المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الوحي المحمدي - مجلة المنار - جـ ٣٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (35)

- ‌ربيع الأول - 1354ه

- ‌فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

- ‌حرمان البنات من الإرثوتعارض القرآن والإجماع

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

- ‌الهمزية في مدح خير البرية

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌شاعر العربالشيخ عبد المحسن الكاظمي

- ‌تفاقم شر الطلاق في أميركا

- ‌العقبة من الحجازفي عهد الدولة العثمانية

- ‌وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌سبب تأخر هذا الجزء من المناروسيكون ما بعده أكبر وأحسن

- ‌ربيع الآخر - 1354ه

- ‌سؤالان عن الربا في دار الحربوعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

- ‌الربا والزكاة والضرائبودار الحرب

- ‌فتاوى المنار

- ‌حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبرالشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌إلى فضيلة الأستاذ الأكبربمناسبة خطابه في حفلة التكريم

- ‌تفسير المنارالجزء الثاني عشر

- ‌نعي فقيد الإسلام والمسلمين

- ‌كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

- ‌كلمة لا بد منها

- ‌الوهابيونوالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌حفلة تأبين فقيد الإسلامالمرحوم السيد محمد رشيد رضا

- ‌خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

- ‌قصيدة الأستاذ الهراوي

- ‌خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

- ‌كلمة الأستاذ عبد السميع البطلفي حفلة تأبين الفقيد

- ‌خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

- ‌خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

- ‌قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظفي تأبين السيد الإمام

- ‌قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

- ‌تعزية الجمعية السورية العربية

- ‌مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

- ‌تعزية جمعية الرابطة العلوية

- ‌كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندرفي حفلة التأبين

- ‌تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

- ‌عواطف ابن زيداننحو فقيد الفضل والعرفان

- ‌وصف المقطم لحفلة التأبين

- ‌كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

- ‌كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

- ‌كلمة المجاهدين السوريين في الصحراءبوادي السرحان

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌المستشرقون والإسلام

- ‌الفصل الأولأسباب ونتائج

- ‌الفصل الثانيمحمد قبل البعث

- ‌الفصل الثالثالتحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

- ‌الفصل الرابعمحمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

- ‌الفصل الخامسالتوحيد هو روح الحرية

- ‌الفصل السادسأثر التوحيد الاجتماعي

- ‌الفصل السابعتعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

- ‌الفصل الثامنحكاية فنسنكوالمجمع اللغوي الملكي

- ‌الفصل التاسعحكاية فنسنك [

- ‌جمادى الآخرة - 1358ه

- ‌تصدير

- ‌في الميدان من جديد

- ‌بين طائفتين من المؤمنين

- ‌نشأة المنار والحاجة إليه

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌بين الشرق والغرب

- ‌ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

- ‌تطور الإسلام

- ‌صاحب المنارالسيد محمد رشيد رضا

- ‌فلسفة النفاقالمنافقون في فلسطين وحكمهم

- ‌كلمة الأستاذ الإمام في المنار

- ‌المنار والإصلاح

- ‌اتجاه محمود في الشرق العربي

- ‌ظهور المنار ودلالته

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌رجب - 1358ه

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌دعوى علم الغيبومنابذتها لأصول الإسلام

- ‌وصف الدنيا

- ‌الشيخ محمد عبده(1)

- ‌من كلام الإمامعلي رضي الله عنه

- ‌انتقاد المنارحول فتوى آيات الصفات وأحاديثها

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي

- ‌تعليق

- ‌السيد محمد رشيد رضا

- ‌ استحضار الأرواح

- ‌ربيع الأول - 1359ه

- ‌الأحمدية(القاديانية واللاهورية)

- ‌ماذا في إندونيسيا

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌في محيط الدعواتتحليل ومقارنة

- ‌مشكلة المرأة في مصر

- ‌ربيع الثاني - 1359ه

- ‌احتجاب المنار

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌خطيئة آدم

- ‌في محيط الدعوات(2)

- ‌براءة من القاديانية

- ‌الشيخ محمد عبده [*](2)

- ‌انتقاد المنار

- ‌السيد الكامل آل رضارحمه الله

- ‌جمادى الآخرة - 1359ه

- ‌ حكم الدخان والتنباك

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌السيد الإمام محمد رشيد رضاناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

- ‌من مشكاة النبوة

- ‌في الإسراء والمعراج

- ‌شعبان - 1359ه

- ‌أسرار البلاغة في علم البيان

- ‌ حكم الصلاة في النعلين

- ‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

- ‌المنار منذ عشرين سنة

- ‌المرأة المسلمة(2)

- ‌إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم

- ‌بيان الحكومة المصريةعن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة

- ‌من كلام الإمام علي في نهج البلاغة

الفصل: ‌كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الوحي المحمدي

(تصدير الطبعة الثالثة)

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد والشكر، إياه نعبد وإياه نستعين

أما بعد: فقد أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في موعد ذكرى مولد

النبي صلى الله عليه وسلم من ربيع الأول سنة 1352؛ تيمنًا بظهور نوره

المُشرق، الذي أضاء الكون كله، وإنما أضاءه بزوغ شمس هذا الوحي الإلهي،

ونزوله عليه؛ فما أتى على صدوره بضعة أشهر إلا وكانت نسخه قد نفدت،

فأعدت طبعه في تلك السنة منقحًا مزيدًا فيه قدر الثلث ونيفًا، ولولا خوف الملل

على القارئين لزدته ضعفًا أو أضعافًا؛ ولذلك وعدت بأن أجعل له ثانيًا، وأصدرت

الطبعة الثانية في يوم عرفة الذي أنزل الله عليه في حجة الوداع: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا} (المائدة: 3) تفاؤلاً

بتجديد هذا الكتاب لدعوته صلى الله عليه وسلم. فما جاء يوم عرفة الثاني

(سنة 1353) إلا وكانت نسخ الطبعة الثانية قد نفدت. وشرعت في الطبعة الثالثة،

وتعمدت تأخير إتمامها كالتي قبلها؛ لنشرها في موعد الأولى من هذه السنة

(1354)

.

