المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين - مجلة المنار - جـ ٣٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (35)

- ‌ربيع الأول - 1354ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

- ‌حرمان البنات من الإرثوتعارض القرآن والإجماع

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

- ‌الهمزية في مدح خير البرية

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌شاعر العربالشيخ عبد المحسن الكاظمي

- ‌تفاقم شر الطلاق في أميركا

- ‌العقبة من الحجازفي عهد الدولة العثمانية

- ‌وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌سبب تأخر هذا الجزء من المناروسيكون ما بعده أكبر وأحسن

- ‌ربيع الآخر - 1354ه

- ‌سؤالان عن الربا في دار الحربوعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

- ‌الربا والزكاة والضرائبودار الحرب

- ‌فتاوى المنار

- ‌حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبرالشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌إلى فضيلة الأستاذ الأكبربمناسبة خطابه في حفلة التكريم

- ‌تفسير المنارالجزء الثاني عشر

- ‌نعي فقيد الإسلام والمسلمين

- ‌كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

- ‌كلمة لا بد منها

- ‌الوهابيونوالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌حفلة تأبين فقيد الإسلامالمرحوم السيد محمد رشيد رضا

- ‌خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

- ‌قصيدة الأستاذ الهراوي

- ‌خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

- ‌كلمة الأستاذ عبد السميع البطلفي حفلة تأبين الفقيد

- ‌خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

- ‌خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

- ‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام

- ‌قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

- ‌تعزية الجمعية السورية العربية

- ‌مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

- ‌تعزية جمعية الرابطة العلوية

- ‌كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندرفي حفلة التأبين

- ‌تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

- ‌عواطف ابن زيداننحو فقيد الفضل والعرفان

- ‌وصف المقطم لحفلة التأبين

- ‌كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

- ‌كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

- ‌كلمة المجاهدين السوريين في الصحراءبوادي السرحان

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌المستشرقون والإسلام

- ‌الفصل الأولأسباب ونتائج

- ‌الفصل الثانيمحمد قبل البعث

- ‌الفصل الثالثالتحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

- ‌الفصل الرابعمحمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

- ‌الفصل الخامسالتوحيد هو روح الحرية

- ‌الفصل السادسأثر التوحيد الاجتماعي

- ‌الفصل السابعتعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

- ‌الفصل الثامنحكاية فنسنكوالمجمع اللغوي الملكي

- ‌الفصل التاسعحكاية فنسنك [

- ‌جمادى الآخرة - 1358ه

- ‌تصدير

- ‌في الميدان من جديد

- ‌بين طائفتين من المؤمنين

- ‌نشأة المنار والحاجة إليه

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌بين الشرق والغرب

- ‌ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

- ‌تطور الإسلام

- ‌صاحب المنارالسيد محمد رشيد رضا

- ‌فلسفة النفاقالمنافقون في فلسطين وحكمهم

- ‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

- ‌المنار والإصلاح

- ‌اتجاه محمود في الشرق العربي

- ‌ظهور المنار ودلالته

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌رجب - 1358ه

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌دعوى علم الغيبومنابذتها لأصول الإسلام

- ‌وصف الدنيا

- ‌الشيخ محمد عبده(1)

- ‌من كلام الإمامعلي رضي الله عنه

- ‌انتقاد المنارحول فتوى آيات الصفات وأحاديثها

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي

- ‌تعليق

- ‌السيد محمد رشيد رضا

- ‌ استحضار الأرواح

- ‌ربيع الأول - 1359ه

- ‌الأحمدية(القاديانية واللاهورية)

- ‌ماذا في إندونيسيا

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌في محيط الدعواتتحليل ومقارنة

- ‌مشكلة المرأة في مصر

- ‌ربيع الثاني - 1359ه

- ‌احتجاب المنار

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌خطيئة آدم

- ‌في محيط الدعوات(2)

- ‌براءة من القاديانية

- ‌الشيخ محمد عبده [*](2)

- ‌انتقاد المنار

- ‌السيد الكامل آل رضارحمه الله

- ‌جمادى الآخرة - 1359ه

- ‌ حكم الدخان والتنباك

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌السيد الإمام محمد رشيد رضاناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

- ‌من مشكاة النبوة

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌شعبان - 1359ه

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌ حكم الصلاة في النعلين

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌المرأة المسلمة(2)

- ‌إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم

- ‌بيان الحكومة المصريةعن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة

- ‌من كلام الإمام علي في نهج البلاغة

الفصل: ‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ

الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .

{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .

{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) .

نرجو أن ندخل بهذه السَّنة في عهد جديد لدعوة القرآن نفتتح بها المجلد 35

من المنار المجلد 13 من تفسير القرآن الحكيم والطبعة الثالثة من كتاب الوحي

المحمدي، بعد أن بينَّا للمسلمين في السنين الخالية جميع الأسباب والعلل التي فقدوا

بها هداية دينهم ومجد ملكهم وحضارته بالإعراض عن تدبر القرآن وجميع ما يجب

عليهم من علم وعمل لاستعادة ذلك بالقرآن، وإقامة الحجج والآيات على ذلك من

كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تبليغه وتنفيذه؛ وسنة

خلفائه الراشدين في فتوحه، وتأسيس دولته، وإقامة أحكامه بين الشعوب المتباينة

الأجناس واللغات، والملل المختلفة الأصول والمذاهب والحضارات.

وإننا نذكِّر القراء بخلاصة من ذلك:

أمة موسى وأمة محمد والتوراة والقرآن:

في مدة أربعين سنة انقرض جيل من بني إسرائيل في التيه، ونشأ جيل آخر:

انقرض الجيل الذي تعبَّده فرعون واستذله، فقال زعماؤه لموسى لما دعاهم إلى

دخول الأرض المقدسة، التي كتبها لهم، ووعدهم بالغلبة على أهلها إذا دخلوها:

{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) ، ونشأ جيل جديد أخذ

التوراة بقوة، ودخلوا البلاد، ففتحها الله كما وعدهم.

وفي عشرين سنة أسس محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله

عليه وسلم - بدعوته دينًا كاملاً وأمة متحدة ودولة قوية عادلة، فقد ربَّى الجيل الأول

من قومه بالقرآن من أول يوم، فأخرجهم بدعوته من الظلمات إلى النور في عشر

سنين، وفتح بهم جزيرة العرب في عشر سنين، وفتح خلفاؤه من بعده ملك

كسرى وقيصر في عشرين سنة، ولم ينقضِ القرن الأول من هجرته إلا وقد تمَّ

لأمته نشر ملكهم ودينهم من آخر حدود أوربة في الغرب إلى جدار الصين في

الشرق، وأدى لهم " فغفور " الصين الجزية.

بماذا فعل المسلمون هذه المعجزات في الفتح الديني الاجتماعي السياسي؟ ما

فعلوها إلا بأخذهم القرآن بقوة، كما أخذ بنو إسرائيل التوراة بقوة، وكان تأثير كل

من الكتابين بقدْره: التوراة هداية لشعب صغير، وُعِد بوطن صغير إلى أجل معلوم

ففتحوه، وتمكنوا فيه إلى أجل معلوم، ثم عاقبهم الله بظلمهم وإفسادهم في الأرض

فسلط عليهم من شاء من عباده إلى أجل آخر، ثم سلب ملكهم ببغيهم. والقرآن

هداية عامة لجميع الشعوب والقبائل، وُعد أهله بخلافة الأرض كلها: {وَهُوَ

الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض} (الأنعام: 165) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ

الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ

بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ووفَّى لهم بما وعدهم في

أكثر الأرض التي عرفوها ما أقاموا القرآن بإقامة الحق والعدل في الناس والشكر

لله، ثم سلب منهم أكبر ما أعطاهم بكفر هذه النعمة والفسوق عن هذه الهداية.

ومن العجب أن يفعل اليهود اليوم ما لا يفعل العرب لاستعادة مجدهم.

ولكن أمة محمد ليسوا شعبًا صغيرًا كقوم موسى - عليهما الصلاة والسلام -

بل أمة دعوته جميع البشر، وأمة الإجابة له هم المهتدون بالقرآن وسنته في إقامته،

وما وعدهم به هو الأرض كلها لا أرض فلسطين، ودينهم عام باقٍ إلى يوم القيامة،

لا خاص مؤقت محدود.

فتح العرب العالم بالقرآن:

إن المسلمين كفروا هذه النعمة قبل أن يتم لهم فتح أكثر الغرب كما

فتحوا أكثر الشرق، بأن استبدلوا بهداية القرآن بدعًا سَرَت إليهم نظرياتها الباطلة

من الأديان والفلسفة والأدب التي كان عليها الشعوب التي فتحوا بلادها بقوة القرآن

لا بقوة السيف والسَّنان، فقوة العرب الحربية كانت دون قوة الرومان، ودون

قوة الفرس، اللتين كانتا أقوى دول الأرض، وكان يدين لهما كثير من

العرب المجاورين لبلادهما، وكانت أضعف من البربر في شمال إفريقية ومن

القوط (والإسبانيول) في غرب أوربة ومن الغال في جنوب فرنسة من الغرب،

ومن الهنود في الشرق، وناهيك ببعد المسافات بين جزيرة العرب وبين هذه

الأقطار، وما يزعمه بعض الإفرنج ومقلديهم من أن سبب فوز العرب بذلك الفتح

السريع الواسع هو ما كان طرأ على تلك الدول والأمم من الفساد والضعف، فهو

تعصب ظاهر؛ فمهما تكن عليه تلك الأمم من ضعف وفساد فالعرب كانوا أفسد

وأضعف من كل واحدة منها قبل الإسلام، وبه سادتها كلها؛ وما هو إلا نور

القرآن.

