المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المفطراتإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد العاشر

- ‌بحثأحكام الذبائح واللحوم المستوردةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادسماحة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية للذكاةإعدادأ. د إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌‌‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌المفطراتإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌مفطرات الصائمفي ضوء المستجدات الطبيةإعداد الدكتور محمد جبر الألفي

- ‌ضابط المفطراتفي مجال التداويالأكل والشربإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المفطراتإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌المفطراتفي مجال التداويإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌التداوي والمفطراتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌المفطراتفي ضوء الطب الحديثإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادالدكتور نزيه كماد حماد

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادد. محمد بن علي القري

- ‌الاستنساخ البشريإعدادالشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية

- ‌نظرة في الاستنساخ وحكمه الشرعيإعدادآية الله محمد علي التسخيري

- ‌الاستنساخ البشريبين الإقدام والإحجامإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌الاستنساختقنية، فوائد، ومخاطرإعدادد. صالح عبد العزيز الكريم

الفصل: ‌المفطراتإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

‌المفطرات

إعداد

الدكتور عبد الله محمد عبد الله

المستشار بمحكمة التمييز الكويتية سابقًا

بسم الله الرحمن الرحيم

المفطرات

توطئة ومدخل:

فرض الله على المسلمين أن يصوموا شهر رمضان في آيات بينات من كتابه العزيز، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } . [البقرة: 183-185]

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يخرج بحصيلة نافعة من الفوائد، فقد مهد الله سبحانه وتعالى أن لهذه الفريضة تفضلًا منه وتطييبًا للنفوس وترغيبًا لها، بأن الصوم قد فرض - على جميع الأمم من لدن آدم إلى خاتم النبيين، وقرن ذلك بذكر الحكمة من إيجابه، فقال:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وتقوى القلوب مطلب عزيز، فإنها رأس الحكمة ومشكاة الحياة الفاضلة وينبوع الإشراقات الإلهية، ومطمئن النفوس البشرية، من وصل إليها فقد وصل إلى أصل كل خير، وسبب كل نعمة مادية وأدبية، فإذا كان الصوم من العوامل التي تؤدي إلى هذه الفضيلة السامية وهي التقوى وجب أن يعنى المؤمنون بشأنه، وأن يهتموا بأمره، وأن يقوموا بحقه، ويؤدوه على وجهه. أمَّا أن الصوم كان مفروضًا على جميع الأمم، فقد أظهرته البحوث الاستقرائية للأديان في هذه العصور المتأخرة، وقد كان الناس عند نزول القرآن لا يعرفون من تاريخ العالم إلا ما كان بينهم وبينه اتصال، وكانت أكثر أقطار الأرض مجهولة لديهم، فتصريح القرآن بأن الصيام كان مفروضًا على الأمم السابقة كافة فيه إعجاز علمي ظاهر ليس يخفى على أحد. فالمصريون القدماء والصينيون والهنود يعتبرون من أقدم الأمم وجودًا، كانوا يصومون في جميع أعيادهم، وكان الصينيون يقومون بالصيام تعبدًا ويوجبونه على أنفسهم تحفظًا من شرور الفتن، وقد علم أن البراهمة كانوا ولا يزالون من أشد الأمم مراعاة للصيام.

أما اليونانيون القدماء والرومانيون فقد كانوا كغيرهم يعتدون بأمر الصيام ويأتونه دفعًا للنكبات الاجتماعية.

ص: 699

تخفيف الإسلام للشدة المتوقعة من الصوم:

إن من الناس من يتفق أن يكون مريضًا في شهر رمضان أو أن يكون على سفر، والسفر قطعة من العذاب، ومن الناس من يكون شيخا كبيرًا طاعنًا في السن هرمًا يضره الإمساك عن الطعام، ومن النساء من تكون طامثًا أو نفساء، فاقتضت حكمة الله ورحمته أن يخفف وطأة الصيام عن هؤلاء، فقال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 184]

أي: من كان مريضًا أو مسافرًا فعليه أن يفطر أيام مرضه أو سفره، ويصوم بدلًا أيامًا أخرى في غير رمضان في حال صحته أو إقامته.