وفي غضون السنة الماضية تمت ترجمة الكتاب باللغة الأوردية، ونشرت في

الهند، وهي مترجمة من الطبعة العربية الأولى. وتمت ترجمته باللغة الصينية فيها

أيضًا مرتين، ويتولى طبع الأولى في قبودان مترجمها الأستاذ صاحب مجلة ضياء

الهلال، وحمل الثانية مترجَمَةً الأستاذ بدر الدين الصيني من الهند إلى مصر،

وعرضها عليَّ. وكان يريد إرسالها إلى بلد آخر في الصين لطبعها فأشرت عليه

بأن يزيد فيها كل ما زدته في الطبعة الثانية؛ لأنها أجمع وأنفع، ولعلها لا تطبع إلا

وقد نفدت نسخ الترجمة الأولى، ولعله يعيد تنقيحها بمعارضتها على هذه الطبعة

الثالثة فإنها أصح وأكمل. ولم يبلغني أن أحدًا غير هؤلاء قد أتم ترجمته بلغة أخرى.

وزدت في هذه الطبعة قليلاً من الفوائد، وإيضاحًا لبعض المسائل، وجعلت

أكثرها في الحواشي، كما ترى في الحاشية الثانية من ص157، والأولى من ص

158، والحاشية (2) من ص 181، وما جعلته في الصلب أشرت إليه غالبًا

كشرعية عتق الرقيق من غير المؤمنين، وليس فيها شيء من المقاصد الأصلية

المقصودة بذاتها.

علمنا إذن أنه أتى على ظهور الكتاب سنتان كاملتان، فأما انتشاره بالعربية

فهو فوق المعتاد في الكتب الدينية، وقد قررت وزارة المعارف العمومية في هذه

السنة صرفه لطلبة دار العلوم العليا، وهو يدرس في بعض المدارس الإسلامية في

دمشق وبيروت.

ويرجى نشره في السنة المدرسية الجديدة أيضًا بين طلاب الأزهر والمعاهد

الدينية بمصر، وقد تولى رياستها شيخ الإسلام وخليفة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد

مصطفى المراغي) الذي كان أول من قدر الكتاب قدره، وقرأ نصفه في جلسة

واحدة، وأتمه في جلسة أخرى، ثم كتب في وصفه تلك الكلمة البليغة التي يراها

قراؤه في صدر التقاريظ، وقد تنبأ أو بشَّر بأنه سيطبع في كل عام.

ترجمة الكتاب باللغات الإفرنجية:

ولكن قَصَّر المسلمون فيما يجب عليهم من ترجمته بسائر لغاتهم وبلغات

شعوب الحضارة التي دعوناها به إلى الإسلام، وهي الإنكليزية والفرنسية والألمانية

وهو واجب كفائي صرح بتمنيه كثير من أهل العلم والغيرة، وصرح بوجوبه

بعض مقرظي الكتاب؛ فمنهم من تعسف وطالبني بهذه الترجمة أو بالسعي لها،

ومنهم من أنصف وطالب به الأمة الإسلامية أو جمعياتها.

أما الأمة فلا تنهض بالأعمال العامة إلا بزعمائها أو جمعياتها، وأما هذه

الجمعيات عندنا فلا تزال في سن الطفولة، ولا يرجى من أمثالها عمل عظيم كهذا،

فهي أفقر وأضعف همة من جمعيات المرتدين عن الإسلام جملته وتفصيله

كالبهائية، والملاحدة المدعين للنبوة والمسيحية فيه، كالقاديانية، دع جمعيات

النصارى التعليمية والتنصيرية التي تملك مئات الملايين من الجنيهات، وقد بثوا

تعاليمهم في جميع أقطار الأرض، وهم يطمعون في تنصير المسلمين، على حين

تتسلل شعوبهم من النصرانية سراعًا بسلطان ونظام كالشعب الجرماني، أو لواذًا

بدون سلطان دولي ولا نظام كسائر الشعوب، وهي تمهد السبيل لنسخ الإسلام لها،

وحلوله محلها.

ولقد كان أرجى الجمعيات الإسلامية لهذا العمل في مصر، جمعية الدفاع عن

الإسلام، التي هدمت باسم أقوى معول من معاول الإسلام قبل أن يتم بناؤها؛ وإنما

كان هذا الرجاء فيها منوطًا برئيسها الشيخ محمد مصطفى المراغي، وما كان

السعي لهدمها إلا سعيًا لهدم اسمه، وحرمان المسلمين من استعداده، ولكن الله

نصره، وخذل من ناهضه، وجعل معول الهدم الذي كان بأيديهم سيفًا لنصر

الإسلام بيده، فإذا بعصا موسى تلقف ما يأفك سحرة فرعون {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ

مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: 118) ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ

لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .

فإن كان أهلاً للرجاء بأن يسعى لترجمة كتاب الوحي المحمدي ببعض لغات

العلم الغريبة تمهيدًا لتبليغ الدعوة الإسلامية للناطقين بها - وتلك القوة الرسمية تكيد

له - فأجدر به أن يكون أقدر على تحقيق ذلك بالفعل، وتلك القوة الرسمية وما

وراءها من القوة الحقيقية طوع يده، ولن تكون ترجمة هذا الكتاب في موضع الثقة

بها عند جميع الشعوب كما إذا كانت من قِبَل شيخ الإسلام وتحت إشرافه، وكان

نشره وبث الدعوة به بإرشاده أو إجازته، مع العلم بأن مؤلفه قلم من أقلامه، وعلم

من أعلامه، وأحمد الله عز وجل أن جدد لي وللأمة بعودته إلى مشيخة

الأزهر ذلك الأمل بالزعامة الإسلامية العاملة التي فقدناها بوفاة الأستاذ الإمام منذ

ثلاثين سنة.