عصر الصحابة ومنتهى علمهم:

إن الصحابة الكرام رضي الله عنهم هم الذين أسسوا هذا الملك الإسلامي

العظيم العادل الرحيم، فيما يسمى العالم القديم، وكان أكثرهم أميين، لم يكن عندهم

كتاب يهتدون به في فتوحهم وحكمهم إلا هذا القرآن وحده. وما كانوا يعتمدون في

فهمه إلا على مَلكَة لغته وما بيَّنه لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هداية

القول والفعل، وهو سنته وهديه؛ تلاهم التابعون الذين حفظوا عنهم القرآن

والسنن والآثار؛ فكانوا في الدرجة الثانية لدرجتهم إيمانًا وعلمًا بالإسلام، وعملاً

وتخلقًا به، وجهادًا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وفتحًا للأمصار، وحكمًا بين

الناس بالحق والعدل؛ وقلَّ فيهم الأميون، وكثر المتعلمون، ولكن لم يكن في أيديهم

كتاب غير القرآن، يهتدون به في تزكية أنفسهم وإصلاحها، ويهدون به غيرهم من

الشعوب التي كانت تدخل في دين الله أفواجًا. ويجدون الإسلام خيرًا مما كانوا عليه

هدى وصلاحًا، وعلمًا وعدلاً، وأدبًا وفضلاً.

عصر التابعين في هديهم وحكمهم وفتحهم:

وبدأ التابعون بكتابة السنن والآثار حفظًا لها من الضياع، بيد أنهم لم يتخذوا

منها كتابًا مدونًا مع القرآن يدينون الله بالعمل به في عبادتهم الشخصية وفي قضاء

حكومتهم وسياستها، بل ظلوا يهتدون بالقرآن وبما كان عليه الصحابة من سنن

النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وبسيرة خلفائه الراشدين في الفتح والسياسة

والقضاء، ومن ذلك الاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي من القرآن أو سُنَّة عملية لا

تختلف فيها الأفهام والآراء: اجتهاد الأفراد لأنفسهم في الأحكام الشخصية الخاصة،

واجتهاد أولي الأمر من الأئمة والقضاة وقواد الجيوش في الأحكام العامة، مع

مراعاة الشورى فيها؛ فكانوا على منهاج الصحابة في ذلك كله، وناهيك بكتب عمر

وعلي إلى عمالهما: ككتاب عمر إلى شريح في القضاء، وكتاب عليّ إلى الأشتر

النخعي في السياسة العامة.

عصر العلم وما يجب من النظام الواقي من الشقاق فيه:

ثم جاء عصر التدوين والتصنيف للحديث والسير الآثار والفقه، تلا ذلك

تدوين اللغة وفنونها ووقائع التاريخ، وترجمة علوم الأوائل بأنواعها: كالرياضيات

والتاريخ الطبيعي، والطب، والفلك، والفلسفة بأقسامها، والتصوف بنوعيه الخلقي

والفلسفي، ودرسوا هذه العلوم واجتهدوا فيها، ونقدوا ونقحوا، وأتموا ما كان

ناقصًا، وزادوا على من كان قبلهم؛ عملاً بإرشاد القرآن إلى النظر في آيات

السموات والأرض وما بينهما وما خلق الله من شيء وسنن الله في الأمم.

كان من سنة العمران وطبيعة الاجتماع في ذلك أن تصير علوم الدين والدنيا

كلها فنونًا صناعية، وأن يختص بكل جنس منها طوائف من الناس للتوسع والنبوغ

فيها، وأن يكون لكل منها تأثير في أنفس النابغين فيه، قد يعارض غيرهم باختلاف

الفهم والقصد من العلم وموضوعه وفائدته.

وكان يجب في هذه الحال أن يكون للتعليم نظام جامع يوجه كل علم إلى الغاية

منه؛ دينيه كانت، أو عقلية، أو علمية، كما أرشد إليه القرآن الحكيم، وأن يظل

القرآن والأسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه وتربية الأمة، كما

كان في عهده وعهد خلفائه الأربعة هديًا إلهيًّا علميًّا لا نزاع فيه وينزه عن أن يكون

صناعة بشرية، وفنًّا جدليًّا يضرب بعضه ببعض لتأبيد المذاهب والشيع الدينية

والسياسية، وأن تكون حرية الدين على أكملها فيما هو من كسب البشر ونتائج

أفكارهم وأفهامهم؛ فالإسلام أباح لأهله الحرية في هذا دون ما هو فوقه وفوق كل

شيء بشري، وهو كلام الله اليقيني القطعي الرواية أو الدلالة من الدين الذي شرعه

الله لهم، وأما ما كان ظنيَّ الرواية أو الدلالة منه فقد أباح لهم الاجتهاد فيه بشرط ألا

يكون اختلاف الفهم والرأي سببًا لتفرق الأمة والشقاق بين أهلها، ولو فعلوا ذلك

لاتقوا الشقاق والتفرق بما حدث من البدع في الدين، ولكنهم لم يفعلوا فَضَلُّوا

وابتدعوا، فتفرقوا واختلفوا، وفسقوا وضعفوا.

كان هذا التأليف بين العلوم والفنون والدين أول واجب على الإمام الأعظم

خليفة المسلمين، ولكن خلفاء العباسيين أطلقوا العنان أولاً فلم يقوموا بالواجب، ثم

نصروا بعض المتفرقين في الدين على بعض بما أضعف سلطان الدين في الهداية،

وفوائد العلوم والفنون في الحضارة، وأنَّى للمعتصم العامي، وكذا المأمون العالم

المتفنن أن يفهم حكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عقاب صبيغ المجادل

المشكك في القرآن، ونفيه من المدينة إلى البصرة، وأمر الناس بهجره حتى تاب،

تلك جناية فوضى العلم في العرب، وجنايتها على هداية القرآن بالابتداع والتفرق

والاختلاف.

حضارة العرب وتأثير الإسلام فيها:

وقد كانت للمسلمين من جملة ذلك كله حضارة عربية زاهية زاهرة، جمعوا

فيها بين زينة الدنيا ونعمتها والاستعداد لسعادة الآخرة، ألطف مثل لها ما حُكِي عن

امرأة كانت ترفل في حليها وحللها، مخضبة الكفين، مطرفة البنان، وهى تسبح

الله تعالى وتذكره، فرآها رجل ناسك فقال لها: ما هذا مع هذا؟ ! فقالت:

ولله مني جانب لا أضيعه

وللهو مني والخلاعة جانب

وكانت قيانهم ووصائفهم تحفظ القرآن، وتروي الحديث بالأسانيد، وتنظم

الشعر وتلحنه، وما كان من إسراف بعضهم وفسوقهم تجد تجاهه غلو آخرين في

دينهم، وانقطاعهم إلى العبادة وجهاد النفس بحرمانها من الطيبات المباحة.

كان أهل بغداد في عهد حضارة العباسيين يتنزهون في زوارق دجلة أصيل

كل يوم، كما يتنزهون في هذه الأيام، فاتفق أن اقترب قاربان منها في أحدهما مغنٍّ

يعزف على عوده، وفي الآخر قارئ يرتل سورة التكوير، فأنصت المغني واستمع

للقرآن يتدبره، حتى إذا بلغ القارئ قوله تعالى:{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (التكوير: 10) ضرب بعوده جانب الزورق فكسره ورماه في دجلة خاشعًا

متصدعًا من خشية الله، فكان ترتيل القرآن أفعل في نفسه من توقيع الألحان،

ومثل هذا لا يقع الآن، والقوم هم القوم، ولكنهم ضعفوا في لغتهم، فلم يبقَ للقرآن

سلطان على قلوبهم، وغلوا في الدين والحضارة معًا؛ فحرَّم السماعَ بعضُهم،

واتخذه آخرون عبادة.

لو جرى المسلمون في حضارتهم وعلومها وفنونها على صراط القرآن بكفالة

الخلافة لاستفادوا من فلسفة اليونان وتصوف الهند وفنون الروم والفرس وصناعاتهم

وتنظيم حكومتهم ما يزيدهم إيمانًا بالله وبصيرة في دينه وقوة في دولتهم، واعتدالاً

في نعمة حضارتهم، ولما وجدت بدع النظريات الفلسفية والصوفية وفتن السياسة

الشعوبية سبيلاً إلى التفريق بينهم في دينهم وحكمهم، ولكنهم نكبوا عنه فانقلبوا بعد

ألفتهم وتوادهم أعداء يتنازعون في متشابه القرآن الذي ألَّف بين قلوب سلفهم بعد

تعاديهم وتقاتلهم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وهم يقرءون قوله عز وجل:

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (آل عمران: 7) الآية، وقوله: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً

بَيْنَهُم ْ} (البقرة: 213) الآية، وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:

59) .

