًا واستنباطًا، وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف

ومات على إثر تفسيره لها قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن

تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا

وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) .

ولقد فاجأته المنية والمؤمنون الصادقون، والعلماء المخلصون المستعدون لفهم

القرآن على وجهه وتذوق حلاوته وتلمس بعض وجوه إعجازه - هم وحدهم

الذين يقدرون خسارة العلم والإسلام الفادحة بفقد صاحب المنار.

وإذا كانت هذه هي منزلة السيد رشيد من تفسير القرآن الحكيم، وهو غاية

الغايات والشغل الشاغل للملأ الأعلى في السماء وفي الأرض؛ فماذا يبتغي آل

السيد رشيد له وأصحابه له من المنزلة الرفيعة؟

رحم الله السيد رشيدًا بقدر ما ضحى، وبذله من جهوده، وأفاض عليه

من كرمه الواسع ما يفيضه على المخلصين من حفظة كتابه، وأسكنه مع النبيين

والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

_________

ص: 190

الكاتب: عبد السميع البطل

فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا

ومدرسة دار الدعوة والإرشاد

‌كلمة الأستاذ عبد السميع البطل

في حفلة تأبين الفقيد

إن طريقة الوعظ والإرشاد ليست من الصناعات التي يستطيع كل إنسان أن

يزاولها في مهارة وحذق، ولكنها ملكة من الملكات التي قد يحسنها قليل العلم،

ويتخلف عنها أكثر الناس تحصيلاً، وقد نشأ فقيدنا ونشأ معه الميل إلى وعظ العامة

وإرشادهم، بما كان يتصدى له أولاً في صدر شبابه من قراءة الدروس في قريته

القلمون من أعمال طرابلس الشام، ثم بما كان من إنشائه المنار ثانيًا، واستهدافه

بالإجابة على الأسئلة التي كانت تنحدر إليه كالسيل من الشرق والغرب، في

المسائل المنوعة، وجرأته وصراحته في تقديم النصيحة للملوك والأمراء وكبار

الحكام والعلماء - إحياء لسنة السلف - مما جعله أندى العلماء صوتًا، وأبعد

المصلحين صيتًا، وأسير المجددين ذكرًا، وأكثر الكتاب أثرًا.

وقد قويت رغبته في أن يتولى هو نفسه تربية طائفة من الشبان يصنعون

على عينه، يقوم بعضهم بواجب الدعوة إلى الإسلام، ورد شبهات المعترضين

عليه، متسلحين بما يتسلح به أمثالهم من رجال الدعوة في الأمم الراقية، من الجمع

بين علوم الدين، وما لا بد منه من علوم الدنيا، ويقوم الفريق الآخر بإرشاد

المسلمين إلى ما هو أجدى عليهم في دينهم ودنياهم، مع خبرة بحال العصر، وما

ينبغي أن يكون عليه المرشد من مسايرة الزمن.

كانت هذه أمنية تعتلج بنفسه منذ كان يتردد وهو طالب بطرابلس على مكتبة

المبشرين الأمريكيين، يقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم، ويجادل

قسوسهم.

وفي سنة 1327 كان الخلاف بين الترك والعرب مستمرًّا، فرأى أن يشخص

إلى الآستانة ليقضي على عقارب الفتنة، متوسلاً إلى ذلك باتصاله بكبار الدولة

هناك، وبما كان يكتبه من مقالات في جريدة (إقدام) وجريدة (كلمة الحق) ثم

في جريدة الحضارة، ولشيء آخر شغفه حبًّا، وكان مستهامًا به صبا، وهو تأليف

جماعة لإنشاء مدرسة للدعوة والإرشاد.

اختار إمامنا أن تكون الآستانة مشرق ذلك النور، ومبعث هذا الإصلاح،

وقبلة التأليف بين العرب والترك؛ ليكون المشروع بنجوة من مهابِّ السياسة

وأعاصير الفتنة، وفي الآستانة سلخ عامًا كاملاً، يروج للمشروع، ويقنع به كبار

المسئولين، فلقي أولاً ترحيبًا به ومعاضدة، وتقرر أن تكفله وزارة الأوقاف،

وتألفت الجماعة من كبار رجال الدولة للعمل وإعداده في تفصيل واسع لا محل

لبيانه هنا، ولكن بعض الأيدي كانت تعمل من وراء الستار للنهي عنه والنأي

عنه، فقضي عليه وهو جنين، وعاد فقيدنا من الآستانة - كما كان يعود منها كل

مصلح - ساخطًا ناقمًا، ولكنه لم ييئس من روح الله، فجدد السعي هنا بمصر،

وألف الجماعة، واختير أعضاؤها من أهل الفضل والغيرة، ووضع لها قانونًا من

أدق القوانين، وعلم بالأمر الخديوي عباس الثاني فأكبره، وأظهر رضاه عنه،

وارتياحه له، وأمدته الأوقاف بمبلغ من المال، ووعدت بمضاعفته، وتبرع له

كثيرون من ذوي الأريحية، وأجمع العقلاء على استحسانه - بله وجوبه - وفتحت

المدرسة أبوابها في 12 من ربيع الأول سنة 1330 تيمنًا بعيد ميلاد النبي صلى الله

عليه وسلم، وكان السيد وكيل الجماعة وناظر المدرسة، بل كان عقلها المفكر،

وروحها المدبر.

نجحت الفكرة إذًا بمصر، ولقيت معاضدة الأمير واستحسان العقلاء، ولكنها

لم تنجُ من إرجاف المرجفين، وأذى المفسدين، فلبس لها بعض الجرائد جلد النمر،

وترصدها دعاة النصرانية، وأنذرت القناصلُ دولَها عاقبتها، أن مدرسة أنشئت

بمصر سيكون لها من الأثر في تنبيه المسلمين ما سيكون خطره عظيمًا.

كانت المدرسة ملتقى الطلبة من جميع الأجناس الإسلامية، التقى فيها

المصري والمغربي، والشامي والفلسطيني والعراقي، والتركي والداغستاني،

والهندي والجاوي والسومطري. وكان يفضل الأجنبي لحاجة بلاده إلى المتعلمين

أكثر.

كان الطلبة فريقين، ففريق منتسب يحضر من الدروس ما يشاء، ويتخلف

عما يشاء، وفريق يحتم عليه حضور الدروس كلها، ويبيت في المدرسة مكفي

الحاجة من مطعم ومسكن وكتب، وكان لهذا الفريق نظام خاص يسلكه في معيشته

وتربيته، منه أن يستيقظ طلبته قبيل الفجر للصلاة وتدبر القرآن، ويؤدوا الفرائض

كلها في جماعة خلف إمام واحد، ويكثروا من التنفل في الصلاة، والصوم،

ويروضوا نفوسهم على آداب الإسلام بقوة فيتحرجون من فعل خلاف الأوْلى، ومن

ثبت عليه الكذب كان الطرد جزاءه، وكانت المدرسة في قصر شريف باشا بالمنيل

على ضفة النيل الغربية عند قنطرة الملك الصالح فكان الطلبة لا ينزلون إلى مصر

إلا بإذن كتابي من الفقيد، بعد أن يذكر طالب النزول كتابة سبب نزوله وموعد

غدوه ورواحه، وكان يقول: (إن الذي يكثر الاختلاف إلى القاهرة تبطل الثقة

به) لذلك كنا نظل الأسبوع والأسابيع لا نغادر جزيرة الروضة، وكان المجتمع

بالأمس غيره اليوم، بل فوق ذلك كان يكلف كل طالب أن يحمل في جيبه مذكرة

يدون فيها أعماله حسنها وسيئها؛ ليكون على نفسه حسيبًا، ولأجل ذلك كان لا بد

أن يجتاز الطالب سنة تسمى السنة التمهيدية لاختبار أخلاقه وتزويده بالعلم والعمل،

وكانت اللغة الفصحى هي لغة التخاطب كما كانت لغة الدرس، ومن وصاياه أن

التزام الفصحى يومًا واحدًا خير من قراءة كتاب.

مضى على إنشاء المدرسة ثلاث سنين إلا قليلاً، ثم اشتعلت نار الحرب

الكبرى وكانت أيامها النحسات، فأُبعد الخديوي وكان لها عضدًا، فغُلت الأيدي إلى

الأعناق، وجمدت الأكف عن العطاء، وأعطت الأوقاف قليلاً وأكدت، ثم شحت

بالجباية واعتذرت.

عندئذ اضطرت المدرسة أن تكتفي بمن فيها من الطلبة، ولم تقبل جديدًا،

وألجأتها الضرورة الملحة أخيرًا ألا تلتزم ما كانت تلتزمه من نفقة المأكل والكتب،

وظلت تجاهد في العنت في وناء وضعف سنتين، ثم ودعت الحياة تاركة آثارًا

حسانًا وميراثًا عظيمًا ممن تربوا في أحضانها وعملوا جهدهم على تحقيق بعض

أغراضها، وما أسف العقلاء على شيء أسفهم على حرمان الأمم الإسلامية من

ثمرات هذه المدرسة التي كانت موضع الرجاء في انتياش المسلمين مما تهوكوا فيه

من مفاسد البدع والخرافات والتقاليد والعادات؛ حتى لقد كان أستاذنا يقول: (لو

أني كتبت تاريخًا للمدرسة لكان فضيحة للأمة كلها) يريد أن الأمة الإسلامية

المنبثة في الشرق والغرب لم تحسن احتضان هذا العمل المجيد، والاضطلاع به

في حين تنفق الأمم الأخرى ملايين الجنيهات على جماعات الدعاة بسخاء واغتباط.

ولعلكم تحبون أن تعرفوا عمل السيد في المدرسة، ولقد كان فيها مَعقِد الأمل،

وقطب الرحى، والقبلة التي تولى الوجوه شطرها، كان لدروسه أعظم الأثر في

إصلاح النفوس، وتثقيف الألسن، كان يدرس التفسير، فتتجلى روح الإلهام

الصادق، والبصيرة النيرة ويدرس الحديث والتوحيد والكلام وحِكم التشريع، وتعلم

الإنشاء، ويمرن على الخطابة الارتجالية، ويبصرنا بالأساليب الصحيحة وما

يهجنها من دخيل أو سوقي أو مبذول، أو وضع للمفردات في غير موضعها، وقرأ

قدرًا من البلاغة، وكنا نطالع أمامه في مقالات العروة الوثقى.

ولشد ما كانت دهشتنا أول العهد به حين سمعنا لأول مرة لغة فصيحة عالية

الأسلوب مرتجلة، وغوصًا على معاني المفردات في دقة، والتقاطًا لفرائد البلاغة

في دروس التفسير وغيرها، واستخراجًا لكوامن العبر من ثنايا الآيات البينات، بل

لشد ما كان عجبنا حين كنا نراه يبكي في المواضع التي تستدر الدمع، والذين

عاشروا السيد يعلمون أنه كان أسيفًا رقيق القلب، سخيًّا بالدمع سخاءه بالمال،

وكان يقول، وكتب في (المنار والأزهر) أنه كان يقرأ وِرد سحر أول اشتغاله

بالتصوف فإذا مر ببيت المنبهجة [1] :

ودموع العين تسابقني

تجري من جفونك كاللجج

ولم يبك، تركه ولم يقرأه لئلا يكون كاذبًا فيخجل أمام ربه.

كان السيد مغرمًا بالاستطراد الطويل في غير ملل، فبينما يكون موضوع

الدرس تفسيرًا أو حديثًا، أو حكمة تشريع مثلاً، إذا به يحتال للدخول في باب

السياسة أو الاجتماع أو تاريخ الفرق ومذاهب المبتدعين أو ما أشبه ذلك، فنخرج

من الاستطراد بكليات عظيمة تزيدنا بصيرة وثقافة.

وقد لا تعجب هذه الطريقة رجال التربية الحديثة، ويرونها معيبة بالمدرس،

مضيعة للطالب؛ ولكن هذا يرجع فيما أرى إلى عدة أسباب؛ فهو قد قرأ كتب

المتقدمين، وتغلغل فيها، وهضمها، وتمثلت فيه، فتأثر بها، وتلك كانت طريقتهم،

وكان ريان من العلم شبعان، فكانت تتدافع المسائل في صدره فلا يستطيع لها

كبحًا.

وسبب ثالث كان أحيانًا ما يصرح به، وهو أنه قليل الثقة بدوام المدرسة،

ويخشى أن يفوته شيء يريد أن يقوله فلا تواتيه الفرصة؛ لذلك كان يتلمس

الاستطراد تلمسًا، وأذكر أن بعض إخواننا من كبار علماء الأزهر حملته مرة هذا

الاستطرادات في مجلس معه - وكانت شفَتْ كثيرًا مما بنفسه - على أن يطلب إليه

أن يقدم درسًا خاصًّا في بيته ليلة في الأسبوع ففعل، وكان يحضره كثير من أذكياء

علماء الأزهر وأساتذة المدارس العالية والثانوية والابتدائية.

ثم لعلكم تحبون أن تقفوا على شيء من حال طلبتها بعد أن آل أمرها إلى ما

عرفتم، وأقول لكم: إن منهم المشتغل بالتربية والتعليم، والمشتغل بالصحافة

والتحرير، والمشتغل بالوعظ والإرشاد، والمتصل بالملوك ورجال السياسة.

وحسبكم أن تعلموا أن الناموس الخاص لجلالة ابن سعود أحدهم، بل حسبكم

أن تعلموا أن زعيم القدس الكبير السيد أمين الحسيني ممن يتشرفون بالانتساب إليها.

هذه لمحة خاطفة عن تلك المدرسة التي أصبحت كمنشئها في ذمة التاريخ،

وهناك مدرسة الفقيد الكبرى التي عكس مناره من أشعتها على العالم أربعين سنة،

تبوأ فيها بحق مقام الإمامة، وخلف ميراثًا عظيمًا يشرع للناس طرق الإصلاح،

ويبصرهم بكتاب الله وهدى رسوله، وقد أصبح له تلاميذ ومريدون يعدون بالألوف،

وصار له حزب قوي في الأزهر ممن قبضوا قبضة من أثره، وإنه لميراث عظيم،

شغل فقيدنا حياته في جمعه وادخاره، وترك ذرية ضعافًا لا سند لهم إلا الله

وإخلاصه، وأقول - والألم يحز في النفس - إن المنار قد مات بموت صاحبه أو

كاد، ولا غرو فقد كان السيد أمة وحده في علمه، ودينه، وكفايته وصبره، والثقة

به، والبذل في سبيل الله، ولسنا بواجدين من يملأ بعض فراغه في بعض ما نهدَ

له، وفي العالم الإسلامي علماء يعدهم الناس بالألوف، فيالله للأمة الفقيرة.

ولقد كان السيد جديدًا دائمًا، غير آسن، كما كان يتجلى ذلك في كتاباته

وأحاديثه، اتصلت به ما يناهز ربع قرن اتصالاً وثيقًا، طالبًا وصديقًا؛ فما أذكر

أني وردت شرعته يومًا - على كثرة الورود - إلا وصدرت بجديد في العلم أو

الأدب أو شئون الحياة، أحسن الله عزاء الأمة فيه، وبوأه منازل الكرامة مع الذين

أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

_________

(1)

وكنت أود في هذا المقام لو يتسع الوقت للكلام على السيد رشيد الأديب والسيد رشيد الصوفي الناسك.

ص: 195

الكاتب: محمد أحمد العدوي

‌خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

الأستاذ بكلية أصول الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

يرحم الله مالك بن أنس إذ يقول: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به

أولها) . ولقد كانت هذه الكلمة دستور أستاذنا الراحل في الإصلاح، آمن به إيمانًا

خالط قلبه، وتغلغل في نفسه. سلف هذه الأمة صلح بالعمل بدين الله، بعيدًا عن

تحريف الغالين وانتحال المبطلين.

البدع والمحدثات

ومن أجل ذلك حارب البدع والمحدثات في دين الله؛ ليبقى للدين جماله،

ويحفظ له عظمته وجلاله. وأي عاقل يرى ما عليه المسلمون وهم يزورون قبور

الصالحين، من تعفير للوجوه، وتقبيل للأعتاب، وطواف حول المقاصير كما

يطاف بالبيت الحرام، والتجاء إلى صاحب القبر في كشف الكروب، وهداية

القلوب، والبركة في الرزق، وما إلى ذلك مما لا يتصل بالإسلام في قليل أو كثير؟

أي عاقل يرى ذلك ثم لا يندى جبينه لهذه البدع في دين التوحيد والفطرة؟

وهذه بدع الموالد أصبحت معرضًا من معارض الفسق، وسوقًا نافقة للتجارة

في الأعراض وانتهاكًا لحرمة الدين، وهذه بدع الأذكار ومعها الطبول والمزامير

والرقص والطرب، تصور الدين أمام الأجانب بصورة تتقزز منها النفوس،

وتجعله إلى الهزل أقرب منه إلى الجد، وهذه بدع الدجالين من محترفي الطرق،

يستغلون سذاجة الجماهير بضروب من التمويه والشعوذة: كأكل الثعابين، والنار،

وطعن أنفسهم بالسلاح وما إلى ذلك!

ولا تنسَ فعل الكلشني، وعمود الحسين، ومغارة المغاوري، وقبر أبي

السعود الجارحي، ومغطس الطشطوشي، وصناديق النذور، التي لم يأذن بها الله،

دع كتب أدعياء التصوف، وما شحنت به من أباطيل: كإيهام الناس أن هناك

حقيقة تخالف الشريعة، ووحدة الوجود التي سرت إليهم من ديانات الهند الوثنية.

فإذا جاهد الأستاذ في ذلك السبيل فإنما يجاهد لحماية دين الله من الشرك، وذرائع

الشرك، وتطهيره من الجهالات، ولا غنى لمصلح ديني عن خوض هذه المعركة

التي خرج منها الفقيد ظافرًا، فكان سيفًا من سيوف الله على رقاب المبتدعين

والمضللين.

دفع الشبهات عن الدين

وكذلك كان من أهم أغراضه أن يدفع عن الإسلام الشبهات التي يوردها

أعداؤه عليه، كما أفاض في دفع شبهات الماديين كنظرية دارون، وهناك قسم من

الشبهات منشؤه الجهل بالإسلام وما انطوى عليه من حكم: كشبهتهم على توريث

البنت نصف أخيها، وتعدد الزوجات، والرق في الإسلام، وقد تجلت عبقرية

الأستاذ في هذه المسائل، فأبان حكمة الله العليا في هذا التشريع، ووضع رسالة

سماها: (نداء للجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) ، وفيها تحقيق لكل

هذه المسائل.

وكذلك عني بدفع الشبه التي تعرض بسبب تعارض بين نظريات العلم والدين،

وكبرى حسناته كتاب الوحي المحمدي، الذي ألفه لمناسبة شبهة لبعض الغربيين

على الوحي، وهو خير مؤلَّف يدعى به إلى الإسلام، ويدحض شبهات الماديين

المعطلين، قرظه علماء مستقلون، وغُرّتها تقريظ أستاذنا الأكبر المصلح العظيم

الشيخ المراغي، يقول فيه:

صديقي الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا:

أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم

وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصة من

ينابيعه الصافية عرضًا قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة،

وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون،

فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون، ولكم مني تحية الإخاء،

والسلام عليكم ورحمة الله.

وكذلك عني الأستاذ بشرح المسائل التي أساء المسلمون فهمها، كمسألة

القضاء والقدر، وله فيها تحقيقات علمية نفيسة تتفق وحكمة الله في تكاليف الإنسان

وجزائه على الخير والشر، فما كتبه السيد في دفع الشبه التي منشؤها جهل أو

تجاهل بالإسلام، أصل عظيم في الإصلاح الديني، ودعامة لا يستغني عنها عالم

مصلح.

إحياؤه سنة العلماء

من أبرز صفات الفقيد إحياؤه سنة علماء الصدر الأول الذين كانوا يصدرون

في فتاواهم عن كتاب ناطق، أو سنة ماضية، أو قياس على أحد هذين الأصلين،

واهتدى بهديهم الأئمة الأربعة، فَعَبَّدُوا لمن بعدهم طريق الاستدلال، ولم يقنعوا

بذلك، فنهوا عن التقليد في دين الله، وبالغوا في ذلك، وإن شئت فقل: وأسرفوا.

نُقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين

أخذناه، وقيل له: إذا قلتَ قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي لكتاب الله،

قيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه، فقال: اتركوا قولي لقول

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال:

اتركوا قولي لقول الصحابة. ونقل مثل هذا أو ما هو أشد منه عن بقية الأئمة.

نهى الأئمة عن التقليد؛ لأنهم أدرى الناس بمقدار ضرره على الدين، وأنه

شلل يحول دون النشاط العلمي، وهو إلى ذلك كله امتهان لقيمة الحجة، وتعطيل

لموهبة العقل، ويرحم الله من قال:(التقليد إبطال لفائدة العقل) .

كانت هذه سنة العلماء؛ لأن الذي في كتب الأصول: (إن المقلد ليس معدودًا

من أهل العلم) .

ثم خلف من بعد الأئمة خلف أغلقوا باب الاستقلال في فهم الدين، وقصروه

على طائفة يحصيها العد، وكأن القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يصحان عندهم

شريعة دائمة! !

ولما كان أستاذنا الراحل من أئمة الإصلاح الديني، لم يكن له بد من تحطيم

السلاسل التي وضعت أمام ذلك الباب، وقد وضع كتابًا نافعًا سماه (الوحدة

الإسلامية) على شكل محاورة بين مصلح ومقلد، وله في أوله كلمة جديرة أن

تحفظ: (لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجة، ولا حجة مع التقليد) .

لم يقف الأستاذ في إحياء هذه السنة عند ذلك الحد، بل كان دائمًا ينوه بشأن العلماء

الذين لهم محنة وبلاء في ذلك السبيل كشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي قال فيه أحد

الأئمة: (ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله

وسنة رسوله ولا أنفع لهما منه) وشى به العلماء لدى الملوك وولاة الأمور،

ورموه بالإلحاد، فسجن أكثر من مرة، ومات سجينًا بدمشق.

وكتلميذه ابن قيم الجوزية، كان على أخص أوصاف شيخه، امتحن في سبيل

دعوته، وأوذي مرات، وحُبس مع شيخه بقلعة دمشق بعيد المحنة.

فإذا كان للاستقلال السياسي شهداء يصرعون في ميادينه، فإن الاستقلال

الديني العلمي له شهداء وشهداء، وفي مقدمتهم ابن تيمية وابن قيم الجوزية.

أما إحياؤه لذكرى موقظ الشرق (السيد جمال الدين) و (والأستاذ الإمام)

فحدث عنها ولا حرج؛ فقد أحيا سيرتهما قولاً وكتابة وعملاً، وكان أظهر شيء فيه

شغفه بتلك السيرة حتى لا تكاد تجلس إليه مجلسًا بدون أن تسمع ذكرى للإماميين أو

أحدهما، فإن المصلح هو الذي يعنى بسيرة المصلحين فهو يعتبر بحق محيي سيرة

المصلحين، ورافع لواء المجددين على أساس كتاب الله تعالى وسنة خاتم النبيين.

دراساته العميقة

لقد عكف أستاذنا الراحل على دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة،

دراسة واسعة النطاق، فكان بذلك متمكنًا من علوم القرآن الكريم: كمعرفة المكي

والمدني منه، وتاريخ المصاحف، وأوجه القراءات، وما صح من أسباب النزول،

وما لم يصح، وما دخل على المفسرين من إسرائيليات على تفاوت بينهم في القلة

والكثرة، حتى شيخهم ابن جرير فكان من أجل ذلك تفسير أستاذنا الراحل نسيجًا

وحده في سلامته من الروايات الضعيفة في أسباب النزول، ومن الإسرائيليات التي

شوهت جمال القرآن، كما عكف على دراسة علوم الحديث، ولا سيما علم تاريخ

الرجال الذي عز في هذا العصر، فكان من السهل عليه الوقوف على درجة الحديث

في سرعة مدهشة، وما أحوجنا إلى إمام له تلك الخبرة الواسعة كفقيدنا الراحل.

أمراض المسلمين

وكذلك كان من أهم أغراضه بحثه عن أمراض المسلمين الخُلقية والاجتماعية

وفساد تربيتهم الدينية والدنيوية، فكنت تراه باحثًا منقبًا عن كل أولئك الأمراض،

وطرق الوقاية منها، وهذا كتابه (الوحدة الإسلامية) يطلعك على كثير منها، وإن

أخذ الدين من طريقه الصحيح، خير علاج لها، وقد أعانه على ذلك خبرته

الواسعة، ورحلاته المتكررة، فمن رحلة إلى الهند، إلى رحلة للأستانة إلى رحلة

لأوروبا، وذلك عدا رحلاته الثلاث إلى سورية التي اختير في آخرتها رئيسًا لأول

مؤتمر عربي، وهو الذي نودي فيه بالأمير فيصل ملكًا على سورية، ثم رحلته إلى

الحجاز مرتين، ولا شيء أعون للمصلح الديني من دراسته لأحوال المسلمين، دع

أن دار المنار كانت دائمًا غاصة بالزائرين من كبار العلماء، فكان ذلك كله خير

معين له على القيام بمهمته كمصلح ديني، فإذا دعا إلى الإصلاح، فإنما يدعو على

بصيرة، وإذا وصف العلاج، فإنما يصفه بعد أن عرف المرض.

إصلاح الأزهر

هو المعهد الديني الذي مضى على تأسيسه عشرة قرون، كان فيها مشرق

الثقافات الدينية والعربية، غير أنه قد طرأ على هذه الجامعة من أعراض

الشيخوخة ما جعلها غير وافية بحاجيات العصر من تسليح طلابها بما يكبح جماح

الملحدين، ويصد شبهات الماديين، والدعوة إلى الإسلام في المشرق والغرب،

وإعداد طائفة لهذه الدعوة مزودة بالعلم والدين.

ومن أجل ذلك كان في حاجة كبرى إلى إصلاح طرائق التعليم ومناهج

الدراسة.

وقد كان أول من أيقظ الأفكار لذلك الإصلاح السيد جمال الدين الأفغاني،

حينما وفد على مصر في أواخر القرن الثالث عشر للهجرة، واستفاد منه بعض

شبان الأزهر، وتولى السعي لذلك لإصلاح مريده الأكبر وخليفته (الأستاذ الإمام) ،

وغرضه الأسمى تخريج نشء جديد من جميع الشعوب الإسلامية، جامع بين

التقوى والأخلاق الفضلى، وبين العلم الاستقلالي المثمر لترقية اللغة وإحياء علوم

الدين، والتمكن من الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه.

ثم جاء الأستاذ المراغي وأمضى في الأزهر خمسة عشر شهرًا، شيخًا له

ورئيسًا لمجلسه الأعلى، فكان محط الرجاء ومعقد الآمال، ورجل الساعة، وقام

في ذلك الوقت القصير بعمل الجبابرة، ثم شاء الله أن يدع الأزهر قبيل أن يتم

الإصلاح الذي أراده، فاضطرب الحال، واختل أمر القائمين عليه من رجال

الإدارة، وروعت العلماء بما لم يروع به قطاع الطريق، وساعد على ذلك السياسة

الدكتاتورية، حتى أذن الله أن يعود للسفينة ربانها، وللإصلاح رجله، فعاد إلى

الأزهر أستاذنا (المراغي) موفور الكرامة، وضاء الجبين، ففتح لطلاب

الإصلاح باب الأمل على مصراعيه.

أما فقيدنا الراحل فقد كان خير نصير لكل أولئك المصلحين، كان نصيرًا

للسيد جمال الدين، ونصيرًا للأستاذ الإمام، ونصيرًا أيُّ نصير للأستاذ المراغي،

أبلى في سبيل هذه المناصرة بلاء حسنًا، وقام بأوفر نصيب في ذلك الجهاد.

اقرأ مجلة المنار منذ أنشئت. ثم أقرأ كتاب (المنار والأزهر) الذي ألفه

السيد في آخر حياته، وفيه أربعة وأربعون شاهدًا من دعوته الإصلاحية، إلى

عشرة مقاصد اتبع الأزهر أكثرها، ومقدمة في ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله،

وجناية العهد الماضي عليه.

تلك نواح لفقيد الإسلام والمسلمين في الإصلاح الديني.

أسأل الله تعالى أن يعوض المسلمين فيه خيرًا، وأن يوفقهم للسير على نهجه

وتقدير جهاده وبلائه، وأن يجزيه عن دينه كما يجزي المجاهدين الصابرين.

_________

ص: 201

الكاتب: حبيب جاماتي

‌خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

على مقربة من مدينة طرابلس الشام قرية صغيرة تدعى القلمون، تشرف

عليها قمم لبنان الشامخة، وتكشفها صخوره البارزة، وتنشر عليها أشجار الزيتون

نفحات من عبيرها المنعش، ويخيل إليك أن القرية تزحف بيوتها وحدائقها، من

سفح الجبل إلى شاطئ البحر، لكي تغتسل في مياهه الزرقاء، سعيدة بأن تنعم بكل

ما يمكن أن تجود به الطبيعة على بلدة بالجبل والسفح والسهل والبحر.

وإذا مررت بتلك القرية الجميلة السعيدة، وكنت غريبًا عن الديار، فإن جميع

الذين يقابلونك في طريقك يمسكون بك ويلحون عليك بأن تحط الرحال، فتأخذ

نصيبك من الراحة إن كنت متعبًا، أو تأخذ مؤنتك منها إن كنت قادمًا على تعب،

ولا يسعك إلا أن تنزل على رغبتهم، حينذاك يسير بك القوم إلى بيت المشايخ،

إلى بيت آل رضا، إلى بيت الفقيد الذي نحيي ذكراه.

وكلمة (شيخ) ليست في لبنان لقبًا يطلق فقط على رجال الدين المسلمين،

بل هي لقب وراثي، يطلق أيضًا على من بايعهم الشعب بالرياسة والزعامة، فلا

فرق بين رجل الدين ورجل الدنيا، وبين المسلم والمسيحي، وبيت آل رضا من

البيوتات القليلة في لبنان، التي تحمل أبناؤها لقب المشيخة مزدوجًا، أي أنهم من

رجال العلم والإرشاد؛ ومن رجال الرياسة والزعامة.

وفي قرية القلمون، ولد محمد رشيد رضا، من أسرة تنتسب إلى الأسرة

النبوية الشريفة.

فلا غرابة في أن يكون الراحل قد اصطبغ بصبغة ذلك الوسط، وأن يكون

تلك الطبيعة التي ترعرع في أحضانها قد فرغت فيه الشيء الكثير مما أغدقته على

بلدته، فجاء شامخ الرأس كجبال القلمون، صلبًا في عقيدته كصخورها، فياضًا في

علمه كذلك البحر الزاخر الذي كان يجلس على شاطئه في ريعان شبابه، حتى إذا

ما جاء إلى مصر، أخذ من فضائها الواسع الصافي سعة الصدر وصفاءه فلعبت

السياسة دورها البشع، وأعاد التاريخ نفسه حقًّا فزحف على الدولة الفتية غزاة من

الغرب، وهرع الأحرار المجاهدون للقاء المعتدين.

وفي 24 يولية سنة 1919 كانت موقعة ميسلون، التي كتب فيها العرب

بدمائهم الزكية صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي المجيد، ولسان حالهم

يقول:

عش كريما أو مت عزيزًا

تحت ظل القنا وخفق البنود

وبعد أن دفن الاستقلال السوري في ميسلون إلى حين قفل السيد محمد

رشيد رضا راجعًا إلى مصر، حيث استأنف جهاده المزدوج في سبيل الدين وفي

سبيل الوطن، إلى أن توفي وهو في حوالي السبعين من عمره.

أيها السادة:

إن حياة الفقيد الذي اجتمعنا اليوم لإحياء ذكراه لسفر ضخم يصعب على مثلي

أن يختصره لكم في سطور. فكل مرحلة من مراحل تلك الحياة الحافلة بالأعمال

الجليلة، والجهاد المستمر جديرة بأن يقف المرء أمامها خاشعًا مفكرًا، وكل مرحلة

من تلك المراحل سيتناولها أحد الخطباء الأجلاء بالبحث والتحليل، والخطب التي

ستسمعونها هي الحلقات التي تتكون منها تلك السلسلة الناصعة المتماسكة التي

نسميها حياة الإمام السيد محمد رشيد رضا.

وإن أنسَ لا أنس ذلك اليوم من أيام أغسطس الماضي الذي سافرنا فيه معه

إلى السويس في معية صاحب السمو الأمير سعود، كان السيد محمد رشيد في ذلك

اليوم شديد الفرح، يكثر من الحركة والكلام والضحك، وكنا نتساءل قائلين: (ما

سبب ذلك يا ترى؟) وما كنا ندري أنه رحمه الله يودعنا ويودع العلم، فقد

توفي فجأة في الطريق، في ذلك اليوم، قبل أن يصل إلى القاهرة كما تعلمون.

والآن أيها السادة، إن ما قلته عن حياة السيد الإمام محمد رشيد رضا ليس

كل ما يجب أن يقال عن حياته، ولكنني أديت واجبًا عن نفسي وعن إخواني

المسيحيين، نحو الراحل الكريم، ويشرفني أن يكون صوتي قد ارتفع في هذا

المجمع الإسلامي الحافل، كما ترتفع الآن رنات الأجراس والنواقيس الشرقية

العربية في الأقطار الشرقية العربية، فتمتزج بأصوات المؤذنين، داعية إلى

التآخي، إلى التضامن، إلى التكاتف، إلى التعاون في سبيل القومية العربية،

في سبيل الأوطان الذبيحة!