إن الأمة لم تفقد بوفاة ذلك الإمام شيئًا من علم الإسلام، وإنما فقدت زعيم

الإصلاح العارف بحاجة زمانه، الذي نال الزعامة بسمو عقله، واستقلال رأيه

وفهمه، وعلو همته وشجاعته، وإنصافه بإعطاء كل ذي حق حقه من العلم

الصحيح والإخلاص فيه، وما كان يعوزه للنهوض بالإصلاح العام إلا الاستقلال

بالزعامة التي تمكّنه من العمل؛ ولهذا كنا نسعى، ولكل قدر أجل، ولكل أجل

كتاب.

إذن لقد كان من حكمة الله أن (كتاب الوحي المحمدي) لم يترجمه بلغات

الإفرنج مَنْ ليسوا أهلًا لترجمته، حتى لا أضطر إلى تخطئتهم، فيكون ذلك محبطًا

لعملهم، أو مضعفًا للثقة بترجماتهم؛ وادخرها العليم الحكيم لمن هو أحق بها وأهلها.

بلوغ الدعوة لأحرار الإفرنج، والمستشرقون منهم:

لن يكون بلوغ الدعوة صحيحًا مرجوًّا إلا بوصولها إلى الأحرار، مستقلي

الفكر من هذه الشعوب بلغاتهم، وأكثر أفراد المستشرقين الذين تعلموا العربية ليسوا

من هؤلاء الأحرار المستقلين المنصفين؛ فإنهم ما درسوا العربية، ولا مارسوا كتب

الإسلام ليعرفوا حقيقته ويعرفوا غيرهم بها، بل ليبحثوا عن عورات يتلمسونها فيها

لينفروا أقوامهم عنه بتصويرها لهم بالصور المشوهة التي ينكرونها، كما نرى فيما

اطلعنا عليه من كتبهم وفي معجمهم العلمي الذي سموه بدائرة المعارف الإسلامية،

ومن خيبة الآمال بعلمهم ومصنفاتهم أن وجدت كتاب (مفتاح كنوز السُّنة) على

غير ما كنت ظننت، وخلاف ما قلت في التعريف به، فإنني لم أستفد منه أدنى

فائدة.

وأما المستقلون منهم - وهم الأقلون - فقد غلبتهم الأفكار المادية على عقولهم،

فقضاياها عندهم مسلمات كأنها لا مجال للبحث فيها، وقد قربنا مسافة الخلف بيننا

وبينهم بما أقمناه في هذا الكتاب من البينات العلمية القطعية، على أن القرآن لا

يمكن أن يكون من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا من مدارك عقله الظاهر،

ولا ما يسمونه العقل الباطن؛ فإذا فرضوا أن للإنسان عقلاً باطنًا لا تعرف حقيقته

يدرك به من علم الغيب والشهادة ما هو خفي وخارق للعادة في السنن المعروفة

لكسب العلم من الحواس والفكر، وعللوا به ما يسمونه قراءة الفكرة ومراسلة الأفكار،

وإدراك المنوم بالاستهواء المغناطيسي - وقد بينا لهم أنه لا يكفي لتعليل الوحي

المحمدي - فأي بُعد بين هذا العقل الخفي المفروض في باطن الإنسان وبين وجود

عقل خفي مثله في خارجه (وهو ما نسميه الملك كما نسمي الأول الروح) يكون

الوحي الحقيقي باتصال أحدهما بالآخر كاتصال الكهربائية الإيجابية بالسلبية، وتولد

النور من اتصالهما، فإن ما زعموه من انقداح وحي القرآن من عقل محمد الباطن

وحده محال كما قررنا، وهذا أقرب التعليلين، والفرق بينهما قريب جدًّا؛ فما ثَمَّ إلا

اختلاف الأسماء.

وفوق هذا وذاك قيام البراهين الكثيرة على وجود الله الخالق لكل شيء، الذي

دون الإيمان به لا يمكن القطع بشيء من مسائل الكون وسننه، فإنهم كلما أثبتوا

شيئًا عادوا فنفوه، وكلما أبرموا أمرًا نقضوه.

لقد قرب ظهور الحق لأحرار هذه الشعوب، وسنراهم بعد ترجمة هذا الكتاب

يدخلون - إن شاء الله - في دين الله أفواجًا، وقد بطلت ثقتهم بكل ما عداه من

الأديان.

لعل كتاب الوحي المحمدي قد وصل إلى جميع هؤلاء المستشرقين الذين

يعرفون العربية، فإنني أهديته إلى من عرفت عناوينهم، وأرسله غيري إلى أناس

منهم، ومن عاداتهم أن يبحثوا عن كل كتاب جديد له شأن، وقد شكر لي بعضهم

هذه الهدية بكلمة لم يزد عليها (كصاحب مفتاح كنوز السنة، الدكتور فنسنك)

وانفرد العلامة الدكتور موريتس الألماني منهم بإبداء رأي فيه، فأنشر هنا نص

كتاب الشكر الذي تفضل به، وهو:

برلين 8 سبتمبر سنة 1933

جناب الشيخ العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم.

بعد التحية والاحترام: فتفضلتم بإرسال إليَّ نسخة كتابكم الجديد (الوحي

المحمدي) فالرجاء قبول جزيل الشكر على هذه الهدية النادرة القيمة،

وبالخصوص على ما أظهرتم بها من عدم نسيان شخصي، ولا حاجة للتأكيد لكم

أني اطلعت عليه بغاية الاهتمام، ولا ريب عندي أنه يجد كمثله في عالم العلماء.