سنن الاجتماع في قلب الإسلام لنظم الأمم السريع:

كل ما جرى للأمة الإسلامية كان مقتضى سنن الاجتماع في دين قلَب نظم

الأمم والملل كلها في أديانها ودنياها في جيل واحد، ودخل فيه أفواج لا تحصى من

كل جنس وكل ملة وكل حضارة وكل بداوة، قضى شرعه أن يكونوا إخوانًا

متساوين في جميع الحقوق، لا يتفاضلون إلا باستعدادهم الشخصي؛ فمنهم من فهمه

بلغته وثقافة من جاء به، وهم العرب؛ لأنه لم يكن عندهم ما يزاحمه من التقاليد

الدينية والعادات المدنية، بل كانوا كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا

ومنهم مَنْ لم يفهم منه إلا بعض تقاليده الظاهرة، ولم يره إلا في مرآة ما كان

عليه قومه من دين وحضارة، ومنهم من كان مخلصًا فيه، ومن كان يكيد له

عصبية لقومه وملته ودولته التي قضى عليها، ومن كان يبتغي به الحياة الدنيا

وسلطانها وزينتها، ومن كان يريد به وجه الله والدار الآخرة.

حكمة الله في ترتيب الخلفاء الأربعة:

وكان من حكمة الله ورحمته أن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه

خير أصحابه علمًا وحكمة وإخلاصًا؛ ليكونوا قدوة لمن بعدهم وحجة لله عليهم،

وألهم أهل الحل والعقد أن يقدموا أقصرهم فأقصرهم عمرًا من حيث لا يدرون؛

لتستفيد الأمة من كل واحد، وهذه حكمة ألهمني الله تعالى إياها منذ عشرات السنين

لم أروها ولم أسمعها من أحد، وهاك وجه كل واحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين.

قدموا أبا بكر أولاً؛ فكان في عهده تمحيص الأمة العربية، وتصفيتها من

النفاق والضعف، وكان هو أولى الناس بتنفيذ هذه التصفية في حروب الردة

ودعوى المتنبئين النبوة وبقايا العصبية الجاهلية، وهو مشهود له بأنه كان أعلم

الناس بأنساب العرب وأخلاقهم وأحوالهم، فتم ذلك بسياسته على أكمل وجه.

وخلفه عمر فكان في عهده فتح الأمصار والقضاء على ملك كسرى برمته،

وملك قيصر الروم في الشرق كله، والاستيلاء على الأمم والملل الكثيرة

وخضوعها للإسلام في دينه وحكمه، أو في حكمه فقط، وقد ظهر لجميع الأمم في

عهده ومن بعده أنه خير من قام بهذا الفتح ونظمه علمًا وعقلاً وعدلاً وقوة وإخلاصًا.

فبحكمة أبي بكر صارت الأمة العربية أمة واحدة موحدة مثقفة، وبحكمة عمر

صارت أمة فاتحة حاكمة عادلة مصلحة للبشر؛ ولما كان من سنن الاجتماع أن

يظهر في هذه الدولة العربية ما هو كامن في بعض أهلها من الاستعداد للفتن

والمطامع، وما ينفخ في ضرمه خصومها الذين قضت على ملكهم، ومن المصلحة

أن يظهر حكم الإسلام في إخماده بالحق والعدل - ألهم الله أهل الشورى أن يقدموا

عثمان على عليّ، وجل عصبة الأول من بني أمية الطامعين في الملك، وجل

عصبة الثاني من بني هاشم الذين يغلب على أكثرهم الزهد في الدنيا، وقد كان

بينهما في الجاهلية ما كان من (التنازع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم)

الذي ألَّف المقريزي فيه مصنفًا خاصًّا بهذا الاسم.

كان عثمان على عدله وفضله شديد الحياء، لين العريكة؛ فغلبه قومه على

وصية عمر السياسي الحكيم له بأن لا يحمل أبناء أبي معيط على رقاب الناس،

فركبوا الرقاب من غير أن يحملهم هو عليها، فنجمت رءوس الفتنة في عهده،

وكان كارهًا لها، إلا أنه لم يستطع كبح جماحها، فكان شهيد أول ثورة على ولي

الأمر في الدولة العربية، وكان هذا أشأم سنة في الحكم الإسلامي.

ثم جاء عليٌّ ونار الفتنة مشتعلة، وكان أولى إمام في الأمة أن يقاومها علمًا

وعدلاً، وإيثارًا للحق على الخلق، وللهدى على الهوى؛ ولو لم يكن لها في تأخر

زمنه - وقد أطال الله عمره - إلا هذه الحكمة والرحمة لكفى؛ فهو قد سنَّ من سنن

الحق والعدل في قتال البغاة والخارجين على حكم الإسلام ما لم يكن يرجى من غيره

مثله، وخيرها اتقاء تكفير أهل القبلة بخطأ الاجتهاد، كما كان هذا التكفير شر ما

فعلوه، فالإيمان والكفر إنما يكونان بالقطع لا بالاجتهاد.

وقد بينَّا من قبل أن التنازع في الإمامة بين شيعة علي وجمهور الأمة قد كان

تنازعًا بين ما يسمى في هذا العصر السلطة الأرستقراطية، أي: حكم الأشراف،

والسلطة الديمقراطية، أي: حكم الأمة الشوري الانتخابي؛ ولذلك كان أشد أنصار

الشيعة من بعده الأعاجم الوارثين للعبودية للملوك، وأن عليًّا لو ولي الأمر من أول

الأمر بسبب قربه من النبي صلى الله عليه وسلم أو بحجة وصيته له ولذريته

من فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم لكانت فتنة عبادته وعبادة آله

ودعوى عصمتهم قضت على توحيد الإسلام من أول وهلة إن ثبتت.

استحالت خلافة النبوة بعد عليّ والحسن عليهما السلام ملكًا عضوضًا، كما ورد

وهو من سنن الاجتماع، وكان بنو أمية وقد صفا لهم الملك من أقدر قريش على

استمرار الفتح وتوسيع دائرة الدولة وعظمتها؛ ولكن تحويل زعيمهم الأول

(معاوية) لحكم الإسلام الشوري (الديمقراطي) إلى عصبية النسب (الأرستقراطية)

كان سُنَّة سيئة دائمة قضت على دولتهم قبل أن يتم لها قرن كامل، وهم الذين

أحدثوا بسياستهم الجنسية فتنة الشعوبية فكانت عاقبة هذه العصبية أنْ آل الحكم إلى

الأعاجم، وصار قائمًا على قوة العصبية دون أصل الشرع، وزال سلطان الإمامة

الديني الذي تخضع الأمة له بوازع العقيدة، فصار الحكم الإسلامي عسكريًّا مذبذبًا،

لا أرستقراطيًّا ولا ديمقراطيًّا.

هذه جملة أسباب ترك الدول الإسلامية لهداية القرآن وهداية السُّنة وجماعة

الأمة، ولو ظلت الأمة متبعة لهما لأكرهت الدولة على هذا الاتباع في أي وقت

تجتمع به كلمتها؛ ولكن جمهور الأمة تحولوا عن هذا الاتباع بفساد التعليم،

وتقصير العلماء في بيانه، والدعوة إليه والعمل به، ومطالبة الحكومات بالتزام

هدايته، بل إلزامهم إياها بنظام تكفله الأمة، وتيسير السبيل لذلك بجعل لغته مَلَكة

راسخة في الأمة بتعلمها بالعمل، كما كان عليه أهل العصر الأول، ولم يفعلوا شيئًا

من هذا، وهو الذي أضاع حكم القرآن من ناحية السلطان.

وهو ما نوهنا به في تصدير الطبعة الثالثة التي نشرناها في هذا الشهر،

وصرحنا فيه بأنه حدث لنا به أمل جديد في حياة المسلمين الملية، لا تعرف حقيقتها

إلا بتجربة عملية جديدة، وهو ما عزمنا عليه في هذه السنة.

الدعوة الجديدة هي أساس الإصلاح كله:

سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة

المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها، أو فيما عدا

التعليم الإسلامي المدرسي منه، الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له،

وتولي النهوض به، فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة

القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته، ولا يصلح له غيرهم.

لما ألَّفنا جماعة الدعوة والإرشاد، وأنشأنا مدرستها وجدنا عقلاء المسلمين

وأذكياءهم في مصر، وإستانبول، وأمصار الهند الإسلامية الكبرى، وبغداد،

وسوريةَ متفقين على أنها أعظم عمل إسلامي لا يُرجى الإصلاح المنشود بدونه؛

حتى إن كبار رجال الترك أكبروه، وعلموا أنه يحيي الدولة العثمانية حياة جديدة إذا

هي كفلته ونفذته على الوجه الذي اقترحته عليها وقررته الجمعية التي أسست له من

أذكى رجال الدولة، ولكن زعماء جمعية الاتحاد والترقي - الملاحدة منهم - كانوا

قد أجمعوا أمرهم على إسقاط دولة آل عثمان وخلافتهم، وإقامة دولة تركية لا دينية

على أنقاضها، ولولا ذلك لما منعوا الحكومة من تنفيذه بعد أن صدر به أمر مجلس

الوزراء، وقرر أن تكون نفقات المدرسة السنوية في ميزانية وزارة الأوقاف.

