الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد توفيق علي
الهمزية في مدح خير البرية
والدفاع عن الدين، والرد على المبشرين
(نظمت بمناسبة احتفال الأمة الإسلامية بالمولد الشريف لعام 1354)
بقلم (الأديب الشاعر) اليوزباشى محمد توفيق علي
النور المحمدي - الشريعة السمحة - تحريم الخمر - نجاسة الكلب
والخنزير - حكمة الطلاق - حكمة تعدد الزوجات - تبشير الإنجيل والتوراة بنبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم المبشرون بعيسى صلى الله عليه وسلم نقائض معقدة - مقارنة بين معجزات المسيح ومعجزات غيره من الأنبياء والرسل - وجوب توحيد الخالق جلَّ وعلا - التجاء الناظم إليه تعالى.
* * *
النور المحمدي
ذلك النور ساطعًا والضياء
…
وصفه عنه يقصر البلغاء
نور من سبح الحصى في يديه
…
وجرى منهما وفاض الماء
أكمل الخلق صورة يبدع اللـ
…
ـه تعالى من نوره ما يشاء
مرسل جاوز السموات سبعًا
…
وإليه تناهت العلياء
وارتقى حيث لا ملائكة اللـ
…
ـه تعالى ارتقت ولا الأنبياء
صاعدًا في معارج القرب يحدو
…
هـ السنا ضافيًا ويغشى البهاء
ذو محيا يصبو له البدر عشقًا
…
وله تنتمي ضياءً ذكاء
رحمة كله وعلم وحلم
…
ووقار ونجدة وسخاء
مثل من أنجبت (كريمة وهب)
…
لم تلد عاقر ولا عذراء
* * *
الشريعة السمحة
ذو أتى بالنعيم ذكرًا حكيمًا
…
فإذا الأرض جنة والسماء
وحيه للعقول رَوح وريحا
…
ن وفيه من كل داء شفاء
آية منه تعجز الإنس والجـ
…
ـن ولو أن كلهم فصحاء
لم يكذب موسى وعيسى، وبغيًا
…
كذبته الشرور والأهواء
كيف تأتي على الشرائع آيا
…
ت وِضاءٌ وسمحة غرَّاء
وكتاب مفصل عربي
…
ليس يرضى بذلك البخلاء
كلما يرتقي الزمان يرى الخيـ
…
ـر أفاضته ملة سَحَّاء
سكبت صفوة الشرائع في كأ
…
س بها ترتوي العقول الظماء
* * *
الخمر
وأشهد اليوم ضجة تنكر الخمـ
…
ـر وكأس عنها سلا الندماء
بؤرة الشر والجرائر والآثام
…
أفتى بذلك الحكماء
رب بيت أقامت الخمر فيه
…
أجفلت عن رواقه السراء
فالعقول اشتكت إلى الله منها
…
والكلى والكبود والأحشاء
حرمتها دهرًا حكومة أمريـ
…
ـكا ونادى برجسها الفضلاء
ثم عادت تلغي أوامرها بعـ
…
ـد اهتداء وضلت الآراء
وسيأتي يوم قريب تزول الـ
…
ـخمر فيه وتصرع الفحشاء
ويرى الناس أن شرع أبي القا
…
سِمِ خير ونعمة وهناء
* * *
الكلاب والخنازير
أثبت الطب فضل شرعك والمجـ
…
ـهر والباحثون والعلماء
فلعاب الكلاب سم زعاف
…
ولحام الخنزير داء عياء [1]
* * *
الطلاق
واشتراع الله الطلاق أصبح في الـ
…
ـدنيا مباحًا يقرّه الفقهاء
عانقته كرهًا محاكم أوربا
…
ونادى بنفعه الأذكياء
كيف عيش الزوجين خانهما الـ
…
ـحب ولج الأذى وحال الصفاء
أعدوَّان يقرنان بحبل؟
…
حالة لا يطيقها السجناء
* * *
تعدد الزوجات
(جنسهن اللطيف) يزداد عدًّا
…
ذلكم ما يقوله الإحصاء [2]
فغدا اليوم الاجتماع مريضًا
…
واعتناق الزوجات فيه الدواء
ليس في غيرة النساء من المحـ
…
ـظور ما تستثيره البأساء
كيف تقوى فُضلى على عنت الدهـ
…
ـر وما قد يجره الإغواء
فتراهن من ثلاث ومثنى
…
ورباع شعارهن الإخاء
فمن العدل بينهن وفاق
…
والمساواة ألفة وهناء