ومن نيلها المبارك الوفي والوفاء بكل ما فيه من قدسية وروعة، فعاش طول

حياته وفيًّا لدينه، وفيًّا لأساتذته وتلاميذه، وفيًّا لأهله وعشيرته وأصدقائه، وفيًّا

لوطنه الأول والثاني.

تلقى رحمه الله علومه - في مدارس طرابلس والشام، وكان أشهر أساتذته

الشيخ حسين الجسر، من كبار العلماء السوريين في ذلك العهد.

وفي سنة 1897 نال شهادة العالمية، وقدم إلى مصر في تلك السنة، أي في

شهر رجب عام 1315 هجرية، تحدو به الرغبة الملحة في لقاء الإمام محمد عبده

رحمه الله.

وصلات السيد رشيد رضا بالإمام معروفة مشهورة، وقد ظلت وثيقة لم

تعتورها شائبة، إلى أن توفي الإمام في سنة 1905م.

وكان المرحوم السيد رشيد رضا قد أنشأ (المنار) في شوال سنة 1315،

أي في مارس 1898م.

ومنذ أن وطأت قدماه أرض مصر إلى أن توفاه الله فيها، ظل يجاهد ويناضل

في سبيل دينه، دون أن ينسى وطنه الأول: فقد عاد إلى سورية بعد الحرب

العظمى مباشرة، ونظرًا إلى مكانته السامية في النفوس، انتخبه السوريون رئيسًا

لمؤتمرهم الوطني، الذي اجتمع في دمشق سنة 1919، وقرروا إعلان استقلال

سوريا كدولة عربية، ونادى بالمغفور له فيصل بن الحسين ملكًا على السوريين،

وكان لآراء السيد محمد رشيد رضا ونصائحه وإرشاداته، فضل كبير في نجاح

تلك الحركة المباركة.

ولكن الأقدار لم تلبث أن قلبت لسورية المجاهدة الناهضة ظهر المجن.

_________

ص: 208

الكاتب: إسماعيل الحافظ

‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ

في تأبين السيد الإمام

محمد رشيد رضا رحمه الله

داعٍ إلى الحق غالت صوتَه النوبُ

أصيب في فقده الإسلام والعرب

وكوكب من سماء الفضل حين هوى

هوى منار الهدى وانثالت الكرب

وأصبح المجد مهجور الحمى وبكى

من ثكله شرف الأعراق والنسب

قضى الإمام فوجه الحق مكتئب

مما دهاه وطرف الهدي منتحب

والحزن مستعر النيران متصل

والصبر منقطع الأوصال منقضب

والزهد والرفد والإرشاد في ترحٍ

والبر والدين والأخلاق والأدب

ومعقل العلم والعرفان مضطرب

يكاد من برحاء الهول ينقلب

والشرق يندب والأقطار واجفة

كأنما دب فيها الويل والحرب

يا ناعي الحي حق ما رويت لنا

أن الإمام حواه الترب أم كذب

ويح الردى كيف أخبى نجمَه ومتى

كن المنايا من الأفلاك تقترب

كادت تضل عقول فيه من جزع

تقول: هل مات أم دارت به الشهب

أم راح يبغي سماء عن سماوته

أم استسر فقامت دونه الحجب

لا تنكروا رقدة الهادي الرشيد فقد

أعيا وقد يستريح الدائب الدرب

دعاه ومذ لبت الألباب دعوته

هفا بها لمغاني قدسه الأرب

والبدر مهما تناهى في تنقله

في الفلك فهو إلى مغناه منقلب

لئن طوت فضله أيدي الردى فطوت

مساعيًا لم تزل تُرجى وتُرتقب

فرُب ليل طواه كله نسك

ورُب يوم قضاه كله قُرَب

ورُب خافية الأعلام نائية

يعيى بها الفكر إدراكًا ويضطرب

ألقى عليها شعاعًا من بصيرته

بدت به وهي في عين النهى كثب

ورُب سنة هدى قد تكنفها

وهمٌ ورانت على أنوارها الريب

أعادها برزة للناس هادية

كما انجلت عن سنا أقمارها السحب

ورُب آيات تنزيل سرائرها

ظلت زمانًا عن الألباب تحتجب

سما إليها وعانى سترها فبدا

للمستريبين من تفسيرها عجب

يعنو لها العلم منقادًا ويأخذه

من روعة الحق سلطان فيتئب

وغارة في سبيل الله ظافرة

يهفو لها المجد والإسلام والحسب

قد شنها منه ماضي العزم ينجده

من حزمه وحجاه جحفل لجب

دارت على محور البرهان دورتها

حتى تجلت وهو في أرجائها قطب

ثم انثنى وهو مخفوض الجناح تقي

والحق مرتفع الرايات منتصب

في ذمة الله نفس ما ألم بها

رضا لغير رضا الخلاق أو غضب

وهمة ما نأى عن باعها أمل

ولم يفتها من العلياء مطلب

لهفي على القائم الهادي إذا خفيت

معالم الحق أو ضنت به العصب

ومن إذا نابَتِ الإسلامَ نازلة

علا به الجد والإقدام والدأب

وإن دجا الخطب واسودت جوانبه

بدت لنا فيه من آرائه شهب

القانت العف والأطماع دانية

والمقدم الندب والأهوال تصطخب

والمؤثر الجد يقضي ليله سهدًا

فيه إذا جد بالمستهتر اللعب

والقائل الصدق لا يدنو به رغب

في قوله لا، ولا ينأى به رهب

فما أطبت قلبه الدنيا بزخرفها

ولا ثنى عزمه مال ولا نشب

غايات مبدئه الإيمان في عمل

وروح نهضته الإقدام والغلب

سائل به الليل هل شقت غياهبه

عن مجاهد مثله لله يحتسب

وسائل العلم والعرفان: هل رفعت

لمثله في ذرى عليائهما الرتب

وهل شكا الوطن المحزون نكبته

إلا ولباه ذاك المشفق الحدب

يا صاحب القلم الكافي بفتكته

يوم التناضل ما لم تكفه القضب

إذا انبرى فهو طورًا في الحشا ضرم

وإن جرى فهو حينًا في المها ضرب

(أما وقتك ظبى الأقلام مشرعة)

أما توافت لك الآثار والكتب

أما إقالتك أيام محجلة

يبلى المدى وهي في آثارها قشب

لك المواقف يختال الزمان بها

والباقيات على الأيام والخطب

السائرات مسير النيرات هدى

والساطعات وآفاق النهى كهب

والخالدات فما إن فاتها زمن

والدائبات فما إن مسها نصب

والملقيات على سمع الورى عبرًا

تمشي على ضوئها الأجيال والحقب

منار هديك برهان يقوم على

أشكله عمد الإصلاح والطنب

وغيث تفسيرك المأثور سلسلة

من منبع الوحي والإلهام ينسكب

ذخران للدين والدنيا إذا جليا

للناس حفهما الإعجاب والعجب

قم وانظر الشرق يصغي السمع ملتمسًا

هداهما وعيون الدهر ترتقب

هيهات قد خمد النور الذي يرتقبوا

وقد مضى ذلك العهد الذي طلبوا

تبكيك أبناء عدنان وإخوتهم

والمسلمون إذا مستهم النوب

كنت الرجاء لهم إن عوزت عدد

تحمي العقيدة والأخلاق أو أهب

وكنت سيفا على الإلحاد ذا شطب

من الجهاد على أفرنده ندب

يبكون نعيك في تأليف وحدتهم

تقيم في نظمها طورًا وتغترب

ركبت في مبتغاهم كل سابقة

واليوم بعدك لا سرج ولا قتب

فدتك من عثرة الأيام شرذمة

راموا علاك فما نالوا ولا قربوا

جروا وراءك حتى حُزتها رتبًا

أوفت سموًّا على هام السهمي انقلبوا

مقصرين فلم يقضوا حياتهم

كما قضيت، ولم تذهب كما ذهبوا

ذهبت كالغيث ولَّى بعدما رُويتْ

منه البطائح واهتزت به الهضب

ذهبت برا بأوطان وفيت لها

تكاد إثرك عن أوطانها تتب

غادرتها وهي أوزاع ممزقة

يعيث منتدب فيها ومغتصب

تدعوك للنجدة الغراء رازحة

يؤدها المضنيان الهم والوصب

إذا رأت بعدك الآمال مخفقة

طغى من الوجد في أحشائها لهب

تؤم قبرك مثوى رحمة وهدى

للبر في لحده مغنى ومضطرب

كنز من الحكمة العلياء قد ضربت

من الجلال على أركانه قبب

يكاد حين تحييه ضمائرنا

يصبو إليها صدى منه وينجذب

إذا أطافت به أوحى لها مثلاً

من الثبات وشملاً ليس ينشعب

وإن شكَت خطبها كادت جوانبه

تئن للخطب إشفاقًا وتنتحب

يا أكمل الناس إيمانًا وأخلصهم

ودًّا وأكرمهم جزمًا إذا انتسبوا

من لي بأيامك اللاتي نعمت بها

دهرًا يظللني من دوحها عذب

أيام أرشف من صفو الرسائل أو

نجوى الحديث كئوسًا ما بها لغب

واهًا لها، قد مضت فاليوم لا رسل

تفي أمانة نجوانا ولا كتب

أحس أن نميز الماء في كبدي

يحيله الحزن جمرًا فهو يلتهب

وأن سوداء قلبي حين أذكرها

تفور من مقلتي دمعًا وتنسرب

سأحفظ العهد، فاحفظه، وأنثر من

فيض الشؤون رثاءً ليس ينقضب

ولو نظمت الثريا في رثائك ما

قضيت للحق إلا بعض ما يجب

...

...

...

...

إسماعيل الحافظ

* * *

تاريخ هذا العدد

الحق أننا طبعنا هذا العد في أوائل ربيع الأول سنة 1355 وأواخر شهر مايو

سنة 1936؛ وذلك لنعوض للقراء ما فاتهم من أعداد لإكمال المجلد الخامس

والثلاثين.

* * *

العدد القادم

سنجعل العدد القادم خاصًّا ببحث إسلامي عظيم هو (المستشرقون والإسلام) ،

وقد تولى تحريره حضرة النطاسي البارع الدكتور حسين الهراوي مفتش صحة

مصر القديمة، وهو المسلم العالم الغيور. وسيصدر بعد هذا العدد بعشرة أيام،

بإذن الله.

_________

ص: 211

الكاتب: محيي الدين رضا

فقيد العرب والإسلام

المرحوم السيد محمد رشيد رضا

كلمة سريعة [1] بقلم ابن أخيه الحزين

(1)

سألَنا كثير من الأصدقاء والمحبين من مريدي فقيدنا الكبير أسئلة شتى،

فرأيت أن أكتب ما يلي ردًّا على ما حضرني من تلك الأسئلة حتى يطلع عليه

الجميع، ولا يزال القلب كسيرًا والحزن عامًّا، فمعذرة من القراء الكرام إذا وجدوا

شيئًا غير ممحص، والله يتولانا برحمته ويحسن عافيتنا جميعًا، إنه خير مسئول

وأكرم مجيب.

كيف بُلِّغت الخبر؟

قرع باب مسكني في نحو الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر يوم الخميس 22

أغسطس الماضي، وكنت ممددًا في سريري بعد ما تغديت ففتحته القرينة،

وسرعان ما دخلت علي تقول: (قم حالاً وكلِّم عبده) فظننت أنها تقصد ابن

عمي السيد عبد الغني رضا، فقلت:(ولماذا لم تدعيه للدخول عليَّ؟) . فقالت:

(قم فكلمه) . فنهضت مسرعًا إلى الباب فوجدت عبده بواب دار المنار، فأخذتني

رعشة الوجل؛ لأنه حضر في ساعة غير مألوف حضوره فيها، وقد سبق أن

حضر في مثلها يوم أخبرني بوفاة جدتي. فقلت: (ماذا تريد يا عبده؟) . قال:

(السيد عبد الغني عاوزك) ورأيت دموعه تترقرق في مقلتيه، وصوته يتهدج،

فقلت له: (قل، أسرع، ما الذي حصل؟) . فقال: (مات السيد!) .

وهنا انهمرت دموعه، وأصبت أنا بذهول، فدخلت غرفة النوم لألبس،

فقالت القرينة: (ماذا حدث؟) . قلت: (مات عمي) . وصرت لا أعرف ماذا

أصنع، فأردت التوضؤ، فصرت أبحث عن القبقاب وهو أمامي فلا أجده، وبعد ما

توضأت صرت أنتقل في المنزل مفتشًا فيه عن الذي ألبس وأين أجد البذلة والحذاء

وما إليهما، ولقد لقيت في ذلك عناء كبيرًا.

وفي أثناء ذلك كانت القرينة قد فهمت من عبده أن الوفاة حدثت وهو عائد من

السويس، وأنه لا يزال في مصر الجديدة. سرت في الشارع وأنا أحس أني على

وشك السقوط أتهادى يمينًا وشمالاً.

في دار المنار

صعدت إلى الدور العلوي في المنزل فقابلت قرينة عمي وقلت لها: (نحن

إخوتك وأولادك فصبِّري نفسك) . وأرسلت على إثر ذلك تلغرافات للسيد محمد

شفيع نجل الفقيد - وكان لا يزال في سورية - بوجوب حضوره حالاً، وأخبرته

الخبر، وأرسلت تلغرافًا لصهري محمد أفندي السيد بالإسماعيلية ليحضر للمساعدة

في الأمر، وأرسلت رسولاً إلى الأستاذ عبد السميع أفندي البطل فسرعان ما حضر،

وحضر صهري في الليل ومعه الصديق مصطفى أفندي إبراهيم أحمد، وانتشر

الخبر بسرعة مدهشة في القطر المصري فحضر بعض الأصدقاء من طنطا وغيرها

وانهالت علينا البرقيات.

وفي الساعة 7.30 أذاع الراديو النعي في العالم كله، فقوبل الخبر بذهول

ولم يستطع الناس تصديقه بسرعة فشرعوا يستفهمون تلفونيًّا من دار المنار.

في مصر الجديدة

عندما حضرت إلى دار المنار كان ابن عمي السيد عبد الغني لا يزال في

مصر الجديدة متنقلاً ما بين الإسعاف والقسم؛ لإجراء اللازم بنقل جثمان الفقيد،

وحضر فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية إلى دار

المنار فجلس منتظرًا - وأمارات الحزن بادية عليه - وهمَّ بالذهاب إلى مصر

الجديدة ولكننا لما اتصلنا تليفونيًّا بمصر الجديدة فهمنا أن كل الإجراءات تمت ولم

يبق على الحضور إلا القليل من الزمن.

وصول الجثمان

جلسنا نتكلم في وقع المصيبة واستغراب ما حدث إلى أن وقفت أمام دار

المنار سيارة من سيارات نقل الموتى، وحمل الناس نعشًا فيه جثمان ذلك العالم

الكبير الذي طبقت شهرته العالم أجمع، فانهمرت الدموع من العيون، وكان يرافق

النعش جمهور من المحبين وبمقدمتهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني -

وكانت دموعه قد بللت لحيته وعيونه قد احمرت من شدة البكاء والنحيب - واشتد

البكاء من جميع الحاضرين ولا سيما فضيلة المفتى.

فضل التفتازاني

وللسيد التفتازاتي أفضال كثيرة؛ فهو الذي حمل معظم المصاب على أكتافه،

فقد أسرع إلى دار الإسعاف وإلى القسم وبذل مجهودًا عظيمًا في كل منهما، ولما

وصل إلى دار المنار عمل كل ما في قدرته للحصول على الإذن من ورثة المرحوم

الشيخ محمد عبده بدفن عمي بجواره ففاز، وسرعان ما أحضر التُّرَبية والحانوتية

واتفق معهم على بناء التربة في الليل حسب الشريعة الإسلامية، وفاز أعظم فوز،

وبالجملة فالسيد التفتازاني أسدى لصديقه الراحل أعظم خدمة بعد وفاته ولا يزال

يعمل لخدمة أولاده بصدق وقوة مما يسجل له بمداد الشكر الجزيل، حفظه الله

وأبقاه عونا للملهوف فهو أهل خير وفضل ومعدن معروف [2] .

الأستاذ الطاهر

وفي أثناء ذلك كانت حديقة الدار قد امتلأت بالكراسي وازدحمت بالزوار،

وحضر الأستاذ محمد علي الطاهر على غير علم بالذي حصل، فظن نفسه أخطأ

المنزل، ولمَّا أخبره بعضهم كاد يصعق وأخذ يقول: (لقد جئت لأزور رب الدار

محدثًا نفسي أنه إذا قدَّم إليَّ الشاي فإنني سأعتذر عن شربه، وأنه على إثر ذلك

سيقوم إلى الثلاجة فيحضر لي فاكهة من التي تعود أن يتعشى منها) .

وبعد ذلك أخذ يحوقل ويتأسف، ثم انصرف إلى التليفون يخبر الذين يرى

أنه يحسن إخبارهم بالفجيعة، فجزاه الله خيرًا.

الميت المجهول! !

ومما يصح التنويه به هنا أن المرحوم كان يركب سيارة مع تركيين - في

عودته من السويس - لا يجيدان العربية، وفي الطريق كان يحمل مصحفًا صغيرًا

يتلو آيات الله طوال الطريق، إلى أن أحس بتعب فطلب من السائق أن يوقف

السيارة فأوقفها، وقاء بعدما وضع المصحف في جيبه، واستسمح اللذين معه

بالاضطجاع قليلاً؛ لأنه متعب فاضطجع، ولمَّا وصلت السيارة إلى مصر الجديدة

حاولا إيقاظه فوجدا جسمه لا حياة فيه وكانت روحه صعدت إلى الملأ الأعلى

فعاجلا به على الإسعاف، ثم ذهبا إلى دائرة البوليس فكتب البوليس محضرًا بوفاة

(شخص مجهول) في أول الأمر ثم تدارك الخطأ.

ماذا وُجد معه؟

وكتب البوليس محضرًا بالذي كان معه وسلموه إلى حسين رضوان الموظف

في مطبعة المنار، وقد حضر وسلمني ما أمضى على تسلمه وهو محفظة فيها جنيه

واحد ونظارتان ونظارة كبيرة مقرِّبة وعمامته ومصحف وفك أسنانه، ولم تصل يد

البوليس إلى كيس نقوده ولا إلى قلمه ففقدا ولسنا ندري أين كان فقدهما؟

وقع المصيبة على حرمه

ويظهر أنني كنت سريعًا في إخبار حرم عمي بالمصاب - وكنت أظنها علمت

به من ابن عمي قبل وصولي - وكان غرضي أن أصبِّرها، وبعدما كلمتها بما

قدَّمت نزلت لإرسال التلغرافات ولتدبير ما يلزم، فحضر إليَّ الخادم وقال: (إن

الست أغمي عليها) فوقعت في مشكلتين، ولما صعدت وجدتها في حالة حزن

شديد وبكاء وليس ثمة إغماء - والحمد لله - فهدأت نفسها بما حضرني من كلمات -

وكانت عندها الغسالة وقد تركت الغسيل وهي تنتحب، وعلى إثر ذلك

حضرت قرينتي فاشتد البكاء منهما فزجرت قرينتي وقلت لها: (يجب أن تتحملا

المصيبة بصبر عملاً بوصايا الفقيد) وتركتهما ونزلت لعمل ما يلزم.

سمو الأمير سعود

وكان عمي رحمه الله قد دعا سمو الأمير سعود إلى دار المنار في مساء

يوم الأربعاء 21 أغسطس الماضي لشرب شيء من المثلجات لما لم يتيسر أن يقبل

الأمير دعوة للغداء أو العشاء لارتباطه بمواعيد سابقة. وقد خاطبه في ذلك عند

سفره إلى أوربا ويوم حضر منها - وكان في طريقه إلى فلسطين والشرق العربي -

فوعده بالقبول وترك التدبير لسيادة الشيخ فوزان السابق معتمد المملكة العربية

السعودية في مصر.

ولقد عني رحمه الله بإصلاح مكتبه ومدخل داره استعدادًا لاستقبال الأمير،

وألحَّ على أولاده بسرعة الحضور من سورية لاستقبال الأمير؛ ولكن مرض ابنه

المعتصم أخَّر حضورهم، وقد عاد من سورية قريبًا وهو في دور النقه، والحمد لله.

وحب عمي لآل سعود يعرفه كل الذين يترددون على دار المنار، وحبه

للأمير سعود عظيم جدًّا فقد كنت كلما أزوره يحدثني عن مقابلته للأمير وشغفه بأدبه

وخلقه وحيائه وصلاحه وتقواه وجمال وجهه، وإذا سمعته يتحدث عن كل ذلك

أحسست بأن لعابه يسيل متحركًا بالشهد ولا سيما إذا حدثك عن الحفاوة التي لقيها

الأمير في أوربا وأجوبته لملوك أوربا ورؤساء جمهورياتها وكبار رجالها، وكيف

كان يفاخر بالإسلام وما امتاز به من المزايا.

يود الانفراد بالأمير

وكان رحمه الله يود الانفراد بالأمير للتحدث معه في بعض الشؤون؛

ولكن الأمير اعتذر بضيق وقته وبأنه يود سرعة العودة لتغيير ثيابه والوضوء

والصلاة، ثم هو يود حضور حفلة وفاء النيل تلبية لدعوة سعادة المحافظ، وعلى

ذلك قال للسيد: (إذا بقيت مصممًا على السفر غدًا فتحضر إلى الذهبية في الساعة

الرابعة صباحًا ونجلس معًا في تلك الساعة الهادئة، وسأرسل إليك سيارة خاصة) .

لم يذق طعامًا

وقد جرت عادة المرحوم أن يستيقظ قبل الفجر للتهجد ثم يصلي الصبح في

أول وقته وينام بعد ذلك قليلاً؛ ولكنه في صباح الخميس انتظر السيارة بعد الصلاة

فحضر الشيخ فوزان السابق فركب معه إلى الذهبية، وخرج ولم يذق طعامًا في

داره.

ولما اختلى بالأمير وأفضى إليه بما رآه لازمًا طلب منه الأمير بأن لا يسافر

معه إلى السويس وطلب مثل ذلك من السيد محمد الغنيمي التفتازاني وألحَّ في طلبه

حتى كاد رحمه الله يغضب منه؛ ولكن ذلك كله لم ينفع وركب السيارة إلى

السويس، وفي السويس اختلى مع الأمير مرة ثانية مدة طويلة، وبعد تحرك

الباخرة فضَّل الرجوع حالاً إلى عمله في دار المنار، وفعلاً ركب السيارة عائدًا

فوصل إلى داره محمولاً على النعش - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

استأذن القرينة

ولا يفوتني أن أقول أنه أستأذن قرينته بالسفر فأذنت له في ذلك، ولو استأذن

طبيبه الدكتور أحمد عيسى بك لما أذن له؛ لأنه يعلم أنه مصاب بتصلب الشرايين

والروماتيزم وضعف القلب وكان قد نهاه عن إجهاد نفسه مدة طويلة؛ ولكنه سمح له

بالعمل بعد ذلك، وأما السفر بالسيارة عن طريق السويس فإنه ما كان يأذن له به

ولكن هكذا شاء الله ولا رادَّ لمشيئته.

كيف قضى ليلته؟

ولما حضر إلى الدار جثة هامدة وأنزلناه من النعش في الدور العلوي، رأيته

كأنه لا يزال حيًّا، ومدَّدناه في غرفة الاستقبال وكنت أظن أنه ربما يستيقظ قريبًا؛

لأن شكله لم يتغير مطلقًا، وفي الليل دعوت حضرتي الدكتورين الفاضلين الدكتور

شهبندر والدكتور حسني أحمد لفحصه، ولمَّا فحصاه نصحا لنا بوضع الثلج حول

جثته خشية الحر ورفع السجاجيد التي تحته وحوله، فصدعنا بالأمر حالاً، ويا

سبحان الله، لقد كتب له أن يحاط بالثلج وهو الذي كان يحب الثلج في الشتاء.

الديون باهظة

ولقد تبين أن الديون التي عليه باهظة وكان الناس يظنون أنه غني جدًّا

وكنت أنا أيضًا أظن فيه ذلك، ومجال الظن متسع فكتبه رائجة، وهذا كتاب

(الوحي المحمدي) طبع ثلاث مرات في عام واحد ولقد نفد من طبعته الأخيرة نحو

ألفي نسخة في زمن وجيز، وهكذا الحال في كتبه وكتب الأستاذ الإمام رحمهما

الله. وإذا راجت الكتب فإن دخلها لا يستهان به؛ ولكن يظهر أن عدم توفقه في

الإدارة وكثرة كرمه أفضى به إلى هذه الحالة، هذا إذا لم نقل غير ذلك. فاللهم

وفقنا لوفاء دَينه، وألهم الذين له عليهم ديون وفاءها سريعًا.

دعاء مستجاب

ولقد أتم رحمه الله تفسير سورة يوسف إلى نهاية الآية 101 التي هي

خاتمة القصة، وهي قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: {رَبِّ

قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ

وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)

فقال رحمه الله:

(تحول عليه السلام عن خطاب والده في بيان هذه العاقبة المثلى في

مقام الشكر لربه وحمده، وبما يناسب المقام من صفاته، إلى مناجاة ربه في

الاعتراف بها والشكر عليها، وسؤاله حسن الخاتمة في الدنيا الرافعة إلى منتهى

السعادة في الآخرة؛ لشعوره بأن ما خلقه له من الخير والنعمة قد تم كما فهمه أبوه،

وكل شيء بلغ حده في هذه الحياة انتهى، فقال:] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ [

أقصى ما ينبغي لمثلي ويصلح له في غير قومه ووطنه، فجعلتني متصرفًا في ملك

مصر العظيم بالفعل، وإن كان لغيري بالاسم والرسم، فكان تصرفي مرضيًا له

ولقومه، ولم يُثر عليَّ حسد حاسد ولا بغي باغٍ مما ذقت مرارته بمجرد تصور وقوعه

على تقدير صدق الرؤيا الدالة عليه] وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [ما أعبر به عن

مآل الحوادث ومصداق الرؤى الصحيحة فتقع كما قلت] أَنْتَ وَلِيِّي [الذي توليت

ولا تزال تتولى أموري كلها في الدنيا وفي الآخرة لا حول لي في شيء ولا قوة

] تَوَفَّنِي مُسْلِمًا [لك إذ تتوفاني بما تتم لي وصية آبائي وأجدادي، وهي المشار إليها

بقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا

تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132) ] وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [منهم واحشرني

معهم. فهذا الدعاء العظيم، بمعنى قوله تعالى في فاتحة القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ

المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6 - 7) ، أي من النبيين

والصديقين والشهداء والصالحين، فنسأله - تعالى - أن يجعل لنا خير حظ منه

بالموت على الإسلام.

انتهى كلامه رحمه الله وأجيبت دعوته، فظل يتلو القرآن إلى آخر نسمة

تنسمها من الحياة.

(المنار)

وهذا آخر ما نشره في الملازم التي طبعت من الجزء الثاني من المجلد

الخامس والثلاثين من مجلة المنار التي نرجو الله أن يوفقنا لإصدارها ثانية ذكرى

لعلمه وآثاره.

_________

(1)

نشرت في جريدة (ألف باء) الدمشقية 10 - 17 أكتوبر سنة 1935.

(2)

وقد توفي رحمه الله ولا بد لنا من كتابة كلمة عنه، والله الموفق.

ص: 215

الكاتب: محيي الدين رضا

فقيد العرب والإسلام

كان دائم العمل

(2)

إن كثيرين من شبان اليوم - وغير اليوم أيضًا - يكثرون من التحدث عن

كثرة أعمالهم إذا كان للواحد منهم عمل منتظم في الحكومة أو في دائرة من الدوائر

الأهلية، وقد لا يتجاوز عمل الواحد منهم ست ساعات يعمل فيها ببطء وتؤدة وهو

يستطيع إنجاز عمله كله في نصف هذا المقدار من الزمن إذا أجهد نفسه قليلاً.

وأما السيد رشيد فقد عرفته من عام 1907 وكنت مقيمًا في منزله إلى أواخر

عام 1922، فكنت أدهش من عمله المتواصل: يستيقظ في الصباح مبكرًا جدًّا

فيصلي الصبح حاضرًا ويكون قد تهجد قسمًا من الليل قبل حلول وقت الصلاة، ثم

يستريح قليلاً وبعد ذلك يجلس في مكتبه فيقرأ ويكتب ويظل على ذلك إلى أن

يحضر له الفطور فيجلس إلى المائدة، وفي أثناء الفطور تتاح له فرصة قراءة

الصحف الصباحية وبعد ذلك يرجع إلى مكتبه إلى أن يحين وقت الغداء فيتغدى ثم

يأوي إلى فراشه قليلاً، وبعد ذلك يصلي العصر ثم يذهب إلى مكتبه للعمل، وقد

يستمر في عمله إلى ساعة متأخرة من الليل، وفي أثناء الليل يصحح كثيرًا من

المسودات التي جمعت من مجلته (المنار) أو مؤلفاته المختلفة أو ما يطبع في

مطبعة المنار من كتب النجديين أو ما شابهها مما يحتاج للدقة في المراجعة من جهة

سند الأحاديث أو صحة النقل أو وجاهة الرأي.

قلت: إنه ينام بعد صلاة الفجر والواقع أنه ينام أحيانًا، وأحيانًا يخرج إلى

النزهة في تلك الساعة الهادئة، وكثيرًا ما يذهب إلى مسافات بعيدة جدًّا ويصل

أحيانًا إلى الأهرام والناس نيام ثم يعود ماشيًا أو راكبًا، وقد اتخذ هذه الخطة

ولا سيما عندما سكن بجوار كوبري الملك الصالح، ويسير في تلك الساعة حاسر

الرأس وقد يكون الجو باردًا.

وفي نزهته هذه يصطحب معه مصحفًا أو مسبحة فيتلو ما تيسر له من القرآن

أو يسبح الله كثيرًا. ولقد اشتهرت فسحته هذه وجعلت كثيرين من أهل الأحياء

المجاورة يقلدونه فيها.

ولقد كان نشيطًا في عمله في مكتبه وفي نزهته وكان يسير بقوة يعجز عنها

الشبان، وأذكر أنني كنت أسير معه أحيانًا - وهو في الكهولة وأنا في أول مراحل

الشباب - فما كنت أستطيع السير بجواره، فكنت أسير وراءه بكل مشقة وعناء،

ولو أنه رحمه الله نظم عمله ووظف من يريحه من قراءة المسودات واشتغل

في الوقت الذي كان يشغله بالمسودات بالتأليف، لزاد عمله نحو النصف، ولكان

محصوله العلمي أكثر مما خلَّفه، مع كثرته وعظيم فائدته العلمية وحسن تنظيمه

وإتقانه وإبداعه.

الإتقان في العمل

وله ذوق مشهور في إتقان كل شيء، ويتجلى ذلك في مؤلفاته وحياته العامة

والخاصة. وقراء مجلته المنار يعرفون له الفضل العظيم في وضع تلك الفهارس

المتقنة للموضوعات والأعلام، ولم يقصر فهارسه المنظمة على المجلة، بل

وضعها لتفسيره فوضع لكل جزء من التفسير فهارس منظمة تسهِّل على الباحث

العثور على طلبته بسرعة.

وعمل هذه الفهارس يأخذ قسمًا كبيرًا من وقته، لو تيسر له العثور على من

يعملها له لوفر جزءًا من وقته.

وأذكر أنني عندما كنت في داره في شارع درب الجماميز - وكنت لا أزال

مراهقا - كنت أساعده في عمل تلك الفهارس مساعدة آلية، فقد كان رحمه الله

يكتبها متتابعة وكنت أتسلمها منه وأقصها ثم أضع ظروفًا عليها حروف الهجاء

فأضع في كل ظرف الموضوعات التي تدخل في حرفه، ثم أرتب كل حرف

ترتيبًا منظمًا وألصقها مرتبة ثم نقدمها للطبع.

وقبيل وفاته أراد أحد الأصدقاء عمل فهرس لمجلد المنار الأخير وعمله بالفعل؛

ولكنني سمعت المرحوم ينتقد عمله بأنه غير وافٍ بالموضوعات المهمة كلها؛

ولذلك لم يعتمد عليه فلم يطبع.

هذا ولكثرة عمله كانت الفهارس تتأخر؛ لأنه ما كان يعتمد على أحد في

عملها، وهذا يرجع إلى عظم دقته وإتقانه في عمله رحمه الله.

ولم تقتصر دقته على أعماله العلمية، بل إنه كان يحب الإتقان والدقة في

مأكله ومشربه وملبسه إلى درجة يعرفها كل من خالطه عن قرب أو بُعد، وأما إتقان

مطبخه فذلك حديث الجميع، حتى إن السيد محمد الغنيمي التفتازاني طالما كان

يتفكه بقوله: (إن الواجب على وزارة المعارف العمومية أن تعهد إلى بعثة من

البنات بالتخصص في فن الطبخ في منزل السيد رشيد رضا) .

وكان كرمه مضرب المثل - ولا يزال كذلك - في جميع البلدان الشرقية؛ فقد

كان حريصًا على إضافة كل قادم إلى مصر، وأما أصدقاؤه فقد كانوا يذهبون إلى داره

من غير كلفة؛ غير أنه في أواخر أيامه كان يواظب على صيام أيام مخصوصة منها

الأيام البيض؛ ولذلك كان أصدقاؤه يعنون بمعرفة أيام صيامه حتى إذا ما حضروا

استطاعوا أن يأكلوا معه فيشبعوا أجسامهم بطعامه وأنفسهم بعلمه ومعارفه.