وفي أثناء هذا الاطلاع قد عثرت على جملة مسائل ونقط تستحق ملاحظات، لكن

نظرًا لحجم هذا الجواب الذي لا يتسع أن أدخل في جميعها، أقتصر بواحدة منها،

أي في معنى كلمة نبيء الأصلي (ص21) عند العبرانيين القدماء، فكان (نبيأ)

في أوائل عصرهم المتكلم بصوت عالٍ، ثم الناطق في أمور أمته القضائية

والسياسية، أي مثل ناصح ومستشار لإرشادها، لكن شيئًا فشيئًا تتبعًا لتقدم الدين

الإسرائيلي تغير موقعه وصفته فصار واعظًا وناصحًا في الأمور الدينية؛ لأنه كان

معتقدًا أن هذه الوظيفة صارت له، بناء على أمر من الله بذلك، وأنه المتكلم باسم

الله، والدليل على ذلك أنه يستعمل في أول كلامه - أي نبوته - هذه الكلمات:

هكذا قال ياهُو (وهو اسم إله بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الشرقية المنتشرة

بين الحجاز وبين سوريا الشمالية)

إلخ.

وفي الختام أكرر لكم الشكر الواجب مع تمنياتي الصميمة.

...

...

...

...

... المخلص

...

...

...

...

دكتور موريتس

يقول هنا العلامة الكبير: إن هذه الهدية نادرة القيمة، وأنه اطلع على الكتاب

بغاية الاهتمام، وأنه لا يرتاب في أنه يجد في عالم العلماء ما ينبغي لكتاب مثله،

فهؤلاء العلماء قد بلغتهم دعوته، وفهموا ما تحديتهم به من الآية الكبرى على نبوة

محمد صلى الله عليه وسلم وما نزل عليه من وحي القرآن، ولم يقدر أحد منهم

أن ينقضها، أو يأتي بتعليل لهذه المعجزة الدالة على إتيان محمد - صلى الله عليه

وسلم - بهذا القرآن في أسلوبه ومعانيه، وما فيها من العلوم العالية التي لخصتها

في المقاصد العشرة ولتأسيس أقوم دين وأقوى دولة وأمة في عشر سنين قَلَبا أعظم

دول الأرض وأديانه في ثلث قرن.

وما ذكره الدكتور من الملاحظة على بعض مدلول لفظ (النبي) عند اليهود

فهو منقول من قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوسط، وقد ذكرت المعنى الذي أشار

إليه في كلامي على النبوة من الطبعة الثانية (ص 25) وهو في (41) من هذه

الطبعة الثالثة.

ولا أزال أتمنى لو يتفضل عليّ بغير هذه الملاحظة، وأخص بالذكر ما عساه

ينتقده من جوهر الموضوع ولبابه، وإذن أرويه عنه بنص وأبلغه جوابي عنه.

تعادي الأمم والدول وحاجتها إلى الإسلام:

لا تزال دول أوربة وأمريكة وشعوبهما على ما وصفتهما به في مقدمة هذا

الكتاب من الشقاء والشقاق، والرياء والنفاق، وقد عقدوا في هاتين السنتين مؤتمرًا

بعد مؤتمر واتفاقًا بعد اتفاق، ولا يزالون كحمار الرحى يدور ولا يبرح مكانه،

ليس للحق ولا للصدق عندهم قيمة، فقد ظلوا منذ عقدوا عهد (فرسايل) يجرون

فيه مع ألمانية على قاعدة البرنس بسمارك (المعاهدات حجة القوي على الضعيف)

حتى إذا اضطروها إلى نقضها سرًّا، كما نقضوها جهرا. وتجديد قوة حربية جوية

يرهبونها، أذعنوا لمساواتها لهم في الحقوق والكرامة الدولية كرهًا، وكانوا يمارون

فيها ويأبونها طوعًا، بل صاروا يخافونها أن تسطو عليهم، ويجددون المحالفات

الدفاعية التي أفضت إلى الحرب العامة السابقة، حتى ذلوا لمحالفة الدولة الشيوعية

عدوتهم كلهم، وأنَّى لهم الفرار من حكم كتاب الله في الأمر بالوفاء بالعهود والنهي

عن جعلها دخلاً وخداعًا لأجل أن تكون أمة هي أقوى من أمة، فتكون المعاهدات

أنكاثًا لا مندوحة عن نقضها كما بينا ذلك في محله [1] .

بغوا واستعلوا على ألمانية وهم يعلمون أنها تعلوهم علمًا وصناعة ونظامًا،

وفرائصهم ترتعد فَرَقًا من استعدادها السري للحرب، وقد ذاقوا بطشتها القاهرة،

التي كادت تفتك بهم كلهم من قبل، ولكنهم اتكلوا على خداع معاهدتهم الخاطئة

الكاذبة، وعلى تجديد محالفاتهم التي قصدوا بها أن يكونوا إلبًا واحدًا عليها، وأن

تكون في عزلة لا تجد فيها وليًّا ولا نصيرًا.