وهو فرض على المعدِّد لا يقـ
…
ـوى على حمل ثقله الضعفاء
إن في رفق شرع أحمد بالأنـ
…
ـثى لفضلاً يجلّه الشرفاء
وقديمًا حمى الضعاف ونجّا
…
هن مما يخفنه الأقوياء
* * *
تبشير الإنجيل والتوراة بنبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم
عظُمت تلكمو الأناجيل والتو
…
راة لولا تقوُّلٌ واجتراء
أيّ عهد، لكنهم ضيعوه
…
إنما يحفظ العهودَ الوفاء
بدلوا الوحي والرسالة إطفاء
…
لنور ما إن له إطفاء
شهد الصادق المسيح عليهم
…
في الأناجيل أنهم أشقياء
في ثياب الحملان منهم ذئاب
…
خاطفات فما همو أنبياء
فاحذروهم وإن أتوا بالأعاجيب
…
فليسوا مني وهم أدعياء
لست أرضى من قال يا رب منهم
…
لي ولكن يرضيني الحنفاء
ذلكم ما رواه إنجيل (متّى)
…
فليراجع نصوصه القراء [3]
* * *
المبشرون بعيسى
عجبًا للمبشرين بعيسى
…
أمةً دينها الهدى والصفاء
بعد ما بشر المسيح بهاديها
…
كما بشرت به الأنبياء
فهو (نور الحق) الذي لفت النا
…
س إليه المسيح وهو (العزاء)
وليراجع من شاء إنجيل (يوحنا)
…
ففيه للباحثين الرضاء [4]
وهو ذاك النبي يسأل في الإنـ
…
ـجيل عنه يحيى فأين الخفاء [5]
فلقد بشرت ببعثته التو
…
راة لولا جحودهم والمراء
فهو ذو من (جبال فاران) مبعو
…
ث ومن تلكم الجبال (حراء)[6]
أينع الوحي وازدهى في ذراه
…
وتغنى فأطرب الإنشاء
وتجلى على البسيطة نور
…
وكسا الكون رونق ورواء
حِكَمٌ حين أُنزلت ختم الوحـ
…
ـي وتمت على الورى النعماء
وطوت معجزاتِ كل رسول
…
ولها الخلد وحدها والبقاء
* * *
نقائض معقدة
يا لها من نقائض تحرج الفهـ
…
ـم عليها لَبسٌ وفيها التواء
واعتقاد مُعقد ذَنَب الضَّبِّ
…
لديه محجة واستواء
يُصلَب الرب في خطيئة عبد
…
كيف يرضى بذلك العقلاء
لِمَ لَمْ يغفر الخطيئة غفرا
…
نًا له فيه عزة وإباء
إن يكن ربَّكم فمن كان يدعو
…
ربه وهو خاشع بكّاء
أإله في وجهه يبصق الأشرار
…
هزؤًا ويزدرَى ويُساء
لِمَ لَمْ يُقطِّع اليهود أبوه
…
كيف تنسى حنوَّها الآباء
وبِكَمْ باع ذا الجلال يهوذا
…
واشترى منه ربَّه الأعداء
(أثلاثون فضة) ثمن الله
…
تخطاه بيعهم والشراء
بل أحبوك مسرفين وغالَوْا
…
في ولاءٍ هُداك منه براء
***
مقارنة بين معجزات المسيح وغيره من الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام
أم لأن المسيح قد أنجبته
…
ذات طهر صِدِّيقة عذراء
مثله آدم: فهل كان ربًّا
…
آدم؟ أو إلهة حواء؟
أم لأن المسيح أحيا فتاة
…
إذ دعا اللهَ فاستُجيب الدعاء
" حزقيال " النبي أنشر جيشًا
…
عاث في البلى وجال الفناء [7]
أم مشى فوق لجة يتهادى
…
فارعوى خاشعًا وقرَّ الماء
فالعصا قد علمتم انفلق البحر
…
لموسى بها وحل القضاء [8]
وله البينات والجبل المنتوق
…
والمن واليد البيضاء
ولخير الورى المكمل صلى
…
الله
…
والمتقون والأصفياء
معجزات ما أن يلم بها الحصـ ـر ولايستطيعها استقصاء
نصرته الرياح والرعب في (الخنـ
…
ـدق) حتى تشتت الحلفاء [9]
وتراءى جبريل يسطع في (بد
…
ر) تليه كتيبة شهباء
وله الجذع حنَّ والقمر انشـ
…
ـق وظهر البراق والإسراء
ومشت أيكة إليه دعاها
…
تسحب الجذع غضة خضراء
ولكَم سحّ -إذ دعا ربه- الغيث