قال العلماء: هذا على سبيل الرخصة، وقال داود الظاهري: بل على سبيل الوجوب، وقد تابع في ذلك رأي أبي هريرة، وقال القرطبي: للمريض حالتان:

إحداهما: ألا يطيق الصوم، فعليه الفطر واجبًا.

والثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل (1)

(1) تفسير القرطبي: 2/ 276، 280

ص: 700

آراء العلماء في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] :

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة، فقيل: إنها منسوخة وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك - وهذا قول الجمهور - حكاه الشوكاني، وقال: وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة.

وكان الناسخ عند من قال بالنسخ قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . [البقرة: 185]

وهذا يتفق مع الحكمة العالية التي اتبعها الإسلام وهي عدم مفاجأة النفوس بالتكاليف، ولكن بالتدرج فيها حتى تألفها.

روى البخاري: وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك، فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . [البقرة: 184] (1)

وروى الطبري في تفسيره، قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة، قال: حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا غير فريضة، قال: ثم نزل صيام رمضان، قال: وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام، قال: وكان يشتد عليهم الصوم، قال: فكان من لم يصم أطعم مسكينًا، ثم نزلت هذه الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام. (2)

(1) تفسير الطبري: 2/ 132، ط الحلبي؛ تفسير القرطبي: 2/ 288

(2)

تفسير الطبري: 2/ 132، 133

ص: 701

المفطرات:

الشريعة الإسلامية مبنية على اليسر والرحمة، ولم يقصد بتكاليفه عنتًا ولا إرهاقًا، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، وقال:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]

وعلى سنن من هذين النصين وغيرهما من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الصوم لا يجب إلا على من تكاملت فيه شروط؛ وهو أن يكون مقيمًا سليمًا قادرًا على الصوم دون ضرر يلحقه أو مشقة ترهقه، أما من كان مريضًا أو مسافرًا فإنه قد أبيح له الإفطار مع وجوب القضاء عند الصحة والإقامة، كما قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . [البقرة: 184]

وكذلك من يشق عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله، ومنه الشيخوخة والمرض المزمن ، والحمل والإرضاع المتواليان إذا خيف على الحامل والمرضع أو الرضيع، فقد أبيح لهؤلاء وأمثالهم الإفطار دون قضاء، واكتفى الشارع منهم أن يطعموا بدلًا عن كل يوم مسكينا كما قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فالفدية لا تكون إلا بدلًا عن فائت، والإطاقة لا يعبر بها عن اليسر والسهولة، فلا يقال: فلان يطيق حمل التفاحة، وإنما يقال يطيق حمل هذه الصخرة، وإذن فهي تدل على العسر ومشقة الاحتمال. (1)

معنى المفطرات والمقصود منها:

يقال أفطر الصائم: تناول الطعام بعد صيامه، وفطَّر الصائم: جعله يفطر. (2)

والمعنى الشرعي لها مقارب للمعنى اللغوي ولا يختلف عنه؛ لأن الذي يجرح الصوم هو كل ما يتنافى ومعنى الصيام، سواء جاء من قبل الصائم نفسه وهو المعنى المفهوم من اللفظ (أفطر) أو من قبل الغير كالإكراه ونحوه وهو المعنى المستفاد من لفظة (فطَّر) بالتشديد.

والفقهاء بينوا أن كل ما يتنافى ومعنى الصيام مفسد للصوم، وذلك يرجع الحالات الآتية:

أ- تناول الطعام والشراب عمدًا والقيء عمدًا والحيض والنفاس والاستمناء والجماع، وهذه المفسدات منها ما يوجب القضاء دون الكفارة وهي ما عدا الأخير، ومنها ما يوجب القضاء والكفارة وهو الجماع. (3)

ومما يتعلق بإفساد الصوم الإثم إذا أُفسد بغير عذر؛ لأن إبطال الطاعة من غير عذر حرام لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . [محمد: 33] أما إذا أفسد الصوم بعذر فلا يأثم. (4)

(1) الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت، ص 111

(2)

لسان العرب، مادة (فطر) والمعجم الوجيز مادة (فطر) و (أفطر) .