وكان الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر علم بالأمر وأكبره، فلما عدت من

إستانبول والأمر مقرر رسميًّا، أقنعني بأنه هو يكفل مساعدتي على تنفيذه في

مصر، وبأن الدولة العثمانية إن أرادت تنفيذه في إستنابول فإن من السهل أن يكون

في كل من العاصمتين مدرسة تابعة لمقاصد الجمعية ومنهاجها، ففعلت وصدق هو

وعده، وفتحت المدرسة أبوابها لجميع الشعوب الإسلامية، وتعاون على نفقتها

ديوان الأوقاف الخيرية العامة ومصلحة الأوقاف (الملكية) الخاصة، حتى إذا ما

اشتدت سيطرة الإنكليز على مصر في عهد الحرب الكبرى، كادوا للمدرسة كيدهم،

وأوعز عميدهم إلى وزير الأوقاف (إبراهيم فتحي باشا) وكان من صنائعه؛

فقطع الإعانة التي كانت قررت لمدرسة الدعوة والإرشاد، وتعذر عودة الخديو إلى

مصر، فاضطررت بعد صبر جميل إلى تعطيلها.

وجملة القول أنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر

مشتركي المنار، وعلى ما أقر به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة

والعامة بالأولى، وعلى دخولي في سن الشيخوخة وضعفها، لم أرد إلا ثقة ورجاء

بنجاح السعي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وجديد أمر الدين بما يظهره الله به

على الدين كله، حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة

من المسلمين بذلك؛ تصديقًا لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم

بأنه لا يزال في أهله طائفة ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى تقوم

الساعة (رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق) . وهذه

الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب عناوين

خيار الرجال المتفرقين في الأقطار، الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على

اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم لمخاطبتهم في الدعوة إلى العلم، وأرجو من كل

من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا

عنوانه، وما هو مستعد له من العمل معهم، إلى أن تنشر دعوتهم الرسمية.

وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر

الذي تقارب فيه البشر بعضهم من بعض، فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على

أمر الله، وتعاونها على نشر الدعوة، وجمع كلمة الأمة، بعد وضع النظام لمركز

الوحدة الذي يرجى أن نثق به؛ فهي لا ينقصها إلا هذا، وقد طال تفكيري فيه،

وعسى أن أبشرها قريبًا بما يسرها منه.

وأعجل بحمد الله تعالى أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي ولشيخنا

الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر - وهو ما يعبر عنه

في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية - وقد قضى هو يائسًا مما كان يحاول فيه،

وظللت أجاهد في سبيل إصلاحه على ما عرض من أسباب اليأس منه، التي تفاقم

أمرها أخيرًا، وكتبت فيها بضع مقالات في المقطم، ثم (كتاب المنار والأزهر)

وما هذا إلا لأنني لم أيأس، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد

مصطفى المراغي عظيم، أشرت إليه في تصدير الطبعة الثالثة من كتاب الوحي

المحمدي، بعد أن كتبت عنه في الجزء الماضي من المنار ما كتبت.

كان الأزهر كَنْزًا خفيًّا، أو جوهرًا مجهولاً عن أهله وحكومته، وعقلاء بلده

لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به، والاستيلاء

على زعامة جميع الشعوب الإسلامية في الدين والأدب واللغة بإصلاح التعليم العام

فيه، ولكن تعليم الإمام رحمه الله وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في

طائفة من شيوخه، والاستعداد في جمهور طلابه، ولم يبق إلا العمل الجادّ، ولله

الحمد.

_________

ص: 1

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

‌تصدير

بقلم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي

شيخ الجامع الأزهر

كانت مجلة المنار مرجعًا من المراجع الإسلامية العالية، تُحل فيها مشاكل

العقائد، والفقه، وتحيط بالمسائل الاجتماعية الإسلامية، وأخبار العالم الإسلامي

وما فيه من أحداث، وأمراض، وعلل، وكان صاحبها السيد رشيد رضا - رحمه

الله - رجلاً عالمًا عاملاً غيورًا مخلصًا للإسلام، محبًّا لكتاب الله وسنة

رسوله وآثار السلف الصالح. وقف حياته لخدمة دينه والأمم الإسلامية، وكان

شجاعًا في الحق، لا يهاب أحدًا، ولا يجامل، ولا يحابي.

نشأ على هذا واستمر فيه إلى أن لقي ربه واحتجبت بعد ذلك مجلة المنار،

فأحس العالم الإسلامي بفداحة الخطب وشدة وقع المصاب؛ فإنه لا يوجد - فيما

أعلم الآن - ذلك الرجل الذي له من سعة الاطلاع، وحسن التدبير، وحكمة الرأي،

وقوة الإدراك في السياسة الشرعية الإسلامية ما يضارع به المرحوم السيد رشيد.

ذلك ماضٍ جليل نودعه من الفخر به والأسى عليه، والآن قد علمت أن الأستاذ

حسن البنا يريد أن يبعث المنار ويعيده سيرته الأولى، فسرني هذا؛ فإن الأستاذ

البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع

الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً

وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على

الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة.

(وبعد) فإني أرجو للأستاذ البنا أن يكون على سيرة السيد رشيد رضا،

وأن يلازمه التوفيق كما صاحب السيد رشيد رضا، والله هو المعين، عليه نتوكل،

وبه نستعين.

روائع

من قطعة للرافعي رحمه الله في وصف الصحابة يفتحون مصر:

إن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق

والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وإنهم جميعًا ينبعثون من حدود

دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها، وإذا سلوا السيف سلُّوه بقانون،

وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون

ولأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من

أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب، وواجبات

العقل، والضمير الإسلامي في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحًا يضرب صاحبه إذا

همَّ بمخالفته.

_________

ص: 1

الكاتب: حسن البنا

‌في الميدان من جديد

بعونك اللهم وفي رعايتك وتحت لواء دعوتك المطهرة وفي ظل شريعتك

القدسية وعلى هدي نبيك الكريم العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تستأنف

هذه المجلة (المنار) جهادها وتظهر في الميدان من جديد.

رحمة الله ورضوانه ومغفرته (للسيد محمد رشيد رضا) منشئ المنار الأول

ومشرق ضوئها في الوجود، فلقد كافح وجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام والدفاع

عنه وجمع كلمة المسلمين وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهي

الأغراض التي وضعها أهدافًا لجهاده الطويل حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت

المنار أربعين عامًا كانت فيها منار هداية ومنهج سداد.

ولقد ترك السيد رشيد فراغه واسعًا فسيحًا وقضى وفي نفسه آمال جسام

وشاهد قبل وفاته تطورًا جديدًا في حياة الأمة الإسلامية فاستبشر بهذا التطور الجديد

وشام منه خيرًا وأمل فيه كثيرًا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة

المنار، وأن يجعل منها في عامها الجديد (الخامس والثلاثين) لسان صدق لجماعة

جديرة (بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين) تخلف جماعة الدعوة والإرشاد

وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديدة التي تهيأ لها المسلمون في هذا العصر، وقد

كتب رحمه الله في هذا المعنى في فاتحة هذا المجلد ما نصه: (سيكون المنار

منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف

جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها أو فيما عدا التعليم الإسلامي المدرسي

منه الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له وتولي النهوض به فتركه لمن يعده

التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته،

ولا يصلح له غيرهم

) .

ثم ذكر بعد ذلك طرفًا من تاريخ مدرسة الدعوة والإرشاد وما لقيت من عقبات

ومعاكسات انتهت بالقضاء على فكرتها الجليلة، ثم قال بعد ذلك: (وجملة القول

إنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر مشتركي المنار، وعلى

ما أقرّ به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة والعامة بالأولى، وعلى

دخولي في سن الشيخوخة وضعفها لم أزدد إلا ثقة ورجاء بنجاح سعيي لأهم أصول

الإصلاح الإسلامي وتجديد أمر الدين بما يظهره على الدين كله حتى تعم هدايته

وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة من المسلمين بذلك تصديقًا

لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (لا يزال في أمته طائفة ظاهرين على

الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة) رواه الشيخان في الصحيحين

وغيرهما بألفاظ من عدة طرق.

وهذه الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب

عناوين خيار الرجال المتفرقين في الأقطار الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على

اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم، لمخاطبتهم في الدعوة إلى العمل، وأرجو من

كل من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب

إلينا عنوانه وما هو مستند له من العمل معهم إلى أن ننشر دعوتهم الرسمية، وأهم

ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر الذي تقارب فيه

البشر بعضهم من بعض فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على أمر الله وتعاونها

على نشر الدعوة وجمع كلمة الأمة بعد وضع النظام لمركز الوحدة الذي يرجى أن

تثق به، فهي لا ينقصها إلا هذا وقد طال تفكيري فيه وعسى أن أبشرها قريبًا بما

يسرها منه.

وأعجل بحمد الله - تعالى - أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي

ولشيخنا الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر، وهو الذي

يعبر عنه في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد

أمره إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عظيم. كان الأزهر كنزًا خفيًّا أو جوهرًا

مجهولاً عند أهله وحكومته وعقلاء بلده، لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان

إصلاح العالم الإسلامي كله به والاستيلاء على زعامة الشعوب الإسلامية في الدين

والأدب والفقه بإصلاح التعليم العام فيه؛ ولكن تعليم الأستاذ الإمام رحمه الله

وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في طائفة من شيوخه والاستعداد في جمهور

طلابه ولم يبق إلا الجد، ولله الحمد. انتهى.

هكذا قضى السيد محمد رشيد حياته وفي نفسه هذه الآمال الجسام: أن يكون

المنار بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة

من ذوي العقل والدين والمكانة في الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه

الجماعة وتشد أزره فيكون من تعاونهما الخير كله.