صاح زعيمها المجدد (هتلر) صيحة بنقض تلك المعاهدة، وتجديد السلاح

الجوي والبحري والتعبئة؛ فراعتهم كزئير الأسد يجفل الغنم، وقالوا: إن سلم

أوربة وحربها رهن يديه، وعمرانها وخرابها بين شفتيه، ظلوا يصيخون السمع لما

سيقوله في خطابه السياسي العام، حتى إذا ما ألقاه كان حجة بالغة له، دامغة

لخصومه، وصادعة لآخر حصن لدول الاتحاد الثلاث في وجهه (اتفاق ستريزا)

فعادت إنكلترة تفاوض ألمانية في قواتها الجوية والبحرية، وكانت تستكبر عن هذا،

وكشرت عن أنيابها لإيطالية فيما تحشره من جيوش وذخائر للعدوان على دولة

الحبشة المعتصمة معهم بعهد عصبة الأمم، الذي هو في نظرها كسائر العهود

الأوربية حجة القوي على الضعيف، وقد رأوا كيف رفضته بل رفسته كل من

اليابان وألمانية برجلها، ولكن البلية كل البلية في تعارض مطامع الأقوياء، فزعيم

إيطالية مغتر بقوتها، جانح لفتح الحبشة أو نقصها من أطرافها. وإنكلترة أعز منها

وأقوى، وإن هذا لصدع في اتحاد هؤلاء الأحلاف لا يلتئم؛ فهذا الزعيم المعتز

بسلطانه الشخصي يرى خيبته بعد الشروع في وسائل الزحف قضاء على نفوذه،

وأمته في اضطراب لا ينقذها منه إلا فوزه فيه، وألمانية لابد لها من استعادة جميع

مستعمراتها، وهي أقدر على إخضاع إنكلترة في الهواء والماء. وماذا تفعل فرنسة

إذا تركته إنكلترة؟

وجملة القول أن هذه الدول وشعوبها لا تزال - ولن تزال - على ما وصفناها

به في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب من فساد لا علاج له إلا هداية الإسلام، دين

الأخوة الإسلامية والعدل والرحمة والسلام؛ فيجب المبادرة إلى تبليغ دعوته،

وإقامة حجته، وهو قد أعد عقلاء المسلمين لتعميم هذه الدعوة عندما ينهض زعيم

مسلم لكفالتها وتوحيد النظام لها، ويرى قارئه الشواهد على هذا فيما نشرناه من

التقاريظ في آخره، وفي مقدمتها قول شيخ الإسلام المراغي لمؤلفه: إنكم وفقتم

لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي.. . إلخ، وسائرها مؤيد لقوله، يدل على

استعداد في الأمة لتنفيذه.

استعداد المسلمين لدعاية الإسلام:

ذكرت في آراء شيخنا الأستاذ الإمام من تاريخه (ص939، ج1) أن أمم

الحضارة في الغرب سيذوقون من فتن مدنيتهم ومفاسدها السياسية ما يضطرهم إلى

طلب المخرج منها، فلا يجدونه إلا في الإسلام - إسلام القرآن والسنة لا إسلام

المتكلمين والفقهاء - وأنه صرح بهذا مرارًا في دروسه في الأزهر وفي غيره.

وأقول الآن: لكنه ما سمع لقوله هذا صدًى، ولا وجد على نار المسلمين

هدًى، فكان يرجح أن هداية القرآن ستظهر في غيرهم من الشعوب الحية، وأن

هؤلاء المسلمين الجغرافيين سيطلبون إسلام القرآن والسنة منهم تقليدًا لهم كما

يقلدونهم في الزينة والإباحة والإسراف في الشهوات الذي أفسدهم جميعًا.

وسمعت مثل هذا الرأي من الأستاذ المراغي وغيره من الأفراد، ولعلي أوسع

علمًا واختبارًا لمسلمي الأقطار من كل هؤلاء، وأجدر منهم بسوء الظن فيهم، ولكن

ظهر لي بتقبل عقلائهم لكتاب (الوحي المحمدي) بما تقبلوه به من إيمان وشهادة

ورجاء وثناء ودعاء، أن استعدادهم لهداية القرآن والدعاية له قد دخل في طور

جديد، ألم تر كيف تجاوبت أصوات المقرظين له في مصر وسورية والعراق

وغيرها من الأقطار بقول القائلين إنهم كانوا يفكرون ويتمنون ويتساءلون قبله عن

كتاب يصلح للدعوة إلى الإسلام فلا يجدون، حتى إذا رأوه وجدوه الضالة التي

ينشدون؛ أو لم تر كيف شاركهم فيها أئمة المسلمين وملوكهم المتقون؟

فعلم من هذا أن المسلمين لا يمكن أن تعود إليهم الحياة إلا بمثل ما بدأ به

سلفهم من روح القرآن وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام مالك:

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما ذلك إلا أن يكونوا على علم

بالقرآن يوقنون به أنه مصلح لجميع البشر، وأن حملته يجب أن يكونوا أئمة البشر

وهداتهم، والمصلحين لما أفسدته المدنية المادية من عقائدهم وأخلاقهم، فإن لم

يملكنهم هذا اليقين فلا رجاء في دينهم ولا دنياهم، ولكن نشر هذا اليقين فيهم يتوقف

على نظام وزعامة يثق بها الخاص والعام، وسيرون الدعوة له تبث في هذا العام،

وسنرى قد استعدادهم لتأييدها بأموالهم وأنفسهم فيسرنا - إن شاء الله -: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

...

...

...

...

منشئ مجلة المنار

_________

(1)

راجع ص 148 طبعة أولى، وص 252 طبعة ثانية، وص 270 طبعة ثالثة.

ص: 33

الكاتب: حسن البنا

‌موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

وواجب أصحاب الجلالة ملوك المسلمين وحكوماتهم

نشبت الحرب الماضية والعالم الإسلامي كله منضوٍ تحت اللواء التركي،

مستظل بظل الخلافة العثمانية، إلا بعض أجزاء اقتطعتها يد المطامع السياسية

الغربية من قبل.

كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، ثم صارت بإعلان الحرب تحت

الحماية، وخاضت البلاد العربية ميادين القتال إلى جانب الحلفاء تصديقًا لوعودهم

وانخداعًا بالأماني المعسولة التي وضعوها أمام الأمة العربية.

ولسنا بصدد اللوم أو العتاب أو تحديد مسئولية المخطئ والمصيب في هذا كله

فقد ذهبت تلك الأيام بما كان فيها وصارت مواقف الرجال والأمم في ذمة التاريخ

يحكم لها أو عليها.