(3)

فقه السنة: 3/ 248؛ وموسوعة الفقه الإسلامي: ج 26، مادة (صوم) .

(4)

بدائع الصنائع: 4/ 1016

ص: 702

وأما الأعذار المسقطة للإثم والمؤاخذة فهي:

أ- المرض:

وحدُّوه بأنه كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة. (1)

وقال في بدائع الصنائع: هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم. (2)

وذكر عن الكرخي: أن المرض الذي يبيح الإفطار هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة، كائنًا ما كانت العلة. وذكر عن أبي حنيفة أنه إن كان بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعدًا فلا بأس بأنه يفطر. (3)

وقال الكاساني: " والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك؛ لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة، لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب، والوجوب لا يبقى في هذه الحالة وأنه حرام، فكان الإفطار مباحًا بل واجبا ". (4)

ونقل القرافي آراء طائفة من العلماء في بيان حد المرض المبيح للفطر، فنقل عن ابن سيرين قوله: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسًا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. (5)

قال طريف بن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت أصبعي هذه.

وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر، قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. (6)

وقال: وأما لفظ مالك: فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به. وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف في الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضًا من مرض، فهو مباح في كل مرض إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام.

وبعد أن سرد أقوال طائفة من العلماء قال: قلت: قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

(1) المصباح المنير مادة (مرض)

(2)

2/ 1017

(3)

بدائع الصنائع 2/ 1017

(4)

بدائع الصنائع: 2/ 1017

(5)

الجامع لأحكام القرآن: 2/ 276

(6)

الجامع لأحكام القرآن: 2/ 276

ص: 703

ونقل عن البخاري قال: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت: نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عيدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أُفطر؟ قال: من أي مرض كان كما قال الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} .

قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. (1)

ويرى الطبري أن المرض الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدًا غير محتمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر، وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر، فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلف عسرًا أو منع يسرًا، وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وأما من كان الصوم غير جاهده، فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم فعليه أداء فرضه (2)

وقال الشافعية: شرط إباحة الفطر للمريض العاجز عن الصوم أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها، وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة، لم يجز له الفطر بلا خلاف عندنا، خلافًا لأهل الظاهر.

وقالوا: المرض المجوز للفطر إن كان مطبقًا فله ترك النية بالليل، وإن كان يحم وينقطع ووقت الحمّى لا يقدر على الصوم، وإذا لم تكن حمى يقدر عليه، فإن كان محمومًا وقت الشروع في الصوم فله ترك النية، وإلا فعليه أن ينوي من الليل، ثم إن عاد المرض واحتاج إلى الفطر أفطر. (3) وعند الحنابلة، قالوا: المرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه، وقيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع. قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟ قال: وحكي عن بعض السلف: أنه أباح الفطر بكل مرض حتى من وجع الأصبع والضرس لعموم الآية فيه ، (4) وهو ما ذكرناه عن ابن سيرين.

الرأي المختار: إذا كان المرض يشق معه الصوم على المريض أو يحتاج إلى تعاطي الدواء أثناء النهار فالفطر أولى، وإن كان غير ذلك فالصوم أفضل، المرد في ذلك إلى الطبيب المعالج الثقة.

(1) تفسير القرطبي: 2/ 277

(2)

تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 2/ 150 والحلبي

(3)

المجموع: 6/ 258؛ وانظر الموسوعة الفقهية: 28/ 46، مادة (صوم) .

(4)

المغني: 2/ 133

ص: 704

ويتعلق بالمرض مسألتان:

الأولى: وهي إن صام المريض هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟

اختلف العلماء على رأيين:

الأول: وهو رأي الجمهور من العلماء؛ قالوا: إن صام المريض وقع صيامه وأجزأه.

الثاني: وهو رأي أهل الظاهر؛ ذهبوا إلى أنه لا يجزيه، وأن فرضه هو أيام أخر.

والسبب في هذا الاختلاف تردد الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] بين أن يحمل على الحقيقة فلا يكون هنالك محذوف أصلًا أو يحمل على المجاز فيكون التقدير، فأفطر فعدة من أيام أخر.