عطفه وكرمه

ولا زلت أذكر عندما كنت يافعًا وكنت في داره بشارع درب الجماميز، وكان

الوقت وقت شهر رمضان، فكان إذا أحس أن الوقت أشرف على الفجر ولم يبق

مجال للأكل فكان يسرع إلى إيقاظي ويحضر لي اللحم المحمر وما أشبه، ويقف

فوق رأسي يحثني على الأكل بسرعة، قالت مرة جدتي - والدته -: (إن محيي

الدين يجزع من رمضان كثيرًا) فقال لها ضاحكًا: (الله يحفظك يا والدة، أنت

سمينة تتغذين من شحوم جسمك، وأما هو فنحيف يحتاج للغذاء حتى يستطيع

النهوض والعمل) .

وكان كريمًا جدًّا بالمال ولا سيما في الأعياد والمواسم؛ فكان يعطيني في العيد

ما لا يقل عن نصف جنيه ذهبًا - طبعًا عندما كنت صغيرًا - فلما كبرت صار

ينفح أولادي بالنقود، وكنت أراه يعطي كثيرين من الشبان الشرقيين وطلاب العلم

نقودًا، ولا زلت أذكر مرة أنه دفع لشاب عراقي جنيهًا ذهبًا في أيام الحرب وكان

بائسًا، فامتنع عن الأخذ فألح بقوة، وقال له: (إنني لا أتصدق عليك، وإنما

يمكنك أن تحسبه سلفة من محيي الدين، وعندما توسر ترده إليه) وبذلك أخذ

الجنيه، وهو الآن محامٍ وكان موظفًا بالحكومة العراقية في بغداد.

ولطالما مد إليه كثير من العظماء أيديهم فردها مملوءة، ولم يكن يذكر ذلك لأحد

ما؛ وإنما سمعت هذا من الخادم الذي كان واسطة الدفع، وهنا أنقل للقراء كتابًا

ورد إليَّ من الشيخ محمد بن سياد أمين مكتبة الحرم المكي، قال - حفظه الله -:

عزيزي السيد محيي الدين:

حزني على الأستاذ السيد مثل حزن الولد على الوالد، فإنا لله وإنا إليه

راجعون.

كان سمع نبأ وفاته رحمه الله ورضي عنه - ليلة الجمعة التي قبض فيها

في جدة في الراديو، وبلَّغنا الخبر الأخ محمد أفندي نصيف صباحًا بالتلفون

فأحسست بالمصيبة ودب الحزن في نفسي، غير أني كابرت الناس فيه وأنكرت

وقع ذلك الخبر وكذَّبت الخبر بادئ بدء، ثم جعلت أتمنى أن يكذب الناس معي هذا

الخبر، وهيهات أن يفعل الناس ما تمنيته وقد أرغمتهم الحقيقة على الاعتراف بالواقع، فإذا هم يكتبون به في جرائدهم ويتحدثون في أنديتهم ويصلون على المرحوم في

مساجدهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأعظِم اللهم لنا الأجر وأحسن لنا العزاء

وألهمنا السلوان يا سيد محيي الدين في هذا العالم الكبير والأستاذ الجليل والمرشد

العظيم، وتغمده الله وأخاه الوالد المرحوم برحمته، وقابلهما برضوانه، وجعلهما

في فسيح جناته.

أذكره رحمه الله حين كان يمدني وأمثالي من طلبة العلم المنقطعين في

أثناء الحرب العمومية بشيء من ماله الخاص، وكان رحمه الله يمثل بعمله

الصالح هذا ما قيل في جده الأكبر صلى الله عليه وسلم: (إنك لتحمل الكل وتكسب

المعدوم) وأذكره رضى الله عنه حين أنقذني من السجن بكفالته الشخصية - ونعمت -

يوم اعتقلني الإنكليز في أوائل الحرب العمومية اعتقالاً سياسيًّا، ولولاه رضي

الله عنه لامتد اعتقالي إلى أواخر الحرب كما وقع لكثيرين أمثالي، وكذلك كان يمثل

بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأعظم صلى الله عليه وسلم (وتعين على نوائب

الدهر) وكان رحمه الله يعمل حسبة لله لا عن إيعاز من أحد ولا عن مسألة

وتعرض، فواحسرتاه على هذا البر المجسم الذي فقدناه وواحسرتاه، وكان - رحمه

الله - ذا الجناحين يعلم علوم الدين ويفقه في أمور السياسة، وما أعظم فقر العالم

الإسلامي إلى مثله وما أشد الخطر على الثغر الذي كان رحمه الله مرابطًا عليه

يدافع عن بيضة الإسلام بعد فقدانه.

* * *

هذا ما كتبه عالم صوفي جليل، وهو يكشف لنا عن ناحية كانت مخفية من

نواحي عظمة فقيدنا، وما إنشاء دار الدعوة والإرشاد إلا غرة في جبينه، رحمه

الله؛ فقد جمعت طائفة من طلاب العلم من بلدان الشرق أحدثوا أثرًا محمودًا في

النهضة الإسلامية العربية.

...

...

...

...

... الحزين

...

...

...

...

محيي الدين رضا

...

...

...

...

... القاهرة

_________

ص: 222

الكاتب: عبد الله عفيفي

‌قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

مكانك لا يلج بك العثار

تراخى الليل وانطفأ (المنار)

وغابت في مغاربها الدراري

وحجب طلعةَ القمر السرار

أردد في ديار الحي صوتي

وقد أعيت فلم تجب الديار

أطاف بأهلها الساقي فمالوا

وأذَّن فيهم الحادي فساروا

وفرَّق بينهم صدع الليالي

وليس لصدعة الزمن انجبار

أخِلاي الذين سروا تباعًا

أما لليل بعدكم نهار

برغمي أن يهز الشوق جسمي

وقد عز المزار فلا مزار

فراقد عالم كانت مناه

أحالت نورها البيد القفار

نعمر ما نعمر ثم نطوي

وأهون ملبس ثوب معار

ونسلك للغنيمة كل صوب

ونخرج لا شعار ولا دثار

رويدك يا زمان وما رويد

تهاوى الدوح وانتهت الثمار

ثوت بالكوكب الهادي العوادي

وطال بكاتب (الوحي) السفار

فوالهفاه هل بين المنايا

وبين حماة هذا الدين ثار؟

* * *

رشيد! وكنت إذ تدعي يلبي

يراع فيضه نور ونار

حسام من سيوف الحق تلقي

إليه قيادها البيض القصار

من الفردوس يسطع من شباه

سنًا ينهل أو نقع يثار

كريم لا يجور ولا يماري

رشيد لا يحور ولا يحار

تجرد للجهاد فلم ترعه

كتائب للضلالة تستثار

تلقاها بعزم أحوذي

فلا وهن ولا قلب مطار

فصال موفقًا ومضى حميدًا

ولم يلحق به دنس وعار

* * *

رشيد تفجع الإسلام حزنًا

وناحت يعرب وبكت نزار

قوى قد كنتَ مِن أمضى شباها

وكان لها بمغناك ازدهار

إذا جئت (الإمام) فقل سلام

من القوم الذين عليك ثاروا

همو عرفوك بعد هوى مضل

وهم بعد الثلاثين استناروا

ومن تثبت شريعته تساوى

لدعوته التلبث والبوار

وأفضل مصلح رجل حلاه

بلاء واصطبار وانتظار

وما يخزى المجاهد أن يجازى

بسوء إنما العار الفرار

سلام يا محمد من وفي

له من ذكرك النخب المدار

_________

ص: 227

الكاتب: بسان رفائيل

‌تعزية الجمعية السورية العربية

بسان رفائيل

ولاية مندوسة الأرخنتين

لقد شق على هذه الجمعية خبر وفاة العالم العلَاّمة الشيخ محمد رشيد رضا،

فكان لهذا الخبر المشئوم أشد تأثير في نفوس كافة مناحيها؛ لما كان للفقيد من

المنزلة السامية في عالم الثقافة والأدب العربي. إن هذه الخسارة أحدثت فراغًا قل

أن يسد؛ نظرًا لعلو المقام الذي كان يتسنمه الفقيد بين أبناء أمته. بناء عليه فإن

جمعيتنا هذه تقدم تعزيتها الحارة إلى كافة أبناء العرب في جميع الأقطار، وبقلوب

ملؤها الأسى نشاطر عائلة الفقيد بهذا المصاب الفادح، سائلينه - تعالى - أن

يعوض على الأمة العربية ما فقدت، ويسكن الراحل الكريم فسيح جنانه.

...

...

...

رئيس الجمعية السورية العربية

...

...

...

...

سان رفائيل

...

...

...

(الأرجنتين)

_________

ص: 228

الكاتب: محمد علي إبراهيم لقمان

‌مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

وأعقل حكمائهم

أمات السيد رشيد؟ ! أقضى نحبه وتولى؟ ! أتزلزل ذلك الطود الراسخ؟ !

أطوى ذلك العَلم الشامخ؟ ! أيموت العلم وتتضاءل الحكمة؟ ! أتدري أيها الناعي

من نعيت؟ أتعلم أنك تنعي حجة الإسلام وعلامة الزمان وفخر الأمة المحمدية بين

الأنام، يا لهول المصاب، ويا لفداحة الخطب، فقد جار الزمان واستبد، وعبثت

الأيام بهذه الأمة التي أناخت عليها الويلات بكلاكلها، أفي كل يوم تُمنى برُزْء جسيم

وبموت رجل عظيم؟ ! أفي كل يوم نصاب في الصميم؟ !

أيها الدهر الخؤون، لقد جرت في حكمك اليوم واشتدت قسوتك، أطفأت

سراجًا وهاجًا كان يهتدي به المسلمون في ظلمات هذه الحياة، ويسيرون على

ضوئه في دياجي الليالي الحالكات، أتعمد إلى ذلك النور فتخمد أواره وتشاهد هذا

الحال فتهتك أستاره؟ ! تولَّ أيها الموت، كيف تجاسرت على اختطاف تلك

الروح الكبيرة والاقتراب من ذلك الجسم المتأجج بحب الإسلام؟ ! ألم يخيفك ذلك

الاشتعال؟ ! ألم تقف ولهانًا حائرًا أمام تلك النفس التي تسيل جزعًا على تقطع

المسلمين أوصالاً، فتنفث في كل طرفة عين من الحكم البالغة ما لو وعاه المسلمون

لاستعادوا مجدهم الداثر وحظهم العاثر؟ ! ألم تستهوك تلك الحكم النيرات؟ ! ألم

تتريث لتأخذ درسًا في الرحمة والإخلاص؟ ! ألم ترهبك تلك النفس التي كانت

تغلي مراجلها في ذلك الصدر الفسيح الذي لم يتسع لغير الدين الصحيح فوعى

أصوله وضبط فروعه؟ ! ألم تفزعك تلك الحشرجة وكلها نيران ألم وصدى

أوصاب على تقهقر المسلمين وتأخرهم؟ ! بالله كيف استطعت أن تحمل تلك الروح

وقد ناء بحملها العالم الإسلامي بأجمعه؟ !

تالله إني لم أكن يومًا لأشعر بفراغ في جانب المسلمين لا أرى من يسده، كما

أشعر في هذه الساعة، وكل من يعرف إلى أي درك وصل المسلم إليه في

الانحطاط الديني والأخلاقي والأدبي والسياسي، وكيف أضاع حيثيته ومركزه -

يدرك أن السبب الجوهري في هذا التأخر المشين هو جهل المسلم بحقيقة دينه القويم ،

ويفهم أن العالم الإسلامي لم ينجب عالمًا دينيًّا منذ أربعين سنة يصل إلى درجة

حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا، ولذا فلا بدع أن تتقرح الجفون حزنًا،

وتسيل الدموع أودية على نبراس الفضائل، وسراج المعرفة ومنار السنة ونصير

الحقيقة والصادع بالحق في وجه الباطل، وستثبت الأجيال القادمة من هو السيد

رشيد رضا.

لا أدري من أين أبدأ في سرد أعماله الخالدة، ولا ماذا أقول! وإني لفقير من

المعاني وعاجز عن التعبير أن يوفى الفقيد العظيم حقه، غير أن الواجب يقضي على

أن أقول كلمتي التي إن دلت على شيء فلا تدل سوى على تقديري لخسارة

العالم الإسلامي بموت هذا العلامة القدير والحبر الجليل.

ولا أستطيع أن أحدد أعظم عمل قام به الراحل الكريم وكل أعماله عظيمة،

فالمنار مجلة العلم والدين والحكمة والأخلاق والإرشاد والسياسة والتاريخ والإصلاح

والدفاع عن حقوق المسلمين المهضومة والأدب، مجلة كافحت تيارات الزمان

واستمرت تفسر من القرآن ما أشكل على المسلمين من آياته، وتحمل من حِكمه

وبيناته، وتنشر إعجازه وغريبه، وتقرر أحكامه التي وضعها الله لعباده، وتأتي

بفصول من أحاديث القرون الغابرة للذكرى والاعتبار، كم استورى الناس زنادها

فأورت، وطلبت الارتشاف من معينها فأروت، أفادت جميع المسلمين لا فرق بين

العرب والهنود والإيرانيين والأتراك والجاويين والإفريقيين والإفرنج والصينيين،

عرَّفتهم أصول دينهم، وأفهمتهم واجباتهم، وأنارت طرقهم، ومهَّدت لهم السبل للسير

في نور الهداية، وذكَّرتهم بعظمة رجالهم، وترجمت حياة الكثيرين منهم فخدمت العالم

الإسلامي من أول يوم صدورها إلى اليوم الذي أغمض الموت فيه عيني صاحبها، فمن لنا بمن يستمر في إصدارها. أليس الخطب - بربكم - جسيمًا؟ !

من سيدافع عن المسلمين إذا ما وصمه أعداؤه بالتعصب الذميم، ونسبوا إليه

السخافات المرذولة والخرافات المشئومة؟ من سيحيي لنا ذكر عظماء المسلمين،

ويحل مشاكلنا الدينية من غير أن يعتصم بمذهب دون مذهب ويتقيد برأي دون رأي؟

من هو المفتي اليوم وقد تولى رشيد وانقضت أيامه، وفي الليلة الظلماء يُفتقد

البدر؟

لا أدري أأبكي موت رشيد أم أندب إيصاد أبواب المنار؟ فقد مات بموت

السيد رشيد علمان، ورشيد عالم يتدفق علمًا كالسيل الجارف في اندفاعه من أعالي

الجبال، وقد وعى كتاب الله وفهم أسراره، ودرس درسًا تحليليًّا سنة رسول الله

صلى الله عليه وسلم فعرف صحيحها ونبذ غثها، فشرع يبحث عن أمراض المسلمين

حتى شخصها وأخذ يصف لهم الأدوية، فمنهم من واظب على الدواء فشفاه الله،

ومنهم من أهمل فأخزاه، كم ناضل وجاهد، كم جالد وكابد، وأخيرًا مات فقيرًا، لم

يأخذ من هذه الدنيا الفانية سوى الذكر الخالد والعمل الصالح؛ ولكنه خلَّف للمسلمين

تركة كبيرة وتراثًا ثمينًا ضخمًا؛ خلف لهم أعداد المنار لجميع ما مضى من سني

حياتها، وخلَّف لهم تفسير القرآن، ذلك التفسير الذي اتبع الفقيد في أبحاثه القيمة

فيه أساليب العلم الصحيح، فأثبت أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وما تفسير

" عبده " إلا نتيجة البحث والتنقيب في معاجم العلوم وكتب المعارف واستنتاجات

العلماء الدينيين في جميع العصور الماضية مقرونة بالآراء القويمة والأفكار السليمة،

حذف منه الإسرائيليات، وأثبت المحمديات، وأحيا به سنة سيد المرسلين، فاستوجب

من الله الرضوان وفسيح الجنان.

يا ليت شعري، أي تلميذ في هذا الوجود أخلص لأستاذه كما أخلص السيد

رشيد للشيخ محمد عبده؟ فلم تكن تخلو رسالة من رسالاته من نسبة الفضل فيها إلى

الأستاذ الإمام حتى توج كل ذلك في تاريخ حياته في كتابه الضخم الذي سيطغى

على الأيام ويجتازها إلى القرون القادمة شاهدًا إلى الأبد على مروءته النادرة

واعترافه بالفضل والجميل، وأين التراجم التي عهدناها من ترجمة السيد رشيد

لحياة أستاذه الإمام، فليست هذه الترجمة بتاريخ حياة فرد من أفراد الأمة؛ ولكنها

خلاصة لتاريخ أمة تمثلت في شخص الشيخ محمد عبده، خاض فيها فقيدنا البحث

وطرق المواضيع العلمية والأخلاقية، والفلسفية والدينية والتاريخية، وأتى في

المقدمة بكلمة عن موقظ الشرق أستاذ أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، وكأنه

وضع للناس حديث النهضة الحديثة في الشروق، ورجالها وأسبابها وصورهم

في شخص الرجل الذي لا يفتر عن ذكره، ولا يمل التفكير في آرائه الصائبة

واستنتاجاته البقية ببقاء الزمان.

ولقد كنت أقرأ هذا التاريخ يومًا في بربرة الصومال وعندي صديق يستمع،

فوقفت فجأة وانحدرت دموع عيني كالوابل الهطل، بعد لحظة سألني الصديق عن

سبب بكائي، فأجبته: (إنما بكيت كيف تصل يد الموت إلى عالم كهذا لا يستطيع

الزمان أن يبقى حتى تنفذ مادته؟) اقرأ بربك كتابه (نداء الجنس اللطيف)

فتعرف عظمة الفقيد؛ إذ أثبت ما للمرأة في الإسلام من مركز ومقام، وأفهم العالم

أن الإسلام لا يهضم حقوقها بل جعل لها من حماية الرجل وحماية الشرع ما

تستطيع أن تعيش معهما سعيدة موفورة الكرامة، يالك من كاتب قوي الحجة،

سريع الخاطر، حاضر الذهن، لا تعيقك عن إثبات الحق البراهين المعقدة، تدلي

بالآراء القوية والحقائق العقلية والنقلية حتى ترجع النفوس الظامئة إلى الحق وقد

ارتوت بما أفهمتها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والاستدلالات المنطقية

التي لا تقبل الجدل ولا النقض، ولكن واهًا لك يا رشيد واهًا؛ فقد ذهبت وأخليت

الديار، وأصبحت مع الأخيار في دار الأبرار، وأين نحن منك وقد بعد الدار وشط

المزار، واأسفاه على ذلك الرجل العظيم، ذلك العلم الخفاق، فقد خَفَتَ ذلك

الصوت الداوي الذي طالما رنَّ رنينه في الآفاق، فاستفز الأرواح بعد خمولها،

وبث فيها نشاطًا وأوجد فيها حياة، ويشهد أبناء النيل أني في قولي لصادق، وتشهد

الجزيرة العربية وتشهد جاوا والهند، ويشهد العالم الإسلامي بفضل عالم قلمه السيال

طالما صر فوق الطروس، فحفز النفوس، وزلزل العروش وهذَّب المبادئ، وكوَّن

الأخلاق، وطيب الأعمال وأرشد إلى حسن المآل.

ولو لم يؤلف السيد رشيد إلا كتابه (الوحي المحمدي) لكفاه ذلك فخرًا واجبًا

له إلى الأبد ذكرًا، ولكن مؤلفاته أكثر من أن تحصى وهي أكثر من كثير أو تذكر

في كلمة تأبين كهذه أكثر كلماتها زفرات، وجل جملها أنات من قلب حزين يندب

حظ المسلمين، ويعرف أنه كما اختفت جريدة المؤيد في مصر ستختفي المنار،

وكما لم يقم أحد بديلاً عن عبد الكريم الريفي ولا عن محمد عبد الله حسن الصومالي،

ولا عن المهدي، ولا عن عرابي باشا، ولا عن جمال الدين الأفغاني، ولا عن

مصطفى كامل وسعد زغلول والشيخ محمد عبده، فكذا لن يقوم أحد مقام السيد

رشيد رضا.

ولست أقول: إن العالم الإسلامي لا يكتف رجالاً أعلامًا ونباريس أولي فهم

وإدراك، ولكني أقول: إن النفوس متضائلة والأحلام حقيرة، وأنه لا يوجد رجل

يضحي بنفسه في سبيل مبدئه الديني ويعرِّض صدره لسهام الانتقادات المُرة الكَرَّة

تلو الكَرَّة كما فعل السيد رشيد رضا، ونحن في عدن كنا نستنير بمناره ونسترشد

بعلمه، وطالما كتب رحمه الله المقالات وحبَّر الفتاوى لإرشادنا، ولا يسعنا إلا

أن نستمطر الرحمات من لدن العلي الأعلى على روحه الطاهرة - آمين.

...

...

...

... محمد علي إبراهيم لقمان

...

...

...

رئيس نادي الإصلاح العربي بعدن

_________

ص: 229

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

‌تعزية جمعية الرابطة العلوية

في بتافيا بجاوة

لقد انهلعت القلوب جزعًا وامتلأت الجوانح أسًى وحزنًا لمَّا أن بلغنا نعي

صاحب السيادة العلَاّمة الكبير المرحوم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار،

فقد العالم الإسلامي فيه علَاّمته الكبير وحبره النحرير وحاميًا عظيمًا عن ذماره،

وذائدًا عن حياض دينه وفناره، ومفخرة علمية كبرى بل تاج فخاره رحمه الله

رحمة الأبرار وأخلفه علينا بخير خلف - وعليه فلا عجب إذا اهتزت البلاد

الإسلامية أسفًا وروعًا، وبكت الأفئدة والعيون جمعًا.

ونقدم رقيق تعازينا في الفقيد لشعوب الإسلام والعرب عامةً، ونخصص عائلة

الفقيد الشريفة المصونة بأرقها، راجين من المولى جل وعلا أن يمطر على ضريح

الفقيد العظيم شآبيب رحمته ورضوانه، ويسكنه فسيح جناته، ويخلفه على العالم

الإسلامي خلفًا صالحًا، ويلهم الجميع - لا سيما ذويه - الصبر والسلوان.

...

...

... عن الهيئة المركزية للرابطة العلوية

...

...

...

... الكاتب الأول

...

...

... السيد أحمد بن عبد الله السقاف

_________

ص: 233

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

‌كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر

في حفلة التأبين

ابتدأت النهضة في سورية دينية كما ابتدأت في معظم الأقطار الأخرى؛ لسبب

بديهي، وهو اعتقاد الناس أن بلاءهم من أنفسهم، فهم يخطئون ولكن دينهم الذي

يقدسونه لا يخطئ، وهم ينحطون ولكن العقائد التي توارثوها عن أئمتهم لا تنحط،

فلابد لهم - والحالة هذه - من أن يرجعوا إلى دينهم إذا أرادوا أن يعودوا سيرتهم

الأولى من الرقي والنجاح، ففيه الكنوز المخبوءة التي تحقق لهم رغباتهم.

وكانت الحلقة التي سارت أبعد شوط في هذا المضمار في سورية مؤلفة من

الأساتذة المرحومين: الشيخ طاهر الجزائري، والسيد سليم البخاري، والشيخ عبد

الرزاق البيطار والشيخ جمال الدين القاسمي والسيد علي مسلم وغيرهم، وكان من

حظي ومن حظ الأستاذ محمد كرد علي أن نلتحق بهذه الحلقة المباركة، فكان يُطلق

علينا للتشهير بنا أسماء مختلفة آخرها أننا (وهابية) وهي كلمة لم تعن في نظرنا

يومئذ إلا ما تعنيه اليوم في كثير من الأوساط في أنها طريقة الرجوع إلى السلف

والاعتماد على كتب المؤلفين أمثال ابن تيميه وابن القيم ومن حذا حذوهما من الأئمة.

معرفتي بالسيد رشيد سماعًا: وفي تلك الغضون طلعت علينا من القاهرة مجلة

(المنار) فعرفنا أن لنا في مصر إخوانًا ينطق بلسانهم الراحل الكريم، فكنا

ننتظر وصولها بلهفة وشوق؛ لنطلع منها على أخبار الأستاذ الإمام محمد عبده

وإخوانه السلفيين المجددين.

ومع كل المقاومات التي لاقيناها في الدولة العثمانية ولاقاها إخواننا في مصر

فلابد لنا من الاعتراف بأنها لم تكن شيئا مذكورًا بجانب ما لقيه رجال الإصلاح

الديني في أوروبا، ولعل من أسباب ذلك أننا ليس عندنا (إكيروس) منظم له

جيوشه وقواده ومصالحه الخاصة.

أما معرفتي بالسيد رشيد عيانًا: فهي عقب الدستور العثماني في سنة 1908؛

فقد جاء سورية زائرًا بعد غيبة طويلة عنها، ودعي إلى إلقاء درس في

الجامع الأموي فتآمر عليه الحاقدون على التجديد الديني والحرية والدستور، وتألبوا

عليه بصورة كادت تنتهي بسفك الدماء، فما لفقوه واختلقوه عليه وزوروه أنهم

نسبوا إليه تحليل بعض المحرمات وتحريم بعض المحللات، ولولا تدخل كبار

الأحرار لكانت ثورة رجعية حمراء، وهذا درس بليغ يجب ألا ينساه من وضع

الإصلاح الديني الاجتماعي نصب عينيه مثلكم أيها السادة؛ لأنه يدل دلالة واضحة

كيف أن أعداء الإصلاح لا يتورعون عن الاختلاق والتزوير في سبيل مآربهم،

وكيف أنهم يتذرعون بالدين للوصول إلى شهواتهم، وعلى كل حال فليس من

الضرورة في شيء أن يكون أكثر الناس تشدقًا باسم الدين بأفواههم هم أقرب الناس

إلى الله بقلوبهم.

وعالج السيد رشيد رضا الشؤون السياسية في حياته، فكان في إبان الحكم

العثماني من أنصار اللامركزية، وقارع الاستعمار مقارعة يشهد له بها كل من

عرفه معرفة صادقة، وإن الخدمات الجلَّى التي قدمها في الموضوعات الدينية

متعددة وجوهرية؛ فمنها سعيه المتواصل لإظهار الصلة القائمة بين المعقول

والمنقول وأنهما حليفان لا يجوز أن يفترقا، ومنها نشر الأخبار الصحيحة عن

أخلاق السلف الصالح التي كانت سبب عزته ومناعته، ونقص هذه الأخلاق في

الخلف الحاضر، ومنها اهتمامه بالأخلاق الإيجابية - وهي الأمر بالمعروف - كما

كان يهتم بالأخلاق السلبية؛ وهي النهي عن المنكر. ومتى عرفنا أن هناك تفاعلاً

شديدًا بين العقائد الدينية والعقائد السياسية واتصالاً وثيقًا، أدركنا شأن الخدمات التي

أداها السيد رشيد في النهضة العربية الوطنية، وستبقى مجلة المنار التي أنشأها

بجده وغذاها بعقله وعقل أساتذته وإخوانه سجل النهضة الدينية الحديثة، وإذا كان

الموت درجات: موت يفرح له الناس وموت لا يتأثر به أحد من الناس، فموت

السيد رشيد رضا هو موت تهلع له قلوب الناس.

_________

ص: 234

الكاتب: عبد الحميد كرامي

‌تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

بقلم سماحة السيد عبد الحميد كرامي

زعيم طرابلس الشام

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا كانت الأعمال مرآة تنعكس فيها صورة أصحابها.

وإذا كانت الآثار تنطق بقيمة أربابها.

وإذا كانت الصفات الحميدة والمبادئ السامية والعقيدة الثابتة والإيمان

الصحيح تدلك على الرجل الموهوب صاحب الشخصية البارزة والعظمة الحقيقية -

فإن فقيد الأمة العربية المرحوم الشيخ رشيد هو ذلك الرجل العظيم والموهوب

الحكيم، وإني أستشهد من الوقائع بأمرين:

أما الأول: فتلك الأبيات التي تركت دويًّا في جميع الأوساط، وقد نفثها صدر

المجدد الكبير والفيلسوف الشهير الشيخ محمد عبده رحمه الله ومنها هذا البيت:

فبارك على الإسلام وامنحه مرشدًا

(رشيدًا) يضيء النهج والليل قائم

فقالت جماعات إن الإمام يعني بالرشيد فقيد اليوم، وقالت جماعات إن الرشيد

تعود الاشتقاق العقلي فهي فعل بمعنى الفاعل، وكيف ما كان الحال فإن الفقيد لو لم

يكن ذلك الرجل لما تبادر إلى أذهان الجماعات أنه الرشيد المرجو!

وأما الأمر الثاني: فهو آثار الفقيد وتآليفه وإظهاره التعاليم الإسلامية الحقة

بمظهرها الصحيح ووقوفه المواقف المشرفة في سبيل العروبة والإسلام، فإذا ما

كتب ففي عقيدة، وإذا جادل فليقنع أو ليقنع، فهو إذن رجل اجتمعت فيه مزايا

الرجل وحلَاّها بغزارة العلم ونبالة الخلق وسمو المبدأ وشدة الإخلاص وأصالة الرأي

حتى كاد يتهمه البعض بالشدة، وما ذلك إلا لعدم محاباته لأحد في ما يعتقد أنه حق.

وقد امتاز الإمام الرشيد في ثقافته وعلمه، وتفوق بالوفاء والإخلاص، وكلكم

يعرف أكثر مني كيف كان وفيًّا بارًّا أمينًا لأستاذه الشيخ الإمام محمد عبده على

الأخص، فعنده يتلاقى العقل بالأدب ويجتمع المنطق وسداد الرأي، ويتفق العلم مع

الدين، ويكفيه فخرًا أنه وضع حدًّا لما علق من الريب في أذهان الناشئين، ولكل

ما كان يلفقه الفرنجة خاصة من أعداء الدين، وأن السيد رحمه الله قد عرف

وهو غريب الدار في مصر أن يجعل الأمة المصرية الكريمة تجمع على حبه

واحترامه وتقديره، وها هي حفلتكم اليوم ناطقة بذلك الاحترام، معلنة هذا التقدير

الذي أذكره بالخير والفخر لمصر قلب العروبة النابض، ومصر المضيافة الآخذة

بمن يهبط بها من رجال الأدب ورجال السياسة إلى الذروة العليا فتغذيهم وتقويهم

وتلهمهم بما هو كامن فيها من سحر وقوة وجمال.

وإذا كان أبناء العروبة والإسلام مدينين للفقيد العظيم بما ألف وكتب ونشر،

فإن السيد رحمه الله مدين بعظمته لمصر الخالدة العاملة على تشجيع ذوي

الرغبة في خدمة أمتهم وبلادهم بما قدمت له وبما نفحته به، ومدين أيضًا للعالم

الإسلامي بما أحاطه به من رعاية وتقدير وبحسن استفادته من علمه وفضله.

إن العروبة والإسلام المفجوعين بفيقدهما الخالد وبولدهم الأمين الأبر؛ ولكن

تعزيتنا أيها السادة هي في بقاء رجالات مصر وكواكبها المنثورة في سماء العبقرية،

فذلك يخفف عنا أعباء المصيبة بفقيدنا الذي نسأل الله له الرحمة الواسعة، والجنة

اليانعة، كما نرجو للبلاد العربية جمعاء وحدتها الشاملة ولمصر استقلالها الكامل

لتعيد مجدها الغابر وعزها الدابر، وفي ذلك أكبر عزاء وأفضل رجاء.

والسلام عليكم ورحمة الله.

...

...

...

...

عبد الحميد كرامي

...

...

...

...

طرابلس الشام

_________

ص: 236

الكاتب: عبد الرحمن بن زيدان

‌عواطف ابن زيدان

نحو فقيد الفضل والعرفان

لقد فقد الهدى أسمى فقيد

بعصر ليس فيه سوى (رشيد)

فماد لفقده الإسلام حزنًا

وفقد (مناره) الزاهي المشيد

وود (فؤاده) لو كان يُفدى

فقيد بالطريف وبالتليد

ولو يعطى سواد العين فيه

ليرجع هان في حق الفقيد

فقيد ما له خلف يضاهي

جلالة علمه الهامي المديد

إمام كان منه الشرع يُجلى

ودين الله يسمو في صعود

إمام كان للإسلام حصنًا

حصينًا صار رمزًا للخلود

إمام فاز بالقدح المعلَّى

وحصل السبق والشأو البعيد

إمام لا يجارى في المعالي

وما له في المعارف من نديد

لقد أحيا الأنام حياة علم

وأرشدهم إلى القصد السعيد

(بنبل) علومه الفياض روَّى

عطاشًا في الصدور وفي الورود

فأصبحت المذاهب منه ثكلى

تقول لعينها بالدمع جودي

وتعلن أنه قد كان فردًا

يعز نظيره في ذا الوجود

وأن له على الفقهاء طرًّا

أيادي جددت خير العهود

وأن له على الأفكار فضلاً

يرد به أخا الفكر الشرود

وأن له لدى العظماء ذكرًا

يرجع مثل ترجيع النشيد

إذا ذكرت ذوو الإصلاح يومًا

فإن فقيدنا بيت القصيد

رسا بثباته فوق الرواسي

وفي وثباته حتف العنيد

ولم يعبأ بما قد كان يلقى

من الأزمات والدهر الشديد

أيُجهل فضله في الناس يومًا

وفضله ما عليه من مزيد

وهل بعد الرشيد يطيب عيش

ويغتر المميز بالوجود

فآه ثم آه ثم آه

على طود تغيَّب في اللحود

ولكن لا مرد لحكم مولى

مضى طبق المشيئة في العبيد

وهل يجدي سوى التسليم عبدًا

يفر لدى المصاب إلى السجود

ويرجع عند ذاك إلى التأسي

بمثل فقيدنا الركن العميد

عليه رضا المهيمن ما تجلت

على مثواه أنوار الشهود

وفي دار النعيم يقر عينًا

بما يرجوه من غانٍ مجيد

ورحمة الله ربنا تُلقى عليه

أتم مطارف الذكر الحميد

ابن زيدان

...