وانجلت تلك الحرب وويل للمغلوب، وغُلبت تركيا على أمرها، وسُلبت حق

سيادتها على الولايات التابعة لها.

وهنا نهضت الشعوب الإسلامية تجاهد وتكافح وتناضل وتطالب بحقها في

الحياة العزيزة الحرة الكريمة.

كانت ثورة الكماليين على أرض الأناضول، وانتهت بتكوين تركيا الحديثة

هداها الله وألهمها الرشد.

وكانت الثورة المصرية في وادي النيل، وانتهت بمعاهدة أغسطس 1936

التي حققت جزءًا ضئيلاً جدًّا من الأماني المصرية، ولازالت مصر تكافح لاستكمال

الباقي.

وكانت الثورة العراقية وانتهت بالمعاهدة العراقية الإنجليزية التي حققت كذلك

جزءًا من الأماني العراقية، ومكَّنت العراق من السير سريعًا إلى استكمال ما بقي،

واستولى الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمَّه إلى نجد وكون منهما

المملكة العربية السعودية.

وكافحت سورية وناضلت، وكاد يتم بينها وبين فرنسا عهد وميثاق كالذي تم

في مصر والعراق مثلاً، لولا أن فرنسا نكثت عهدها بعد أن وثقته وقلبت للسوريين

ظهر المِجَنِّ ولا زالت في موقفها هذا إلى الآن.

وتعقدت قضية فلسطين ونشبت فيها الثورات تباعًا، ولم يفلح ذهب اليهود ولا

خداع الإنكليز في تضليل الشعب الباسل وصرفه عن أهدافه الحقة وعن المطالبة

باستقلاله الكامل في أرض الآباء والأجداد التي رواها دم الصحابة الطاهر فأنبتت

أولئك الأحفاد البررة.

واستمرت طرابلس ثائرة على الحكم الإيطالي الظالم حتى قبض على المجاهد

المؤمن السيد عمر المختار، وضُيق الخناق على المجاهدين فقتل من قتل ونفي من

نفي، وانتهى كل ذلك بأن أعلنت إيطاليا تجنيس طرابلس بالجنسية الطليانية،

وقذفتها بسيل من المهاجرين الطليان يلتهم الأخضر واليابس.

وقامت ثورات في بعض جهات من هذا الوطن المتمرد على الظلم والجور،

كان من أظهرها ثورة الريف المغربي بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم، وانتهت

كلها بتشديد الضغط على خناق الأحرار والعاملين.

هذا بسط موجز لموقف العالم الإسلام من نفسه، ومن غيره من الأمم التي

ظلمته وتدخلت في شأنه واستبدت بأمره واغتصبت حقوقه إلى الآن.

* * *

اختل التوازن الأوربي وجرت الأحداث سراعًا تسابق الدقائق والساعات

وتغير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات. وانجلت تلك الغمرة عن وجود

معسكرين قويين في أوروبا: معسكر المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ومن لف لفهما

من دويلات أوربا ومن ورائهما اليابان في الشرق، ومعسكر الدول الديمقراطية

ويضم إنجلترا وفرنسا ومن تبعهما من دول أوروبا ومن ورائها أمريكا في القارة

الجديدة.

وحرب الدعاية والكتابة والتربص والأعصاب - كما يقولون - قائمة على

أشدها بين الفريقين، وكل منهما يتودد إلى العالم العربي والإسلامي ويود أن يكسبه

إلى جانبه، فذلك هو الذي يرجح إحدى الكفتين على الأخرى في آسيا وإفريقية على

الأقل، وإذا رجحت الكفة في هاتين فقد رجحت في أوربة كذلك.

إن دول الشرق الإسلامي قضت عليها الحوادث والظروف الماضية والحاضرة

أن تتصل بالدول الديمقراطية وأن تكون إلى جانبها وأن يرتبط مستقبلها بمستقبل

هذه إلى حد كبير، هذا الوضع - إلى جانب الخصومة القائمة بين المعسكرين في

أوربا - كان يجب أن يجعل الدول الديمقراطية تسارع إلى اكتساب مودة العرب

والمسلمين اكتسابًا نهائيًّا، وأن تسد الطريق على غيرها إلى ذلك الود، وذلك في

وسعها ولا يكلفها عناء وعنتًا، بل لا يكلفها إلا أن تحق الحق وتعترف به لأهله،

وتبطل الباطل وتقاوم الذين يريدونها عليه، فهل فعلت هذا؟

العجب أن الدولتين الديمقراطيتين إنجلترا وفرنسا فعلتا عكسه تمامًا، كأنهما

تتحديان بذلك شعور العرب والمسلمين في كل أنحاء الأرض؛ فأما فرنسا فقد

أساءت إلى سورية أبلغ الإساءة ففصلت عنها الإسكندرونة وقدمتها إلى تركيا رغم

الصرخات العالية والاحتجاجات الكثيرة والأغلبية العربية في هذا اللواء، وتنكرت

لسورية مرة أخرى فعدلت عن إبرام المعاهدة واستبدت بالأمر في داخلية البلاد

استبدادًا أدَّى إلى استعفاء الوزارة عدة مرات، وتعذر قيامها بمهمة الحكم، ثم أدى

أخيرًا إلى استقالة رئيس الجمهورية، وهذا نص استقالته التي رفعها لمجلس النواب

السوري:

إلى رياسة المجلس النيابي السوري الفخيمة:

(منحنى مجلسكم الكريم ثقته وانتخبني في أول جلسة عقدها لرياسة الجمهورية

على أثر عقد المعاهدة وإقامة الصلات بين فرنسا وسوريا على قواعد التحالف

والمودة؛ وذلك لإدراك هذه الأمة الغاية الشريفة التي تسعى إليها من الاستقلال

والسيادة القومية. وقد تعاقبت حكومات في سوريا وأخذت تبذل قصارى جهدها في

سبيل إبرام العهد المقطوع والميثاق المعقود واثقة بأنه ينطوي على الخطة الوحيدة

التي تعزز جانب الوطن السوري وترفع من شأنه، كما توثق الروابط بينه وبين

الجمهورية الفرنسية حتى يسود علائقهما جو من الصفاء والإخلاص، وحتى تقوى

هذه البلاد على مقابلة الأحداث وصد الأطماع؛ غير أن الجهود التي بذلت لم تسفر

عن نتيجة برغم الوعود الرسمية الصادرة من رجال الوزارات التي تعاقبت في

فرنسا منذ سنة 1936 إلى الآن، فذهبت ضياعًا تلك الآمال التي توجهنا بها إلى

سياسة التحالف والتضامن، وشهدنا العودة إلى أساليب قديمة وتجارب جديدة تناقض

ما تعاهدنا عليه ودخلنا الحكم على أساسه. على أن حوادث الماضي وقرائن

الحاضر لا تترك مجالات للشك في أن هذه الخطط - التي يراد اتباعها واستئناف

العمل بها - تؤدي إلى استمرار المشاكل والخلافات، كما أنها تضعف كيان هذه

البلاد وتوهن قواها وتهدد استقلالها. ولذلك لا أرى بدًّا من الاستقالة من المنصب الذي

عهدت إليَّ الآن في القيام به وتحمل أعبائه، راجيًا أن يكون في الأيام المقبلة ما

يخفف عنها الآلام والعناء، وتحقق ما تصبو إليه من الكرامة والمجد) .

وقد عرضت الاستقالة على المجلس فأقرها، ودعا الوزارة إلى الاجتماع،

فاجتمعت وقررت القيام بأعباء الحكم؛ ولكن المندوب السامي تحدَّاها في هذا،

فأصدر قرارًا بتدخل السلطة الفرنسية فورًا وتعطيل الدستور ومجلس الوزراء،

وعين مجلسًا يتولى السلطة باسم فرنسا، وهذا نص قراره:

(قد نشأ عن استقالة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية في سوريا فقدان تام

للسلطة التنفيذية مما يجعل تدخل الدولة المنتدبة تدخلاً فوريًّا أمرًا لابد منه، وفي

هذه الحالة ترى الدولة المنتدبة نفسها مضطرة إلى وقف تنفيذ الدستور فيما يتعلق

بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، والنظر في نظام مؤقت يمكن من إدارة البلاد إدارة

منظمة طبيعية.

بناء على ذلك قرر المفوض السامي أن يعهد في السلطة التنفيذية - تحت

مراقبته - إلى مجلس مؤلف من مديري مختلف المصالح الوطنية برياسة مدير

الداخلية، ويؤلف مجلس المديرين بقرار من المندوب السامي، ويجوز له أن يتخذ

قرارات بتعيين الموظفين الملكيين، ويجوز له بناء على رأي المجلس أن يصدر

مراسيم لها مفعول القوانين ولا سيما في الشئون المتعلقة بالميزانية، وتتخذ المراسيم

التشريعية بعد موافقة المندوب السامي التي تجعلها نافذة) .

هذا هو موقف فرنسا في سورية، فأما موقفها في بقية مستعمراتها الإسلامية

فعلى ما كان عليه من عسف وجور ونفي للأحرار وتعذيب للوطنيين، وهؤلاء

شباب المغرب وعلى رأسهم الآن محمد بن عبد الكريم لا زالوا في أعماق المنافي

والسجون، وأما إنجلترا فقد أخذت تتلون كالحرباء في حل قضية فلسطين، وانتهى

مجهودها وخداعها بإصدار الكتاب الأبيض الذي لم يُرض أحدًا من الأمم الإسلامية،

حتى أن واحدة من الحكومات لم تشأ أن تتورط في التوسط لدى عرب فلسطين

الباسلين لقبوله.

ولم تكتفِ بهذا بل أخذت جنودها تهاجم اليمن وتحتل أرضًا يمانية بحتة كإقليم

شبوه، وتدعى على لسان محطات الإذاعة فيها أنها ضمن منطقة عدن المحتلة، مما

أدى إلى احتجاج جلالة الإمام لدى ملك إنجلترا احتجاجًا صارخًا هذا نصه:

(من ملك اليمن الإمام يحيى إلى صاحب الجلالة الملك الإمبراطور جورج

السادس المعظم بلندن.

بعد تقديم وتأكيد الإخلاص والتعظيمات لذات عظمتكم، أعرض لجلالتكم

تأثراتي العظيمة من إذاعات راديو لندن باللسان الرسمي الحكومي وادعائها أن

شبوه ومناطقها داخلة في الأراضي العدنية المحتلة، مستندة في ذلك إلى معاهدة

سنة 1940 (كذا من أصل البرقية) .

وقد كنت خاطبت جلالتكم سابقًا بشأن شبوه ومناطقها كلها، وأنه لم يكن لأحد

شأن فيها في أي وقت كان لا من قبل ولا من بعد، وكنت رجوت من عدالة جلالتكم

طلب أوراق المخابرة الواقعة بشأنها من عدن للاطلاع على ما حدث من الوقائع بهذا

الخصوص بين عدن واليمن، فإن ادعاء عدن بشبوه ومنطقتها مخالف لكل الوقائع،

وعارٍ عن كل إثبات، فحكومتي مجبورة للاحتجاج، ولا يمكن لليمن السكوت عن

عمل مغاير للحق ومخالف للصداقة بكل معنى.