فمن حمل الآية على الحقيقة ولا يحملها على المجاز وهم الظاهرية قالوا: إن فرض المسافر عدة من أيام أخر، ومن قدَّر - فأفطر- قال: إنما فرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر.

وكلا الفريقين يرجح تأويله بالآثار الشاهدة لكلا المفهومين ، (1) وينسحب كل ما ذكرناه على المسافر أيضًا.

أما المسألة الثانية: وهي هل الصوم أفضل أو الفطر؟

قال ابن رشد: واختلف العلماء في الأفضل من الفطر، إذا قلنا: إنه من أهل الفطر على مذهب الجمهور، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب، فبعضهم رأى أن الصوم أفضل، وممن قال بهذا القول: مالك وأبو حنيفة، وبعضهم رأى أن الفطر أفضل، وممن قال بهذا القول: أحمد وجماعة، وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير وليس أحدهما أفضل (2) وعزوه للشافعي.

(1) بداية المجتهد: 1/ 250

(2)

بداية المجتهد: 1/ 250؛ وانظر أيضًا المجموع: 6/ 258

ص: 705

المفطرات بسبب العلاج:

تناول الفقهاء عددًا من المسائل التي تتصل بأمور العلاج التي كانت معروفة في زمنهم، وقد تباينت أنظارهم بشأنها؛ فمن قائل بأنها تتنافى وحكمة الصيام وأنها تؤثر على سلامة الصوم وصحته وهم الأكثر، ومن قائل: إنها غير جارحة للصوم وهم الأقل، وسنقف على تعليل كل فريق ، ثم نستظهر آراء أئمتنا المعاصرين، ونسوق في هذا المقام النصوص الفقهية، قال الإمام النووي في شرحه للمهذب:

أما الأحكام فقال أصحابنا: أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب على الصائم وهو مقصود الصوم، ودليله الآية الكريمة ويقصد قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، والإجماع، وممن نقل الإجماع فيه ابن المنذر.

قال الرافعي: وضبط الأصحاب الداخل المفطر بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم.

قال: وفيه قيود:

منها: الباطن الواصل إليه، وفيما يعتبر به وجهان:

أحدهما: أنه ما يقع عليه اسم الجوف.

والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء أو غذاء.

قال: والأول هو الموافق لتفريغ الأكثرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويدل عليه أنهم جعلوا الحلق كالجوف في إبطال الصوم بوصول الواصل إليه.

وقال إمام الحرمين: إذا جاوز الشيء الحلقوم أفطر وعلى الوجهين جميعًا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة مما يفطر الوصول إليه بلا خلاف، حتى لو كانت ببطنه أو برأسه مأمومة - وهي الآمة - فوضع عليها دواء فوصل إلى جوفه أو خريطة دماغه أفطر، وإن لم يصل باطن الأمعاء وباطن الخريطة، وسواء كان الدواء رطبًا أو يابسًا عندنا.

وحكى المتولي والرافعي وجهًا أن الوصول إلى المثانة لا يفطر، واختاره القاضي حسين وهو شاذ. (1)

وأما الحقنة فتفطر على المذطب وبه قطع المصنف والجمهور، وفيه وجه قاله القاضي حسين لا تفطر وهو شاذ، وإن كان منقاسًا فعلى المذهب قال أصحابنا: سواء كانت الحقنة قليلة أو كثيرة وسواء وصلت إلى المعدة أم لا فهي مفطرة بكل حال عندنا.

(1) المجموع: 6 / 313

ص: 706

وأما السعوط فإن وصل إلى الدماغ أفطر بلا خلاف.

قال أصحابنا: وما جاوز الخيشوم في الاستعاط فقد حصل في حد الباطن وحصل به الفطر.

قال أصحابنا: وداخل الفم والأنف إلى منتهى الغلصمة والخيشوم له حكم الظاهر في بعض الأشياء حتى لو أخرج إليه القيء أو ابتلع منه نخامة أفطر.

وأما إذا قطر في إحليله شيئًا ولم يصل إلى المثانة أو زرق فيه ميلًا ففيه ثلاثة أوجه: أصحها يفطر وبه قطع الأكثرون، والثاني لا، والثالث إن جاوز الحشفة أفطر وإلا فلا.