قاله وأمر بكتابته خديم العلم والتاريخ

...

... عبد الر حمن بن زيدان

...

...

نقيب الأسرة المالكة في المغرب الأقصى

...

... عن مكساس في 25 رمضان عام 1354

_________

ص: 238

الكاتب: محرر جريدة المقطم

‌وصف المقطم لحفلة التأبين

أقيمت أصيل أمس في دار جمعية الشبان المسلمين حفلة تأبين المرحوم السيد

محمد رشيد رضا منشئ المنار برئاسة فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى

المراغي شيخ الجامع الأزهر.

وكان في مقدمة الذين شهدوا هذه الحفلة أصحاب الفضيلة الشيخ عبد المجيد

اللبان والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ علي سرور الزنكلوني والشيخ عبد الوهاب

النجار وغيرهم من شيوخ الأزهر ورجال الدين.

وحضر الحفلة أيضًا حضرات الشيخ فوزان السابق معتمد الحكومة السعودية

وعبد القادر بك الكيلاني القائم بأعمال المفوضية العراقية وحمد الباسل باشا والدكتور

نمر والسيد الثعالبي والوجيه ميشيل بك لطف الله وأنطون بك الجميل وخليل بك

ثابت والدكتور خليل مشاقة والأساتذة خير الدين الزركلي وأسعد داغر وأمين سعيد

وتوفيق بك هولو حيدر وغيرهم من أعيان السوريين واللبنانيين.

وجلس على المنصة فضيلة الأستاذ الأكبر رئيس الحفلة ومهدي بك رفيع

مشكي سكرتيرها العام، وبقية الخطباء مع آل الفقيد.

_________

ص: 239

الكاتب: محمد أمين الحسيني

‌كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة الوطني المفضال الأستاذ محمد علي الطاهر المحترم القاهرة - مصر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد تلقيت كتابكم الكريم المؤرخ في

24 رجب 1354 الموافق 22 أكتوبر سنة 1935، والمتضمن قيام فريق من

إخواننا الأكارم بتأليف لجنة لتأبين فقيد الإسلام الكبير منشئ المنار المرحوم السيد

محمد رشيد رضا.

إني أشارككم في القيام بهذا الواجب اعترافًا بفضل الفقيد العظيم ومآثره الجليلة

وجهاده المتواصل في سبيل الإسلام والعروبة.

وأشكر لحضرتكم اهتمامكم في إقامة هذه الحفلة التأبينية الكبرى لإيفاء الفقيد

الجليل حقه من الرثاء والتأبين، وتخليد ذكراه الحافلة بشتى المآثر والصفات.

وأسأله - تعالى - أن يعوض الإسلام والمسلمين خير العوض، ويجزي

الراحل الكريم على ما قدم وبذل خير الجزاء.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

رئيس المجلس الإسلامي الأعلى

...

...

...

... محمد أمين الحسيني

...

...

...

... 8 شعبان سنة 1354

_________

ص: 240

الكاتب: محمد لطفي جمعة

السيد رشيد رضا

‌كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

كل من قرأ الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف

المرحوم السيد محمد رشيد رضا ووصل إلى صفحة 791 لابد أن يكون اطلع على

النبذة الآتية تحت عنوان (إحالة الأستاذ محمد عبده بعض المستفتين على مريده

المؤلف) قال رحمه الله:

(وأذكر من الأحياء المعروفين محمد لطفي جمعة كان كتب إلى الأستاذ الإمام

وهو تلميذ في المدرسة الثانوية مكتوبات، وأنه حضر ولقي الأستاذ وأراد البحث

معه في المسائل التي كانت تشغل باله وهو طالب ثانوي، وقد وجدت كتابين للطفي

جمعة رأيت أن أنشرهما لما فيهما من الدلالة على بحثه في زمن التعليم في مسائل

فلسفية وعلاقتها بالدين، ومعرفته بمكانة الأستاذ وفضله وإلهامه والرجوع إليه فيما

يهم، ووصفه التعليم في المدارس الثانوية، وقد قابلته ولا أذكر ما دار بيننا

بالتفصيل) وبرجوعي إلى الكتابين المذكورين رأيت تاريخهما 24 فبراير سنة

1904، وإذن تكون علاقتي بالمفتى الإمام وتلميذه الرشيد ترجع إلى 32 سنة،

وفي الخطابين تصوير لخواطري في عهد الدراسة الثانوية، وفيهما بحث في الله

والمادة والكون وخواطر في النفس البشرية وخلق آدم وحواء.. إلخ.

وإذن وجب علي بوصفي من أسبق الأحياء إلى معرفته أن أفيه حقه من

التأبين، وقد وقع حظي على موضوع علاقة المرحوم السيد رشيد بالمستشرقين

وهو بحث غريب طريف؛ لأن السيد لم تكن له علاقة حقيقية بأحد من علماء

المشرقيات إلا فيما يتعلق ببحثه أحيانًا نادرة في آرائهم، وكان يقر بعضًا منهم على

النتائج الباهرة التي وصلوا إليها ولا سيما جولد زيهر في كتابته على السنة المحمدية،

وأقول إن دراستي لمؤلفات معظم المستشرقين الذين كتبوا عن الإسلام والتقائي

ببعضهم في أوربا ومصر جعلتني أكوِّن عقيدة ثابتة في أن الذين بحثوا في الإسلام

منهم أثناء القرون الوسطى أمثال أديسون وباكون كانت تتأجج في صدورهم نيران

الحقد أو الكراهية، واستمرت هذه النار في صدور بعض الذين بحثوا منهم في

جانب كبير من أعوام العصر الحاضر وهم أهل تعصب وحقد على الإسلام، ثم

استجد عهد ادعى فيه بعض المستشرقين التزام الحياد، وفيما كتبوه وقالوا إنهم

خالو الغرض وبريئون من سوء النية ولم يعودوا يوجهون إلى الإسلام ونبيه شيئًا

من الذي أثبته أسلافهم في كتبهم الخاطئة.

وينبغي أن أقول إن المستشرقين الحسني النية أدوا أعظم خدمة للإسلام وألقوا

بمؤلفاتهم وجهودهم أضواء جديدة على أصول الدين الإسلامي الذي قلب العالم رأسًا

على عقب، وفي مقدمة هؤلاء نولدكه وسنوك هيرجرونيه وهما هولنديان

ونيكولسون وإدوارد براون الإنجليزيان وجولد زيهر النمسوي وليون كايمي

الإيطالي ورينان ودي سلمى الفرنسيان.

أما الآخرون الذين لم يتوفر فيهم النية الحسنة ولا الغيرة الصادقة الواجبة على

كل باحث علمي، فقد أتاح الله أقلامهم لنشر فضائل الإسلام على الرغم منهم وفي

مقدمة هؤلاء مرغليوث الذي لطخ وجه العلم والتاريخ والأدب بكتابه في حياة النبي

لما حشره فيه من الأكاذيب والباطل، ويسرني أن أذكر أن بعض المستشرقين أمثال

هوبروسيرنجر وكايتاني قد سلكوا في النقد العلمي طرقًا تختلف جد الاختلاف عن

طرق البحث عند علماء المسلمين فوصلوا إلى التسليم بصدق محمد وخلوص نيته،

وإلى التأكيد بصحة استعداده للوحي فعمدوا إلى تفسير خفاياه ولكنهم عجزوا.

أما المتأخرون من المستشرقين، فقد استخلصوا أصول العقيدة الإسلامية

وبحثوا أطوار نشوئها وترقيها، وقالوا بأن بعض ما يعتقد المسلمون أنه منزل من

الله لم يكن غير نتيجة تطور بطيء أو تفسير لمسائل غامضة لم تكن واضحة في

فجر الإسلام، ونزعوا عن صورة النبي جميع ما أضيف إليها من الأساطير،

والروايات التي بدلت حقيقتها أو شوهتها.

ثم تناولوا بالنقد الدقيق أقوال النبي وأعماله وحركاته وسكناته، ووضعوا حدًّا

فاصلاً بين ما أوحي إليه - وهو ثمرة الإلهام - وبين ما وصفوه بالمدارك التي

نشأت في عقله على إثر اتصاله بالحياة اليومية، وبعد أن استن السنن واشترع

القوانين ووضع القواعد لتسيير الدولة الضخمة التي أنشأها.

فعلوا ذلك، وهم يظنون أنهم يفصلون العنصر الإلهي بمعناه الواسع عن

العنصر الإنساني فقصروا العنصر الإلهي على أعمال لا تحتمل الشك ولا الجدل في

نظرهم ورَدّ العنصر الإنساني إلى أعمال الدولة وفي أثناء حياة المرحوم الإستاذ

الإمام كتب جبرييل هانوتو مقالاً في جريدة جورنال عن الإسلام فرد عليه المفتي

ردًّا مفحمًا ألزمه الحجة وأرغمه على الاعتذار والتقلب في اعتذاره كالأفعى، ثم

نقل الأستاذ فرح أنطون نبذًا من تاريخ ابن رشد من كتاب أرنست رينان ونسب فيها

إلى الإسلام أنه ضيق الفطن حيال الفلسفة وأن غيره من الأديان أوسع صدرًا

للحكمة، فانبرى الشيخ محمد عبده للرد على رينان بأدلة تاريخية، وبراهين

محسوسة حتى أزال أثر ما نسب إلى رينان ومعظمه راجع إلى أخطاء في الترجمة

وقع فيها الناقل بحكم العجلة وقلة الخبرة.

ومن غرائب المصادفات أن السيد رشيد وفرح كانا من بلد واحد وصلا إلى

مصر في يوم واحد.

أما الموقعة الكبرى بين المرحوم السيد رشيد رضا المستشرقين فهي رده عليهم

في درسهم للسيرة المحمدية وتفسير الوحي، وهو يسلم بأن علماء الإفرنج

درسوا تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده على طريقتهم في النقد والتحليل، ودرسوا

السيرة النبوية المحمدية وفلوها فليًا ونقشوها بالمناقيش وقرءوا القرآن بلغته وقرءوا

ما ترجمه به أقوامهم، وكانوا على علم محيط بكتب العهدين القديم والجديد وتاريخ

الأديان - ولا سيما الديانتين اليهودية والنصرانية - وبما كتبه المتعصبون للكنيسة

من الافتراء على الإسلام والنبي والقرآن، فخرجوا من هذه الدروس كلها بالنتيجة

الآتية:

إن محمدًا كان سليم الفطرة، كامل العقل، كريم الخلق، صادق الحديث،

عفيف النفس، قنوعًا بالقليل من الرزق، غير طموع بالمال ولا جنوح إلى الملك،

ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر،

وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية، ويحتقر ما يتنافسون فيه

من الشهوات كالخمر والميسر وأكل المال بالباطل، وبهذا كله وبما ثبت بعد النبوة

جزموا بأنه كان صادقًا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من عمره من رؤية ملك

الوحي وإقرائه القرآن وإنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه فسائر الناس.

أما المستشرقون الماديون فرأيهم أن الوحي إلهام يفيض من نفس النبي

الموحى إليه لا من الخارج، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي وراء عالم

المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس، فإن هذا شيء لم يثبت عندهم وجوده،

وهذا التصوير الظاهر للوحي قد سرت شبهته في كثير من المسلمين المرتابين الذين

يقلدون الماديين.

وقد أخذ المرحوم السيد رشيد على عاتقه الرد على هؤلاء الماديين في

الصفحة 788 من المجلد السادس من المنار سنة 1321، أي منذ أربع وثلاثين

سنة، فردَّ على من شبهوا النبي محمدًا بالآنسة الريفية الجميلة جان دارك راعية

الغنم بأنها لم تقم بدعوة إلى دين أو مذهب، وأنها كانت مصابة بنوبة عصبية

قصيرة الزمن معروفة السبب وهو بغضها لأعداء وطنها الإنجليز وتعيينها قائدة

لجيش ملكها وهجومها بعشرة آلاف جندي ضباطهم ملكيون على عسكر الإنجليز

الذين كانوا يحاصرون أورليان فدفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار في مدة أسبوع

وذلك سنة 1429، ثم زالت خيالاتها الحماسية فهوجمت في السنة التالية 1430

فانكسرت وجرحت وأسرت وحوكمت وأحرقها رجال الكنيسة الذين قدسوها بعد ذلك

بخمسمائة سنة بالتمام، فصارت سنة 1930 القديسة جان دارك.

قال السيد جمال الدين الأفغاني لبعض مجادلي النصرانية: إنكم فصلتم قميصًا

من رقاع العهد القديم وألبستموه للمسيح، عليه السلام. وقال رشيد رضا

للمستشرقين الماديين: إنكم فصلتم قميصًا آخر مما فهمتم من تاريخ الإسلام لا من

نصوصه وحاولتم خلعه على محمد.

وألف السيد رشيد كتاب الوحي المحمدي ليرد على موتيه ودرمنجهم

وأضرابهما فنفى أسطورة اجتماع النبي ببحيرا الراهب في مدينة بصرى بالشام

الذي قيل إنه علَّم النبي.

وأثبت بأن محمدًا لما خرج إلى الشام مع عمه كان عمره تسع سنين، وكل ما

جاء فيها ضعيف الأسانيد إلا رواية الترمذي.

وهذه ليس فيها اسم بحيرا وفيها غلط في المتن، وليس في شيء منها أن

النبي سمع من بحيرا شيئًا من عقيدته أو دينه.

وتناول مسألة ورقة بن نوفل أحد أقارب خديجة وحاول بعضهم إيهام القراء

أن محمدًا أخذ عنه شيئًا من علم أهل الكتاب، والحقيقة أن ورقة كان عند بدء

الوحي أعمى ولم ينشب أن مات، وتناول المرحوم هذه النقطة في تفسير آية:

{الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157) وإسلام سلمان الفارسي وغيره.

ولكن نار العقيدة ونورها تشتعل وتضيء في صدر المرحوم عندما يرد على

المستشرق الذي قال: إن محمدًا كان يجد في التحنث طمأنينة لنفسه فكان ينقطع كل

رمضان طوال الشهر في غار حراء بجبل أبي قبيس. وهذه النجوم في ليالي

الصيف في صحراء كثيرة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها

وكأنه نغم نار موقدة. ومحمد في ريب من حكمة الناس ويريد أن يعرف الحق

الخالص. قال جولد زيهر في كتاب (السنة المحمدية) المكتوب باللغة الألمانية

والمترجم إلى معظم لغات أوروبا:

ليس الإسلام سبب انحطاط الشعوب المتمسكة به، ولكن سبب انحطاطها

ضعف عقولهم وأخلاقهم وخطأهم في فهم أحكام دينهم، فقد أخطأ المسلم في فهم

معنى التوكل والقدر فوكَّل الأمور إلى الحوادث، وأخطأ علماؤهم في فهم ما جاء

من أنهم خير أمة أخرجت للناس فظنوا الخير مقرونًا باسم الإسلام ولفظه لا بروحه

ومعناه، وفي هذا مخالفة صريحة لأوامر الدين وأمثلة السنة المحمدية المفادة من

أقوال النبي وأعماله.

وكذلك أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لهم فسلم جميع

أموره للحكام وتركهم يتصرفون في أموره، وظن أن الحكومة يمكنها القيام بجميع

شؤونه بدون معاونته أو اشتراكه.

وهذه العيوب وغيرها راجعة إلى طبائع الشعوب التي تدين بالإسلام وما

ورثته من الأجيال الوثنية السابقة، وقد مرت بها اليهودية أو المسيحية وتركت

بعض آثار فيها.

وبالجملة فالأمة المنتسبة للإسلام وتكون منحطة أو مغلوبة ليست أمة مسلمة

إلا لفظًا، وهي في الغالب وثنية تلبس ثوب الإسلام؛ لأن بحوثنا المستفيضة أثبتت

لنا أن الإسلام يرفع شأن المنتسبين إليه ولا يمكن أن يخفضهم، بل تخفضهم

أخلاقهم وعقولهم.

كل مطلع على آداب الإفرنج يعلم أن علماء المشرقيات عنوا بغرس

دوحة يانعة للعلوم العربية فلما أينعت استثمرها النابهون منهم أمثال: ديجوجيه،

وجرِيمِه، ونولدكِه، وساسي، ورينان، وكايتاني، ونيكلسون وبراون وجلودزيهر

ووينهاوزن وقد شادوا للعلوم الشرقية والآداب العربية مجدًا لا يدانيه في مجال

التأليف إلا جلال مباحثهم، هؤلاء كلهم علماء انطوت مواهبهم العقلية على حذق

النقاد ودقتهم، وقد أطاف كل منهم سجية تطيعه حول جميع الأمور من عال ودون

حتى كشف لنفسه منها مبدأ.

واتفق نولدكه، وليون كايتاني، ودى جوجيه، وويلهاوزن، وجولدزيهز

ونيكلسون على صحة سيرة رسول الله التي ألفها ابن إسحق ورواها ابن هشام، ولم

يكن هذا التصديق اعتباطًا إنما نتيجة بحث واستنباط واستقراء، وقد ظهر لهم أن

ابن إسحق المتوفى في منتصف القرن الثاني كان ثبتًا في الحديث والمغازي،

ودرس على أعظم العلماء المعروفين في زمنه، وألف سيرته واتبع فيها طريقة

الأسانيد.

وقد رأينا كتابًا خاصًّا بأخبار الرجال الذين روى عنهم ابن إسحق مطبوعًا في

هولندا سنة 1890، أما السيرة ذاتها فقد طبعت في أوربا سنة 1860 وترجمت إلى

بعض اللغات الأوروبية، وابن هشام الذي روى عن ابن إسحق كان مشهورًا بعلم

النسب والنحو وتوفي في مصر في أوائل القرن الثالث.

إن فريقًا مهمًّا من المستشرقين يستعملون علمهم وأدبهم لأغراض سياسية في

الممالك الإسلامية والشرقية، فهم يتقنون اللغات ويندسون بين ظهرانيهم ويقفون

على أخلاقهم وعاداتهم ونظمهم وأسرار دولهم، فمن هؤلاء: هيرجرونجيه الذي

أقام في مكة وفي جاوة مسلمًا، وجورج سيل أقام في مصر ومكة مسلمًا، وشارل

بيرتون حج وألف في كُتاب العرب وشعائر الإسلام كتابًا، ولين مؤلف كتاب

(المصريون المحدثون) .

وكانت الحاجة إلى هؤلاء الناس ماسة وأعمالهم لأوطانهم مثمرة عندما كان

أهل هذه البلاد الشرقية والإسلامية متمسكين بآدابهم حريصين على حياتهم القومية.

أما الآن فقد أصبح كل شيء معروفًا ومعلومًا ومباحًا، بل أصبح المسلم في

هذه الأيام حجة لغيره من أهل الأديان والملل الأخرى وفتنة له يضل بها عما أقام

الحق من أعلامه، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله جاء في أكمل

صورة ببعثة خاتم النبيين وأيدنا هذا القول بألف دليل، رأينا علة واحدة تهدم كل ما

بني من الأدلة وهي (لو كان الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به في

زعمهم على ما نرى من فساد الأخلاق وسقوط الهمم وضلال العقول) حتى

أصبحنا فتنة لغيرنا.

فلما كانت سنة 610 كانت الحال النفسية التي يعانيها محمد على أشدها

فأبهظت عاتقه العقيدة بأن أمرًا جوهريًّا ينقصه وينقص قومه. ونسي النهار والليل

والحلم واليقظة وقضى ستة أشهر في هذه الحالة ثم جاءه الملك! !

(وقد حنق المرحوم السيد رشيد على هذا التصوير لبداية الرسالة فقال: إن

هذا المستشرق أرخى لخياله العنان ونزع من جواده اللجام، ونخسه بالمهماز فعدا

به سبحًا، وجمح به جمحًا، وقدحت حوافره له قدحًا وأثارت له نقعًا، وأذن

لشاعريته أن تصف محمدًا عند الغار بما تحدثه في نفسه مشاهد نجوم الليل، وكل

ما كتبه أوجلَّه غير صحيح) وتصل حمية المرحوم وحماسته عندما يكتب: (فمن

أين علم هذا الأفرنسي أن محمدًا نسي الليل والنهار، والحلم واليقظة، وأنه كان

يقضي الساعات الطوال جاثيًا في الغار أو مستلقيًا في الشمس، وأنه قضى ستة

أشهر في هذا الحال، قد افترى في الأخبار ليستنبط منها أنه صار - صلوات الله

عليه - مغلوبًا على عقله، غائبًا عن حسه، وإننا ننقل هنا أصح الأخبار في خبر

تحنثه في الغار الليالي ذوات العدد من شهر رمضان في تلك السنة لا فيما قبلها

لتفنيد مفترياته وللاستغناء بها عما نقله من الخلط في صفة الوحي) .

وخلاصة رأي الشيخ رشيد في الوحي، وهو أهم مسألة عالجها في حياته

حتى جعلها آخر ما ألف ونشر، قال:

إن استعداد محمد للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله روحه الكريمة كمرآة

صقيلة حيل بينها وبين كل ما في العالم من التقاليد الدينية والآداب الوراثية والعادات

المكتسبة إلى أن تجلى فيها الوحي الإلهي بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه

لتجديد دين الله المطلق، الذي كان يرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة بما يناسب

حالهم واستعدادهم، وجعل بعثة خاتم النبيين به للبشر عامة دائمة لا يحتاجون بعدها

إلى وحي آخر، فكان في فطرته السليمة وروحه الشريفة، وما نزل عليها من

المعارف العالية، وما أشرق فيها من نور الله الذي تلوته عليك من آخر سورة

الشورى هو مضرب المثل في قوله - تعالى - في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: 35) .

فزيت مصباح المعارف المحمدية يوقد من زيتونة لا شرقية ولا غربية، ولا

يهودية ولا نصرانية، بل هي الهبة العلوية.

_________

ص: 241

الكاتب: محمد عز الدين باشا الحلبي

‌كلمة المجاهدين السوريين في الصحراء

بوادي السرحان

أرسلها المجاهد الكبير سعادة محمد عز الدين باشا الحلبي من النبك

حضرات أصحاب السعادة رئيس وأعضاء اللجنة الموقرة لتأبين الأستاذ الكبير

المرحوم الإمام العلَاّمة السيد محمد رشيد رضا - القاهرة.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإنا نشاطركم الأسى على رزء الفقيد

العظيم العلَاّمة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله، فلقد فقدنا به ركنًا عظيمًا

من أركان العرب والإسلام، وعلمًا فذًّا من أعلام العلم والتقوى، وبطلاً مقدامًا من

أبطال نهضتنا الذائدين عن حياضها والمتفانين في سبيل إعلاء شأنها ورفع كلمتها،

وكيف لا يكون رزؤه عظيمًا وهو العلم المفرد بعلمه وصلاحه وإخلاصه لأمته

ووطنه وهيهات أن يجود الزمان بمثله؟ ! إن الزمان به لبخيل.

فلو يمكننا فداؤه لفديناه بالنفوس وبكل غالٍ ورخيص وبكل جبان لم يحذ حذوه

في الجهاد الوطني الصحيح ولم يكن على غراره بعزة النفس وحب الحرية والكرامة،

ولئن كرمته الأمة فإنما تكرم به البطولة والصدق والإخلاص.

رحم الله الفقيد رحمة واسعة وجعل خلفه خير خلف السلف، وألهمنا جميل

الصبر والسلوان، وحيّا الله القائمين بحفلة تأبينه من عظماء الأمة، وكرامها

الشاعرين بشعوره الحي، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

...

...

عن النبك - وادي السرحان 7 و 1 و 936

...

...

باسم مجاهدي الصحراء وأحد أصدقاء الفقيد

...

...

...

محمد عز الدين الحلبي

_________

ص: 248

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

‌تصدير

بقلم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي

شيخ الجامع الأزهر

كانت مجلة المنار مرجعًا من المراجع الإسلامية العالية، تُحل فيها مشاكل

العقائد، والفقه، وتحيط بالمسائل الاجتماعية الإسلامية، وأخبار العالم الإسلامي

وما فيه من أحداث، وأمراض، وعلل، وكان صاحبها السيد رشيد رضا - رحمه

الله - رجلاً عالمًا عاملاً غيورًا مخلصًا للإسلام، محبًّا لكتاب الله وسنة

رسوله وآثار السلف الصالح. وقف حياته لخدمة دينه والأمم الإسلامية، وكان

شجاعًا في الحق، لا يهاب أحدًا، ولا يجامل، ولا يحابي.

نشأ على هذا واستمر فيه إلى أن لقي ربه واحتجبت بعد ذلك مجلة المنار،

فأحس العالم الإسلامي بفداحة الخطب وشدة وقع المصاب؛ فإنه لا يوجد - فيما

أعلم الآن - ذلك الرجل الذي له من سعة الاطلاع، وحسن التدبير، وحكمة الرأي،

وقوة الإدراك في السياسة الشرعية الإسلامية ما يضارع به المرحوم السيد رشيد.

ذلك ماضٍ جليل نودعه من الفخر به والأسى عليه، والآن قد علمت أن الأستاذ

حسن البنا يريد أن يبعث المنار ويعيده سيرته الأولى، فسرني هذا؛ فإن الأستاذ

البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع

الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً

وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على

الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة.

(وبعد) فإني أرجو للأستاذ البنا أن يكون على سيرة السيد رشيد رضا،

وأن يلازمه التوفيق كما صاحب السيد رشيد رضا، والله هو المعين، عليه نتوكل،

وبه نستعين.

روائع

من قطعة للرافعي رحمه الله في وصف الصحابة يفتحون مصر:

إن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق

والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وإنهم جميعًا ينبعثون من حدود

دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها، وإذا سلوا السيف سلُّوه بقانون،

وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون

ولأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من

أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب، وواجبات

العقل، والضمير الإسلامي في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحًا يضرب صاحبه إذا

همَّ بمخالفته.

_________

ص: 1

الكاتب: حسن البنا

‌في الميدان من جديد

بعونك اللهم وفي رعايتك وتحت لواء دعوتك المطهرة وفي ظل شريعتك

القدسية وعلى هدي نبيك الكريم العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تستأنف

هذه المجلة (المنار) جهادها وتظهر في الميدان من جديد.

رحمة الله ورضوانه ومغفرته (للسيد محمد رشيد رضا) منشئ المنار الأول

ومشرق ضوئها في الوجود، فلقد كافح وجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام والدفاع

عنه وجمع كلمة المسلمين وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهي

الأغراض التي وضعها أهدافًا لجهاده الطويل حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت

المنار أربعين عامًا كانت فيها منار هداية ومنهج سداد.

ولقد ترك السيد رشيد فراغه واسعًا فسيحًا وقضى وفي نفسه آمال جسام

وشاهد قبل وفاته تطورًا جديدًا في حياة الأمة الإسلامية فاستبشر بهذا التطور الجديد

وشام منه خيرًا وأمل فيه كثيرًا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة

المنار، وأن يجعل منها في عامها الجديد (الخامس والثلاثين) لسان صدق لجماعة

جديرة (بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين) تخلف جماعة الدعوة والإرشاد

وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديدة التي تهيأ لها المسلمون في هذا العصر، وقد

كتب رحمه الله في هذا المعنى في فاتحة هذا المجلد ما نصه: (سيكون المنار

منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف

جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها أو فيما عدا التعليم الإسلامي المدرسي

منه الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له وتولي النهوض به فتركه لمن يعده

التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته،

ولا يصلح له غيرهم

) .

ثم ذكر بعد ذلك طرفًا من تاريخ مدرسة الدعوة والإرشاد وما لقيت من عقبات

ومعاكسات انتهت بالقضاء على فكرتها الجليلة، ثم قال بعد ذلك: (وجملة القول

إنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر مشتركي المنار، وعلى

ما أقرّ به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة والعامة بالأولى، وعلى

دخولي في سن الشيخوخة وضعفها لم أزدد إلا ثقة ورجاء بنجاح سعيي لأهم أصول

الإصلاح الإسلامي وتجديد أمر الدين بما يظهره على الدين كله حتى تعم هدايته

وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة من المسلمين بذلك تصديقًا

لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (لا يزال في أمته طائفة ظاهرين على

الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة) رواه الشيخان في الصحيحين

وغيرهما بألفاظ من عدة طرق.

وهذه الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب

عناوين خيار الرجال المتفرقين في الأقطار الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على

اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم، لمخاطبتهم في الدعوة إلى العمل، وأرجو من

كل من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب

إلينا عنوانه وما هو مستند له من العمل معهم إلى أن ننشر دعوتهم الرسمية، وأهم

ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر الذي تقارب فيه

البشر بعضهم من بعض فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على أمر الله وتعاونها

على نشر الدعوة وجمع كلمة الأمة بعد وضع النظام لمركز الوحدة الذي يرجى أن

تثق به، فهي لا ينقصها إلا هذا وقد طال تفكيري فيه وعسى أن أبشرها قريبًا بما

يسرها منه.

وأعجل بحمد الله - تعالى - أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي

ولشيخنا الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر، وهو الذي

يعبر عنه في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد

أمره إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عظيم. كان الأزهر كنزًا خفيًّا أو جوهرًا

مجهولاً عند أهله وحكومته وعقلاء بلده، لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان

إصلاح العالم الإسلامي كله به والاستيلاء على زعامة الشعوب الإسلامية في الدين

والأدب والفقه بإصلاح التعليم العام فيه؛ ولكن تعليم الأستاذ الإمام رحمه الله

وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في طائفة من شيوخه والاستعداد في جمهور

طلابه ولم يبق إلا الجد، ولله الحمد. انتهى.

هكذا قضى السيد محمد رشيد حياته وفي نفسه هذه الآمال الجسام: أن يكون

المنار بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة

من ذوي العقل والدين والمكانة في الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه

الجماعة وتشد أزره فيكون من تعاونهما الخير كله.

ولقد كان السيد رحمه الله صادق العزم مخلص النية في آماله هذه

فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار (جماعة الإخوان

المسلمين) وأن يصدره ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها ويحمل

للناس دعوتها.

يا سبحان الله، إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي كان يتمناها

السيد رشيد رحمه الله. ولقد كان يعرفها منذ نشأتها ولقد كان يثني عليها في

مجالسه الخاصة ويرجو منها خيرًا كثيرًا، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته فيكتب عليها

بخطه: من المؤلف إلى جماعة الإخوان المسلمين النافعة؛ ولكنه ما كان يعلم أن الله قد

ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من

أمانيه الإصلاحية وأمل من آماله الإسلامية، لقد تمنى السيد رشيد رضا في الجماعة

التي اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة الدعوة والإرشاد أي ما عدا التعليم

المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضًا، وستحقق جماعة الإخوان

المسلمين هذا الرجاء بتوفيق الله، فإن إصلاح التعليم المدرسي الرسمي من أخص

مقاصدها وإن أثرها في طلاب الجامعة المصرية والمدارس المدنية من ثانوية

وخصوصية لعظيم، وسنواصل الجهد حتى نصل إلى الغاية - إن شاء الله - ويصبح

التعليم كله مركّزًا على أصول سليمة مستمدة من روح الإسلام وسماحة الإسلام

وتعاليم الإسلام وحضارته ومجده، والله المستعان.

ولقد أدرك الإخوان المسلمون منذ نشأتْ دعوتهم أهمية التواصل بين عقلاء

المسلمين، فأخذوا يعملون لهذا وأصبح لهم - بحمد الله - عدد عظيم من كل قطر

يعطف على فكرتهم ويؤيد دعوتهم، ولقد اقترح علينا أخونا المفضال السيد أنيس

أفندي الشيخ من وجهاء بيروت أن نعمل ما عمله السيد رشيد فنجمع عناوين ذوى

المكانة من عقلاء العالم الإسلامي ونتصل بهم ونكتب في جرائدنا عنهم حتى

يتعرف بعضهم إلى بعض، والآن ننتهز هذه الفرصة فنوجه الرجاء الذي وجهه

صاحب المنار من قبل إلى كل من يأنس من نفسه الغيرة على الإصلاح الإسلامي

والاستعداد للعمل له من رجالات المسلمين أن يكتب إلينا عن الناحية التي يؤمل أن

يعمل فيها، وحبذا لو تكرم فأضاف إلى ذلك إرسال صورته الشخصية وسنفرد

لنشر هذه العنوانات والصور صحيفة خاصة بالمنار نسميها (صحيفة التعارف)

بين أنصار الدعوة إلى الإسلام، حتى إذا تكامل جمع يعتمد عليه فكرنا في

الطريقة المثلى لتبادل الآراء والأفكار.