ولقد كان السيد رحمه الله صادق العزم مخلص النية في آماله هذه

فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار (جماعة الإخوان

المسلمين) وأن يصدره ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها ويحمل

للناس دعوتها.

يا سبحان الله، إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي كان يتمناها

السيد رشيد رحمه الله. ولقد كان يعرفها منذ نشأتها ولقد كان يثني عليها في

مجالسه الخاصة ويرجو منها خيرًا كثيرًا، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته فيكتب عليها

بخطه: من المؤلف إلى جماعة الإخوان المسلمين النافعة؛ ولكنه ما كان يعلم أن الله قد

ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من

أمانيه الإصلاحية وأمل من آماله الإسلامية، لقد تمنى السيد رشيد رضا في الجماعة

التي اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة الدعوة والإرشاد أي ما عدا التعليم

المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضًا، وستحقق جماعة الإخوان

المسلمين هذا الرجاء بتوفيق الله، فإن إصلاح التعليم المدرسي الرسمي من أخص

مقاصدها وإن أثرها في طلاب الجامعة المصرية والمدارس المدنية من ثانوية

وخصوصية لعظيم، وسنواصل الجهد حتى نصل إلى الغاية - إن شاء الله - ويصبح

التعليم كله مركّزًا على أصول سليمة مستمدة من روح الإسلام وسماحة الإسلام

وتعاليم الإسلام وحضارته ومجده، والله المستعان.

ولقد أدرك الإخوان المسلمون منذ نشأتْ دعوتهم أهمية التواصل بين عقلاء

المسلمين، فأخذوا يعملون لهذا وأصبح لهم - بحمد الله - عدد عظيم من كل قطر

يعطف على فكرتهم ويؤيد دعوتهم، ولقد اقترح علينا أخونا المفضال السيد أنيس

أفندي الشيخ من وجهاء بيروت أن نعمل ما عمله السيد رشيد فنجمع عناوين ذوى

المكانة من عقلاء العالم الإسلامي ونتصل بهم ونكتب في جرائدنا عنهم حتى

يتعرف بعضهم إلى بعض، والآن ننتهز هذه الفرصة فنوجه الرجاء الذي وجهه

صاحب المنار من قبل إلى كل من يأنس من نفسه الغيرة على الإصلاح الإسلامي

والاستعداد للعمل له من رجالات المسلمين أن يكتب إلينا عن الناحية التي يؤمل أن

يعمل فيها، وحبذا لو تكرم فأضاف إلى ذلك إرسال صورته الشخصية وسنفرد

لنشر هذه العنوانات والصور صحيفة خاصة بالمنار نسميها (صحيفة التعارف)

بين أنصار الدعوة إلى الإسلام، حتى إذا تكامل جمع يعتمد عليه فكرنا في

الطريقة المثلى لتبادل الآراء والأفكار.

ولقد أدرك الإخوان كذلك منذ نشأت دعوتهم ما للأزهر من شخصية معنوية،

وأنه أعظم القوى أثرًا في الإصلاح الإسلامي لو توجه إليه، فاعتبروا أنفسهم عونًا له

في مهمته وتوثقت الروابط القوية بينهم وبين شيوخه وطلابه، وكان من هؤلاء

الفضلاء ما بين علماء وطلبة طائفة كريمة لها أبلغ الأثر في نشر دعوة الإخوان

وخدمة فكرتهم التي هي في الحقيقة أمل كل مسلم غيور وواجب كل مؤمن عاقل.

وإننا لنرجو أن نكون أسعد حظًّا من صاحب المنار رحمه الله في حسن

معاملة المشتركين فيها، فإن مال الدعوة مهما كثر قليل بالنسبة لنواحي نشاطها

وتشعب أعمالها فليقدِّروا هذه الحقيقة وسيجدون ما ينفقون في هذه السبيل عند الله هو

خيرًا وأعظم أجرًا.

ستعود المنار - إن شاء الله - إلى الميدان تناصر الحق في كل مكان،

وتقارع الباطل بالحجة والبرهان، وشعارها الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع

كلمة المسلمين والعمل للإصلاح الإسلامي في كل نواحيه الروحية والفكرية

والسياسية والمدنية. ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما

أنصارها، فنرجو أن يجدوا في مسلكها الجديد ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم

بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق فإننا على استعداد تام للتفاهم

معهم على أساس كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل لخدمة هذه

الحنيفية السمحة.

لم يكن الشيخ رشيد رحمه الله معصومًا لا يجوز عليه الخطأ فهو بشر

يخطئ ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك وما من أحد إلا ويؤخذ من

كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال

ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق ومتى كان ذلك رأينا جميعًا ومتى كان شعارنا أن

نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أُمرنا، فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة

متحابين، وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزمًا زهوقًا.

على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعًا إلى التعاون معنا،

سائلين الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً

ويرزقنا اجتنابه، والله حسبنا ونعم الوكيل.

...

...

...

...

... حسن البنا

* * *

روائع

(إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة

الجرداء. طبيعة تعمل في طبيعة، فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي

ظلالها، وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد

كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر

شتان بين عمل وعمل وإن كان لون

يشبه لونًا) .

* * *

الرافعي في وحي القلم

(لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي

تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها

فقط تأخذ كل شيء) .

_________

ص: 3

الكاتب: حسن البنا

‌بين طائفتين من المؤمنين

حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف

سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :

فلعلكم قرأتم ما دار من الحوار بين كتَّاب مجلة الإسلام ومجلة الهدي النبوي

حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف، فما وجه الحق في هذا

الخلاف؟ وهل يجوز شرعًا أن يتقاذف الفضلاء من المسلمين بهذه التهم على

صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع مثل هذه البحوث على العامة؟ وهلا يمكن أن

تعملوا على التوفيق بين الفريقين حتى تنصرف القوى إلى ما يعود على المسلمين

بالخير؟ أفيدوا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

... محمد حلمي نور الدين

...

...

...

... بتفتيش ري الجيزة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة على سيدنا محمد، وعلى آله

وصحبه:

(1)

قرأت ما دار بين الكتاب الفضلاء على صفحات المجلتين المذكورتين

وكثير من حضراتهم أصدقاء لنا، وكلهم يعمل لخدمة الدعوة الإسلامية ويرجو

للمسلمين النهوض من كبوتهم والإقالة من عثرتهم مخلصًا من قلبه، والحق أني أنا

شخصيًّا لا أفهم معنى لإثارة هذا الموضوع في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى

الوحدة والتآزر على إحياء تعاليم الإسلام في نفوس المسلمين.

إن الفريقين مؤمنان أعمق الإيمان بأن ما جاء من هذه الآيات وما صح من

الأحاديث التي تعرضت لصفات الباري عز وجل كلها حق لا جدال في صدقها ولا

خلاف، فقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) و {يَدُ اللَّهِ

فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} (القصص: 88)

و {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18) وكل ما نحا هذا المنحى من الآيات

والأحاديث التي تثبت صحتها فنيًّا، كل ذلك موضع إيمان وتصديق وتسليم من

الفريقين كليهما.

الفريقان كذلك مؤمنان أعمق الإيمان بأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ

السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 4) كل ذلك حق لا مرية فيه، فلا يشبه الباري أحدًا من خلقه في

شيء من صفاته، ولا يشبهه أحد من هؤلاء الخلق كذلك. وحقيقة ثالثة يؤمن بها

الفريقان أيضًا وهي أن ذات الباري - جل وعلا - وصفاته فوق متناول إدراك

العقل البشري الصغير الذي يعجز عن معرفة حقائق ما حوله من عالم الحس فضلاً

عن عالم الروح فضلاً عن الملأ الأعلى فضلاً عن ذات الله - جل وعلا - وصفاته.

وأسوق هنا قول شارل ريشيه المدرس بجامعة الطب في فرنسا سابقًا في

مقدمة كتاب (الظواهر النفسية) .

(لماذا لا نصرخ بصوت جهوري أن كل العلم الذي نفخر به إلى هذا الحد

ليس إلا إدراكًا لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت مداركنا. إن

حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد معها يفلت من شعورها الوجود كل

الإفلات) .

بل قول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين - {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ

العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .

هذه الحقائق المقررة والمسلَّم بها من الطرفين تجعل الخلاف لا معنى له،

فماذا على كل منهما لو قال (استوى الله على عرشه استواء تعجز عقولنا عن

إدراك حقيقته مع علمنا بأنه لن يكون كاستواء الخلق) وبذلك نرد علم الحقائق لله

تبارك وتعالى ونُصيب بذلك الحق؛ لأن الحق هو أننا في هذا جهلاء أتم

الجهل، وماذا علينا لو سلكنا هذه الطريقة في كل ما ورد على هذا النحو (فيد الله

التي ذكرها في كتابه بأنها من صفاته تعذر عقولنا عن إدراك حقيقتها مع علمنا التام

بأنها لن تكون كأيدينا) وهكذا.

وقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى الواجب في مثل هذه المعاني،

ووضع لنا أساس النظر فيها، فقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ

مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ

مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ

آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) فتأمل

قوله - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل

عمران: 7) لتعلم هل لنا أن نخوض ونفيض، أم أن الرسوخ في العلم أن نقول

آمنا به كل من عند ربنا؟

استطراد:

لقد أتى على المسلمين حين من الدهر في عصر الانتقال الأول حين نقلتهم

حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله صلى الله عليه

وسلم والأئمة الراشدين المهديين من بعده، حيث كان هم المسلم إذ ذاك أن يؤدي

فريضة ربه ويراقب دخيلة نفسه ويقيم من نفسه حارسًا يحاسبه على كل عمله ثم

يمضى في البلاد مجاهدًا في سبيل الله يعرض روحه على الموت في اليوم ألف مرة

فلا يظفر إلا بالحياة العزيزة، وينشر لواء الله في العالمين حتى يدركه الأجل،

فيودع الدنيا شهيدًا سعيدًا، حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع

بمظاهر دنياهم الجديدة، والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع، والاستفادة من ثمار

هذه الحضارات والمدن التي اتصلوا بها ودخلت عليهم آثارها من كل مكان عمرانية

واجتماعية وثقافية وعلمية، فترجموا العلوم الأجنبية وتوسعوا في البحث فيها

ومزجوا كثيرًا منها بتعاليم الدين السمحة السهلة، فسلكوا بدينهم مسلكًا فلسفيًّا قياسيًّا

وقد جاءهم فطريًّا ربانيًّا نبويًّا فوق العلوم والفلسفات يخاطب الفطرة من غير وساطة

ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه.

في هذا الدور وفي وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين:

معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما،

وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة، فيذهب عنه جلال النبوة وروعة الوحي

وسماحة الفطرة، وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة فتنزل بذلك عن أخص

خصائصها؛ وإنما الفلسفة تفكير دائم متواصل فيه الخطأ وفيه الصواب، وفيه الشك

وفيه اليقين، والخطأ فيها سلم للإصابة والشك عندها باعث من بواعث الإيمان،

وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابًا كثيرة؛ فهم أهل الرأي

وهم أهل القياس وهم النظار وهم المتكلمون على تفاوت بينهم في هذه الألقاب وفي

مدى تطبيق هذه الآراء، ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدًا عن كل هذا يؤخذ

من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله، ويرجع في بيانه وتفصيله إلى الطريقة

التي فهمه عليها السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وليتناول العقل بعد ذلك ما

شاء من البحوث، ولتجر الفلسفة على أي غرار شاءت، وليخطئ العلماء الكونيون

أو يصيبوا ولكن في ثوب نظري بحت، قياسي بحت، لا يتناول عقائد الناس ولا

يمس عبادتهم ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم العقل بأحقيتها

وصدقها، وأطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه أهل الحديث أو

السلفيون أو أهل السنة أو أهل الأثر على تفاوت كذلك في هذه الألقاب وفي مدى

الأخذ بهذه الفكرة، ولا شك أن الحق مع هؤلاء، ولا شك أن المسلمين لو سلكوا

هذا السبيل ولم يشتغلوا بهذا الجدل ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة ودرجوا

على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكان لهم في ذلك الخير

كل الخير، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم

وتوزيع ملكهم ومجدهم، ولا شك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته

الآن يدعو المسلمين إلى الأخذ بهذا الرأي وهو ما نعمل عليه، وندعو إليه، ونسأل

الله المعونة فيه، وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه.

كان الأخذ والرد والجذب والشد قويًّا عنيفًا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا

الخلاف، وأنت خبير بأن خلافًا كهذا في صدر الإسلام أو قريبًا منه - ولما يمض

على المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم أكثر من قرن من الزمان، وهو

يتصل بالعقيدة وهي أغلى ما يدافع عنه الإنسان - لابد أن يصحبه من مظاهر

العنف الشيء الكثير وذلك ما كان؛ فقد تنابز الفريقان بالألقاب واشتد بينهما

التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة، ورمى بعضهم بعضًا بأعظم ما يتصور

من التهم، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة.

فأهل الرأي والنظر جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة لا يعرفون لهم ربًّا

ولا يثبتون له صفة، وأهل الحديث والأثر مشبِّهون مجسمون جامدون متعصبون لا

ينزهون الله ولا يقدرون عظمته قدرها ويضعونه في صفة خلقه.

وأُلقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة، وأُلفت كتب، وانتصر كل فريق

لرأيه، وبدت الحدة في كل ما قيل وما ألف؛ لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات

الخلاف.

كان ذلك في هذا الدور الذي ذكرت لك، ثم نقلت إلينا نحن الآن بعض هذه

الآثار والحال غير الحال، والموقف غير الموقف، والفرق غير الفرق.

ليس فينا أهل رأي وأهل حديث، وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل

خلاف بيني وبين بعض القارئين، فها هم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق،

فما معنى هذا النفي؟

ولكني أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذي

شجر فيه هذا الخلاف بين المسلمين، وأن المشاكل والأفكار التي تشغلنا الآن غير

تلك المشاكل والأفكار، وأن الخلاف في هذه المسائل محصور في نطاق لا يكاد

يذكر في بعض المجالس وفي جدران بعض الهيئات، حتى الأزهر نفسه - وتلك

مهمته - مشغول عن هذا الخلاف.

الأمة الآن معسكرات مختلفة، لكل معسكر فكرته التي يدعو إليها وينادي بها،

فهناك المعسكر الذي يدعو إلى الاندفاع وراء الأفكار والمظاهر الغربية في كل

شيء، وهناك المعسكر الذي يثير المعنى القومي وحده في النفوس ويريد أن يجعله

أساسًا للنهوض، وهناك المعسكر الذي يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل

السياسية البحتة التي يراد بها استقرار الحكم في الداخل وحفظ الكرامة في الخارج

ولا يعنيه إلا هذا، وهناك معسكرات غير هذه، ومن وراء ذلك كله معسكر محمدي

قرآني يهيب بكل هؤلاء إن الإسلام كفل لكم من السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا

إليه.

أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين: الأولى أننا ليس بيننا في

حقيقة الأمر خلاف كالذي بين الفلاسفة والسلفيين في القديم فلا معنى للاحتجاج كذلك

بما قال هؤلاء وأولئك، وأولى لنا جميعًا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه وما كان

من أهله في ذمة التاريخ ونرجع جميعًا في ديننا إلى المعين الأصلي الذي ما زال

وسيظل صافيًا نقيًّا، لا تكدره الحوادث، ولا ينال منه الزمن، ولا يزعزعه

الخلاف، ذلك هو كتاب الله وسنه رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم.

(والثانية) أن ننصرف - في صف مؤمن قوي موحد - إلى معالجة مشاكل

عصرنا، ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله، وتقوية معسكرنا معشر

المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي، فيعود

للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال.

وبعد - فذلك رأيي أيها السائل في موضع الخلاف.

2 -

أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد

السيارة، وأن تذاع هذه البحوث على العامة - فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما

فيه، وفي لين القول وحسن الخطاب مندوحة، وهذه بحوث دقيقة أولى بها أن تكون

بين أهل العلم في حلقهم الخاصة ومجالسهم المحصورة، وأذكر الفريقين بما رواه

البخاري في صحيحه عن علي - كرم الله وجهه -: (حدِّثوا الناس بما يعرفون،

أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟ !) .

وما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت بمحدث قومًا

حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) فإن كان ولا بد من الكلام في هذه

المباحث فليكن ذلك في قول لين وفي بحث هادئ، حتى لا تسرى عدوى الخلاف

والتهاتر من الخاصة إلى العوام وفي ذلك فساد كبير كما هو مشاهد في البلاد التي

تشتد فيها العصبية لبعض الآراء، أقول هذا وأنا أعلم ما سيقال حول هذا الكلام من

أن العقيدة أساس كل إصلاح وأن دين الله تبارك وتعالى جلي واضح لا خفاء

فيه، ولا يليق أن يكتم فيه شيء عن جميع الناس، وبأن هذه خصومة في الحق

وهي جائزة، وهذا هو الغضب لله وهو فضيلة، وهذا هو الدفاع عن دينه وهو

واجب، وهذا من الجهاد بالقول والقلم والقعود عنه إثم، فكيف يراد منا بعد هذا أن

ننصرف إلى إصلاح جزئي والعقيدة فاسدة؟ وكيف يراد منا أن نجعل هذا الكلام

خاصًّا ودين الله عام للناس جميعًا؟

وأحب أن أقول لمن يدور بفكره أو على لسانه وقلبه مثل هذا القول: احترس

أيها الأخ من خداع الألفاظ ومزالق الأسماء؛ فالعقيدة شيء، والخلاف في بعض

المسائل التي لا يمكن لإنسان أن يعرف حقيقتها شيء آخر، وأحكام الدين التي هي

عامة للناس جميعًا شيء والأسلوب الذي تؤدى به وتقدَّم للناس شيء غيرها،

والخصومة والغضب للدين شيء وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتنة بها شيء ثان،

ولم لا يكون هذا من الجدل المنهي عنه، ومن المراء الذي أغضب رسول الله أشد

الغضب على المتمارين، حتى جعله يقول:

(1)

(ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: {مَا

ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً} (الزخرف: 58) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال

الترمذي: حسن صحيح.

(2)

ويقول: (من ترك المراء وهو مبطل بُني له بيت في ربض الجنة،

ومن تركه وهو محق بُني له في وسطها، ومن حسن خلقه بُني له في أعلاها)

رواه أبو داود، والترمذي، والبيهقي، وغيرهم، وحسنه الترمذي.