ومعلوم لجلالتكم أن شبوه ومنطقتها يمانية منذ خلق العالم إلى اليوم، وسيطرة

اليمن لم تزل عليها ولا هي افترقت يومًا واحدًا عن أمها اليمن، وكل قرار غير

شرعي بشأنها نرده بلا شك، ولم تتعهد اليمن لدولة ولا لشخص بأن تسلمه حقوقها

وملكها، وهل يمكن - يا صاحب الجلالة - بيع أو إهداء أي أرض أو زراعة ممن

لا يصح تصرفه فيها؟ ومن المعلوم أن العثمانيين وغيرهم لم يدخلوا شبوه

ومنطقتها، فلم يتصرفوا بشيء فيها ومنها. وهل من المعقول والمقبول المطالبة

بهدية تقدم من مالكها؟ ومن المعلوم أن جدنا الإمام الهادي هو الذي عمر الحصون

قبل ألف سنة وأن سلفنا الإمام أقام في شبوه. فنحن متسلسلون في شبوه، وسكانها

متعلقون بحكومتنا من جملة إخوانهم بني جابر.

وفي سنة 1914 ابتدأت الحرب العامة وتحاربت إنجلترا مع العثمانيين، ولم

يبق للدولة العثمانية وجود في العالم، وأما تركيا الحاضرة فلم تصل إلى اليمن

وتعمل لليمن شيئًا، فهل يمكن - يا صاحب الجلالة - أن تجيز القوانين الشرعية

والمدنية العالمية الاعتداء على بلاد دولة مستقلة واغتصابها؟

وهل يستطيع أي يمني كان أن يرضى بتسليم أرض أجداده التي حافظوا عليها

إلى هذا اليوم بدمائهم وجهودهم؟ فأرجو من عدالتكم - يا صاحب الجلالة - أن

تنظروا إلى الأمر بعين العدل، ومعلوم جلالتكم أن عرشكم العالي وحكومتكم الجليلة

عقدا برضائها وطلبهما معاهدة الوداد والصداقة مع اليمن.

وتصرح المادة الثالثة من هذه المعاهدة بأنه لا يجوز أن يتبدل أي حال بين

عدن وبين اليمن إلا بالاتفاق بين الطرفين ورضائهما وموافقتهما بالطرق الودية،

وأن تبقى الحالة التي كانت قائمة في تاريخ عقد المعاهدة نافذة المفعول، فهل - يا

صاحب الجلالة - يرضى عدلكم؟ وهل ترضى القوانين الدولية والحقوق السياسية

والإنسانية بعد تلك المعاهدة والشروحات المذكورة الودية، وبعد مرور ست سنوات

من عهدها أن يعتدى على شيء من أرضنا وحقوقنا الطبيعية؟ وهل يمكن موافقتكم

على هذه الاعتداءات والتجاوزات؟

وإني - بكامل احترامي وتعظيمي لذات جلالتكم المعظمة، وبتمام تقديري

لحكومة جلالتكم السنية ولشعبكم المنصف الكريم - أرجو من جلالتكم تحقيق وتدقيق

هذه المعاملة، وإصدار أوامركم العادلة إلى من يلزم بأن يتفضلوا باحترام حقوقنا

وشعبنا بلا جرح قلوب أمتنا، وبلا استحقار أصدقائكم اليمنيين الذين هم ثابتون حالاً

ومستقبلاً في صداقتكم، وبأن لا يكون أي إجحاف بحقوق بلادنا، ولا مخاصمة بين

الدولتين المتضامنتين المتحابتين المتعاهدتين، إن شاء الله.

وتفضلوا يا صاحب الجلالة بقبول عواطف حسن نيتي وصداقتي

وتقديراتي الخالصة الفائقة.

في 11 جمادى الأولى 1358 - 29 يونيو سنة 1939) .

فهل بمثل هذا الاستفزاز تريد الدول الديمقراطية أن تحصل على صداقة

المسلمين والعرب؟

إن الموقف الحالي يستدعي من العالم الإسلامي أشد الاهتمام، وإن الفرصة

سانحة للمسلمين والعرب - لو أرادوا - أن ينتهزوا.

وحضرات أصحاب الجلالة ملوك المسلمين - وبخاصة جلالة الملك فاروق،

والملك عبد العزيز آل سعود، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله الوصي على

عرش العراق، وجلالة الإمام يحيى حميد الدين - هم موضع الرجاء في إفادة

شعوبهم من مثل هذه الحوادث، والله تبارك وتعالى سيسألهم عما استرعاهم،

وكل راعٍ مسئول عن رعيته.

ومن واجب الحكومات الإسلامية أن تتفق جميعًا على خطة حازمة تعلن بها

إنجلترا وفرنسا - في اجتماع وفي حزم وإصرار - أن تبرم المعاهدة السورية على

غرار معاهدة العراق، وأن يكون بين إنجلترا وفلسطين معاهدة تستقل بها الأرض

المقدسة وتظل عربية مسلمة، وأن يكفل استقلال الأوطان الإسلامية الحالية ولا

يتعدى على أي جزء من أرضها.

وأن يكون بين فرنسا وتونس والمغرب معاهدات سياسية كذلك تكفل لهذه

الشعوب المسلمة العريقة أن تصل إلى استقلالها وحريتها، فإن وافقت الحكومات

الديموقراطية على ذلك فهو الخير لها وللناس، وإن أبت إلا الإصرار على الموقف

الظالم فليعمل المسلمون لأنفسهم وحسبهم ما فات.

لقد بدأت العراق والحجاز العمل وقامت مفاوضات بين الحكومتين

الهاشمية والسعودية أغلب الظن أنها تناولت فيما تناولته هذه النواحي الحيوية

للممالك الإسلامية، ولكن كل ذلك لا يكفي فإنا نريد أن يكون الصوت إجماعيًّا

من الحكومات الإسلامية جمعاء أو من معظمها على الأقل، وأن تكون

الخطوات واضحة بيِّنة، والوسائل صريحة حازمة، وفق الله العرب والمسلمين

لما فيه خيرهم وسعادتهم.

...

...

...

...

... حسن البنا

_________

ص: 34