ولقد أدرك الإخوان كذلك منذ نشأت دعوتهم ما للأزهر من شخصية معنوية،

وأنه أعظم القوى أثرًا في الإصلاح الإسلامي لو توجه إليه، فاعتبروا أنفسهم عونًا له

في مهمته وتوثقت الروابط القوية بينهم وبين شيوخه وطلابه، وكان من هؤلاء

الفضلاء ما بين علماء وطلبة طائفة كريمة لها أبلغ الأثر في نشر دعوة الإخوان

وخدمة فكرتهم التي هي في الحقيقة أمل كل مسلم غيور وواجب كل مؤمن عاقل.

وإننا لنرجو أن نكون أسعد حظًّا من صاحب المنار رحمه الله في حسن

معاملة المشتركين فيها، فإن مال الدعوة مهما كثر قليل بالنسبة لنواحي نشاطها

وتشعب أعمالها فليقدِّروا هذه الحقيقة وسيجدون ما ينفقون في هذه السبيل عند الله هو

خيرًا وأعظم أجرًا.

ستعود المنار - إن شاء الله - إلى الميدان تناصر الحق في كل مكان،

وتقارع الباطل بالحجة والبرهان، وشعارها الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع

كلمة المسلمين والعمل للإصلاح الإسلامي في كل نواحيه الروحية والفكرية

والسياسية والمدنية. ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما

أنصارها، فنرجو أن يجدوا في مسلكها الجديد ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم

بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق فإننا على استعداد تام للتفاهم

معهم على أساس كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل لخدمة هذه

الحنيفية السمحة.

لم يكن الشيخ رشيد رحمه الله معصومًا لا يجوز عليه الخطأ فهو بشر

يخطئ ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك وما من أحد إلا ويؤخذ من

كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال

ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق ومتى كان ذلك رأينا جميعًا ومتى كان شعارنا أن

نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أُمرنا، فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة

متحابين، وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزمًا زهوقًا.

على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعًا إلى التعاون معنا،

سائلين الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً

ويرزقنا اجتنابه، والله حسبنا ونعم الوكيل.

...

...

...

...

... حسن البنا

* * *

روائع

(إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة

الجرداء. طبيعة تعمل في طبيعة، فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي

ظلالها، وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد

كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر

شتان بين عمل وعمل وإن كان لون

يشبه لونًا) .

* * *

الرافعي في وحي القلم

(لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي

تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها

فقط تأخذ كل شيء) .

_________

ص: 3

الكاتب: حسن البنا

‌بين طائفتين من المؤمنين

حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف

سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :

فلعلكم قرأتم ما دار من الحوار بين كتَّاب مجلة الإسلام ومجلة الهدي النبوي

حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف، فما وجه الحق في هذا

الخلاف؟ وهل يجوز شرعًا أن يتقاذف الفضلاء من المسلمين بهذه التهم على

صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع مثل هذه البحوث على العامة؟ وهلا يمكن أن

تعملوا على التوفيق بين الفريقين حتى تنصرف القوى إلى ما يعود على المسلمين

بالخير؟ أفيدوا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

... محمد حلمي نور الدين

...

...

...

... بتفتيش ري الجيزة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة على سيدنا محمد، وعلى آله

وصحبه:

(1)

قرأت ما دار بين الكتاب الفضلاء على صفحات المجلتين المذكورتين

وكثير من حضراتهم أصدقاء لنا، وكلهم يعمل لخدمة الدعوة الإسلامية ويرجو

للمسلمين النهوض من كبوتهم والإقالة من عثرتهم مخلصًا من قلبه، والحق أني أنا

شخصيًّا لا أفهم معنى لإثارة هذا الموضوع في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى

الوحدة والتآزر على إحياء تعاليم الإسلام في نفوس المسلمين.

إن الفريقين مؤمنان أعمق الإيمان بأن ما جاء من هذه الآيات وما صح من

الأحاديث التي تعرضت لصفات الباري عز وجل كلها حق لا جدال في صدقها ولا

خلاف، فقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) و {يَدُ اللَّهِ

فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} (القصص: 88)

و {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18) وكل ما نحا هذا المنحى من الآيات

والأحاديث التي تثبت صحتها فنيًّا، كل ذلك موضع إيمان وتصديق وتسليم من

الفريقين كليهما.

الفريقان كذلك مؤمنان أعمق الإيمان بأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ

السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 4) كل ذلك حق لا مرية فيه، فلا يشبه الباري أحدًا من خلقه في

شيء من صفاته، ولا يشبهه أحد من هؤلاء الخلق كذلك. وحقيقة ثالثة يؤمن بها

الفريقان أيضًا وهي أن ذات الباري - جل وعلا - وصفاته فوق متناول إدراك

العقل البشري الصغير الذي يعجز عن معرفة حقائق ما حوله من عالم الحس فضلاً

عن عالم الروح فضلاً عن الملأ الأعلى فضلاً عن ذات الله - جل وعلا - وصفاته.

وأسوق هنا قول شارل ريشيه المدرس بجامعة الطب في فرنسا سابقًا في

مقدمة كتاب (الظواهر النفسية) .

(لماذا لا نصرخ بصوت جهوري أن كل العلم الذي نفخر به إلى هذا الحد

ليس إلا إدراكًا لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت مداركنا. إن

حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد معها يفلت من شعورها الوجود كل

الإفلات) .

بل قول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين - {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ

العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .

هذه الحقائق المقررة والمسلَّم بها من الطرفين تجعل الخلاف لا معنى له،

فماذا على كل منهما لو قال (استوى الله على عرشه استواء تعجز عقولنا عن

إدراك حقيقته مع علمنا بأنه لن يكون كاستواء الخلق) وبذلك نرد علم الحقائق لله

تبارك وتعالى ونُصيب بذلك الحق؛ لأن الحق هو أننا في هذا جهلاء أتم

الجهل، وماذا علينا لو سلكنا هذه الطريقة في كل ما ورد على هذا النحو (فيد الله

التي ذكرها في كتابه بأنها من صفاته تعذر عقولنا عن إدراك حقيقتها مع علمنا التام

بأنها لن تكون كأيدينا) وهكذا.

وقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى الواجب في مثل هذه المعاني،

ووضع لنا أساس النظر فيها، فقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ

مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ

مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ

آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) فتأمل

قوله - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل

عمران: 7) لتعلم هل لنا أن نخوض ونفيض، أم أن الرسوخ في العلم أن نقول

آمنا به كل من عند ربنا؟

استطراد:

لقد أتى على المسلمين حين من الدهر في عصر الانتقال الأول حين نقلتهم

حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله صلى الله عليه

وسلم والأئمة الراشدين المهديين من بعده، حيث كان هم المسلم إذ ذاك أن يؤدي

فريضة ربه ويراقب دخيلة نفسه ويقيم من نفسه حارسًا يحاسبه على كل عمله ثم

يمضى في البلاد مجاهدًا في سبيل الله يعرض روحه على الموت في اليوم ألف مرة

فلا يظفر إلا بالحياة العزيزة، وينشر لواء الله في العالمين حتى يدركه الأجل،

فيودع الدنيا شهيدًا سعيدًا، حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع

بمظاهر دنياهم الجديدة، والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع، والاستفادة من ثمار

هذه الحضارات والمدن التي اتصلوا بها ودخلت عليهم آثارها من كل مكان عمرانية

واجتماعية وثقافية وعلمية، فترجموا العلوم الأجنبية وتوسعوا في البحث فيها

ومزجوا كثيرًا منها بتعاليم الدين السمحة السهلة، فسلكوا بدينهم مسلكًا فلسفيًّا قياسيًّا

وقد جاءهم فطريًّا ربانيًّا نبويًّا فوق العلوم والفلسفات يخاطب الفطرة من غير وساطة

ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه.

في هذا الدور وفي وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين:

معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما،

وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة، فيذهب عنه جلال النبوة وروعة الوحي

وسماحة الفطرة، وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة فتنزل بذلك عن أخص

خصائصها؛ وإنما الفلسفة تفكير دائم متواصل فيه الخطأ وفيه الصواب، وفيه الشك

وفيه اليقين، والخطأ فيها سلم للإصابة والشك عندها باعث من بواعث الإيمان،

وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابًا كثيرة؛ فهم أهل الرأي

وهم أهل القياس وهم النظار وهم المتكلمون على تفاوت بينهم في هذه الألقاب وفي

مدى تطبيق هذه الآراء، ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدًا عن كل هذا يؤخذ

من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله، ويرجع في بيانه وتفصيله إلى الطريقة

التي فهمه عليها السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وليتناول العقل بعد ذلك ما

شاء من البحوث، ولتجر الفلسفة على أي غرار شاءت، وليخطئ العلماء الكونيون

أو يصيبوا ولكن في ثوب نظري بحت، قياسي بحت، لا يتناول عقائد الناس ولا

يمس عبادتهم ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم العقل بأحقيتها

وصدقها، وأطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه أهل الحديث أو

السلفيون أو أهل السنة أو أهل الأثر على تفاوت كذلك في هذه الألقاب وفي مدى

الأخذ بهذه الفكرة، ولا شك أن الحق مع هؤلاء، ولا شك أن المسلمين لو سلكوا

هذا السبيل ولم يشتغلوا بهذا الجدل ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة ودرجوا

على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكان لهم في ذلك الخير

كل الخير، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم

وتوزيع ملكهم ومجدهم، ولا شك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته

الآن يدعو المسلمين إلى الأخذ بهذا الرأي وهو ما نعمل عليه، وندعو إليه، ونسأل

الله المعونة فيه، وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه.

كان الأخذ والرد والجذب والشد قويًّا عنيفًا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا

الخلاف، وأنت خبير بأن خلافًا كهذا في صدر الإسلام أو قريبًا منه - ولما يمض

على المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم أكثر من قرن من الزمان، وهو

يتصل بالعقيدة وهي أغلى ما يدافع عنه الإنسان - لابد أن يصحبه من مظاهر

العنف الشيء الكثير وذلك ما كان؛ فقد تنابز الفريقان بالألقاب واشتد بينهما

التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة، ورمى بعضهم بعضًا بأعظم ما يتصور

من التهم، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة.

فأهل الرأي والنظر جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة لا يعرفون لهم ربًّا

ولا يثبتون له صفة، وأهل الحديث والأثر مشبِّهون مجسمون جامدون متعصبون لا

ينزهون الله ولا يقدرون عظمته قدرها ويضعونه في صفة خلقه.

وأُلقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة، وأُلفت كتب، وانتصر كل فريق

لرأيه، وبدت الحدة في كل ما قيل وما ألف؛ لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات

الخلاف.

كان ذلك في هذا الدور الذي ذكرت لك، ثم نقلت إلينا نحن الآن بعض هذه

الآثار والحال غير الحال، والموقف غير الموقف، والفرق غير الفرق.

ليس فينا أهل رأي وأهل حديث، وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل

خلاف بيني وبين بعض القارئين، فها هم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق،

فما معنى هذا النفي؟

ولكني أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذي

شجر فيه هذا الخلاف بين المسلمين، وأن المشاكل والأفكار التي تشغلنا الآن غير

تلك المشاكل والأفكار، وأن الخلاف في هذه المسائل محصور في نطاق لا يكاد

يذكر في بعض المجالس وفي جدران بعض الهيئات، حتى الأزهر نفسه - وتلك

مهمته - مشغول عن هذا الخلاف.

الأمة الآن معسكرات مختلفة، لكل معسكر فكرته التي يدعو إليها وينادي بها،

فهناك المعسكر الذي يدعو إلى الاندفاع وراء الأفكار والمظاهر الغربية في كل

شيء، وهناك المعسكر الذي يثير المعنى القومي وحده في النفوس ويريد أن يجعله

أساسًا للنهوض، وهناك المعسكر الذي يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل

السياسية البحتة التي يراد بها استقرار الحكم في الداخل وحفظ الكرامة في الخارج

ولا يعنيه إلا هذا، وهناك معسكرات غير هذه، ومن وراء ذلك كله معسكر محمدي

قرآني يهيب بكل هؤلاء إن الإسلام كفل لكم من السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا

إليه.

أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين: الأولى أننا ليس بيننا في

حقيقة الأمر خلاف كالذي بين الفلاسفة والسلفيين في القديم فلا معنى للاحتجاج كذلك

بما قال هؤلاء وأولئك، وأولى لنا جميعًا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه وما كان

من أهله في ذمة التاريخ ونرجع جميعًا في ديننا إلى المعين الأصلي الذي ما زال

وسيظل صافيًا نقيًّا، لا تكدره الحوادث، ولا ينال منه الزمن، ولا يزعزعه

الخلاف، ذلك هو كتاب الله وسنه رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم.

(والثانية) أن ننصرف - في صف مؤمن قوي موحد - إلى معالجة مشاكل

عصرنا، ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله، وتقوية معسكرنا معشر

المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي، فيعود

للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال.

وبعد - فذلك رأيي أيها السائل في موضع الخلاف.

2 -

أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد

السيارة، وأن تذاع هذه البحوث على العامة - فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما

فيه، وفي لين القول وحسن الخطاب مندوحة، وهذه بحوث دقيقة أولى بها أن تكون

بين أهل العلم في حلقهم الخاصة ومجالسهم المحصورة، وأذكر الفريقين بما رواه

البخاري في صحيحه عن علي - كرم الله وجهه -: (حدِّثوا الناس بما يعرفون،

أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟ !) .

وما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت بمحدث قومًا

حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) فإن كان ولا بد من الكلام في هذه

المباحث فليكن ذلك في قول لين وفي بحث هادئ، حتى لا تسرى عدوى الخلاف

والتهاتر من الخاصة إلى العوام وفي ذلك فساد كبير كما هو مشاهد في البلاد التي

تشتد فيها العصبية لبعض الآراء، أقول هذا وأنا أعلم ما سيقال حول هذا الكلام من

أن العقيدة أساس كل إصلاح وأن دين الله تبارك وتعالى جلي واضح لا خفاء

فيه، ولا يليق أن يكتم فيه شيء عن جميع الناس، وبأن هذه خصومة في الحق

وهي جائزة، وهذا هو الغضب لله وهو فضيلة، وهذا هو الدفاع عن دينه وهو

واجب، وهذا من الجهاد بالقول والقلم والقعود عنه إثم، فكيف يراد منا بعد هذا أن

ننصرف إلى إصلاح جزئي والعقيدة فاسدة؟ وكيف يراد منا أن نجعل هذا الكلام

خاصًّا ودين الله عام للناس جميعًا؟

وأحب أن أقول لمن يدور بفكره أو على لسانه وقلبه مثل هذا القول: احترس

أيها الأخ من خداع الألفاظ ومزالق الأسماء؛ فالعقيدة شيء، والخلاف في بعض

المسائل التي لا يمكن لإنسان أن يعرف حقيقتها شيء آخر، وأحكام الدين التي هي

عامة للناس جميعًا شيء والأسلوب الذي تؤدى به وتقدَّم للناس شيء غيرها،

والخصومة والغضب للدين شيء وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتنة بها شيء ثان،

ولم لا يكون هذا من الجدل المنهي عنه، ومن المراء الذي أغضب رسول الله أشد

الغضب على المتمارين، حتى جعله يقول:

(1)

(ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: {مَا

ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً} (الزخرف: 58) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال

الترمذي: حسن صحيح.

(2)

ويقول: (من ترك المراء وهو مبطل بُني له بيت في ربض الجنة،

ومن تركه وهو محق بُني له في وسطها، ومن حسن خلقه بُني له في أعلاها)

رواه أبو داود، والترمذي، والبيهقي، وغيرهم، وحسنه الترمذي.

(3)

وروى الطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،

قال: كنا جلوسًا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر، ينزع هذا بآية

وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما تفقأ في وجهه

حب الرمان، فقال: (ما هؤلاء، أبهذا بعثتم أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفارًا

يضرب بعضكم رقاب بعض) .

(4)

وعن أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك - رضي الله

عنهم -، قالوا: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتمارى

في شيء من أنباء الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال:

(مهلاً يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء لقلة خيره. ذروا

المراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا

المراء فكفى إثما ألا تزال مماريًا، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة،

ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن

ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة

الأوثان - المراء) رواه الطبراني في الكبير أيضًا، وقد يقال: إن المراء شيء وما

نحن فيه شيء آخر، فأقول: إن لم يكنه فهو نوع منه، ومن حام حول الحمى

أوشك أن يقع فيه، واتقاء الشبهات استبراء للدين، والورع أن تدع ما لا بأس به

مخافة الوقوع فيما فيه بأس، فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الإخوان؟

(3)

وأما العمل على التوفيق بين الفريقين فنعمَّا هو، وما أحبه إلى النفس،

وما أعظم فائدته، وإنا لمحاولون ذلك - إن شاء الله - وأعتقد أن كثيرًا من

المختلفين لو التقى بعضهم ببعض وتركوا طريقة التحاور الكتابي إلى طريقة التفاهم

الشفهي لأنتج هذا التعارف خيرًا كثيرًا، ولأدى إلى حل كثير من الخلافات في

هدوء وفي توفير للوقت والمجهود، وحينئذ يستطيع كل رئيس جماعة أن يتقدم إلى

جماعته برأي موحد أو بفكرة عامة فيؤدي ذلك إلى الوحدة المنشودة - إن شاء الله -

وسنترقب الفرصة المناسبة لمثل هذا الاجتماع فنعمل على تحقيقه - إن شاء الله -

والله حسبنا ونعم الوكيل.

...

...

...

...

... حسن البنا

مَنْ هم الإخوان المسلمون؟

وسائلٌ من هم الإخوان؟ هم فئة

باعوا النفوس لباريها عزيزات

هم غضبة ضرمت لله سورتها

فأرسلوها لظى للغاصب العاتي

هم ثورة حميت في الحق جذوتها

فجاهدت باطلًا حم الكتيبات

هم فيلق من جنود الله قد حملوا

لواءه فغدوا نور الدجنات

عزت أخوتهم في الله فانقطعت

من السرائر أسباب الخلافات

يوحدون قلوب المؤمنين لكي

تزداد أمتهم بالله قوات

حتى إذا استمسكت أوصالها

وغدا بنيانها محكمًا صلب العلاقات

تقدموها إلى اليوم الرهيب وللقر

آن في يدهم لمع المضيئات

...

...

...

عن ديوان البواكير لعابدين

_________

ص: 19

الكاتب: عبد الله أمين

‌نشأة المنار والحاجة إليه

للأستاذ عبد الله أمين

المدرس بمدرسة المعلمين بعبد العزيز بالقاهرة

(1)

حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار.

(2)

حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار.

(3)

دعاة الإصلاح قبيل ظهور المنار.

(4)

صاحب المنار قبيل ظهور المنار.

(5)

البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره.

(6)

وجهة صاحب المنار في تحريره المنار.

(7)

بقاء البواعث على إصدار المنار.

(8)

المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها.

(9)

حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته.

(10)

محاولة لإحياء المنار.

(11)

محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى.

* * *

(1)

حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار:

كان العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار لأربعين سنة هجرية خلت يهيم في ليل

دامس وظلام طامس من الضعف والاضمحلال في حياته العلمية، والفنية، والأدبية

وفي مرافقه الزراعية، والصناعية، والتجارية، وفي نظمه الاجتماعية والمنزلية

والحكومية، وفي تقاليده وعاداته وآدابه، وفي أخلاقه وعقائده وشعائره الدينية،

وكان يرسف في قيود الاستبداد وأغلال الاستعباد، وقد قطعت السياسة والمذاهب

الدينية أواصر شعوبه فتفرقوا طرائق وتمزقوا حذائق، وبسط الأجانب عليهم

سلطانهم الاقتصادي والأدبي والعلمي والفني والسياسي، وأصبحوا عبيداً أرقاء بعد

أن كانوا سادة أعزاء.

* * *

(2)

حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار:

وكان الدين الإسلامي نفسه مبتلى بشر المحن وأقساها:

(1)

منها البدع والخرافات والأوهام، والضلالات التي ابتدعها المسلمون

بالاستحسان والاستقباح على مثال ما ورثوه عن آبائهم السابقين الأقدمين، فغيرت

مظاهره، وحجبت أنواره، وكانت شرًّا عليه من كل شر؛ إذ نفَّرت منه كثيرًا من

أنصاره وأعانت عليه كثيرًا من أعدائه.

(2)

ومنها مطاعن خصومه من السياسيين الذين حكموا عليه ظلمًا وعدوانًا

بأنه دين تأخر وانحطاط لتأخر المسلمين واضمحلالهم، والحقيقة أنه دين قوة ورفعة

وعزة، وما ابتلي المسلمون بالضعف والاضمحلال إلا لانحرافهم عنه وتنكبهم سبيله

القويم وصراطه المستقيم.

(3)

ومنها حرب المبشرين بالمسيحية، الذين تؤيدهم دول الاستعمار العاتية

القوية بساستها وبجنودها وبأموالها؛ لأن الإسلام - وهو دين سيادة وعزة - أكبر

عائق لهم عن الاستعمار.

(4)

ومنها قعود علمائه حينئذ عن رد المطاعن والشبهات عنه، وعن تحريره

من البدع والخرافات، بل ومشاركتهم العامة في كثير منها.

(5)

ومنها شبهات الملحدين الخارجين على الأديان، وهؤلاء منهم الجاهل

الذي غلبته شهوته وشقوته وسئم قيود الدين وتكاليفه فأخذ يحاربه ليتخلص منه،

ومنهم المفتون بأمور ظنية في العلوم يخيل إليه أنها لا تجتمع هي والدين، على

حين أنها لو صارت يقينية ما زعزعت أركان الدين.

* * *

(3)

دعاة الإصلاح قبل ظهور المنار:

وفي هذا الظلام الحالك وفي إبان هذا النوم العميق الذي يشبه الموت تألق في

سماء العالم الإسلامي قمر الإسلام المنير حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني،

ثم ما لبث أن تلألأ بجانبه نجم الإسلام الثاقب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

المصري، وأخذا يجاهدان أعظم جهاد في حرب الاستبداد والمستبدين، والاستعمار

والمستعمرين، والضلالات والمضلين، والغفلة والغافلين، ويهزان العالم بصوتيهما

على المنابر وفي مجلة العروة الوثقى حتى انقشع الظلام، واستيقظ النيام، وذعر

المستعمرون والمستبدون، وأيقنوا أن للإسلام نورًا لا يطفأ، وحمى لايوطأ، وحماة

غلابين لا تلين لهم قناة، ولا تهزم لهم كتيبة:

فإن نغلب فغلابون قدمًا

وإن نغلب فغير مغلبينا

* * *

(4)

صاحب المنار قبيل ظهور المنار:

وكان السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه حينئذ عالمًا ناشئًا تقيًّا

غيورًا متحمسًا شجاعاً حاد الذهن كثير العلم والأدب سليم الفطرة لم يبتل بما ابتلي

به أمثاله من التورط في الضلال والخبل، بل نشأ محبًّا للإصلاح بصيرًا به

وبالحاجة إليه، وأخذ يجول ويصول في ميدانه بسوريا جولات صادقات، وما بلغته

دعوة الإمامين الحكيمين الإصلاحية إلا ملكت عليه قلبه وعقله جميعًا؛ إذ كانت هي

ضالته المنشودة، فما أطاق بعدها صبرًا على السكوت، وأخذ ينظر يمينًا وشمالاً

فلا يجد للعالم الإسلامي كله صحيفة إسلامية إصلاحية بعد مجلة العروة الوثقى.

* * *

(5)

البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره:

فكانت كل هذه الأمور مجتمعة؛ وهي ما انتاب العالم الإسلامي من اضمحلال

وما أصاب الإسلام من عدوان خصومه وخذلان أنصاره، وقيام الإمامين الحكيمين

بالدعوة إلى الإصلاح، وما فطر عليه السيد الإمام صاحب المنار من الغيرة على

الإسلام، وما تعلق به من حب الإصلاح، كانت هذه الأمور هي البواعث التي

دفعت صاحب المنار إلى القدوم إلى مصر، وكانت تزدان حينئذ بالأستاذ الإمام

الشيخ محمد عبده - قدس الله روحه ونور ضريحه - وكانت أكفل للحرية،

وأخصب للدعوة، وأرحب صدرًا من سوريا وإلى إنشاء المنار فيها ومواظبته وجده

واجتهاده في تحريره ونشره حوالي أربعين سنة هجرية لم تفتر له فيها همة، ولم

تلن له فيها قناة، ولم ينثن له عزم حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا.

* * *

(6)

وجهة صاحب المنار في تحريره المنار:

ولما كان الاضمحلال الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب وليد فساد أخلاقهم

وعقائدهم، وكان فساد أخلاقهم وعقائدهم وليد انحرافهم عن أصل دينهم، وكان الله

لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لما كان كل ذلك ما لبث جهد السيد الإمام

محمد رشيد رضا رضي الله عنه أن انصرف كله إلى رد المسلمين إلى أصل دينهم

لتصلح بذلك عقائدهم وأخلاقهم، وبصلاح عقائدهم وأخلاقهم تصلح كل أمورهم

الدينية والدنيوية.

وذلك الإصلاح لا يكون إلا بإشهار حرب عوان على الفساد والمفسدين،

والبدع والمبتدعين، والإلحاد والملحدين، والمشتبهات والمشتبه عليهم، وسد أبوابها

على المسلمين بالاعتماد في بيان أحكام الدين وفضائله على الكتاب والسنة، وعلى

تأويل الأئمة المجتهدين، وعلى نقد ما خالف الكتاب والسنة من تأويلهم وتأويل

غيرهم، وبما فتح الله له من أبواب الفهم السديد الصائب المنقطع النظير، فأبلى في

هذه الحرب بلاءً عظيمًا ولبث يجاهد فيها كل هذا الزمن الطويل، ولقي فيها عنتًا

وأذى كثيرين فما وهن ولا استكان، حتى استشهد في ميدان الجهاد بعد أن أصدر

من المنار أربعًا وثلاثين مجلدة وجزءًا من المجلدة الخامسة والثلاثين وليس بجانبه

صحيفة واحدة إسلامية إصلاحية تشد أزره وتشركه في أمره، وبعد أن انتصر على

أعيان الابتداع والإلحاد والهدم، وبعد أن أصبح المنار أداة لا غنى عنها للدفاع عن

الإسلام والمسلمين وحمياتهما من عدوان المعتدين.

* * *

(7)

بقاء البواعث على إصدار المنار:

فإذا كان الإمام السيد محمد رشيد صاحب المنار - رضى الله عنه وأرضاه -

قد مات، فهل ماتت بموته الحاجة إلى المنار؟ هل ماتت البدع ومات المبتدعون؟

هل مات الإلحاد والملحدون؟ وهل ماتت المشتبهات ومات المشتبه عليهم؟ وهل

ماتت الرذائل والمنكرات ومات أنصارهما؟ كلا. ما مات هؤلاء ولا هؤلاء، بل

لا يزالون أحياء يحاربون الله ورسوله والإسلام والمسلمين، وما ماتت البدع

والمنكرات وغيرها، بل لا تزال في تناسل وتكاثر ونماء وقوة، فلم يكن لدولة

المنكر في أي عصر مضى من الأعوان الأقوياء الأعزاء المسخرين مثل ما لها الآن.

أكان للخمر والملاهي من الأنصار ومن الموائد والأندية والحفلات والمنازل

والدعاية الطويلة العريضة في الصحف على اختلاف ألوانها ومنازعها - إلا القليل

النادر منها - مثل ما لها الآن؟ أكان تهتك النساء وفجورهن من مظاهر الخيالة

والمسارح والشواطئ وغيرها مثل ما لها الآن؟ أكانت الصحف - إلا القليل منها - لا

تصدر إلا إذا فخرت وتاهت بتحلية صدورها بصور العاريات الخليعات من النساء

الفواجر؟ أكانت دور الخيالة تملأ الرحب من الأرض وتعرض فيها مثل ما يعرض

الآن من مناظر مغرية بالفسق والفجور وارتكاب عظائم الأمور كما انتشرت الآن؟

أكانت الصحف تتبارى وتتنافس في الدعاية الطويلة العريضة للممثلات كما تفعل

الآن؟ ألم يكن كل ذلك وما هو شر من ذلك آلاف المرات في حاجة إلى صحيفة

كصحيفة المنار؟

* * *

(8)

المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها منه:

ليس في العالم الإسلامي كله مجلة إصلاحية يظن أنها تحل محل مجلة المنار

إلا مجلة الأزهر ، وهذه - لسوء الحظ، قبل عهد مولانا الأستاذ الإمام المصلح

الشيخ محمد مصطفى المراغي - كانت حربًا على المنار لا عونًا له، ثم هي الآن لا

تغني عنه لأنهم مرآة صادقة لمعهد لا يزال في طور انتقال من عهد اضمحلال مضى

عليه قرون إلى عهد قوة ورفعة بسعي مولانا الأستاذ الإمام المصلح الشيخ المراغي،

فهي مجلة رسمية وفي عهد انتقال لا قبل لها بالحرية المطلقة التي لمجلة المنار

المطلقة من كل قيد إلا قيود الكتاب والسنة، ولو قدر لمجلة الأزهر والمنار في

عهدهم الحديث أن تكونا فرسَيْ رِهان في نصرة الإصلاح الديني والاجتماعي ما

كانتا كبيرتين على العالم الإسلامي، بل ولا عشرات المجلات من نوعهما، فأهلاً

وسهلاً بهما.

* * *

(9)

المسئولون عن إصدار المنار:

وإذن لم يكن العالم الإسلامي ولا الإسلام نفسه في غنى عن المنار، فإن

المسئول عن إصداره وإحيائه هم أنصاره وأحباؤه، فقد أصبح أمانة في أعناقهم دون

غيرهم من المسلمين، لا تبرأ ذمتهم منه إلا إذا أحسنوا القيام عليه وأصدروه، فإذا

قام بذلك ولو واحد منهم فقد سقط عن الباقين لأنه من فروض الكفاية. وإن صاحب

المنار ومناره فينا كرجل قوي البنية مفتول الساعدين حفر لنا بئرًا عذبًا ماؤها وليس

لنا ما نستقي منه غيرها وبقى طوال حياته يخرج لنا ماءها بسواعده، أفإن مات

طمسنا البئر، وحطمنا الدلاء، وأمسكنا عن الاستقاء حتى نموت عطشًا لأننا لا نجد

فينا رجلاً مثله قوة جسم، وقوة إرادة، وعزيمة، أم يجب علينا حفظًا لحياتنا أن

نحرص كل الحرص على سلامة البئر، وأن نتعاون على إخراج مائها والارتواء به؟

* * *

(10)

حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته:

يقول بعض الأنصار إن المنار مجلة ذاتية؛ حيت بحياة صاحبها الذي استقل

بتحريرها حوالي أربعين سنة هجرية نسجها فيها على منواله، وصبغها بصبغته،

وقدها على مثاله، فأصبحت لا تصلح لغيره ولا يصلح لها أحد من بعده، فلا بد أن

تموت بموته ويجب أن ندعها تموت. وهذا ليس من المنطق السليم في شيء؛ إذ

أن الحياة - ولو كانت ناقصة - خير من الموت، فإن الأطباء لا يمكن أن يدعوا

إنسانًا فقد بعض أعضائه أو كُسِرَها يموت وفي إنقاذه أمل حتى ينقذوه ولو كانت

حياته بعد ذلك شرًّا له ولآله من موته، فكيف ندع المنار صحيفة العالم الإسلامي

يموت ونحن موقنون أن في حياته خيرًا محققًا لا لشيء إلا لأن هذا الخير دون ما

كان له من الخير في حياة منشئه رضى الله عنه وأرضاه؟ كيف ندعه يموت على

مرأى ومسمع من العالم الإسلامي وفيه من يستطيع أن يحييه، ولو بعض الحياة؟

كيف ندعه يموت وقد سن له صاحبه طريق الحياة من بعده؛ إذ فتح في العدد

الأخير من المجلدة الرابعة والثلاثين - وهي آخر المجلدات - أبوابًا جديدة له،

ودعا إلى الكتابة فيها أنصاره؟ وفي مصر وحدها مئات القادرين على الكتابة في

هذه الأبواب بإتقان وإجادة.

* * *

(11)

محاولة لإحياء المنار:

لن يموت المنار ولن ينسى - إن شاء الله تعالى - مادام وراءه أنصاره

ومحبوه، ولقد حاولت دار المنار جاهدة إحياء المنار، وعهدت بذلك إلى حضرة

السيد محيى الدين رضا ابن أخي الفقيد العزيز والمحرر في المقطم الأغر؛ غير أن

هذه المحاولة كانت عسيرة لأن المنار أصعب من أن ينهض به إنسان واحد كالسيد

محيى الدين أفندي ليس في جهده ولا في ماله ولا في أوقاته فضل ينفقه في إحياء

المنار وإصداره؛ ولذلك لم يلبث أن مات مرة أخرى.

* * *

(12)

محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى:

ولقد سُرت الدار سرورًا عظيمًا حينما تقدمت جماعة الإخوان المسلمين وعلى

رأسها الأستاذ الكبير حسن البنا طالبة منها أن تتولى إصدار المنار؛ وذلك لما تعهده

في هذه الجماعة من الإخلاص والجد في خدمة الدين والفضيلة، وما تتوسمه فيها

من القدرة على إصدار المنار - إن شاء الله تعالى - في ثوب قشيب نافع، وما تؤمله

من استمرار صدوره.