(3)

وروى الطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،

قال: كنا جلوسًا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر، ينزع هذا بآية

وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما تفقأ في وجهه

حب الرمان، فقال: (ما هؤلاء، أبهذا بعثتم أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفارًا

يضرب بعضكم رقاب بعض) .

(4)

وعن أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك - رضي الله

عنهم -، قالوا: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتمارى

في شيء من أنباء الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال:

(مهلاً يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء لقلة خيره. ذروا

المراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا

المراء فكفى إثما ألا تزال مماريًا، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة،

ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن

ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة

الأوثان - المراء) رواه الطبراني في الكبير أيضًا، وقد يقال: إن المراء شيء وما

نحن فيه شيء آخر، فأقول: إن لم يكنه فهو نوع منه، ومن حام حول الحمى

أوشك أن يقع فيه، واتقاء الشبهات استبراء للدين، والورع أن تدع ما لا بأس به

مخافة الوقوع فيما فيه بأس، فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الإخوان؟

(3)

وأما العمل على التوفيق بين الفريقين فنعمَّا هو، وما أحبه إلى النفس،

وما أعظم فائدته، وإنا لمحاولون ذلك - إن شاء الله - وأعتقد أن كثيرًا من

المختلفين لو التقى بعضهم ببعض وتركوا طريقة التحاور الكتابي إلى طريقة التفاهم

الشفهي لأنتج هذا التعارف خيرًا كثيرًا، ولأدى إلى حل كثير من الخلافات في

هدوء وفي توفير للوقت والمجهود، وحينئذ يستطيع كل رئيس جماعة أن يتقدم إلى

جماعته برأي موحد أو بفكرة عامة فيؤدي ذلك إلى الوحدة المنشودة - إن شاء الله -

وسنترقب الفرصة المناسبة لمثل هذا الاجتماع فنعمل على تحقيقه - إن شاء الله -

والله حسبنا ونعم الوكيل.

...

...

...

...

... حسن البنا

مَنْ هم الإخوان المسلمون؟

وسائلٌ من هم الإخوان؟ هم فئة

باعوا النفوس لباريها عزيزات

هم غضبة ضرمت لله سورتها

فأرسلوها لظى للغاصب العاتي

هم ثورة حميت في الحق جذوتها

فجاهدت باطلًا حم الكتيبات

هم فيلق من جنود الله قد حملوا

لواءه فغدوا نور الدجنات

عزت أخوتهم في الله فانقطعت

من السرائر أسباب الخلافات

يوحدون قلوب المؤمنين لكي

تزداد أمتهم بالله قوات

حتى إذا استمسكت أوصالها

وغدا بنيانها محكمًا صلب العلاقات

تقدموها إلى اليوم الرهيب وللقر

آن في يدهم لمع المضيئات

...

...

...

عن ديوان البواكير لعابدين

_________

ص: 19

الكاتب: عبد الله أمين

‌نشأة المنار والحاجة إليه

للأستاذ عبد الله أمين

المدرس بمدرسة المعلمين بعبد العزيز بالقاهرة

(1)

حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار.

(2)

حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار.

(3)

دعاة الإصلاح قبيل ظهور المنار.

(4)

صاحب المنار قبيل ظهور المنار.

(5)

البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره.

(6)

وجهة صاحب المنار في تحريره المنار.

(7)

بقاء البواعث على إصدار المنار.

(8)

المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها.

(9)

حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته.

(10)

محاولة لإحياء المنار.

(11)

محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى.

* * *

(1)

حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار:

كان العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار لأربعين سنة هجرية خلت يهيم في ليل

دامس وظلام طامس من الضعف والاضمحلال في حياته العلمية، والفنية، والأدبية

وفي مرافقه الزراعية، والصناعية، والتجارية، وفي نظمه الاجتماعية والمنزلية

والحكومية، وفي تقاليده وعاداته وآدابه، وفي أخلاقه وعقائده وشعائره الدينية،

وكان يرسف في قيود الاستبداد وأغلال الاستعباد، وقد قطعت السياسة والمذاهب

الدينية أواصر شعوبه فتفرقوا طرائق وتمزقوا حذائق، وبسط الأجانب عليهم

سلطانهم الاقتصادي والأدبي والعلمي والفني والسياسي، وأصبحوا عبيداً أرقاء بعد

أن كانوا سادة أعزاء.

* * *

(2)

حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار:

وكان الدين الإسلامي نفسه مبتلى بشر المحن وأقساها:

(1)

منها البدع والخرافات والأوهام، والضلالات التي ابتدعها المسلمون

بالاستحسان والاستقباح على مثال ما ورثوه عن آبائهم السابقين الأقدمين، فغيرت

مظاهره، وحجبت أنواره، وكانت شرًّا عليه من كل شر؛ إذ نفَّرت منه كثيرًا من

أنصاره وأعانت عليه كثيرًا من أعدائه.

(2)

ومنها مطاعن خصومه من السياسيين الذين حكموا عليه ظلمًا وعدوانًا

بأنه دين تأخر وانحطاط لتأخر المسلمين واضمحلالهم، والحقيقة أنه دين قوة ورفعة

وعزة، وما ابتلي المسلمون بالضعف والاضمحلال إلا لانحرافهم عنه وتنكبهم سبيله

القويم وصراطه المستقيم.

(3)

ومنها حرب المبشرين بالمسيحية، الذين تؤيدهم دول الاستعمار العاتية

القوية بساستها وبجنودها وبأموالها؛ لأن الإسلام - وهو دين سيادة وعزة - أكبر

عائق لهم عن الاستعمار.

(4)

ومنها قعود علمائه حينئذ عن رد المطاعن والشبهات عنه، وعن تحريره

من البدع والخرافات، بل ومشاركتهم العامة في كثير منها.

(5)

ومنها شبهات الملحدين الخارجين على الأديان، وهؤلاء منهم الجاهل

الذي غلبته شهوته وشقوته وسئم قيود الدين وتكاليفه فأخذ يحاربه ليتخلص منه،

ومنهم المفتون بأمور ظنية في العلوم يخيل إليه أنها لا تجتمع هي والدين، على

حين أنها لو صارت يقينية ما زعزعت أركان الدين.

* * *

(3)

دعاة الإصلاح قبل ظهور المنار:

وفي هذا الظلام الحالك وفي إبان هذا النوم العميق الذي يشبه الموت تألق في

سماء العالم الإسلامي قمر الإسلام المنير حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني،

ثم ما لبث أن تلألأ بجانبه نجم الإسلام الثاقب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

المصري، وأخذا يجاهدان أعظم جهاد في حرب الاستبداد والمستبدين، والاستعمار

والمستعمرين، والضلالات والمضلين، والغفلة والغافلين، ويهزان العالم بصوتيهما

على المنابر وفي مجلة العروة الوثقى حتى انقشع الظلام، واستيقظ النيام، وذعر

المستعمرون والمستبدون، وأيقنوا أن للإسلام نورًا لا يطفأ، وحمى لايوطأ، وحماة

غلابين لا تلين لهم قناة، ولا تهزم لهم كتيبة:

فإن نغلب فغلابون قدمًا

وإن نغلب فغير مغلبينا

* * *

(4)

صاحب المنار قبيل ظهور المنار:

وكان السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه حينئذ عالمًا ناشئًا تقيًّا

غيورًا متحمسًا شجاعاً حاد الذهن كثير العلم والأدب سليم الفطرة لم يبتل بما ابتلي

به أمثاله من التورط في الضلال والخبل، بل نشأ محبًّا للإصلاح بصيرًا به

وبالحاجة إليه، وأخذ يجول ويصول في ميدانه بسوريا جولات صادقات، وما بلغته

دعوة الإمامين الحكيمين الإصلاحية إلا ملكت عليه قلبه وعقله جميعًا؛ إذ كانت هي

ضالته المنشودة، فما أطاق بعدها صبرًا على السكوت، وأخذ ينظر يمينًا وشمالاً

فلا يجد للعالم الإسلامي كله صحيفة إسلامية إصلاحية بعد مجلة العروة الوثقى.

* * *

(5)

البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره:

فكانت كل هذه الأمور مجتمعة؛ وهي ما انتاب العالم الإسلامي من اضمحلال

وما أصاب الإسلام من عدوان خصومه وخذلان أنصاره، وقيام الإمامين الحكيمين

بالدعوة إلى الإصلاح، وما فطر عليه السيد الإمام صاحب المنار من الغيرة على

الإسلام، وما تعلق به من حب الإصلاح، كانت هذه الأمور هي البواعث التي

دفعت صاحب المنار إلى القدوم إلى مصر، وكانت تزدان حينئذ بالأستاذ الإمام

الشيخ محمد عبده - قدس الله روحه ونور ضريحه - وكانت أكفل للحرية،

وأخصب للدعوة، وأرحب صدرًا من سوريا وإلى إنشاء المنار فيها ومواظبته وجده

واجتهاده في تحريره ونشره حوالي أربعين سنة هجرية لم تفتر له فيها همة، ولم

تلن له فيها قناة، ولم ينثن له عزم حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا.

* * *

(6)

وجهة صاحب المنار في تحريره المنار:

ولما كان الاضمحلال الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب وليد فساد أخلاقهم

وعقائدهم، وكان فساد أخلاقهم وعقائدهم وليد انحرافهم عن أصل دينهم، وكان الله

لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لما كان كل ذلك ما لبث جهد السيد الإمام

محمد رشيد رضا رضي الله عنه أن انصرف كله إلى رد المسلمين إلى أصل دينهم

لتصلح بذلك عقائدهم وأخلاقهم، وبصلاح عقائدهم وأخلاقهم تصلح كل أمورهم

الدينية والدنيوية.