ثم ذكر فروعًا منها:

لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق أو غرز فيه سكينًا أو غيرها فوصلت مخه لم يفطر بلا خلاف لأنه لا يعد عضوًا أو جوفًا.

ولو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه فوصلت السكين جوفه أفطر بلا خلاف عندنا، سواء كان بعض السكين خارجًا أم لا.

ولو أدخل الرجل أصبعه أو غيرها دبره أو أدخلت المرأة أصبعها أو غيرها دبرها أو قبلها وبقي البعض خارجًا بطل الصوم باتفاق أصحابنا إلا الوجه الشاذ السابق عن الحناطي. (1)

ولو قطر في أذنه ماء أو دهنًا أو غيرهما فوصل إلى الدماغ فوجهان، أصحهما يفطر وبه قطع المصنف والجمهور. والثاني لا يفطر قاله أبو علي السنجي والقاضي حسين والفوراني وصححه الغزالي كالاكتحال، وادعوا أنه لا منفذ من الأذن إلى الدماغ وإنما يصله بالمسام كالكحل وكما لو دهن بطنه فإن المسام تتشربه ولا يفطر بخلاف الأنف، قال: السعوط يصل منه إلى الدماغ في منفذ مفتوح، ثم تناول مذاهب العلماء في بعض ما ذكرناه عنه وهي:

1-

الحقنة: قال ذكرنا أنها مفطرة عندنا ونقله ابن المنذر عن عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وحكاه العبدري وسائر أصحابنا أيضًا عن مالك، ونقله المتولي عن عامة العلماء، وقال الحسن بن صالح وداود: لا يفطر.

2 -

لو قطر في إحليله شيئًا فالصحيح عندنا أنه يفطر كما سبق وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف، وقال أبو حنيفة والحسن بن صالح وداود: لا يفطر.

3 -

السعوط إذا وصل للدماغ أفطر عندنا، وحكاه ابن المنذر عن الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك وإسحاق وأبي ثور. وقال داود: لا يفطر. وحكاه ابن المنذر عن بعض العلماء.

4-

لو صب الماء أو غيره في أذنيه فوصل دماغه أفطر على الأصح عندنا، وبه قال أبو حنيفة وقال مالك والأوزاعي وداود: لا يفطر إلا أن يصل حلقه.

5 -

ولو داوى جرحه فوصل الدواء إلى جوفه أو دماغه أفطر عندنا سواء كان الدواء رطبًا أو يابسًا، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة، والمشهور عن أبي حنيفة أنه يفطر إن كان دواء رطبًا وإن كان يابسًا فلا، وقال مالك وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وداود: لا يفطر مطلقًا.

6 -

ولو طعن نفسه بسكين أو غيرها فوصلت جوفه أو دماغه أو طعنه غيره بأمره فوصلتهما أفطر عندنا. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يفطر. وقال أبو حنيفة: إن نفذت الطعنة إلى الجانب الآخر أفطر وإلا فلا. (2)

(1) انظر المجموع: 6/ 314

(2)

المجموع: 6/ 320

ص: 707

ويتفق الحنفية مع الشافعية في كثير مما ذكرناه أيضًا، قال الكاساني: وأما ركنه - أي الصوم - فالإمساك عن الأكل والشرب والجماع؛ لأن الله تعالى أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . [البقرة: 187] ، أي حتى يتبين لكم ضوء النهار من ظلمة الليل من الفجر، ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء في النهار بقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فدل أن ركن الصوم ما قلنا، فلا يوجد الصوم بدونه.

وعلى هذا الأصل يتبين بيان ما يفسد الصوم وينقضه؛ لأن انتقاض الشيء عند فوات ركنه أمر ضروري، وذلك بالأكل والشرب والجماع، سواء كان صورة ومعنى، أو صورة لا معنى، أو معنى لا صورة، وسواء كان بغير عذر أو بعذر، وسواء كان عمدًا أو خطأً، طوعًا أو كرهًا بعد أن كان ذاكرًا لصومه لا ناسيًا ولا في معنى الناسي، والقياس أن يفسد وإن كان ناسيًا وهو قول مالك. (1)