وإني لأرجو - وقد حيَّ المنار ومات ثم حيَّ ومات - أن يحيا - إن شاء الله

تعالى - هذه المرة، وألا يموت بعدها أبدًا، وأن يثبت الله سبحانه وتعالى

أقدام جماعة الإخوان المسلمين ويهديهم وإيانا سبل الرشاد، وأن يوفقهم لأصلح

الأعمال، ويقدرهم على إصدار المنار ونشره، وعلى إبقائه حيًّا أبد الدهر، إنه

سميع مجيب.

...

...

...

... عبد الله أمين

_________

ص: 27

الكاتب: حسن البنا

‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

وواجب أصحاب الجلالة ملوك المسلمين وحكوماتهم

نشبت الحرب الماضية والعالم الإسلامي كله منضوٍ تحت اللواء التركي،

مستظل بظل الخلافة العثمانية، إلا بعض أجزاء اقتطعتها يد المطامع السياسية

الغربية من قبل.

كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، ثم صارت بإعلان الحرب تحت

الحماية، وخاضت البلاد العربية ميادين القتال إلى جانب الحلفاء تصديقًا لوعودهم

وانخداعًا بالأماني المعسولة التي وضعوها أمام الأمة العربية.

ولسنا بصدد اللوم أو العتاب أو تحديد مسئولية المخطئ والمصيب في هذا كله

فقد ذهبت تلك الأيام بما كان فيها وصارت مواقف الرجال والأمم في ذمة التاريخ

يحكم لها أو عليها.

وانجلت تلك الحرب وويل للمغلوب، وغُلبت تركيا على أمرها، وسُلبت حق

سيادتها على الولايات التابعة لها.

وهنا نهضت الشعوب الإسلامية تجاهد وتكافح وتناضل وتطالب بحقها في

الحياة العزيزة الحرة الكريمة.

كانت ثورة الكماليين على أرض الأناضول، وانتهت بتكوين تركيا الحديثة

هداها الله وألهمها الرشد.

وكانت الثورة المصرية في وادي النيل، وانتهت بمعاهدة أغسطس 1936

التي حققت جزءًا ضئيلاً جدًّا من الأماني المصرية، ولازالت مصر تكافح لاستكمال

الباقي.

وكانت الثورة العراقية وانتهت بالمعاهدة العراقية الإنجليزية التي حققت كذلك

جزءًا من الأماني العراقية، ومكَّنت العراق من السير سريعًا إلى استكمال ما بقي،

واستولى الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمَّه إلى نجد وكون منهما

المملكة العربية السعودية.

وكافحت سورية وناضلت، وكاد يتم بينها وبين فرنسا عهد وميثاق كالذي تم

في مصر والعراق مثلاً، لولا أن فرنسا نكثت عهدها بعد أن وثقته وقلبت للسوريين

ظهر المِجَنِّ ولا زالت في موقفها هذا إلى الآن.

وتعقدت قضية فلسطين ونشبت فيها الثورات تباعًا، ولم يفلح ذهب اليهود ولا

خداع الإنكليز في تضليل الشعب الباسل وصرفه عن أهدافه الحقة وعن المطالبة

باستقلاله الكامل في أرض الآباء والأجداد التي رواها دم الصحابة الطاهر فأنبتت

أولئك الأحفاد البررة.

واستمرت طرابلس ثائرة على الحكم الإيطالي الظالم حتى قبض على المجاهد

المؤمن السيد عمر المختار، وضُيق الخناق على المجاهدين فقتل من قتل ونفي من

نفي، وانتهى كل ذلك بأن أعلنت إيطاليا تجنيس طرابلس بالجنسية الطليانية،

وقذفتها بسيل من المهاجرين الطليان يلتهم الأخضر واليابس.

وقامت ثورات في بعض جهات من هذا الوطن المتمرد على الظلم والجور،

كان من أظهرها ثورة الريف المغربي بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم، وانتهت

كلها بتشديد الضغط على خناق الأحرار والعاملين.

هذا بسط موجز لموقف العالم الإسلام من نفسه، ومن غيره من الأمم التي

ظلمته وتدخلت في شأنه واستبدت بأمره واغتصبت حقوقه إلى الآن.

* * *

اختل التوازن الأوربي وجرت الأحداث سراعًا تسابق الدقائق والساعات

وتغير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات. وانجلت تلك الغمرة عن وجود

معسكرين قويين في أوروبا: معسكر المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ومن لف لفهما

من دويلات أوربا ومن ورائهما اليابان في الشرق، ومعسكر الدول الديمقراطية

ويضم إنجلترا وفرنسا ومن تبعهما من دول أوروبا ومن ورائها أمريكا في القارة

الجديدة.

وحرب الدعاية والكتابة والتربص والأعصاب - كما يقولون - قائمة على

أشدها بين الفريقين، وكل منهما يتودد إلى العالم العربي والإسلامي ويود أن يكسبه

إلى جانبه، فذلك هو الذي يرجح إحدى الكفتين على الأخرى في آسيا وإفريقية على

الأقل، وإذا رجحت الكفة في هاتين فقد رجحت في أوربة كذلك.

إن دول الشرق الإسلامي قضت عليها الحوادث والظروف الماضية والحاضرة

أن تتصل بالدول الديمقراطية وأن تكون إلى جانبها وأن يرتبط مستقبلها بمستقبل

هذه إلى حد كبير، هذا الوضع - إلى جانب الخصومة القائمة بين المعسكرين في

أوربا - كان يجب أن يجعل الدول الديمقراطية تسارع إلى اكتساب مودة العرب

والمسلمين اكتسابًا نهائيًّا، وأن تسد الطريق على غيرها إلى ذلك الود، وذلك في

وسعها ولا يكلفها عناء وعنتًا، بل لا يكلفها إلا أن تحق الحق وتعترف به لأهله،

وتبطل الباطل وتقاوم الذين يريدونها عليه، فهل فعلت هذا؟

العجب أن الدولتين الديمقراطيتين إنجلترا وفرنسا فعلتا عكسه تمامًا، كأنهما

تتحديان بذلك شعور العرب والمسلمين في كل أنحاء الأرض؛ فأما فرنسا فقد

أساءت إلى سورية أبلغ الإساءة ففصلت عنها الإسكندرونة وقدمتها إلى تركيا رغم

الصرخات العالية والاحتجاجات الكثيرة والأغلبية العربية في هذا اللواء، وتنكرت

لسورية مرة أخرى فعدلت عن إبرام المعاهدة واستبدت بالأمر في داخلية البلاد

استبدادًا أدَّى إلى استعفاء الوزارة عدة مرات، وتعذر قيامها بمهمة الحكم، ثم أدى

أخيرًا إلى استقالة رئيس الجمهورية، وهذا نص استقالته التي رفعها لمجلس النواب

السوري:

إلى رياسة المجلس النيابي السوري الفخيمة:

(منحنى مجلسكم الكريم ثقته وانتخبني في أول جلسة عقدها لرياسة الجمهورية

على أثر عقد المعاهدة وإقامة الصلات بين فرنسا وسوريا على قواعد التحالف

والمودة؛ وذلك لإدراك هذه الأمة الغاية الشريفة التي تسعى إليها من الاستقلال

والسيادة القومية. وقد تعاقبت حكومات في سوريا وأخذت تبذل قصارى جهدها في

سبيل إبرام العهد المقطوع والميثاق المعقود واثقة بأنه ينطوي على الخطة الوحيدة

التي تعزز جانب الوطن السوري وترفع من شأنه، كما توثق الروابط بينه وبين

الجمهورية الفرنسية حتى يسود علائقهما جو من الصفاء والإخلاص، وحتى تقوى

هذه البلاد على مقابلة الأحداث وصد الأطماع؛ غير أن الجهود التي بذلت لم تسفر

عن نتيجة برغم الوعود الرسمية الصادرة من رجال الوزارات التي تعاقبت في

فرنسا منذ سنة 1936 إلى الآن، فذهبت ضياعًا تلك الآمال التي توجهنا بها إلى

سياسة التحالف والتضامن، وشهدنا العودة إلى أساليب قديمة وتجارب جديدة تناقض

ما تعاهدنا عليه ودخلنا الحكم على أساسه. على أن حوادث الماضي وقرائن

الحاضر لا تترك مجالات للشك في أن هذه الخطط - التي يراد اتباعها واستئناف

العمل بها - تؤدي إلى استمرار المشاكل والخلافات، كما أنها تضعف كيان هذه

البلاد وتوهن قواها وتهدد استقلالها. ولذلك لا أرى بدًّا من الاستقالة من المنصب الذي

عهدت إليَّ الآن في القيام به وتحمل أعبائه، راجيًا أن يكون في الأيام المقبلة ما

يخفف عنها الآلام والعناء، وتحقق ما تصبو إليه من الكرامة والمجد) .

وقد عرضت الاستقالة على المجلس فأقرها، ودعا الوزارة إلى الاجتماع،

فاجتمعت وقررت القيام بأعباء الحكم؛ ولكن المندوب السامي تحدَّاها في هذا،

فأصدر قرارًا بتدخل السلطة الفرنسية فورًا وتعطيل الدستور ومجلس الوزراء،

وعين مجلسًا يتولى السلطة باسم فرنسا، وهذا نص قراره:

(قد نشأ عن استقالة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية في سوريا فقدان تام

للسلطة التنفيذية مما يجعل تدخل الدولة المنتدبة تدخلاً فوريًّا أمرًا لابد منه، وفي

هذه الحالة ترى الدولة المنتدبة نفسها مضطرة إلى وقف تنفيذ الدستور فيما يتعلق

بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، والنظر في نظام مؤقت يمكن من إدارة البلاد إدارة

منظمة طبيعية.

بناء على ذلك قرر المفوض السامي أن يعهد في السلطة التنفيذية - تحت

مراقبته - إلى مجلس مؤلف من مديري مختلف المصالح الوطنية برياسة مدير

الداخلية، ويؤلف مجلس المديرين بقرار من المندوب السامي، ويجوز له أن يتخذ

قرارات بتعيين الموظفين الملكيين، ويجوز له بناء على رأي المجلس أن يصدر

مراسيم لها مفعول القوانين ولا سيما في الشئون المتعلقة بالميزانية، وتتخذ المراسيم

التشريعية بعد موافقة المندوب السامي التي تجعلها نافذة) .

هذا هو موقف فرنسا في سورية، فأما موقفها في بقية مستعمراتها الإسلامية

فعلى ما كان عليه من عسف وجور ونفي للأحرار وتعذيب للوطنيين، وهؤلاء

شباب المغرب وعلى رأسهم الآن محمد بن عبد الكريم لا زالوا في أعماق المنافي

والسجون، وأما إنجلترا فقد أخذت تتلون كالحرباء في حل قضية فلسطين، وانتهى

مجهودها وخداعها بإصدار الكتاب الأبيض الذي لم يُرض أحدًا من الأمم الإسلامية،

حتى أن واحدة من الحكومات لم تشأ أن تتورط في التوسط لدى عرب فلسطين

الباسلين لقبوله.

ولم تكتفِ بهذا بل أخذت جنودها تهاجم اليمن وتحتل أرضًا يمانية بحتة كإقليم

شبوه، وتدعى على لسان محطات الإذاعة فيها أنها ضمن منطقة عدن المحتلة، مما

أدى إلى احتجاج جلالة الإمام لدى ملك إنجلترا احتجاجًا صارخًا هذا نصه:

(من ملك اليمن الإمام يحيى إلى صاحب الجلالة الملك الإمبراطور جورج

السادس المعظم بلندن.

بعد تقديم وتأكيد الإخلاص والتعظيمات لذات عظمتكم، أعرض لجلالتكم

تأثراتي العظيمة من إذاعات راديو لندن باللسان الرسمي الحكومي وادعائها أن

شبوه ومناطقها داخلة في الأراضي العدنية المحتلة، مستندة في ذلك إلى معاهدة

سنة 1940 (كذا من أصل البرقية) .

وقد كنت خاطبت جلالتكم سابقًا بشأن شبوه ومناطقها كلها، وأنه لم يكن لأحد

شأن فيها في أي وقت كان لا من قبل ولا من بعد، وكنت رجوت من عدالة جلالتكم

طلب أوراق المخابرة الواقعة بشأنها من عدن للاطلاع على ما حدث من الوقائع بهذا

الخصوص بين عدن واليمن، فإن ادعاء عدن بشبوه ومنطقتها مخالف لكل الوقائع،

وعارٍ عن كل إثبات، فحكومتي مجبورة للاحتجاج، ولا يمكن لليمن السكوت عن

عمل مغاير للحق ومخالف للصداقة بكل معنى.

ومعلوم لجلالتكم أن شبوه ومنطقتها يمانية منذ خلق العالم إلى اليوم، وسيطرة

اليمن لم تزل عليها ولا هي افترقت يومًا واحدًا عن أمها اليمن، وكل قرار غير

شرعي بشأنها نرده بلا شك، ولم تتعهد اليمن لدولة ولا لشخص بأن تسلمه حقوقها

وملكها، وهل يمكن - يا صاحب الجلالة - بيع أو إهداء أي أرض أو زراعة ممن

لا يصح تصرفه فيها؟ ومن المعلوم أن العثمانيين وغيرهم لم يدخلوا شبوه

ومنطقتها، فلم يتصرفوا بشيء فيها ومنها. وهل من المعقول والمقبول المطالبة

بهدية تقدم من مالكها؟ ومن المعلوم أن جدنا الإمام الهادي هو الذي عمر الحصون

قبل ألف سنة وأن سلفنا الإمام أقام في شبوه. فنحن متسلسلون في شبوه، وسكانها

متعلقون بحكومتنا من جملة إخوانهم بني جابر.

وفي سنة 1914 ابتدأت الحرب العامة وتحاربت إنجلترا مع العثمانيين، ولم

يبق للدولة العثمانية وجود في العالم، وأما تركيا الحاضرة فلم تصل إلى اليمن

وتعمل لليمن شيئًا، فهل يمكن - يا صاحب الجلالة - أن تجيز القوانين الشرعية

والمدنية العالمية الاعتداء على بلاد دولة مستقلة واغتصابها؟

وهل يستطيع أي يمني كان أن يرضى بتسليم أرض أجداده التي حافظوا عليها

إلى هذا اليوم بدمائهم وجهودهم؟ فأرجو من عدالتكم - يا صاحب الجلالة - أن

تنظروا إلى الأمر بعين العدل، ومعلوم جلالتكم أن عرشكم العالي وحكومتكم الجليلة

عقدا برضائها وطلبهما معاهدة الوداد والصداقة مع اليمن.

وتصرح المادة الثالثة من هذه المعاهدة بأنه لا يجوز أن يتبدل أي حال بين

عدن وبين اليمن إلا بالاتفاق بين الطرفين ورضائهما وموافقتهما بالطرق الودية،

وأن تبقى الحالة التي كانت قائمة في تاريخ عقد المعاهدة نافذة المفعول، فهل - يا

صاحب الجلالة - يرضى عدلكم؟ وهل ترضى القوانين الدولية والحقوق السياسية

والإنسانية بعد تلك المعاهدة والشروحات المذكورة الودية، وبعد مرور ست سنوات

من عهدها أن يعتدى على شيء من أرضنا وحقوقنا الطبيعية؟ وهل يمكن موافقتكم

على هذه الاعتداءات والتجاوزات؟

وإني - بكامل احترامي وتعظيمي لذات جلالتكم المعظمة، وبتمام تقديري

لحكومة جلالتكم السنية ولشعبكم المنصف الكريم - أرجو من جلالتكم تحقيق وتدقيق

هذه المعاملة، وإصدار أوامركم العادلة إلى من يلزم بأن يتفضلوا باحترام حقوقنا

وشعبنا بلا جرح قلوب أمتنا، وبلا استحقار أصدقائكم اليمنيين الذين هم ثابتون حالاً

ومستقبلاً في صداقتكم، وبأن لا يكون أي إجحاف بحقوق بلادنا، ولا مخاصمة بين

الدولتين المتضامنتين المتحابتين المتعاهدتين، إن شاء الله.

وتفضلوا يا صاحب الجلالة بقبول عواطف حسن نيتي وصداقتي

وتقديراتي الخالصة الفائقة.

في 11 جمادى الأولى 1358 - 29 يونيو سنة 1939) .

فهل بمثل هذا الاستفزاز تريد الدول الديمقراطية أن تحصل على صداقة

المسلمين والعرب؟

إن الموقف الحالي يستدعي من العالم الإسلامي أشد الاهتمام، وإن الفرصة

سانحة للمسلمين والعرب - لو أرادوا - أن ينتهزوا.

وحضرات أصحاب الجلالة ملوك المسلمين - وبخاصة جلالة الملك فاروق،

والملك عبد العزيز آل سعود، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله الوصي على

عرش العراق، وجلالة الإمام يحيى حميد الدين - هم موضع الرجاء في إفادة

شعوبهم من مثل هذه الحوادث، والله تبارك وتعالى سيسألهم عما استرعاهم،

وكل راعٍ مسئول عن رعيته.

ومن واجب الحكومات الإسلامية أن تتفق جميعًا على خطة حازمة تعلن بها

إنجلترا وفرنسا - في اجتماع وفي حزم وإصرار - أن تبرم المعاهدة السورية على

غرار معاهدة العراق، وأن يكون بين إنجلترا وفلسطين معاهدة تستقل بها الأرض

المقدسة وتظل عربية مسلمة، وأن يكفل استقلال الأوطان الإسلامية الحالية ولا

يتعدى على أي جزء من أرضها.

وأن يكون بين فرنسا وتونس والمغرب معاهدات سياسية كذلك تكفل لهذه

الشعوب المسلمة العريقة أن تصل إلى استقلالها وحريتها، فإن وافقت الحكومات

الديموقراطية على ذلك فهو الخير لها وللناس، وإن أبت إلا الإصرار على الموقف

الظالم فليعمل المسلمون لأنفسهم وحسبهم ما فات.

لقد بدأت العراق والحجاز العمل وقامت مفاوضات بين الحكومتين

الهاشمية والسعودية أغلب الظن أنها تناولت فيما تناولته هذه النواحي الحيوية

للممالك الإسلامية، ولكن كل ذلك لا يكفي فإنا نريد أن يكون الصوت إجماعيًّا

من الحكومات الإسلامية جمعاء أو من معظمها على الأقل، وأن تكون

الخطوات واضحة بيِّنة، والوسائل صريحة حازمة، وفق الله العرب والمسلمين

لما فيه خيرهم وسعادتهم.

...

...

...

...

... حسن البنا

_________

ص: 34

الكاتب: محمد حبيب العبيدي

‌بين الشرق والغرب

أيها الغرب إن للشرق شأنًا

وعلى غابر الزمان العفاء

هبَّ من نومه وكان خليقًا

أن يجافي جفونه الإغفاء

تلك صحف التاريخ تشهد أنَّا

خير نسل أقلت الغبراء

كم عمرنا الديار وهي خرابٌ

وملأنا القفار وهي خلاء

وركبنا البحار وهي طوام

وألفنا الأسفار وهي عناء

يوم لا دق بالحديد تراب

لا ولا شق بالبخار الماء

وملكنا بالسيف ملكًا جسامًا

لم يشد قبل ركنه بناء

أيها الشرق حدِّث الغرب عما

أيقظت من سباتك الأرزاء

وإليك الأبصار من كل قطر

شاخصات وللأمور انتهاء

أنسام الهوان دون المنايا؟

إنما الموت والهوان سواء

ليس دار الهوان للحر دارًا

إنما الحر داره الجوزاء

قد تلونت يا زمان علينا

فحنانيك أيها الحرباء

قرع الدهر نابنا وقرعنا

نحن والدهر لو درى أكفاء

من تفانى في المجد نال بقاءً

وطريق البقاء هذا الفناء

ولقد آن أن يلم شتات

وتسوى أرض ويعلو بناء

...

...

...

...

محمد حبيب العبيدي

...

...

...

...

... (بتصرف)

_________

ص: 41

الكاتب: محمد أحمد جاد المولى

‌ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

بقلم الأستاذ الكبير محمد أحمد جاد المولى بك

كبيرمفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية

قد وضح للمنصفين من العلماء والباحثين أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق

هذا الخلق عبثًا، ولم يتخذه لهوًا ولعبًا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا

لاعِبِينَ} (الأنبياء: 16) ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَاّ

بِالْحَقّ} (الحجر:85)، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) ، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: 36) ،

{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) .

وسواء أريد بالعبادة ظاهرها، أم معرفة الله - كما ذهب ابن عباس رضي

الله عنهما - فالمعرفة لا تكون بدون عبادة، والعبادة لا تكون بدون معرفة.

لذلك كانت حاجة الناس إلى اهتداء بشريعة الذي فطرهم ضرورية وفوق

حاجتهم إلى كل شيء. ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب؟ ! مثلاً: فأهل

البدو كلهم، وأهل الكفور جميعهم، وعامة بني آدم لا يحتاجون إلى طبيب، وهم

أصح أبدانًا وأقوى طباعًا ممن هو متقيد بالطبيب من أهل المدن الجامعة.

ولقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل

قوم عادة وعرفًا في معالجة ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إن كثيرًا من أصول

الطب إنما أخذت من عادات الناس وعرفهم وتجاربهم.

أما الشريعة فقائمة على معرفة الإنسان مواقع رضا الله وسخطه في أعماله

الاختيارية، ولا طريق لهذه المعرفة إلا الوحي المحض، بخلاف الطب فمبناه على

تعرف المنافع والمضار التي للبدن وعليه، وأساسها التجارب والاختبار، وغاية ما

يقدر في جهل تلك المنافع والمضار موت البدن وتعطيل الروح عنه، وأما ما يقدر

عنه فقدان الشريعة ففساد النفس، وتنكبها الصراط السوي، وانغماسها في حمأة

الرذائل؛ مما يودي بها وبالمجتمع الذي تعيش فيه، وشتان بين هذا وهلاك البدن

بالموت.

فالناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم،

والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه،

وليس للعالم صلاح بدون ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز

الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر، وتاريخ الأمم الإسلامية أيام اعتصامها بحبل

الدين وتهاونها به، وما نراه في الأمم الغربية من الأمراض الاجتماعية والخلقية

المستعصية - مع سبقها وعلو كعبها في شئون المادة - شاهد على ذلك.

وما جاء به الرسول هو الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، وذلك هو الإسلام

وهو دين الله وشريعته في جميع الأمم منذ بدء الخلق حتى تقوم الساعة، وقد أخبر

الله بذلك في غير موضع من القرآن {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:

19) فدين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والرسل، وقوله -

تعالى -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ

الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم

ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريين كلهم دينهم الإسلام، وهو عبادة

الله وحده لا شريك له والاستسلام له ظاهرًا وباطنًا، وعدم الاستسلام لغيره، كما

قد بيَّن ذلك القرآن، فدينهم كلهم واحد وإن تنوعت شرائعهم. قال تعالى: {لِكُلٍّ

جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاًَ} (المائدة: 48) .

وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ

فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ

الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الجاثية: 18-19) .

ولقد جاء القرآن الكريم والسنة الصحيحة بشرائع الإسلام الظاهرة وحقائق

الإيمان الباطلة، ففي مسلم عن عمر رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله

عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله

إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،

وتحج البيت؛ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن

بالقدر خيره وشره؛ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .

فمن لم يقم بشرائع الإسلام الظاهرة امتنع أن يحصل له حقائق الإيمان الباطنة،

ومن حصلت له حقائق الإيمان الباطنة فلا بد أن يحصل له حقائق شرائع الإسلام

الظاهرة، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده؛ ومتى استقام الملك وصلح استقامت

جنوده وصلحت. في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إن

في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد

ألا وهي القلب) .

وإن أصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله أجمعين، وملاك ذلك الإيمان

بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم؛ فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله

ورسله.

وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، وذلك يستوجب

العذاب الأكبر. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة.

قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) ، {وَمَا

كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (القصص:

59) .

فالقانون السماوي سبب السعادة، ومن الخطأ الاعتياض عنه بالقانون الأرضي

الإنساني الذي لا يخلو - وإن توافقت عليه الآراء - من أغلاط وأخطاء، لا سيما

إذا كان ممن لا علم عندهم بمعاني كتاب الله، وسنة نبيه الداعي إلى الله على

بصيرة.

حقًّا، إن الاعتياض عن القانون السماوي بالقانون الأرضي من أعظم أسباب

المقت والحرمان، وأكبر موجبات العقوبة والخذلان؛ إذ هو اتخاذ لدين الله هزوًا

ولهوًا ولعبًا، وتبديل النقمة بنعمة الله، والكفران بالشكران. وشرع دين لم يأذن به

الله واتباع لغير سبيل المؤمنين مشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة لله ورسوله، وعشو

عن ذكر الرحمن، وإعراض عنه، إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا

تدخل تحت الحساب ولا تضبطها أقلام الكتاب. قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا

دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا

نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ} (إبراهيم:

28-

29) .

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ

نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . {أَلَمْ يَعْلَمُوا

أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ العَظِيمُ} (التوبة: 63) ، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ

فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ

ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) .

فإذا كان هذا حكم الباغين المحاربين الخارجين عن طاعة الإمام الذين شقوا

عصا الجماعة؛ فما بالك بمن دعا الناس كافة عربًا وعجمًا، مؤمنهم وكافرهم، إلى

قانون اخترعه هو أو غيره من جنس الخيالات الباطلة، فخرج هو - وأخرج به -

عن طاعة الله وطاعة الرسول، وحاربهما وحادهما وشاقهما بمخالفه أمرهما؟ بلى

وربك، فإنه رأس الفساد، وأم الشرور والخبائث، وما يعقله إلا العالمون.

وقد وسم الله من خالف أحكامه واتبع غيرها في أحكامه وأعماله بالظلم والكفر

والفسق، قال تعالى:{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1)

{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229) ، {وَمَن لَّمْ

يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى

الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا

قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ

صُدُوداً} (النساء: 60-61) .

قال أهل التحقيق من المفسرين: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من

معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله،

أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه به فيما

لا يعلمون أنه طاعة الله. فالقرآن يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله، وعدم تحكيم ما

عداه إما تصريحًا وإما تلويحًا، وله جاهد من جاهد، ويجاهد من يجاهد من عباد الله

المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم تقوم الساعة. فقد

صح عنه أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من

خذلهم ولا خلاف من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فبتحكيم ما أنزل الله يقوم العدل،

ويؤيد الملك، ويستقيم أمر المعاش والمعاد، وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية

التامة.

ومن شك فيما تقدم فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة

التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامها وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت

هي شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة وأوعى لها فإنه واجد الفرق كما بين

الثرى والثريا، وكما بين الأرض والسماء.

ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم

فتحوا ما فتحوا من الأقاليم، ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في نحو مائة سنة مع

قلة عدد المسلمين وعددهم وضيق ذات يدهم، ونحن مع كثرة عددنا ووفرة عُددنا

وهائل ثروتنا لا نزداد إلا ضعفًا وتقهقرًا وذلاًّ وحقارة في عيون الأعداء؛ وذلك

لأن من ينصر الله يُمكِّن له في الأرض، ويمده بنصر من عنده. قال تعالى: {يَا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وقد بين

الذين ينصرون دينه بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ

وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) .

_________

ص: 42

الكاتب: أديب غير معروف

‌تطور الإسلام

لأديب غير معروف

كان نشاط الإسلام الغريب مدعاة دهشة لعقول البشر منذ تلك الأيام الممعنة في

الزمن، التي حملت لواءه من فرنسا إلى الصين ، ولكن هذه الشعلة الروحية المتقدة

ما لبثت أن أخذت تخمد على الأيام، حتى ظهر الإسلام في القرن الثامن عشر في

حال من الاحتضار، فأخذ العلماء يلتمسون المعرفة في آفاق محدودة من الدين، لا

كما نزل به القرآن وجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، مشرقًا بالنور، سمحًا إلى

أبعد الحدود، بل كما فهموه، هزيلاً ضيقًا، بل على أكثر ما يكون عليه الدين من

الهزال والضيق حين يبدأ فيسمح لظل آدمي أن يقوم بين العقل البشري والله. إن

الإسلام دين الفكرة المتحرر، الذي استطاع أن يطرد الخرافات الكهنوتية من

البلدان التي استظلت بظله، انتهى إلى أن يكون هو نفسه مثقلاً بأنواع العبودية

والخرافات.

فرض الإسلام على معتنقه أن يطلب العلم من المهد إلى اللحد، ونقل عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العلم أفضل من العبادة) ولكن هذا

الفرض أهمل في عصور انحلال الثقافة العربية إهمالاً مخجلاً اطّرحت معه دراسة

العلوم الطبيعية من زمان، فكان ذلك من أهم الأسباب لتأخر الإسلام في العصر

الأخير.

قال المستعرب الفرنسي الشهير (كازانوفا) : منذ أن خبت شعلة الثقافة العربية

زمن الغزو العثماني، ومنذ أن أخذ الإسلام الأول تنقله ربقة (أرثوذكسية) متحرجة،

ونحن ننظر إلى عقل العرب الحديث كشيء يختلف عن عقولنا، ونعتقد أن المسلمين

ليسوا بقادرين على أن يفهموا فكرنا ويمثلوه، ناسين كلمة نبيهم الرائعة، التي كانت

مصدر الهدى لحضارتهم الأولى، والتي تقول:(فضل العلم أفضل من العبادة) . إني لأتساءل: أي رئيس ديني، أو أي مبشر عظيم جرؤ في يوم أن يتلفظ هذا الكلام

الجسور، الذي يكون (دستور الإيمان) لعالمنا الثقافي اليوم؟ في حين أن كلامًا كهذا

كان يعد لزمن غير بعيد كفرًا عند الجمهرة الكبرى من العقول المثقفة، بل أستطيع أن

أتساءل: أي أوربي في عصر محمد استطاع أن يفكر بإمكانية فظاعة كهذه؟ !

وعلى هذه فأصح البديهيات عن حرية الفكر، هذه البديهيات التي تدع وراءها

أجرأ آراء (لوثر) و (كالفن) ، وأمثالهما، إنما فاه بها عربي من أهل القرن السابع،

هو مؤسس ذلك الدين الذي يزعم كثير منا أنه منحط انحطاطًا لا يرجى له علاج،

وفي الحق أن تذوق العلم، والتأملات الفكرية في شتى الميادين، وأن حب الفكر

الإغريقي والإعجاب بمآثره، وهذا الفضول المُلِحّ لمعرفة ما في الطبيعة، والرغبة

الجادّة في رفع النقاب عن هذه الطبيعة، كل أولئك كان يمثل المزايا الصحيحة للروح

العربية، إن هؤلاء العرب العظام الذين فقناهم في الأربعة القرون الخالية كانوا

الأساتذة الكبار للفكر الحديث قبل عصر النهضة) .

بيد أن العلماء الذين كان عليهم أن يرعوا تعاليم الإسلام الصحيحة ما لبثوا مع

الزمن أن وقفوا كل اهتمامهم على الفرعيات الصغرى من العبادات، فكانت بذلك

مفارقة خطرة لعمود الشرع الأول، وكانت أن نشأت في البلدان الإسلامية رجعية

متحرجة، وتعصب مخالف لروح الإسلام، وطغت على مراكز الثقافة العربية

مدرسية متطرفة كالتي عرفت في القرون الوسطى، وبها طائفة من الخرافات

الفارغة، فمد الجهل رواقًا على الطبقات الدنيا، فرغبت عن كل تجديد، وأصبح

المجتمع الإسلامي فاسدًا على الجملة.

إن روح الإسلام لا تعني على أي حال الاطمئنان إلى هذا الوضع الذي يسود

العالم الإسلامي، أو القناعة به؛ لأن الجبر (أي الاعتقاد بالقضاء والقدر على أنهما

إجبار) لا يؤلف قممها من العقيدة الدينية، أما العامة، فقد تملكتها - بسبب الجهل

والعبودية السياسية فيما بعد - روح قناعة وتسليم تكفي لإحداث ركود عام، فكان

بذلك سبب رئيسي من الأسباب التي عاقت التقدم السياسي والاقتصادي للدول

الإسلامية.

لقد تقدمت الدول النصرانية في ميدان الحياة المادية، كما تقدم المسلمون زمان

كانوا يخضعون لتعاليم الشرع التي نادت بحرية الفكر، وحضَّت على طلب العلم،

ودرس ما خلق الله. لقد أطرح الأوربيون الأصفاد الأكليركية والمدرسية الضيقة

فكان تقدمهم في الحقل المادي مدعاة للدهشة بقدر ما كانت الفتوح المادية والروحية

التي قام بها المسلمون الأولون.

وضعف آخر عانى منه الإسلام كثيرًا في تاريخه، هو نفوذ الأوتوقراطية

السياسية السيئ؛ فإن قيام الأوتوقراطية المستبدة على رأس الإسلام قد أضر به

كثيرًا في الحقبة التي سبقت الحروب الصليبية بقليل؛ إذ كان جو الفساد الذي خلقته

هذه الاوتوقراطية المستبدة عائقًا لنمو الإسلام، فتفسخت الأمصار الإسلامية إلى

وحدات يسيطر عليها طغاة منهمكون في منازعاتهم وحربهم التي يستغل فيها الدين

ويسخَّر لأغراض غريبة عنه، فما طال الزمان حتى كان الشرق المسلم غارقًا في

ظلام عميق، ضيَّق من أفقه الثقافي، وانتهى به إلى عقم أدبي عام.