…
ولانت لوطئه صفواء [10]
ما له إن مشى على الأرض ظل
…
ساطع النور ما له أفياء [11]
وظللته -بل منه ظللت- الشمس
…
لزامًا غمامة وطْفاء [12]
كم دعا الله والغذاء قليل
…
فنما واستفاض ذاك الغذاء
* * *
وجوب توحيد الخالق جل وعلا
آن للأرض أن تقدس ربًّا
…
واحد الذات ما له أجزاء
آدم عنده ونوح وموسى
…
والمسيح الذي نجلّ سواء
وغنيٌّ عن العباد جميعًا
…
ما له زوجة ولا أبناء
وله الخلق أجمعون عبيد
…
وله المجد كله والبهاء
ورءوس الطغاة موطئ نعليـ
…
ـه [13] وتلك الجلالة القعساء
ملأ الكائنات حسنًا ولكن
…
لا ترى الشمسَ مقلةٌ عمياء
فهو نور سطا على كل نور
…
خفيت في ظهوره الأشياء
تتلاشى الشموس فيه وتخبو
…
وتغيب البروج والأضواء
أيها المشرك المعدِّد وحِّد
…
إن قول المعددين هُراء
لو مع الله في السموات والأ
…
رض شريك لقامت الشحناء
بل هو الله واحد ما له في الـ
…
ـمُلك ثانٍ ولا له أكفاء
أيها الجاحد المعطل صدِّق
…
لا يكن من هداتك الأغبياء
وانظر الأرض والسماء وفكِّر
…
هل بلا صانع يقوم البناء؟
إنما الأرض ذرة في رحيب الـ
…
ـمُلك فالملك شاسع والفضاء
فاعبد الله -لست شيئًا- ولا تكـ
…
ـفُر وتذهب بلبِّك الخيلاء
أنت رد على جحودك قاض
…
فصلته العروق والأعضاء
* * *
التجاء الناظم إليه تعالى
ما الذي تبلغ النوائب مني
…
يا مليكى ولي إليك التجاء
أنت درعي وأنت سيفي ورمحي
…
ونبالي وعسكري واللواء
لا أبالي وذو الجلال نصيري
…
أن خصمي الملوك والوزراء
لست بالأقوياء أحفل لكن
…
إن شكاني لعدلك الضعفاء
لك يا رب بطشة إن تعاقب
…
عندها الأرض والسماء هباء
إن تكن غاضبًا عليّ تعاليـ
…
ـت فلا ناصر ولا شفعاء
عملي سيئ وظلمي لنفسي
…
ولغيري تضج منه السماء
أستحق الصليّ في النار لكن
…
لي في عفوك الكريم رجاء
ليس مثلي لجنة الخلد أهلاً
…
كيف ترنو لمذنب حوراء
ذلك الفضل في غنى عن طلوحي
…
إنما يستحقه الصلحاء
رُب نُعمى على جحود تولَّت
…
ما لنُعمى على جحود بقاء
كيف آسى على سرور تولى
…
ويَسارٍ أودت به ضراء
إن من كنتَ كنزه وغناه
…
يستوي الضيق عنده والرخاء
ليست الكيمياء منا بعيدًا
…
إنما حمد ربنا الكيمياء
لست أخشى ضلالة ولقلبي
…
بسنا وجهك الكريم اهتداء
فاهدنا للفلاح والخير والتقـ
…
ـوى فمنك الهدى ومنك الحِباء
واحمنا في بلادنا من أوربا
…
سيلها جارف ونحن الغثاء
(انتهى)
_________
(1)
انتشر إنشاء المستشفيات للمعالجة من داء الكلب، وأثبت العلم وجود ديدان سامة في لحم الخنزير لا تقتلها درجة الغليان.
(2)
ومن ذلك الإحصاء ما جاء بالصفحة السابعة بالعمود الخامس من جريدة الأهرام الغراء الصادرة في 3 - 5 - 1935 تحت عنوان (النساء كثيرات) من أنه يوجد في ألمانيا وحدها مليونان ومائتا ألف امرأة زيادة عما فيها من الرجال.
(3)
جاء بالإصحاح السابع من إنجيل متّى عدد 15 و 21 و 22 و 23 قول المسيح: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان لكنهم من داخل ذئاب خاطفة ليس من يقول لي: يا رب، يدخل ملكوت السماء، بل الذي يفعل: إرادة أبي الذي في السموات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) .