وفي العلاج: قال: وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ من المخارق الأصلية كالأنف والأذن والدبر بأن استعط أو احتقن أو أقطر في أذنه فوصل إلى الجوف أو إلى الدماغ فَسَدَ صومه، أما إذا وصل إلى الجوف فلا شك فيه لوجود الأكل من حيث الصورة، وكذا إذا وصل إلى الدماغ؛ لأن له منفذًا إلى الجوف، فكان بمنزلة زاوية من زوايا الجوف

وأما ما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ من غير المخارق الأصلية بأن داوى الجائفة أو الآمة، فإن داواها بدواء يابس لا يفسد لأنه لم يصل إلى الجوف ولا إلى الدماغ، ولو علم أنه وصل يفسد في قول أبي حنيفة، وإن داواها بدواء رطب يفسد عند أبي حنيفة وعندهما لا يفسد، هما اعتبرا المخارق الأصلية؛ لأن الوصول إلى الجوف من المخارق الأصلية متيقن به، ومن غيرها مشكوك فيه فلا نحكم بالفساد مع الشك.

وأما الإقطار في الإحليل فلا يفسد في قول أبي حنيفة، وعندهما يفسد، وأما الإقطار في قبل المرأة فقد قال مشايخنا: إنه يفسد صومها بالإجماع؛ لأن لمثانتها منفذًا فيصل إلى الجوف كالإقطار في الأذن. (2)

(1) بدائع الصنائع: 2/ 1006، 1007

(2)

بدائع الصنائع: 2/ 1014

ص: 708

وفي كتب الحنابلة: أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه، سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود أو من الأنف كالسعوط، أو ما يدخل في الأذن إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه أو من دواء المأمومة إلى دماغه فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل، وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه، سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه، وبهذا كله قال الشافعي، وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقه، ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة، واختلف عنه في الحقنة واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء، أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف. (1)

وقال: فإن قطر في إحليله دهنًا لم يفطر به سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يفطر. (2)

وقال: ومن استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه.

وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القيء لا يفطر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ((ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام)) ولأن الفطر بما يدخل لا بما يخرج.

واستدل القائلون بالفطر بحديث أبي هريرة: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عامدًا فليقض)) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وردوا الحديث الأول وقالوا: إنه غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف في الحديث، قاله الترمذي.

والحديث الثاني الذي استدل به القائلون بالفطر أنكره أحمد والبخاري وأبو داود، وجزموا بأنه غير محفوظ، وقال النسائي: وقفه عطاء على أبي هريرة. (3)

(1) المغني، لابن قدامة: 3/ 96

(2)

المغني، لابن قدامة: 3/ 100

(3)

انظر المغني: 3/ 157

ص: 709

مذاهب العلماء في الحجامة:

ذكر النووي أن مذهب الشافعية: لا يفطر بها لا الحاجم ولا المحجوم، وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والنخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وداود وغيرهم.

وقال جماعة من العلماء: الحجامة تفطر وهو قول علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة، قال الخطابي: قال أحمد وإسحاق: يفطر الحاجم والمحجوم وعليهما القضاء دون الكفارة. وقال عطاء: يلزم المحتجم في رمضان القضاء والكفارة. (1)

(1) المجموع: 6/ 349؛ المغني: 3/ 94؛ ويراجع في كل ما تقدم الموسوعة الفقهية مصطلح صوم: ج/ 28

ص: 710

آراء الأئمة المعاصرين في مسائل العلاج في حق الصائم:

1-

رأي الشيخ محمود شلتوت- رحمه الله:

" قال رحمه الله في كتابه الفتاوى (1) : الحقن كلها لا تفطر.

وإذا كان من محظور الصوم الأكل والشرب - وحقيقتهما دخول شيء من الحلق إلى المعدة - والمعدة هي محل الطعام والشراب من الإنسان وقالوا: إنها كالحويصلة للطائر والكرش للحيوان، كان المبطل للصوم ما دخل فيها بخصوصها سواء أكان مغذيًا أم غير مغذٍّ، ولا بد من المنفذ المعتاد، ومن أجل هذا فما دخل الجوف، ولكن لم يصل إليها لا يفسد الصوم.