وعامل هام آخر ساعد على تأخر المسلمين، هو نشوء شعور بالتسامي مزور

قام على التبجح بالفتوح العظيمة، والتغني بمآثر الإسلام في العصور الأولى،

وحمل المسلمين على أن ينظروا إلى المخترعات الحديثة التي ولدها العقل الغربي

نظرة استحقار واستخفاف.

إن المسلمين في عصور انحطاطهم لا يشبهون المسلمين الأول إلا قليلاً، فلم

يعملوا بما قضته شريعتهم، ولا عنوا بتتبع سنن نبيهم، لقد قطع المسلمون شوطًا

بعيدًا في الحقول العقلية، والسياسية، والاجتماعية، والأخلاقية أيام استمسكوا بأمر

دينهم ونهيه، ولكنهم لما رغبوا عن حبلهم هذا المتين فقدوا روح البطولة وأسقط في

يدهم، فأهملوا تثقيف أولادهم، كما أهملوا تثقيف بناتهم بخاصة، لقد ناءوا بهذه

الحضارة وهذه الثقافة التي بناها أسلافهم بتأثير القرآن والتأسي الشريف بالنبي

صلى الله عليه وسلم فما استطاعوا لها صونا، وضعفت روح التكتل، وأخذ التفسخ

يظهر واضحًا.

وكان الغزو المغولي في القرن الثالث عشر ضربة أخرى شديدة على الثقافة

الإسلامية؛ إذ عطلت جيوش جنكيز خان أعظم مراكز العلم، وأودت بمعظم العلماء،

كان كل ذلك في يوم كانت فيه الحدود الشرقية للإمبراطورية الإسلامية غير

مصونة إلا قليلاً، وهنا نلاحظ أن فرضًا من فروض الشريعة قد نُسي أو أهمل،

هو الجهاد، فانتهى الأمر أخيرًا إلى سقوط بقايا الإمبراطورية الإسلامية في أيدي

دول الاستعمار الأوروبية.

لقد عاقت الحروب الصليبية نمو الإسلام، في حين أن اكتشاف طريق الهند

التجارية الشرقية، واكتشاف أميركا، مع ما دعا إليه من اتجاه التجارة العالمية ناحية

الغرب، إلى جانب ازدهار الحركة الصناعية والمواصلات عبر المحيط، كل ذلك

كسف أخيرًا عالم الإسلام، فما آذن الزمن بالقرن الثامن عشر حتى كان العالم

الإسلامي غارقًا في سبات، بينا شهد القرن التاسع عشر سقوط الدول الإسلامية -

الواحدة بعد الأخرى - في قبضة الدول الغربية المغيرة.

ولكن السبات والركود ليسا من مبادئ الإسلام، إن هما إلا نتيجة لأحداث

سياسية واقتصادية، وهكذا أخذت تقوم في ذلك الحين محاولات في الإصلاح الديني

أظهرت واضحًا أن خلف الرماد حياة للإسلام صحيحة فذة، هذه الحركات

الإصلاحية نشطت لإحياء مجد الإسلام الأول، وطمحت إلى إعادة الدين إلى شكله

الصافي الخالص قبل أن تثقله المعتقدات الدخيلة والبدع المفسدة.

وكان ابن تيمية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) العدو

الأول لهذه البدع، ولكن أربعة قرون تصرمت قبل أن تؤتي آثاره أكلها يانعًا، ففي

القرن الثامن عشر تأثر محمد بن عبد الوهاب من أهل نجد بدراسة مؤلفات ابن

تيمية، فحاول كما حاول أستاذه من قبله أن يرجع للإسلام حيويته الأولى وصفاءه

الأول، وأن يجتث الرذائل ويبطل البدع المخالفة لتعاليم الدين الفطرية، مجردًا

حملته في سبيل هذا الإصلاح الديني حوالي سنة 1740، بعد أن حز في نفسه ما

رآه من التفسخ الأخلاقي، وذيوع الخرافات بين المسلمين، وفي سبيل هذا بشر

محمد بن عبد الوهاب بالرجوع إلى مصدري الإسلام الأولين كتاب الله وسنة رسوله.

وقد عمل هذا المصلح الطهري - مؤسس الوهابية - كل ما في وسعه ليعيد

للإسلام بساطته الشديدة الأولى، فكانت الحركة الوهابية في الواقع بشير الانتعاش

للإسلام الحديث، ولا نستطيع هنا - بداعي ضيق المجال - أن نعرض بكلام

مسهب لنمو هذه الحركة، إنما يكفي الذكر أنها نشأت في جزيرة العرب في ظل

البيت السعودي، وانتشرت في نجد ثم في الحجاز زمنًا قصيرًا، تقلصت عنه بعده،

إلى أن قام عبد العزيز بن سعود ببضع حملات ناجحات استعاد بها الحجاز،

وضرب بسلطانه على القسم الأعظم من بلاد العرب.

امتدت الحركة الوهابية إلى ما وراء الجزيرة، وعملت على إثارة حركات

مشابهة مستوحاة منها في الهند وإفريقية وجزر الملاي، بل إن حركة السنوسي

الشهيرة نفسها مدينة في منشئها للإيحاء الوهابي.

ففي منتصف القرن التاسع عشر حمل السير سيد أحمد خان لواء حركة

تحريرية إصلاحية في الهند، كان من ثمارها تأسيس جامعة إسلامية في عليكرة

يتلقى فيها الطلاب - إلى جانب التربية الدينية - ثقافة عصرية عميقة، ولقد اتجه

السير سيد علي في المسائل الفقهية اتجاهًا حديثًا، محاولاً أن يلائم بين حياة الشعوب

الإسلامية وبين العصر الجديد، وأن يؤلف بين الثقافة والتقاليد الإسلامية، وبين

الآراء الحديثة والعلم الحديث.

وبعد وفاة السير سيد تعهد الحركة مولاي شيراغ علي، ومن بعده سيد أمير

علي، الذي عبر عن آراء المجددين في كتابه المعروف:(روح الإسلام) ،

وتطورت الحركة من بعده، جامعةً بين (العقلية) والتحرر، وكان لها ممثلها في

شخص (س خودا بخش) صاحب كتاب (رسائل هندية وإسلامية) .

ويجب أن نذكر بصدد هذه الحركة العمل الذي قام به حكيم أجمل خان، من

دلهي، إذا وقف نفسه على تدريب الطلبة المتأخرين من الجامعة في عليكرة،

وبعثهم إلى الخارج مبشرين، لينشروا بين شباب الطبقات المثقفة، ثقافة إسلامية

حديثة مؤسسة - قبل كل شيء - على القرآن.

أما أعظم مصلح في الهند الإسلامية غير مدافَع، فهو المرحوم السيد محمد

إقبال الفيلسوف الشاعر الكبير، الذي ألفت آراؤه ومؤلفاته (مدرسة) من المفكرين

الدينين والسياسيين في الهند، ومن أبرز آثاره كتابه الممتع عن (تجديد التفكير

الديني في الإسلام) ، الذي كان يريد فيه كما يقول (أن يلبي ولو جزئيًّا هذه الرغبة

الملحة في إيجاد شكل علمي للمعرفة الدينية عن تجديد طريقة الفلسفة الدينية

الإسلامية على أساس من تقاليد الإسلام والتطورات الأخيرة في مختلف ميادين

المعرفة الإنسانية) ، ولكي نقدم فكرة صادقة عن قيمة مؤلف السير محمد إقبال هذا

لا نجد أفضل من أن نقتبس ههنا الفقرة التالية من مراجعة له بقلم عالم (غربي)

ممتاز؛ لما فيها من (إشارة) إلى العلاقات الغربية الإسلامية:

(إن العالم الغربي لا يعرف السير محمد إقبال - إذا استثنينا طبقة من

الخاصة صغيرة - المعرفة التي يستحقها. قد لا يكون محمد إقبال مؤرخًا؛ ولكنه

فيلسوف لاهوتي ديني من الطبقة الأولى، بعقل معجز جبار، إدراك هذه الحقيقة لم

يكن بالسهل على الغرب - بسبب إسلامية إقبال - كما كان في شأن طاغور الشاعر

الغامض، وغاندي الذكي الغريب. إن من الجميل أن يكتشف الغرب مسلمًا مجددًا

حقًّا، هو في الأقل صنو لأعظم مفكري الغرب في كل ناحية.

كم يكون من المؤسف أن نسلب القارئ الغربي لذة الاكتشاف الشخصي

بتقديمنا هذا الرجل إليه ملخصًا، فليس هناك رجل في العالم المسيحي يحق أن

يدعى عصريًّا - أو ما شئت من النعوت - إذ لم يكن قد (اكتشف) بعدُ محمد

إقبال، وليس هناك كتاب للسير محمد أجدر من هذا كأداة وصل في هذا التعرف) .

فإذا انتقلنا إلى تركيا كان علينا أن نشير إلى حركة إصلاحية سايرت ثورة

سنة 1908، فحزب (تركية الفتاة) نادى بالأخوة والمساواة بين رعايا السلطان

جميعًا، وكان أحد مقدمي الزعماء في (جمعية الاتحاد والترقي) المصلح والسياسي

الأمير سعيد حليم باشا، الذي كان يعتقد أن الإصلاح لا يقوم على اقتباس ما هو

غربي، بل بالعودة إلى الإسلام، وكان يعمل لإمبراطورية إسلامية مستقلة، ويؤيد

الخلافة، فعل الكثرة المطلقة من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، مسترشدًا بغايته

الأولى، وهي بناء الدولة الإسلامية الصحيحة على قواعد حديثة. ولكن مؤثرات

مغايرة كل المغايرة لأهداف الأمير سعيد حليم باشا ما لبثت أن ذرت قرنها، فقامت

فكرة الوحدة الطورانية، رامية إلى خلق ثقافة تركية قومية حديثة.

بيد أن أبرز المصلحين في القرن التاسع عشر كان السيد جمال الدين الأفغاني،

الذي كان له الأثر الأعمق على الحركات الإصلاحية في شتى الأقطار الإسلامية

ومصر بخاصة؛ حيث قضى ثماني سنوات (1871 - 1879) ، وحيث تتلمذ

عليه الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية ، الذي توفي سنة 1905.

لقد شملت أعمال هذا الرجل العظيم أمصار الإسلام على التقريب ، فخضعت

أفغانستان وإيران ، وتركية، ومصر، والهند جميعًا ، وفي فترات متباينة

لأثره البعيد.

إن غاية جمال الدين القصوى كانت توحيد الشعوب الإسلامية في ظل دولة

إسلامية واحدة، يمارس فيها الخليفة سلطة مطلقة، كالتي كانت للخلفاء في أيام

الإسلام الغرر ، قبل أن تنهك من قواه الفتن والتفسخات ، وقبل أن تغرق البلدان

الإسلامية في ظلام من الجهل والمسكنة ، فتصبح فريسة الاعتداء الغربي. كان يعتقد

أن هذه الدول الإسلامية إذا تخلصت يومًا من وباء الاستعمار الغربي والتدخلات

الغربية، وجددت نظرتها إلى الدين بحسب مقتضيات العصر، استطاعت أن

تخلق لنفسها أوضاعًا جديدة باهرة، دون تقليد للدول الغربية، أو اعتماد عليها.

وعنده أن الدين الإسلامي في جوهره دين دنيا ، وأنه قادر إلى أبعد حد - لما له من

قوة روحية - على أن يساير اختلاف أحوال الحياة، ويرى أن الثورات

السياسية هي أسرع وأضمن سبيل يوفر للشعوب الإسلامية الحرية التي لا

تستطيع هذه الشعوب أن تنتظم أمورها الداخلية بدونها. وقد وصف مؤرخ

مصري احتكاك جمال الدين بالشئون المصرية بهذه الكلمات:

(لقد ولدت بنزول جمال الدين مصر حركة جديدة، قالت بوجوب تحديد

التدخل الأجنبي والحكم الأوتوقراطي ، وحاولت تحضير عقول الشعب لإنشاء نظام

قومي متحرر ، كما بذلت جهود لإصلاح الحالة الاجتماعية للجماعات، عن طريق

تفسير جديد لتعاليم الدين التي أفسدت من روحها الخرافات والتقاليد والتفصيلات

الفقهية في عصور الظلام.

قادت هذه الحركة إلى يقظة صحيحة تمظهرت في الإسلام الديني ، كما

تمظهرت في البعث الثقافي والأدبي ، وفي التطورات السياسية، التي دلت على

نمو في الروح القومي. لقد كان جمال الدين أعظم شارح لفكرة الجامعة الإسلامية) .

وأخذت الحركة الإصلاحية والتجديدية في مصر في الربع الأخير من القرن

التاسع عشر شكلاً محددًا على يد الشيخ محمد عبده ، قاصدة إلى تحرير الإسلام من

القيود التي كبله بها التقليد المتحجر ، وإلى الإصلاح الذي يجعل هذا الدين قادرًا

على مسايرة الحياة العصرية ، وهكذا نشر محمد عبده في مصر روح أستاذه جمال

الدين ومثله العليا، وعمرت هذه الحركة في مصر إلى وقتنا الحاضر ، تاركة

آثارها في شتى الميادين ، كما لاقت آراء الشيخ محمد عبده أذنًا صاغية بين

الطبقات المثقفة في مصر وغيرها من الأقطار الإسلامية ، فتقبلوها بقبول حسن.

وكان السيد محمد رشيد رضا - السوري الأصل - مقدم تلاميذ الشيخ محمد عبده،

فلما قبض الشيخ الإمام ظل رشيد رضا الأمين على رسالته ، والشارح لتعاليمه ،

وهو مؤسس مجلة (المنار) المشهورة، التي أصبحت بعدُ لسان الدعوة لآراء

الشيخ محمد عبده ، ومعقل الكفاح لتحقيق إصلاحاته. وهناك مدرسة ثانية من

المجددين تأثرت بعيدًا بحركة الشيخ محمد عبده بين رجالها ، أمثال قاسم أمين ،

وفريد وجدي ، وعلي عبد الرزاق (مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم) وغيرهم

من كبار الرجال.

وإنا لنلمس آثار جمال الدين الأفغاني في الأجزاء القاصية من العالم الإسلامي ،

كروسيا مثلاً؛ حيث هبَّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مصلح مشهور ،

هو إسماعيل جاسبرنسكي محرر جريدة (ترجمان) الصادرة في بلاد القرم،

والذي دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي عالمي لبحث المسائل المتعلقة بالحركة

الإصلاحية الإسلامية.

إذا نظرنا إلى الحال اليوم، رأينا الإسلام يواجه أزمة اختلف في تأويلها

المفكرون المسلمون والغربيون، قال السير محمد إقبال:

(إن الملاحظ السطحي للعالم الإسلامي الحديث هو وحده الذي يعتقد أن

الأزمة الحالية في هذا العالم الإسلامي إنما ترجع إلى أيدي القوى الأجنبية) .

(إن مسألة ما إذا كان الفرد مسلمًا، هي من وجهة النظر الإسلامية مسألة

شرعية صرفة ، يحكم فيها على أساس المبادئ الرئيسية للإسلام ، وما دام الفرد

مؤمنًا بالمبدئين الرئيسيين: وحدانية الله ورسالة نبيه، فلا يستطيع أحد - حتى

أكثر الملوية تحرجًا - أن يخرجه من حظيرة الإسلام، على الرغم من فهمه

للشريعة أو لنص القرآن فهمًا يُعتقد فيه الخطأ. لقد عانى الإسلام جحودًا كبيرًا ،

وآن للمسلمين أن ينظروا إلى الحقائق، إن المادية سلاح خطير ضد الدين؛ ولكنه

ناجع مستحب إذا جُرد على الطرق الملوية والطرق الصوفية التي تشعوذ على

الرَّعاع، مستغلة جهلهم وسرعة تصديقهم. إن روح الإسلام لا تخشى شيئًا من

احتكاكها بالمادة، وفي الحق إن القرآن يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ

وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77)) .

(إن من الصعب على غير المسلم - إذا اعتبرنا تاريخ العالم الإسلامي خلال

القرون الأخيرة - أن يدرك أن التقدم في النظرة المادية لا يعدو أن يكون ضربًا من

تحقيق الذاتية) .

ومن ناحية أخرى نجد روم لاندو يصف تأثراته حيال الروح الحية التي

تسري في مصر اليوم:

(إن مصر الحديثة تقتبس اليوم عن أوروبا بسرعة تواقة ، طامحة إلى أن

تلحق بالغرب في مضمار المدنية الحديثة ، ترى في الوقت عينه - وعند الشباب

بخاصة - قومية متطرفة ، تتخذ في بعض الأحيان شكل العداء لكل ما هو أجنبي،

وما كان هذا النوع من القومية داعيًا إلى الأسف، فذلك شيء طبيعي عن شعب حاد

المزاج، يطمح أن يرى بلاده مستقلة بعد مئات السنوات من السيطرة الأجنبية) .

(إن معضلة الطالب المصري تكاد تكون عين معضلة الروح المصرية

الحديثة، كلاهما يجتاز الآن مرحلة انتقال، وفي كليهما اللهفة، والنزق، وغرور

الشباب، وحساسيته. إن العناصر الروحية والمادية والدينية والقومية تختلط جميعًا

إلى درجة لا يرجى معها حل للمعضلة عن طريق نوع بعينه من هذه الإصلاحات،

ورجال السياسة المصرية لم يعتمدوا في يوم على معاونة زعماء الدين والفكر

معاونة فعالة اعتمادهم في يومنا هذا؛ لأنه ليس من ناقد نزيه يعتقد أن معضلة

الشباب المصري يمكن حلها دون إصلاح روحي عميق، يشمل تأثيره الشبان

ويعدوهم إلى الزعماء السياسيين) .

فإذا عرفنا أن التطور في البلدان الإسلامية كان دائمًا على أساس الدين (ولا

يمكن أن يكون إلا كذلك) اتضح أن إصلاحًا روحيًّا كالذي يتكلم عليه روم لا ندو لا

يتوفر إلا عن طريق تثقيف شباب الإسلام تثقيفًا دينيًّا صحيحًا.

إن نشوة القومية في البلدان الإسلامية يجب أن ينظر إليه (كرد فعل) دفاعي

ضد الاستيلاء الغربي ، وكنتيجة للاعتقاد بأن التحرر الكامل من الغرب سياسيًّا ،

واقتصاديًّا ، واجتماعيًّا شرط أساسي لنهوض الإسلام. وهكذا كان من الطبيعي

للأقطار الإسلامية في هذا الدور من نشوئها أن ترى في القومية مصدر قوة وسلطان،

ومهما كان فإن هذا المظهر الانتقالي من القومية لا بد أن يفسح المجال يومًا

لضرب من (جامعة أمم) إسلامية ، مؤسسة البنيان على قواعد روحية. إن

المسلمين لا يستطيعون أن يفرطوا بتراث ثقافتهم الروحية العظيمة لمجرد تقليد

القومية الأجنبية في مظهرها الحالي ، فالنتائج المضرة لهذا النوع المتطرف من

القومية أوضح من أن تؤكد.

بيد أن بلدان الإسلام - بالرغم من هذه القومية التي تطغى عليها - تظل في

الحق أكثر تجانسًا ، وأبعد وحدة ثقافية من دول أوروبا ، ففي شطر كبير من العالم

الإسلامي - أعني في الشرق العربي - تسود لغة واحدة للتخاطب والكتابة ، ذات

تراث أدبي وفلسفي غني جدًّا ، ويستطيع أن يدرسها بسهولة المثقفون في العالم

الإسلامي كله، تلك هي اللغة العربية، اللغة المشتركة لستين أو سبعين مليونًا من

الناس من مراكش إلى الخليج الفارسي ، وهي تحتل اليوم في الأهمية المرتبة

الرابعة بين لغات العالم ، كما أنها اللغة الدينية للعالم الإسلامي قاطبة، على حين أن

اللاتينية - وقد كانت في العصور الوسطى لغة مشتركة بين العلماء الأوروبيين -

لم تعد منذ زمان واسطة التعبير، وليس بين اللغات الحية واحدة لها حظ في أن

تصبح اللغة المشتركة في أوربا ، بيد أننا لا يجب أن ننسى أن الدعاية القومية -

مع تأكيدها على الفروقات اللغوية - تجعل هذا التطور بعيد الاحتمال في الوقت

الحاضر.

أما الفروق في النواحي الأخرى - أعني في نسيج المجتمع، والمثل العليا

السياسية - فالفروق بين مختلف أجزاء أوروبا أكبر بكثير منها بين مختلف أجزاء

العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي أقرب إلى أن يكون وحدة - وبخاصة في مزاياه

الاجتماعية والثقافية ومؤسساته - من أوربا كلها.

إن من الخطأ أن نزعم أن المثقفين من المسلمين، والطبقات الرفيعة في

المجتمع الإسلامي قد أخذت في الابتعاد عن الدين، أو عدم الاكتراث به بداعي

الإقبال على الحضارة الأوروبية والنسج على على منوالها، بل إننا ليمكننا أن

نذكر دليلاً واحدًا يؤيد العكس، وذلك في مصر حيث تزدهر حركة عظيمة للإحياء

الديني إلى جانب حركة اقتباس الحضارة الغربية، فمجلة (الرسالة) - وهي

مظهر التقدم للفكر العربي الحديث، والثقافة العربية الحديثة - تنشر في كل عام

عددًا خاصًّا بذكرى العام الهجري الجديد، يمده زعماء الفكر - وبينهم رجال

المدرسة الجديدة - بمقالات في الموضوعات الإسلامية تظهر بوضوح روح

احترامهم لشخص النبي وللقرآن، وهكذا فالتوفيق الظاهر بين الحركة الإصلاحية

الدينية وبين النظريات القومية، هذا التوفيق الذي يكون اليوم عاملاً قويًّا في نهوض

الأقطار الإسلامية، يجب أن ينظر إليه - كما ألمحنا - كظاهرة زائلة لا تتعارض

مع النزعة إلى إحياء ديني خالص. وفي الحق أن في العالم الإسلامي اليوم جهودًا

فردية تحاول أن تنظر إلى الدين نظرًا صحيحًا، ولكن أصحاب هذه الجهود جميعًا

يدركون ضرورة الإخلاص للقرآن والحديث ، وليس هناك مسألة إصلاح ديني على

أساس مذاهب أو (كنائس) مستقلة كما كان الحال في الغرب؛ لأنه ليس في

الإسلام مكان لعقيدة (الكنيسة) هذه، إن الإسلام اليوم - وغدًا - لن يقف في وجه

التطور الإسلامي فحسب، بل سيكون هو ملهم هذا التطور، وبكلمة ثانية، فإن

الصبغة الدينية تطبع التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية كلها. إن الرابط

الديني، وهو أعمق ما يشد بين الشعوب الإسلامية على رغم الفروقات العنصرية

واللغوية، سيظل الأساس لتطور البلدان الإسلامية الاجتماعي، وهكذا تزداد

المعتقدات الدينية قوة على قوة لدى الأفراد، ولدى الأمة كمجموع.

(المحرر)

ننشر هذا المقال، وندع للكاتب رأيه الخاص في الأشخاص والحوادث التي

ورد ذكرها فيها، ولكنا نستخلص منها هذه الحقائق، التي نريد أن ينعم النظر فيها

دعاة النهوض والإصلاح.

(1)

إن المسلمين الآن قد خالفوا تعاليم الإسلام الصحيحة.

(2)

إنهم بذلك ليسوا على نهج أسلافهم.

(3)

إن طبيعة الإسلام تأبى السبات والركود، فلا يأس من الإصلاح.

(4)

إن فكرة القوميات في بلاد الإسلام - أنى كانت - رد فعل للتعصب

الأجنبي.

(5)

إن التطور في البلاد الإسلامية كان دائمًا على أساس من الدين (ولا

يكون إلا كذلك) .

(6)

إن الإتجاه الديني اليوم قوي، حتى بين من تثقفوا ثقافة أوربية بحتة.

(7)

إن الرابط الديني سيظل دائمًا هو الأساس والملهم للنهضة الحديثة.

...

...

... نقلا عن مجلة (الإيمان) البيروتية

* * *

من خطبة لمستر ماكدونالد وزير المستعمرات الإنجليزية

(إن العالم الإسلامي دخل في مرحلة جديدة، بقوته المتزايدة، وبكل ما

يتضمنه الدين الإسلامي العظيم من قوة مضافًا إلى التعاليم الحديثة، إن تطورًا

جديدًا قد طرأ على العالم الإسلامي، وهو تطور يجب أن نحسب له حسابًا دقيقًا) .

_________

ص: 49

الكاتب: عبد السميع البطل

‌صاحب المنار

السيد محمد رشيد رضا

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ

مُّبِينٍ} (يس: 12) .

مات السيد رشيد رضا، فمات بموته المنار، ونعاه الناعون مع نعيه، وأبَّنه

المؤبنون في حفلة تأبينه، واقترن الأسى على حرمان المسلمين من المنار، بالأسى

على منشئ المنار، وقد مضى أربع سنين خفت فيها ذلك الصوت المدوي الذي كان

يملأ طباق الأرض، وخبا النور الذي كان يشع في الشرق والغرب، أربع سنين

عسعس ليلها، وحار دليلها، ومل حذاقها، حتى إذا استيئس الركب، وظنوا أنهم

قد أحيط بهم، لمع لهم نور (المنار) من مشرق جديد، يبدد الظُّلَم، ويكشف الغمم،

ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيط قلوبهم.

ولقد طالما قال القائلون إن أعمال المسلمين يقضى عليها بالفشل، تموت

بموت أصحابها فلا تحس لها وجودًا، ولا تسمع لها ركزًا، مات (المؤيد) بموت

الشيخ علي يوسف، ومات أمين الرافعي فماتت (الأخبار) بموته، ومات السيد

رشيد فوُدع المنار يوم وداعه، ومات صاحب (الأهرام) فهل أثر موته في انتشار

الأهرام؟ ومات جورجي زيدان منشئ (الهلال) فلم يحُل موته دون ذيوعه واطراد

نموه، ومات الدكتور صروف أحد أصحاب المقطم والمقتطف فلم يفتَّ الوهن في

عضد شريكه، وظل في مده وفراهته.

ألا فليطمئن هؤلاء بالاً، فقد شذت القاعدة، وانخرقت العادة، وانبعث

(المنار) من مرقده، وعاد إلى الظهور وضَّاح المحيَّا، باسِم الثغر، يستأنف جهاده

ويتمم رسالته، ويحتضنه جماعة الإخوان المسلمين المنبثين في العالم الإسلامي

بحرارة إيمانهم، ودافع غيرتهم، متكئين على ماضي (المنار) المجيد وسمعته

الغراء، مترسمين خطا منشئه العظيم في إخلاصه وبلائه، وصبره وأناته،

مغترفين من فيض حكمته، مقتبسين من أنوار معارفه؛ فلقد كان - رحمة الله عليه-

أمة وحده، وكان حجة من حجج الله على عباده، حتى لقد أتعب من بعده، وظل

الفراغ شاغرًا فلم نجد من يسد مسده، وأحجم كل من تقدمنا إليهم في المعاونة على

استمرار (المنار) ، معتذرين بعظم المسئولية، وعدم استكمال الأدوات، يستوي

في ذلك علماء مصر الأعلام، وغيرهم من علماء الإسلام، وأذكر هنا كلمة

المرحوم الشيخ حسين والي - من كبار علماء الأزهر المشهورين - التي قالها لنا

أيام المأتم ونحن نتذاكر الأمر: (إيتوني برجل اجتمع فيه علم السيد رشيد وصلاحه،

وإخلاصه، وصبره، وثقة العالم الإسلامي به، وأنا أضمن لكم استمرار المنار) .

وقال نحو ذلك الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار، وكان الذين

يتمنون هذه الأمنية، إنما قصارى أمنيتهم أن يكون المنار الجديد صدى المنار القديم،

حتى لا يسكت ذلك الصوت الصارخ، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة.

ولا شك أن المؤمنين سيفرحون بنصر الفكرة، وتحقيق الأمنية، وسيتقبلون

المنار بقبول حسن، وسيرحبون بمبادئ الإسلام الصحيحة قبل أن تتناولها أيدي

التحريف، وتلعب بها رياح التضليل، وسيحملهم ذلك الحرص على الرجوع إلى

مجلدات المنار القديمة، بل الرياض النضيرة، يتفيئون ظلالها. ويقطفون ثمارها،

وإن جناها لدانٍ، وإنه لمستساغ في اللها.

ولما كان المنار الجديد سيعرف قراء جديدين، وستتناوله أيدٍ جديدة، وسينضم

له أعضاء جدد، كان من المستحسن أن نقدم لهم ترجمة مختصرة عن صاحب

المنار: نشأته، وإصلاحه، وآثاره، وسائر ما يتصل بذلك؛ لتكون نورًا بين يدي

القراء، فإلى اللقاء.

...

...

...

... عبد السميع البطل

_________

ص: 61

الكاتب: أحد علماء الأزهر

‌فلسفة النفاق

المنافقون في فلسطين وحكمهم

بقلم أحد علماء الأزهر الفضلاء

{بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ

المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) .

تنادى الناس في فلسطين إلى الدفاع عن أنفسهم، والذود عن بلادهم، والجهاد

في سبيل الله، فنفر فريق بنفسه، وأعان فريق بماله، وساهم فريق بجهده،

وقعد المخلفون.

والمخلفون عن الأمة في كل زمان هم المنافقون فيها، يتخلفون عن جماعتها،

ويخرجون على أمرها، ويقعدون عن نصرتها، ويعملون على خذلانها، ويتولون

أعداءها؛ ذلك أن الإيمان لم يدخل قلوبهم، والإخلاص لا يجد سبيلاً إلى نفوسهم،

والخير بعيد عنهم، والشر قريب منهم، فهم أعداء الله والناس وأعداء أنفسهم لو

كانوا يعلمون {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ

مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون: 4)

هؤلاء المخلفون هم الثلمة التي ينشدها أعداء الأمة في صفوفها المتراصة،

يبصرون منها عوراتها، ويستطلعون أخبارها، ويستكشفون أسرارها، وينفذون

منها إلى معاقلها الحصينة، وحصونها الأمينة، وهم مطايا الاستعباد، ونذر السوء،

وأبواق الشر، وعون العدو؛ ينال بهم ما لا يقدر على نيله بقضه وقضيضه،

وعدته وعديده.

لقد هب الناس جميعًا في فلسطين لدفع كارثة التهويد والاستعمار عن بلادهم،

ورفع الظلم النازل بهم، ونفروا خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يبق

منهم من لم يساهم في هذا السبيل بنصيب كثير أو قليل، إلا أولئك المخلفون

الخائنون، الذين طبع الله على قلوبهم، واستحوذ الشيطان على عقولهم، فانحازوا

إلى العدو، وقعدوا عن نصرة بلادهم، وفرحوا بمقعدهم وراء العاملين المجاهدين

من أمتهم، يتربصون بهم الدوائر، ويترقبون بهم النوائب، وإن تمسسهم حسنة

تسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها، تقر أعينهم بما تفيض له أعين الناس

بالدمع، وتُسر أنفسهم بما تذهب أنفس المؤمنين عليه حسرات، يرون - وقد أعمى

الله بصائرهم، وأمات الفسق ضمائرهم - في ضعف أمتهم قوة لهم، وفي ذلها

عزهم، فهم دومًا يسلكون سبيلاً غير سبيلها، وهم أبدًا يعملون مع عدوها.

هذا هو حال أولئك المخلفين المنافقين في فلسطين اليوم، وكذلك حالهم في كل

زمان، وكذلك يكونون في كل أمة، يدخلون في عدادها وهم أعداؤها، وينتمون

إليها وليسوا منها، وكما في الحيوان والنبات طفيليات تعلق بجسمه وتلصق به

فتأكل غذاءه، وتتنفس هواءه، وتزاحمه في معايشه، وتعوق نموه، فيؤدي ذلك

إلى ضعفه ففنائه.

كذلك في البشر طفيليون هم هؤلاء المنافقون، يعملون في الإنسان عمل ذلك

الحيوان والنبات، حذوك النعل بالنعل.

وكما يعمد صاحب البستان في تعهد نباته إلى المبادرة بإزالة هذه الطفيليات

عنه، والمسارعة في إفنائها استبقاء له، وحفظًا لثمره، كذلك يفعل الناس بالمنافقين

الخائنين منهم، يعمدون إلى إزالتهم، ويعملون على إبادتهم؛ كيما يحفظوا أممهم،

وتسلم لهم نفوسهم وجهودهم.

ولئن كان الناس منذ القديم يرون في أعمال هؤلاء أعظم الضرر وأسوأ

الجريمة، ويعدون فعلتهم خيانة عظمى لا تعدلها أية خيانة، ويجعلون جزاءها

الموت، فكذلك كان حكم الله عليهم، وكذلك كان قوله فيهم إذ يخاطب رسوله بشأنهم،

فيقول: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ

لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً*

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 60-

62) . فالله سبحانه حين ينذر هؤلاء بإغراء رسوله بهم، وبإخراجهم من البلاد فلا

يجاورونه فيها، ولعنهم وطردهم من رحمته، فهو يطالب بتعقبهم داخل البلد

وخارجها، وأخذهم أينما وجدوا، وأن يقتلوا تقتيلاً؛ ذلك أنهم حيث ما كانوا لا

يدخرون وسعًا في أذية أمتهم، والكيد لقوتهم، وموالاة أعدائهم.