(4)
ورد بالإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا بالآيتين 26 و 27 قول المسيح عليه السلام: (ومتى جاء (المعزى) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب (روح الحق) الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضًا؛ لأنكم معي من الابتداء) وجاء بالإصحاح السادس عشر منه بالآية 6 قوله عليه السلام: (لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم (المعزي) وبالآيتين 13 و 14: (وأما متى جاء ذاك (روح الحق) فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به) .
(5)
(6) يحيى بن زكريا عليهما السلام وهو المعروف في الإنجيل باسم يوحنا المعمدان، فإنه لما جاء قومه - كما هو مذكور بإنجيل يوحنا بالإصحاح الأول بالآيات 19 و20 و21 و22 - وسألوه: آنت النبي؟ أجاب نفيًا، وهذا نص الآيات سالفة الذكر:(19 وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت 20 فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح 21 فسألوه: إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا) وإذًا فقد كانوا يترقبون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما هو مذكور عندهم بالتوراة من أنه يبعث رسول من جبال فاران، وهي جبال بمكة، منها جبل حراء الذي ما زال ينقطع فيه صلى الله عليه وسلم للعبادة إلى أن أوحي إليه.
(7)
من أنبياء بني إسرائيل وقصته مبسوطة في سفره من العهد القديم وليس بثابت عندنا.
(8)
المنتوق: المرفوع.
(9)
الحلفاء: قريش، وغطفان، ويهود.
(10)
الصفواء: الصخرة الملساء.
(11)
الأفياء: الظلال.
(12)
الوطفاء: المسترخية الجوانب لكثرة مائها.
(13)
المنار: هذا كناية عن قهره تعالى لهم، وهو تعبير يتوقف على النص، ولم يرد، ولكن ورد لفظ (القدم) في قهر جهنم.
الكاتب: محمد أحمد جاد المولى
ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن
بقلم الأستاذ الكبير محمد أحمد جاد المولى بك
كبيرمفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية
قد وضح للمنصفين من العلماء والباحثين أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق
هذا الخلق عبثًا، ولم يتخذه لهوًا ولعبًا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
لاعِبِينَ} (الأنبياء: 16) ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَاّ
بِالْحَقّ} (الحجر:85)، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) ، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: 36) ،
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) .
وسواء أريد بالعبادة ظاهرها، أم معرفة الله - كما ذهب ابن عباس رضي
الله عنهما - فالمعرفة لا تكون بدون عبادة، والعبادة لا تكون بدون معرفة.
لذلك كانت حاجة الناس إلى اهتداء بشريعة الذي فطرهم ضرورية وفوق
حاجتهم إلى كل شيء. ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب؟ ! مثلاً: فأهل
البدو كلهم، وأهل الكفور جميعهم، وعامة بني آدم لا يحتاجون إلى طبيب، وهم
أصح أبدانًا وأقوى طباعًا ممن هو متقيد بالطبيب من أهل المدن الجامعة.
ولقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل
قوم عادة وعرفًا في معالجة ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إن كثيرًا من أصول
الطب إنما أخذت من عادات الناس وعرفهم وتجاربهم.
أما الشريعة فقائمة على معرفة الإنسان مواقع رضا الله وسخطه في أعماله
الاختيارية، ولا طريق لهذه المعرفة إلا الوحي المحض، بخلاف الطب فمبناه على
تعرف المنافع والمضار التي للبدن وعليه، وأساسها التجارب والاختبار، وغاية ما
يقدر في جهل تلك المنافع والمضار موت البدن وتعطيل الروح عنه، وأما ما يقدر
عنه فقدان الشريعة ففساد النفس، وتنكبها الصراط السوي، وانغماسها في حمأة
الرذائل؛ مما يودي بها وبالمجتمع الذي تعيش فيه، وشتان بين هذا وهلاك البدن
بالموت.
فالناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم،
والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه،
وليس للعالم صلاح بدون ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز
الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر، وتاريخ الأمم الإسلامية أيام اعتصامها بحبل
الدين وتهاونها به، وما نراه في الأمم الغربية من الأمراض الاجتماعية والخلقية
المستعصية - مع سبقها وعلو كعبها في شئون المادة - شاهد على ذلك.
وما جاء به الرسول هو الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، وذلك هو الإسلام
وهو دين الله وشريعته في جميع الأمم منذ بدء الخلق حتى تقوم الساعة، وقد أخبر
الله بذلك في غير موضع من القرآن {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:
19) فدين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والرسل، وقوله -
تعالى -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم
ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريين كلهم دينهم الإسلام، وهو عبادة
الله وحده لا شريك له والاستسلام له ظاهرًا وباطنًا، وعدم الاستسلام لغيره، كما
قد بيَّن ذلك القرآن، فدينهم كلهم واحد وإن تنوعت شرائعهم. قال تعالى: {لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاًَ} (المائدة: 48) .