فالحقنة الشرجية يدخل بها الماء إلى الجوف، ولكن لا يصل إليها فلا تفطر، والحقن الجلدية أو العرقية يسري أثرها في العروق ولا تدخل محل الطعام والشراب فلا تفطر، نعم قد يحدث بعضها نشاطًا في الجسم وقوة عامة، ولكن لا تدفع جوعًا ولا عطشًا، ومن هنا لا تأخذ حكم الأكل أو الشرب وإن أدت شيئًا من مهمته، وإذا كان هذا هو الأصل في الإفطار وكانت الحقن بجميع أنواعها لا تفطر الصائم فإن أقماع البواسير أو مراهمها أو الاكتحال أو التقطير في العين، كل ذلك لا تأثير بشيء منه على الصوم، فهو ليس بأكل في صورته ولا في معناه، وهو بعد لا يصل إلى المعدة محل الطعام والشراب ".

(1) الفتاوى، ص 136

ص: 711

2-

رأي الشيخ سيد سابق:

قال: " الحقنة مطلقا سواء أكانت للتغذية أم لغيرها، وسواء أكانت في العروق أم تحت الجلد فإنها وإن وصلت إلى الجوف، فإنها تصل إليه من غير المنفذ المعتاد ".

وقد سبقهما إلى هذا الرأي ابن تيمية، حيث قال فيما نقله عنه الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة: أما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لا يفطر بالكحل ولا بالتقطر، ويفطر بما سوى ذلك.

ثم قال مرجحًا الرأي الأول: والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين الإسلام، الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام.

فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلًا، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك - إلى أن قال: - وكذلك الحقنة لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة.

والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه.

إلى أن قال: فالصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوى ، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء لا عن حقنة ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة. اهـ (1)

(1) فقه السنة: 3/ 244، 247

ص: 712

الإغماء وزوال العقل وأثرهما على الصوم:

الإغماء في اللغة فقد الحس والحركة لعارض (1) ، وأغمي عليه عرض له ما أفقده الحس والحركة فهو مغمى عليه، ومن زال عقله بسبب غير محرم كمن جن أو أغمي عليه أو زال عقله بمرض أو بشرب دواء لحاجة أو أكره على شرب مسكر فزال عقله ففي هذه الحالات لا يلزمه الصوم، ونقل النووي عن المزني أنه يصح صوم المغمى عليه وإن كان لا يلزمه الصوم على القول الأخير أيضا لأنه غير مكلف. (2) . واختلفوا في وجوب القضاء عليه.

قال النووي: يجب القضاء على المغمى عليه سواء استغرق جميع رمضان أو بعضه.

قال: وحكى الأصحاب وجهًا عن ابن سريج أن الإغماء المستغرق لجميع رمضان لا قضاء فيه كالجنون، وكما لا يجب عليه قضاء الصلاة، قال: هكذا نقل الجمهور عن ابن سريج، ونقل البغوي عنه أنه إذا استغرق الإغماء رمضان أو يوما منه لا قضاء عليه. قال: واختار صاحب الحاوي قول ابن سريج هذا في أنه لا قضاء على المغمى عليه، ثم قال: والمذهب وجوب القضاء عليه. (3)

ثم قال: ومن زال عقله بمرض أو بشرب دواء لحاجة أو بعذر لزمه

قضاء الصوم دون الصلاة، كالمغمى عليه.

وأخيرًا التخدير وإجراء العمليات وأثرهما على الصوم:

التخدير في الطب عملية إفقاد الإحساس بالألم (4) ،عن طريق الحقن، وقد سبق أن بينا مذاهب العلماء في الحقن على اختلافها، وأنها على رأي المتأخرين من محققي العلماء أنها لا تفطر، فينقاس عليها حقن التخدير، ومن ثم فإن العمليات التي لا يحتاج صاحبها إلى تناول الطعام المعتاد بالطرق الاعتيادية طيلة النهار فإن صومه صحيح، وهو رأي المزني، ولا قضاء عليه وهو مذهب ابن سريج وصاحب الحاوي الإمام أبي الحسن الماوردي، وقال النووي:

" قال أصحابنا يجوز شرب الدواء المزيل للعقل للحاجة، وقال: ولو احتيج في قطع يده المتآكلة إلى تعاطي ما يزيل عقله فوجهان: أصحهما جوازه، وقال: وإذا زال عقله والحالة هذه لم يلزمه قضاء الصلوات بعد الإفاقة لأنه زال بسبب غير محرم ". (5)

أما صحة الصوم وقضاؤه فقد سبق بيانه وذكرنا مذاهب العلماء في صحة صومه وحكم القضاء، وأن الأصل الذي ينقاس عليه هو الإغماء ، وقد بينا حكم صوم المريض قبل هذا في أول البحث وفي أثنائه، فلا نعيد القول فيه.

(1) الوسيط مادة (غم)

(2)

المجموع: 6/ 254؛ والمجموع أيضا: 3/ 6، 7

(3)

المجموع 6/ 255

(4)

المعجم الوجيز مادة (خدر)

(5)

المجموع: 3/ 7

ص: 713

خلاصة البحث

أولًا: الصوم عبادة عظيمة شرعها المولى عز وجل لمصلحة الإنسان، حيث تنمي فيه روح المراقبة التي هي مشكاة الحياة الفاضلة وسبب كل نعمة مادية وأدبية.

ثانيًا: كذلك فإن الصوم كان مفروضًا على جميع الأمم، وهو ما أثبته البحث الاستقرائي، فتصريح القرآن الكريم به فيه إعجاز علمي ظاهر.

ثالثًا: لما كان الصوم فيه بعض المشقة، ومن الناس من يتفق أن يكون مريضًا أو أن يكون على سفر، والسفر قطعة من العذاب، ومن الناس من يكون شيخًا كبيرًا طاعنًا في السن هرمًا يضره الإمساك عن الطعام والشراب، ومن النساء من تكون طامثًا أو نفساء؛ فاقتضت حكمة الله ورحمته أن يخفف وطأة الصيام عن هؤلاء، فأباح لهم الفطر في أيام السفر والمرض، ويصومون بدلًا عنه أيامًا أخرى في غير رمضان.

رابعًا: المرض من الأعذار المسقطة للصوم، وعرفوا المرض بأنه ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة، أو هو الذي يخاف أنه يزداد بالصوم أو ما يخاف منه الهلاك، وقال جمهور العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر.

خامسًا: المريض إذا صام صح صومه، وهو الرأي المختار وهو رأي جمهور العلماء.

ص: 714

سادسًا: أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب على الصائم وضبط العلماء الداخل المفطر: بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم، والباطن الواصل إليه هو: ما يقع عليه اسم الجوف أو ما يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء أو غذاء، وهو باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة في قول جمهور العلماء.

سابعًا: وقد اختلف العلماء في جملة من المسائل كالحقنة والسعوط والتقطير في الإحليل، ودواء الجروح إذا وصل إلى الدماغ أو الجوف والحجامة.

ثامنًا: ذهب المعاصرون من العلماء ومنهم الشيخ شلتوت شيخ الأزهر الأسبق والشيخ سيد سابق، وسبقهما شيخ الإسلام، من ابن تيمية، إلى أن الحقن بجميع أنواعها غير مفطرة، وبه نأخذ.

تاسعًا: الإغماء وزوال العقل بغير تعد، وتناول الأدوية المزيلة للعقل بقصد العلاج مما اختلف العلماء فيه، فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن تناول الأدوية المغيبة للعقل جائز ولا يلزمه الصوم ويلزمه القضاء، وقال المزني: يصح صومه، وقال ابن سريج: لا يلزمه القضاء، وبه نأخذ. وعليه فالتخدير بالحقن وإجراء العمليات التي لا يحتاج صاحبها إلى تناول الطعام بالطرق الاعتيادية عن طريق الفم، ولو تناولها من طريق الحقن ولو مغذية لا يجرح صومه ولا يلزمه القضاء

والله أعلم.

وهذا ما تيسر لنا جمعه في هذه العجالة.

أسأل الله تعالى أن ينفع به إنه سميع مجيب، وأن يتقبل عملنا ويجعله خالصًا لوجهه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د.. عبد الله محمد عبد الله

ص: 715