وتلك سنة الله في الخائنين من خلقه من قبل ومن بعد، وذلك حكمه في كل

زمان على المنافقين، وعلى الذين في قلوبهم مرض من فجور وفسق يصدهم عن

رضاء الله، وصالح قومهم؛ حبًّا لذاتهم، واتباعًا لشهواتهم، وذلك حكمه أيضًا على

الذين يرجفون حول المؤمنين، فيشيعون أخبارًا سيئة عنهم، ويقومون بالدعايات

المضلة ضدهم؛ لإضعاف شأنهم وتوهين قواهم، وتثبيط عزائمهم كما يفعل

الخائنون المنافقون في فلسطين اليوم.

وما أشبه حال المنافقين اليوم حين أدلى كبيرهم بحديث لبعض الصحف

المصرية، يقول فيه: (لو كنا نعلم أن هذه الثورة تقوم ضد الإنكليز واليهود

لساهمنا فيها؛ ولكنها تقوم ضد العرب أنفسهم) . ما أشبه ذلك بحال المنافقين في

عهد رسول الله فيهم {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ

ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ

بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (آل عمران: 167) .

بل ما أشبه هؤلاء الخائنين في فلسطين إذ تخلفوا عن المؤمنين في قتالهم

وجهادهم، وقعدوا من ورائهم يعوقون الناس عن الجهاد بشتى الوسائل، ويخوفونهم

بأس العدو وقوته، ما أشبههم بأسلافهم المنافقين الأولين، الذين يقول الله فيهم حين

تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله والمؤمنين: {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ

رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي

الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً

بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة: 81-82)، إلى أن يقول تعالى في الحكم عليهم:

{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي

الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 84-85) .

وكما أصدر أحد أئمة النفاق بيانًا أسماه الناس (الورقة الصفراء) لما فيه من

صفرة الخيانة، تودد فيه إلى اليهود، وتغنى بمحاسنهم، ورحب بهم أن يكونوا

أصحاب البلاد، في حين يريد المؤمنون إخراجهم منها، ومَنَّاهم بانتصار حزبه -

حزب الشيطان - لهم، وأغراهم بأن يكون عونهم ليشبع جشعه من أموالهم، فكذلك

قال أسلافه المنافقون لليهود السالفين حين عمل المؤمنون على إخراجهم من المدينة،

وكذلك وعدوهم ومنوهم، فقال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ

لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ

أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ

مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} (الحشر: 11-12) .

ذلك بعض ما يقوم به في فلسطين المنافقون الخائنون، الذين يتولى زعماؤهم

بأنفسهم أكبر أعمال الخيانة لقومهم، والتجسس للعدو عليهم، والإغراء بالمجاهدين

العاملين، والدلالة على معاقلهم ومواطنهم، والإرشاد إلى أماكن أسلحتهم وذخيرتهم،

والمساعدة على قتلهم وتعذيبهم مع أولادهم ونسائهم، وهدم مساكنهم، وإتلاف

مؤنهم وأموالهم، كما صنعوا في قرى بيت فجار، وكفر مالك، وحلحول،

والمزرعة الشرقية، وبيت ريما، وغيرها من القرى والمدن العربية؛ يبتغون بذلك

العزة عند العدو، ويطلبون الرفعة لديه {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ

يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) .

إن ما يقوم به هؤلاء المنافقون من فساد في الأرض وحرب لله ورسوله،

فليأذنوا إذن بحرب من الله والمؤمنين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ

أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) .

ذلك حكم الله على المنافقين المخلفين الخائنين، وذلك قوله فيهم ومن أصدق

من الله قولاً؟ ! ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون؟ !

فليحذر المؤمنون في فلسطين هؤلاء المنافقين، ولينفذوا حكم الله فيهم، من غير

أن تأخذهم بهم رأفة أو تعصمهم منهم صلة وقربى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لَا تَجِدُ قَوْماً

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ

أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ

حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 20-22) .

_________

ص: 63

الكاتب: محمد عبده

‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

وقد شكا المغفور له صاحبه من قلة الإقبال عليه

الناس في عماية عن النافع، وفي انكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم

يشرعوا بالاشتراك في المنار، فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى تغيير

الحاضر بما هو أصلح للآجل، وأعونه على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال ذلك

الميل في الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاً؛ ولكن ذلك لا

يضعف الأمل في نجاح العمل.

_________

ص: 67

الكاتب: عبد الظاهر أبو السمح

‌المنار والإصلاح

بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الظاهر أبو السمح

إمام الحرم المكي

كانت مجلة المنار مجلة إصلاح إسلامي لا يجاريها في مضمارها مُجَارٍ، ولا

يسبقها في حلبتها سابق، كانت تُعْنَى بتفسير القرآن الكريم وشرحه من السنة

المحمدية على طريقة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه بالله؛ فبعد أن

تُقَرِّر المعنى تفضِي بما في الآيات من العبر، مقارنةً بين ما كان عليه المسلمون

الأولون وتمسكهم بالقرآن وعملهم به، وما عليه مسلمو هذا الزمان، مهيبةً بهم،

منذرةً لهم، مبينةً ما يحدثه المبتدعون في الدين من البدع، مجليةً شُبه الضلال

والملحدين من الأمة بالأدلة الواضحة والحجج الساطعة، وكان صاحبها أستاذنا

العلاّمة السيد رشيد رحمه الله لا يخشى في الحق لومة لائم ولا سطوة حاكم،

ولا يجامل صديقًا، ولا يصانع عدوًّا، ولا يرعى غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره،

وكانت خاتمته الحسنى ما علمه الخاص والعام مما انتهى إليه تفسيره {رَبِّ قَدْ

آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي

فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) يا لها

من خاتمة حسنى! وموقف جميل! لم يكن إلا بتوفيق من الله لعبد رضي الله عنه

وتولاه، وأدخله في عباده الصالحين وأوليائه، ولما توفي السيد رحمه الله قلت

وقال الناس معي:

شعلة أطفئت وشمس توارت

وكأن الحياة لمع سراب

ووقف المنار ، وتوارى عن الظهور وخلا الكرسي ، ولم نجد من يملؤه بعده ،

ولا من يسد مسده ذبًّا عن الإسلام ، ودرءًا لشبهات ، وبيانًا لحقيقة الإسلام ، حتى

مضت ثلاث سنين أو أكثر ونحن ندعو الله أن يهب الإسلام مرشدًا رشيدًا يضيء

النهج وليل الجهالات قاتم ، وكأن الله سمع دعاءنا ، فقيض لمجلة المنار من يبعثها

بعثًا جديدًا، مصقعًا إذا خطب، مدرهًا إذا كتب، ذكي الفؤاد ، قادرًا على حمل

الأعباء، عالمًا ألمعيًّا وشجاعًا عبقريًّا ، ذلك هو الأستاذ المرشد الجليل الشيخ حسن

البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين - حفظه الله، فنهنئه بهذا التوفيق،

ونهنئ مجلة المنار وقراءها بتولي حضرته رياسة تحريرها ، ونسأل الله له التوفيق

والسداد والعون على القيام بها.

وقد انتدبني حضرته للكتابة فيها بحسن ظنه، وما كنت لأخالفه، لولا أشغال

كثيرة وأعمال متواصلة تستنفذ الوقت كله؛ ولكن لا بد من تلبية الطلب كلما وجدت

إلى ذلك سبيلاً بحول الله وقوته - وإن كنت مزجى البضاعة عاجز اليراعة، والله

المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وسيكون موضوع كتابتي - إن شاء الله - الكتاب والسنة، والدعوة إلى الله،

والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا

بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

...

...

...

...

كتبه

...

...

...

...

أبو السمح

_________

ص: 68

الكاتب: حسن البنا

لماذا تأخر المسلمون

ولماذا تقدم غيرهم؟

هذا سؤال طالما ردده المصلحون ، وكثيرًا ما حاروا في الإجابة عنه وعظمت

دهشتهم حين رأوا المسلمين ينحدرون إلى هوة الضعف والاستكانة مع كثرة عددهم

وخصب أرضهم وتعدد وسائل النجاح عندهم.

وقد أجاب على هذا السؤال عطوفة الأمير شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر

المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) إجابة شافية جامعة مانعة ، وأبان بأنصع برهان وأقوى

دليل أسباب نجاح المسلمين الأولين وفشل المسلمين الآخرين ، وكشف عن سر تقدم

الغربيين واليابانيين. والكتاب في بابه حجة دامغة، وصفحة مجيدة، وليس لمسلم

غناء عنه، فنشكر لعطوفة الأمير عمله العظيم، ونحض جميع المسلمين على قراءة

كتابه النافع، وهو يباع بمكتبة الحلبي بجوار المشهد الحسيني، وثمنه خمسة قروش.

_________

ص: 69

الكاتب: عيسى عبده

‌اتجاه محمود في الشرق العربي

بقلم الأستاذ عيسى عبده

المدرس بمدارس التجارة المصرية وعضو بعثة المعارف بمنشستر

أرى في أيامنا هذه اتجاهًا طيبًا يتخذه بعض إخواننا في مصر وغيرها من

البلاد العربية، وسيلتهم فيه البحث العلمي المستنير، وغايتهم خدمة السواد من

أممنا العربية. هذا السواد هو من غير شك أولى الناس بجهودنا نبذلها في سبيل

التخفيف عنهم اليوم، وإسعاد أبنائهم في الغد القريب، على أننا لا نزال في أول

الطريق؛ فقد بدأنا بدراسة شئون العامة دراسة تمهد للإصلاح المرتجى، من ذلك

ما يقوم به الأستاذ عمار بجامعة منشتستر، والدكتور الشافعي بجامعة فؤاد بالقاهرة،

والبروفسور تود بجامعة بيروت، والمستر بتلر رئيس المكتب الدولي للعمل

بجنيف، وكلهم تناول شئونًا شرقية أو مصرية بحتة. ولكن الناظر في الشئون

الشرقية والعربية من نواحيها الاجتماعية يجد ظواهر مشتركة بين الأقطار جميعًا،

وهذا أمر طبيعي في بلاد جميع بينها منذ ثلاثة عشر قرنًا أو تزيد وشائج لا تهن ولا

تضعف، أساسها وحدة الدين واللغة، وبعض آثارها هذا الذي نرى من وحدة الألم

والأمل، فمن وصف بعض هذه الأقطار فقد عرف عن بعض ما دام وصفه يتصل

بالنظم الاجتماعية.

وحديثنا اليوم يتناول فريقًا كبيرًا من سكان مصر، ولي منه غرضان: أولهما

أن يكون دعوة إلى الشباب المثقف في الأقطار العربية كافة أن يقوم بعض القادرين

منهم بمثل البحوث التي قام بها الغرب من زمن، والتي بدأتها مصر مؤخرًا.

وثاني الغرضين أن أبين ما ينتظر منا - نحن المتعلمين - من مساهمة في

حركة الإصلاح. حين درست أحوال العمال منذ عامين تقريبًا تكشفت أمور قد

تغيب عن بعضنا، وقد يتجاهلها بعض آخر، سأذكر بعضها تزكية للدعوة التي

أوجهها إلى كل عربي، فالحال في بلادنا كما قدمت واحدة.

طبقة الأُجراء في مصر تشمل العامل الصناعي والعامل الزراعي ومن عداهما

من الأُجراء، وتكوِّن الغالبية العظمى من الشعب، ولئن كانت البيانات التي اعتمدنا

عليها في كلمتنا هذه قد جمعت من نحو (800) ثماني مائة أسرة من أسر العمال

المقيمين في القاهرة، فإنها تعين على تكوين صورة صحيحة عن حال الأجير بوجه

عام، مع تحفظ واحد هو أنها أشبه بالحال في المدائن دون القرى ، فإذا أردنا أن

نرى خلالها بيت العامل الزراعي وعيشه وجب أن نزيد من ألوانها القاتمة.

حياة العامل:

يبدأ الكثير من العمال في سن مبكرة هي الخامسة عشرة ، هذا إذا تجاوزنا

عما هو سائد في القرى من استغلال الأحداث في أعمال لا تتطلب جهدًا كبيرًا؛

ولكنها رغم بساطتها تعوق نموهم ، وتفوت عليهم فرصة تحصيل المبادئ الأولية

التي لا غنى عنها لأبسط طبقات الشعب، على أن هذه الحال تتبدل اليوم إلى ما هو

خير منها فلنتركها جانبًا ، ولنحصر القول فيمن تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر

عامًا وستين عامًا ، هؤلاء موزعون كما يلي:

نسبة من لا تبلغ أعمارهم 20 عامًا من العمال 8 في المائة ، ومن السكان 16

في المائة.

ونسبة من لا تتراوح أعمارهم بين 20 و39: من العمال71 في المائة ، ومن

السكان 56 في المائة.

ومن تتراوح أعمارهم بين 40 و 49: من العمال 16 في المائة، ومن السكان

18 في المائة.

ومن تتراوح أعمارهم بين 50 و 59: من العمال 5 في المائة، ومن السكان

10 في المائة.

أما الذين يتخطون الستين من بين العمال فلا يزيدون على اثنين من كل ألف ،

ونظيرهم من السكان خمسة من كل ألف ، ولقد حسبت هذه النسب على عدد

الذكور دون الإناث؛ فما يزال العرف في مصر والشرق يجري على أن كسب

العيش من وظائف الرجال.

لبعض هذه الأرقام دلالة قوية جدًّا ، فنسبة الشباب الذي تتراوح سنه بين

العشرين والأربعين والذي يستأثر به العمل أكبر من نظيرتها في سائر نواحي

النشاط الاقتصادي، كوظائف الدولة والمهن الحرة؛ من أجل ذلك جاز لنا أن نقول

: إن ما يصيبه هؤلاء من عيش ضنك له أسوأ الأثر في القوى الحيوية للشعب كله.

انظروا إلى الباقين منهم بعد سن الخمسين في معترك الحياة، تجدوهم خمسة من كل

مائة، إذن هذا العدد الضخم من الشبان الأجراء البالغين واحدًا وسبعين في المائة

من عدد العمال ، والذين تتراوح أسنانهم بين العشرين والأربعين عامًا يخرجون من

ميدان العمل خلال الحلقة الخامسة من أعمارهم إلا عددًا منهم قليلاً ، ولقد أثبت

البحث أن عدد من يخرج منهم بالترقي إلى مصاف أرباب الأعمال، أو مستندًا إلى

ثروة جمعها ، أو إلى ولد قادر يكفيه مشقة العمل في سن متأخرة قليل جدًّا، وأنه

أولى بالإغفال، وهكذا تبقى أسباب الخروج من العمل منحصرة في الموت والعجز.

هذه الظاهرة المحزنة إنما هي نتيجة طبيعية لظروف العامل في حياته الخاصة،

وسنرى أنه في حياته القصيرة يرزح تحت عبئين مرهقين من إجهاد وحرمان.

تزايد السكان:

ربما بدا غريبًا بعد هذا الذي قدمنا أن يتزايد عدد الطبقات العاملة رغم عوامل

الفناء المحيطة بهم؛ ولكن للتزايد أسبابًا قوية؛ منها أن نسبة الزواج بين العمال

تبلغ 76 في المائة، وهي للسكان عامة 66 في المائة، ويبكر العامل بالزواج حتى

أن نسبة المتزوجين قبل سن الخامسة والعشرين تبلغ 10 في المائة، وهي نسبة

عالية لسن مبكرة في طبقات أجورها لا تفي الفرد فضلاً عن الأسرة، وهنا يجدر

أن نلاحظ ظاهرة تميز الشرق بصفة عامة عما عداه، تلك أن الزواج في معظم

الحالات لا يكون نتيجة لحاجة الرجل إلى من يدبر شأنه أو يهيئ له حياة منزلية

هادئة، فبين المتزوجين من العمال ستون في المائة يعولون قريبات لهم كوالدة أو

عذارى وأرامل من ذوي القربى، وقد كان لهؤلاء العمال من قريباتهم غنى من

ناحية الخدمة ودافع من ناحية النفقة على ألا يفكروا في الزواج في سن مبكرة،

ولكنهم يفعلون بدافع ديني، وهذه حال لا يمكن أن تستتبع اللوم؛ وإنما تستحق

العطف والتهذيب.

أما عدد الأطفال فكثير، ولما كان الزواج مبكرًا، فالعمال تبعا لذلك آباء في

سن مبكرة كذلك، فمثلاً بين العمال من سن العشرين نجد اثنين في المائة لكل منهما

ولد أو ولدان، فإذا بلغ الوالد سن الخامسة والثلاثين كان عدد الأبناء كما يلي:

من كل مائة من الآباء:

عشرون لكل منهم ولد واحد

وستة وعشرون لكل منهم ولدان

وسبعة عشر لكل منهم ثلاثة أبناء

وثمانية لكل منهم أربعة أبناء

واحد له خمسة أبناء

وواحد له ستة أبناء أو أكثر

أما إذا تمشينا معهم إلى آخر العمر فطبيعي أن تتزايد النسب الأخيرة ، فتصبح

من كل مائة والد:

أربعة وأربعون لكل منهم ثلاثة أبناء

وأربعة وعشرون

لكل منهم أربعة أبناء

وعشرة لكل منهم خمسة أبناء أو أكثر

كل هذا رغم ارتفاع نسبة الوفيات بينهم ، واستئثارهم بموتى المواليد، ولولا

هذان العاملان لتزايدوا بأسرع مما ترى رغم الظروف القاسية التي تحيط بهم.

أشرنا فيما تقدم إلى أن 60 في المائة من أرباب الأسر يعولون إلى جانب أبنائهم

وزوجاتهم أقارب لهم عاجزين عن الكسب ، هؤلاء من طرحتهم أمواج الحياة

صرعى جهاد ظالم يبعثون فيه بغير سلاح ، آباء قضوا ربيع الحياة في خدمات لا

تعود عليهم إلا بما يمسك الحياة ، فإذا أقبلت سنو المشيب - وهذه تبكر لأمثالهم -

أقعدهم العجز عن كل كسب ، ونساء فقدن العائل بالموت أو بسواه، وورثن عنه

البنين دون المال. هكذا ينشأ الجيل الجديد مرهقًا بتبعات ثقال تنوء بالعصبة أولي

القوة ، فيلتمس السلوى فيما يحط من قواه ولا يصلح له شأنه ، ثم يدفع بولده جاهلاً

هزيلاً إلى معترك الحياة وهو بعد في مقتبل العمر، عساه يلتقط بعض الفتات فيعين

أسرته ، وكذلك ينشأ نشأة أبيه ، وإذا بالمأساة تتصل، وتتسق فصولاً من جديد ، وقد

تبدل اللاعب وما أسدل الستار.

ساعات العمل:

يندر أن تقل عن ثماني ساعات في كل يوم ، ونسبة ذلك 1 على 3 في المائة

من مجموع الحالات، وهي:

ثماني ساعات في 15 في المائة من الحالات.

وعشر ساعات في 70 في المائة.

وأربع عشرة ساعة في 5 في المائة.

وست عشرة ساعة في 10 في المائة.

على أن من هذه الحالات الأخيرة ما يبلغ 17 وأكثر.

الأجور:

منخفضة جدًّا، تبدأ بقرش واحد في اليوم للأحداث في بعض الصناعات،

وتزيد كلما تقدمت السن بنسبة لا تكاد تبلغ الثلث مما يجب أن تكون عليه الحال،

ونتيجة ذلك أن تتزايد التبعات ولا تنمو الموارد بالدرجة الكافية.

ولا يمنح العامل أجرًا عن يوم راحته ، ولا مرضه، وأكثر الفئات شيوعًا هي

فئة العشرة القروش والخمسة عشر؛ إذ يتقاضى أجورًا تقع بين هذين الحدين 30

في المائة من العمالة. وعقود الاستخدام كلها رهينة الظروف، وأكثرها عقد يومي

يتجدد كلما تجددت الحاجة، ولهذا أثر سيئ.

فالعامل لا يرتبط بجهة معينة ، وكل خدماته موزعة بين الناس، ومجهوده

السابق نَهْب الظروف المتقلبة من حوله، فإذا ما بلغ القمة من حياته أتقن عمله

وشارف أجره رقمًا عاليًا - يبلغ ثلاثين قرشًا في ثلاث حالات من كل ألف، ويبلغ

25 قرشا في 22 حالة من كل ألف - لم يستطع أن يحافظ على ما وصل إليه من

أجر عالٍ نسبيًّا؛ لأن رب العمل يتبدل، وقوى العامل تنحط مع الزمن، وله في

كل يوم سوق أصولها منبتة؛ ولذلك نرى الأجور العالية التي ذكرنا لا تكون إلا ما

بين العشرين والخامسة والأربعين من العمر، ثم تنحدر بعد ذلك، حتى إن أعلى

الأجور لمن تبلغ أعمارهم 50 عامًا أو يتخطونها عشرون قرشًا.

ولقد يلقى العامل من عنت رب العمل ضعفًا آخر، فيؤخر أجره ضمانًا

لمواظبته، أو يؤخره حتى يتوافر لديه مال حاضر.

المساكن:

هذه الأنقاض التي يزدحم فيها العمال إنما تسمى مساكن من باب التجوز،

ومن كانت حاله ما قدمت فأنى له المسكن الصحي؟ بحسبنا أن نذكر في هذا الصدد

أن إيجار المسكن يتراوح بين 30 قرشا و60 في معظم الحالات، وأن 35 في

المائة من الأسر تسكن كل منها غرفة واحدة أو أقل من غرفة؛ إذ تشترك أسرتان

أو أكثر في واحدة، وأن 65 في المائة من الأسر تسكن كل منها غرفتين أو أقل،

أما الشمس والهواء والماء وسعة المسكن وأثاثه فلا محل لذكرها فضلاً عن بحثها.

آثار هذه الحال:

هي الآثار الطبيعية لمثلها؛ حياة قصيرة معتلة، وموت مبكر يخلف للأحياء

أعباء تعجل بدورهم، وإنتاج يدوي ضعيف، ومقدرة فكرية أضعف.

وأما المستوى الخلقي فتؤذيه هذه الحال أشد الإيذاء، وكيف تستقيم الحال في

أسر لكل منها مخدع واحد يضم الزوجين وخمسة أبناء أو سبعة منهم شباب وفتيات؟

وكيف نرجو طيب الخصال إذا انعدمت أسباب الثقافة والتربية والتهذيب، وثقلت

أعباء الحياة في وقت معًا؟

الذي أراه أن هذه الحال التي تعالج أخطر من أن نتناولها بالبحث النظري

لنقف عند حد البحث، ربما جاز هذا إذا كان الباحث لا تربطه بهؤلاء الناس

أواصر الأخوة وروابط أخرى لا تنفصم، أما وهم قومنا وإخواننا وأبناؤنا وآباؤنا

فعلينا ما هو أجدى من القول والبحث؛ علينا أن لا نكتفي باقتراح رفع الأجور

والموارد باقية على حالها، أو إدخال نظم التأمين والعامل لا يملك أسباب العيش

الخشن فضلاً عن نفقات هذه النظم، علينا - نحن معاشر المتعلمين - واجبان أحب

أن ننهض بهما اليوم راغبين، فهذا خير وأبقى، وهو أولى بنا من أن يضطر

إليهما أبناؤنا في غد كارهين؛ فأما الأول: فهو أن ننزل عن بعض نعيمنا

الشخصي في سبيل هؤلاء الذين طال حرمانهم صابرين.

فمثلاً إذا زيدت الضرائب على دخلنا من أجلهم دفعنا مغتبطين، وإن لم تزد

دعونا إلى هذا بما أوتينا من علم وبيان، وإن قلَّت رواتبنا من أجلهم كذلك قبلنا في

غير ضيق ولا حرج. وأما واجبنا الثاني: فهو أن ينبث بينهم القادرون منا على

معالجة الشئون الاجتماعية، ينظمون صفوفهم، ويرشدونهم إلى ما فيه خيرهم،

وهذا يتطلب تضحية بالوقت والمال في سبيل الدعاوة، والمعونة الأدبية والمادية.

ولنذكر جيدًا أن منا - نحن المتعلمين - من سينتظم في هذه الصفوف إن

عاجلاً أو آجلاً، وهذه بعض آيات الرقي في الأمم، فلنهيئ إذن الجو لصغار

إخواننا ولأبنائنا، وهذا دافع شخصي يضاف إلى ما تقدم من إيثار كريم.

كذلك فلنذكر أن هذه الجموع التي بدأنا اليوم نفكر فيها هي التي تمد الدولة

بأكبر عدد من الرجال، فتنتظم بهم صفوف الدفاع، وفي السلم كلما زادت كفايتهم

زاد الإنتاج الأهلي، وارتفع المستوى للخاصة والعامة، غير أن الخطوات الأولى

تتطلب كثيرًا من جهاد النفس وشجاعة الرأي، ولقد تخطت الحركة طور البحث

وتجاوبت أصداء الدعوات

فلنكن ممن يبادرون بتلبية النداء.

...

...

...

...

... عيسى عبده=

_________

ص: 70

الكاتب: مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

‌ظهور المنار ودلالته

لما توفي المغفور له السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار خشى المصلحون

أن يذهب المنار بذهاب صاحبه ، ويخبو ضياؤه الذي لبث ثلث قرن يشع على العالم

الإسلامي علمًا ، وثقافة ، وفضلاً ، وخيرًا ، وبركة ، ويضع العلامات في طريق

الجهاد الإسلامي ليسلك المجاهدون على بصيرة وعلم ونور.

وقد حدث ما خشي المصلحون ، فإنه صدر من المنار بعد وفاة صاحبه بضعة

أعداد ، ثم توقف عن الصدور ، وخفت صوته المعروف الذي كان يملأ آفاق

الأرض ، وخلا مكانه من الصف ، وطويت أعلامه ، وظن الناس أن لن يعود.

وكنا نخاطب عنه محبي الإصلاح ليتعاونوا على إصداره ، ويجتمعوا على

إرجاعه سيرته الأولى؛ ولكنهم كانوا يعتذرون بأن هذا الأمر فوق طاقتهم ، وأن

قوتهم وحالهم لا يسمحان بتحقيق هذه الأمنية العزيزة المرجاة.

وبينما الفضلاء في يأس من عودته؛ إذ تقدم رجل شاكي السلاح مدرع، قد

جمع في نفسه المؤهلات الكافية لخدمة الإسلام والحق والإصلاح، تقدم هذا الرجل

ورفع راية الإصلاح المناري ، ونادى بأعلى صوته قائلاً:

أيها الناس إني - على بركة الله وبتوفيق من الله - أخذت على عاتقي إصدار

المنار الأغر؛ حتى لا يحرم المسلمون منه ، ولا تنقطع عنهم فيوضاته ، ولا

ينضب معين إصلاحه.

فتلفت الناس إلى المتكلم ، فإذا هم يجدون الأستاذ حسن البنا المرشد العام

للإخوان المسلمين ، والمصلح الذي وقف نفسه على نصرة الإسلام والمسلمين ،

فاطمأنت نفوسهم، وانشرحت صدورهم ، وحمدوا الله عز وجل على فضله

ونعمته وآلائه.

وهكذا ظهر المنار بعد اختفاء ، وأسفر بعد احتجاب ، وكتب الله له الحياة على

يد من لا يريد لقومه إلا الحياة.

وإن لظهور المنار دلالة نحب أن نسجلها هنا بإيجاز ، حتى يعرف القراء

الحقائق ، ويكونوا على بينة من الأمر ، ولا تأخذهم الحيرة مما يشاهدون ، أو

يقرءون ، أو يسمعون.

لما توفي صاحب المنار - رحمه الله تعالى - حزن محبو الإصلاح وأصابتهم

الحسرة على إغماد سيف كان يجاهد في سبيل الله ولا تأخذه في الحق لومة لائم؛

ولكن فريقًا آخر طرب وصفق وتبادل التهاني والتبريكات لزوال من كانوا يظنونه

عدوًّا لهم؛ لأنه يحارب تخريفهم ودجلهم وجمودهم ، وقد جهروا فيما بينهم بانقطاع

المنار إلى الأبد ، وأقاموا الحفلات لضعف أخلاقهم؛ فرجوع المنار يسر المصلحين

المخلصين ، ويكبت الشامتين الضعفاء اليقين. ومن المشهور عندنا أن العمل

العظيم إنما يقوم به فرد ، فإذا أفلت منه ذهب في طي النسيان ، وهذا صحيح إلى

حد ما؛ ولكن حظ المنار كان طيبًا فكتب الله له البقاء ، ولما هوت رايته، كان

هويها استنادًا وارتكازًا للراحة والاستجمام، تقدم فضيلة الأستاذ حسن البنا ورفعها

على القمة ليراها الغادي والرائح، فعلم الجمهور أن عمل الفرد المخلص لا يضيع

أبدًا ، بل يقيض الله له من يحييه ويمده بما يعيد إليه الشباب ويقويه.

وكنا نسمع من كثير من الناس أن دعوة صاحب المنار لا تتعدى أفرادًا معينين،

ولا تصل إلى مدى يصح معه أن نقول بوجود الإصلاح في الأمة ، ولكن الرغبة

الملحة في إصدار المنار وقيام رئيس الإخوان المسلمين بهذا الإصدار يدل دلالة

قوية على أن الإخوان - وهم ألوف كثيرة - يؤمنون بهذا الإصلاح ويفدونه

بالأرواح، وإذا عرف القراء أن الإخوان جمهرتهم من الشباب المثقف، علم علم

اليقين مقدار تغلغل الإصلاح الإسلامي العتيد في النفوس التي نرجيها لرفع شأن

الأمة، والدفاع عن ذمارها، وإعلاء مكانها.

هذه بعض أوجه الدلالة في ظهور المنار، يعلم منها أهمية العمل الذي أخذه

على عاتقه الأستاذ الكبير رئيس الإخوان المسلمين.

ونحن نقترح هنا ما يجب على القراء وعلماء المسلمين في مشارق الأرض

ومغاربها، ليؤدي المنار مهمته العليا النقية، ولينجح النجاح المرتقب له من كافة

المؤمنين المخلصين.

أما القراء، فالواجب عليهم أن يعاضدوه حسًّا ومعنًى ، ويعاونوه بما في

جهدهم ليصول في ميدان الجهاد ويجول، ويشتد عوده في مقاومة كل ما يلحق

الأذى بالإسلام والمسلمين، ويرسل الجنود تلو الجنود تصرع أعداء الله، وتخذل

الذين يريدون الإسلام بسوء.

وأما العلماء المخلصون الذين أحبوا المنار وأشربوا في قلوبهم مبادئه السامية

وطريقته المثلى، فعليهم أن يحبوا المنار بعطفهم، ويمدوه بآرائهم الصائبة،

وأفكارهم المنيرة، ويستخدموا علمهم النافع في تقويته، وإنجاحه، وإكثار أركان

حربه.

ونحن نعلم أن محبي المنار الفضلاء الكاتبين منبثون في أنحاء العالم الإسلامي

من الصين شرقًا إلى مراكش غربًا، ومن التركستان شمالاً إلى جنوب إفريقية

جنوبًا، وهم - بتوفيق الله - في مكنتهم خدمة المنار الخدمة الجلى ليكون صحيفة

الإسلام العالية في الدين، والاجتماع، وشتى ما يحتاج إليه المسلمون.

ونعود فنهنئ فضيلة المرشد العام بما ندب نفسه إليه من خير وإصلاح، كتب

الله له النجاح، وأمده بروح من عنده، وأعانه على الجهاد في سبيل الله، والله

قوي عزيز.

...

...

...

مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

...

...

...

...

القاهرة

_________

ص: 77

الكاتب: حسن البنا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

كتاب الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني

(وكتاب بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني)

الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - إمام أئمة السنة حفظًا ورواية ودراية وفقهًا،

وجرحًا وتعديلاً.

ومسنده أوسع الأصول في الحديث وأعمها فائدة، والمسانيد موضوعة لحفاظ

الحديث، يشق على غيرهم الاستفادة منها، وقد كان الناس في حاجة إلى من يرتب

أحاديثه على أبواب كتب السنن؛ فوفق الله خادم السنة السنية الأستاذ الفاضل الشيخ

أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، فرتبه وسلك فيه سبيلاً لم يسبق إلى مثله.

وقد جعله أربعين جزءًا، كل جزء أربعة أقسام، وعد أحاديث كل كتاب

بالأرقام، واقتصر في السنة على اسم الصحابي، وقد صدر من الكتاب أحد عشر

جزءًا في أربعة وأربعين قسمًا، بحرف مشكول. وذُيل بشرح وجيز يبدأ فيه بذكر

السند، فتفسير غريب الحديث، فالضروري من معناه، فتخريجه.

فنحث المهتدين بالسنة على المبادرة إلى اقتنائه، وثمن الجزء منه 12 قرشًا.

* * *

الدين والعقل (أو) برهان القرآن

تأليف الأستاذ أحمد حافظ هداية

في استنباط براهين عقائد الإسلام من القرآن الكريم، مثبتة بأحدث النظريات

العلمية، يحتوي على مقدمة وسبعة أجزاء فيها نحو أربعمائة فصل، وقد قرظه

كبار علماء العصر. فنحث الجميع على اقتنائه، وهو ثلاثة مجلدات، قيمة الاشتراك

في المجلد الواحد 10 قروش قبل الطبع. وفي الكتاب جميعه 25 قرشًا. والثمن

بعد الطبع 45 قرشًا، وترسل الاشتراكات باسم المؤلف بدار الرسالة شارع المبدولي

رقم 34 بعابدين بمصر.

_________

ص: 80