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الجاثية: 18-19) .
ولقد جاء القرآن الكريم والسنة الصحيحة بشرائع الإسلام الظاهرة وحقائق
الإيمان الباطلة، ففي مسلم عن عمر رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،
وتحج البيت؛ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن
بالقدر خيره وشره؛ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
فمن لم يقم بشرائع الإسلام الظاهرة امتنع أن يحصل له حقائق الإيمان الباطنة،
ومن حصلت له حقائق الإيمان الباطنة فلا بد أن يحصل له حقائق شرائع الإسلام
الظاهرة، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده؛ ومتى استقام الملك وصلح استقامت
جنوده وصلحت. في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إن
في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد
ألا وهي القلب) .
وإن أصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله أجمعين، وملاك ذلك الإيمان
بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم؛ فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله
ورسله.
وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، وذلك يستوجب
العذاب الأكبر. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) ، {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (القصص:
59) .
فالقانون السماوي سبب السعادة، ومن الخطأ الاعتياض عنه بالقانون الأرضي
الإنساني الذي لا يخلو - وإن توافقت عليه الآراء - من أغلاط وأخطاء، لا سيما
إذا كان ممن لا علم عندهم بمعاني كتاب الله، وسنة نبيه الداعي إلى الله على
بصيرة.
حقًّا، إن الاعتياض عن القانون السماوي بالقانون الأرضي من أعظم أسباب
المقت والحرمان، وأكبر موجبات العقوبة والخذلان؛ إذ هو اتخاذ لدين الله هزوًا
ولهوًا ولعبًا، وتبديل النقمة بنعمة الله، والكفران بالشكران. وشرع دين لم يأذن به
الله واتباع لغير سبيل المؤمنين مشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة لله ورسوله، وعشو
عن ذكر الرحمن، وإعراض عنه، إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا
تدخل تحت الحساب ولا تضبطها أقلام الكتاب. قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ} (إبراهيم:
28-
29) .
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . {أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ العَظِيمُ} (التوبة: 63) ، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) .
فإذا كان هذا حكم الباغين المحاربين الخارجين عن طاعة الإمام الذين شقوا
عصا الجماعة؛ فما بالك بمن دعا الناس كافة عربًا وعجمًا، مؤمنهم وكافرهم، إلى
قانون اخترعه هو أو غيره من جنس الخيالات الباطلة، فخرج هو - وأخرج به -
عن طاعة الله وطاعة الرسول، وحاربهما وحادهما وشاقهما بمخالفه أمرهما؟ بلى
وربك، فإنه رأس الفساد، وأم الشرور والخبائث، وما يعقله إلا العالمون.
وقد وسم الله من خالف أحكامه واتبع غيرها في أحكامه وأعماله بالظلم والكفر
والفسق، قال تعالى:{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1)
{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229) ، {وَمَن لَّمْ
يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ
صُدُوداً} (النساء: 60-61) .
قال أهل التحقيق من المفسرين: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من
معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله،
أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه به فيما
لا يعلمون أنه طاعة الله. فالقرآن يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله، وعدم تحكيم ما
عداه إما تصريحًا وإما تلويحًا، وله جاهد من جاهد، ويجاهد من يجاهد من عباد الله
المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم تقوم الساعة. فقد
صح عنه أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من
خذلهم ولا خلاف من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فبتحكيم ما أنزل الله يقوم العدل،
ويؤيد الملك، ويستقيم أمر المعاش والمعاد، وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية
التامة.
ومن شك فيما تقدم فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة
التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامها وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت
هي شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة وأوعى لها فإنه واجد الفرق كما بين
الثرى والثريا، وكما بين الأرض والسماء.
ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم
فتحوا ما فتحوا من الأقاليم، ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في نحو مائة سنة مع
قلة عدد المسلمين وعددهم وضيق ذات يدهم، ونحن مع كثرة عددنا ووفرة عُددنا
وهائل ثروتنا لا نزداد إلا ضعفًا وتقهقرًا وذلاًّ وحقارة في عيون الأعداء؛ وذلك
لأن من ينصر الله يُمكِّن له في الأرض، ويمده بنصر من عنده. قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وقد بين
الذين ينصرون دينه بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) .
_________