وذلك الإصلاح لا يكون إلا بإشهار حرب عوان على الفساد والمفسدين،

والبدع والمبتدعين، والإلحاد والملحدين، والمشتبهات والمشتبه عليهم، وسد أبوابها

على المسلمين بالاعتماد في بيان أحكام الدين وفضائله على الكتاب والسنة، وعلى

تأويل الأئمة المجتهدين، وعلى نقد ما خالف الكتاب والسنة من تأويلهم وتأويل

غيرهم، وبما فتح الله له من أبواب الفهم السديد الصائب المنقطع النظير، فأبلى في

هذه الحرب بلاءً عظيمًا ولبث يجاهد فيها كل هذا الزمن الطويل، ولقي فيها عنتًا

وأذى كثيرين فما وهن ولا استكان، حتى استشهد في ميدان الجهاد بعد أن أصدر

من المنار أربعًا وثلاثين مجلدة وجزءًا من المجلدة الخامسة والثلاثين وليس بجانبه

صحيفة واحدة إسلامية إصلاحية تشد أزره وتشركه في أمره، وبعد أن انتصر على

أعيان الابتداع والإلحاد والهدم، وبعد أن أصبح المنار أداة لا غنى عنها للدفاع عن

الإسلام والمسلمين وحمياتهما من عدوان المعتدين.

* * *

(7)

بقاء البواعث على إصدار المنار:

فإذا كان الإمام السيد محمد رشيد صاحب المنار - رضى الله عنه وأرضاه -

قد مات، فهل ماتت بموته الحاجة إلى المنار؟ هل ماتت البدع ومات المبتدعون؟

هل مات الإلحاد والملحدون؟ وهل ماتت المشتبهات ومات المشتبه عليهم؟ وهل

ماتت الرذائل والمنكرات ومات أنصارهما؟ كلا. ما مات هؤلاء ولا هؤلاء، بل

لا يزالون أحياء يحاربون الله ورسوله والإسلام والمسلمين، وما ماتت البدع

والمنكرات وغيرها، بل لا تزال في تناسل وتكاثر ونماء وقوة، فلم يكن لدولة

المنكر في أي عصر مضى من الأعوان الأقوياء الأعزاء المسخرين مثل ما لها الآن.

أكان للخمر والملاهي من الأنصار ومن الموائد والأندية والحفلات والمنازل

والدعاية الطويلة العريضة في الصحف على اختلاف ألوانها ومنازعها - إلا القليل

النادر منها - مثل ما لها الآن؟ أكان تهتك النساء وفجورهن من مظاهر الخيالة

والمسارح والشواطئ وغيرها مثل ما لها الآن؟ أكانت الصحف - إلا القليل منها - لا

تصدر إلا إذا فخرت وتاهت بتحلية صدورها بصور العاريات الخليعات من النساء

الفواجر؟ أكانت دور الخيالة تملأ الرحب من الأرض وتعرض فيها مثل ما يعرض

الآن من مناظر مغرية بالفسق والفجور وارتكاب عظائم الأمور كما انتشرت الآن؟

أكانت الصحف تتبارى وتتنافس في الدعاية الطويلة العريضة للممثلات كما تفعل

الآن؟ ألم يكن كل ذلك وما هو شر من ذلك آلاف المرات في حاجة إلى صحيفة

كصحيفة المنار؟

* * *

(8)

المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها منه:

ليس في العالم الإسلامي كله مجلة إصلاحية يظن أنها تحل محل مجلة المنار

إلا مجلة الأزهر ، وهذه - لسوء الحظ، قبل عهد مولانا الأستاذ الإمام المصلح

الشيخ محمد مصطفى المراغي - كانت حربًا على المنار لا عونًا له، ثم هي الآن لا

تغني عنه لأنهم مرآة صادقة لمعهد لا يزال في طور انتقال من عهد اضمحلال مضى

عليه قرون إلى عهد قوة ورفعة بسعي مولانا الأستاذ الإمام المصلح الشيخ المراغي،

فهي مجلة رسمية وفي عهد انتقال لا قبل لها بالحرية المطلقة التي لمجلة المنار

المطلقة من كل قيد إلا قيود الكتاب والسنة، ولو قدر لمجلة الأزهر والمنار في

عهدهم الحديث أن تكونا فرسَيْ رِهان في نصرة الإصلاح الديني والاجتماعي ما

كانتا كبيرتين على العالم الإسلامي، بل ولا عشرات المجلات من نوعهما، فأهلاً

وسهلاً بهما.

* * *

(9)

المسئولون عن إصدار المنار:

وإذن لم يكن العالم الإسلامي ولا الإسلام نفسه في غنى عن المنار، فإن

المسئول عن إصداره وإحيائه هم أنصاره وأحباؤه، فقد أصبح أمانة في أعناقهم دون

غيرهم من المسلمين، لا تبرأ ذمتهم منه إلا إذا أحسنوا القيام عليه وأصدروه، فإذا

قام بذلك ولو واحد منهم فقد سقط عن الباقين لأنه من فروض الكفاية. وإن صاحب

المنار ومناره فينا كرجل قوي البنية مفتول الساعدين حفر لنا بئرًا عذبًا ماؤها وليس

لنا ما نستقي منه غيرها وبقى طوال حياته يخرج لنا ماءها بسواعده، أفإن مات

طمسنا البئر، وحطمنا الدلاء، وأمسكنا عن الاستقاء حتى نموت عطشًا لأننا لا نجد

فينا رجلاً مثله قوة جسم، وقوة إرادة، وعزيمة، أم يجب علينا حفظًا لحياتنا أن

نحرص كل الحرص على سلامة البئر، وأن نتعاون على إخراج مائها والارتواء به؟

* * *

(10)

حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته:

يقول بعض الأنصار إن المنار مجلة ذاتية؛ حيت بحياة صاحبها الذي استقل

بتحريرها حوالي أربعين سنة هجرية نسجها فيها على منواله، وصبغها بصبغته،

وقدها على مثاله، فأصبحت لا تصلح لغيره ولا يصلح لها أحد من بعده، فلا بد أن

تموت بموته ويجب أن ندعها تموت. وهذا ليس من المنطق السليم في شيء؛ إذ

أن الحياة - ولو كانت ناقصة - خير من الموت، فإن الأطباء لا يمكن أن يدعوا

إنسانًا فقد بعض أعضائه أو كُسِرَها يموت وفي إنقاذه أمل حتى ينقذوه ولو كانت

حياته بعد ذلك شرًّا له ولآله من موته، فكيف ندع المنار صحيفة العالم الإسلامي

يموت ونحن موقنون أن في حياته خيرًا محققًا لا لشيء إلا لأن هذا الخير دون ما

كان له من الخير في حياة منشئه رضى الله عنه وأرضاه؟ كيف ندعه يموت على

مرأى ومسمع من العالم الإسلامي وفيه من يستطيع أن يحييه، ولو بعض الحياة؟

كيف ندعه يموت وقد سن له صاحبه طريق الحياة من بعده؛ إذ فتح في العدد

الأخير من المجلدة الرابعة والثلاثين - وهي آخر المجلدات - أبوابًا جديدة له،

ودعا إلى الكتابة فيها أنصاره؟ وفي مصر وحدها مئات القادرين على الكتابة في

هذه الأبواب بإتقان وإجادة.

* * *

(11)

محاولة لإحياء المنار:

لن يموت المنار ولن ينسى - إن شاء الله تعالى - مادام وراءه أنصاره

ومحبوه، ولقد حاولت دار المنار جاهدة إحياء المنار، وعهدت بذلك إلى حضرة

السيد محيى الدين رضا ابن أخي الفقيد العزيز والمحرر في المقطم الأغر؛ غير أن

هذه المحاولة كانت عسيرة لأن المنار أصعب من أن ينهض به إنسان واحد كالسيد

محيى الدين أفندي ليس في جهده ولا في ماله ولا في أوقاته فضل ينفقه في إحياء

المنار وإصداره؛ ولذلك لم يلبث أن مات مرة أخرى.

* * *

(12)

محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى:

ولقد سُرت الدار سرورًا عظيمًا حينما تقدمت جماعة الإخوان المسلمين وعلى

رأسها الأستاذ الكبير حسن البنا طالبة منها أن تتولى إصدار المنار؛ وذلك لما تعهده

في هذه الجماعة من الإخلاص والجد في خدمة الدين والفضيلة، وما تتوسمه فيها

من القدرة على إصدار المنار - إن شاء الله تعالى - في ثوب قشيب نافع، وما تؤمله

من استمرار صدوره.

وإني لأرجو - وقد حيَّ المنار ومات ثم حيَّ ومات - أن يحيا - إن شاء الله

تعالى - هذه المرة، وألا يموت بعدها أبدًا، وأن يثبت الله سبحانه وتعالى

أقدام جماعة الإخوان المسلمين ويهديهم وإيانا سبل الرشاد، وأن يوفقهم لأصلح

الأعمال، ويقدرهم على إصدار المنار ونشره، وعلى إبقائه حيًّا أبد الدهر، إنه

سميع مجيب.

...

...

...

... عبد الله أمين

_________

ص: 27