المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الذبائحوالطرق الشرعية للذكاةإعدادأ. د إبراهيم فاضل الدبو - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد العاشر

- ‌بحثأحكام الذبائح واللحوم المستوردةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادسماحة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية للذكاةإعدادأ. د إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌‌‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌المفطراتإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌مفطرات الصائمفي ضوء المستجدات الطبيةإعداد الدكتور محمد جبر الألفي

- ‌ضابط المفطراتفي مجال التداويالأكل والشربإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المفطراتإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌المفطراتفي مجال التداويإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌التداوي والمفطراتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌المفطراتفي ضوء الطب الحديثإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادالدكتور نزيه كماد حماد

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادد. محمد بن علي القري

- ‌الاستنساخ البشريإعدادالشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية

- ‌نظرة في الاستنساخ وحكمه الشرعيإعدادآية الله محمد علي التسخيري

- ‌الاستنساخ البشريبين الإقدام والإحجامإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌الاستنساختقنية، فوائد، ومخاطرإعدادد. صالح عبد العزيز الكريم

الفصل: ‌الذبائحوالطرق الشرعية للذكاةإعدادأ. د إبراهيم فاضل الدبو

‌الذبائح

والطرق الشرعية للذكاة

إعداد

أ. د إبراهيم فاضل الدبو

الأستاذ بكلية الآداب- قسم الشريعة

جامعة العلوم التطبيقية- الأردن

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

إن بحثنا المتواضع هذا الذي أقدمه للدورة العاشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، يتناول الذبائح وطرق تذكيتها من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، وقد اقتصرت في البحث على المقدور عليه من الأنعام، أما غير المقدور عليه كالصيد الذي يتم صيده بواسطة الكلاب المعلمة أو الطيور الجارحة أو المعراض أو الطلقات النارية، فلا يدخل في بحثنا هذا.

وقد ختمت البحث بحكم الشريعة الإسلامية في اللحوم المستوردة من بلاد غير المسلمين.

سائلا الله عز وجل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع ببحثنا هذا أمتنا المسلمة.

إنه سميع مجيب.

ص: 222

الذبائح التي تحل بالذكاة:

قبل البدء في الكلام عن الذكاة الشرعية وشروطها عند الفقهاء، أود أن نبين أن الحيوان الذي نعنيه بالبحث هنا، هو الحيوان مأكول اللحم، أي غير محرم- نص الشارع على تحريمه- قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} الآية [المائدة: 3]

وما عدا هذا فما استطابته العرب فهو حلال لقول الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] ، يعني ما يستطيبونه دون الحلال، بدليل قوله في الآية الأخرى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ولو أراد الحلال لم يكن ذلك جوابا لهم (1)، وما استخبثته العرب فهو محرم لقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] والعرب الذين تعتبر استطابتهم للحيوان واستخباثهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم المخاطبون بالكتاب وبالسنة النبوية، فيعتبر عرفهم في تفسير المطلق من ألفاظهما دون غيرهم. ولا عبرة بعرف أهل البادية، لأنهم يأكلون ما يجدونه في حالة المجاعة والاضطرار.

وما وجد في ديار المسلمين مما لا عهد لأهل الحجاز به، رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز، فإن لم يشبه شيئا منها فهو مباح لقول الله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] الآية، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:((وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه)) (2) .

(1) المغني، لابن قدامة المقدسي: 8/ 585، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية

(2)

المغني، لابن قدامة المقدسي: 8/ 585، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية

ص: 223

الذكاة لغة واصطلاحا:

قال الخرشي: الذكاة في اللغة هي التمام، يقال: ذكيت الذبيحة، ذلك إذا أتممت ذبحها، ويقال: ذكيت النار إذا أتممت إيقادها، ورجل ذكي تام الفهم والحدة. (1) وجاء في كفاية الأخيار: الذكاة في اللغة التطيب، من قولهم رائحة ذكية أي طيبة، ومن هنا سمي الذبح بالذكاة لتطييب أكله بالإباحة (2) .

وفي الشرع كما قال ابن وضاح: "هي السبب الذي يتوصل به إلى إباحة الحيوان البري ". (3) وعرفها الماوردي بقوله: " قطع مخصوص "(4) . وهي عند الكمال بن الهمام: "ذبح الحيوان مأكول اللحم أو نحره بإزهاق روحه في الحال بغية الانتفاع بلحمه بعد ذلك "(5) .

حكمها:

الحيوان المأكول لا يحل أكل شيء منه إلا بتذكيته، قال الله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] أي ذبحتم.

قال ابن قدامة: "لا خلاف بين أهل العلم أن المقدور عليه من الصيد والأنعام لا يباح إلا بالذكاة"(6) .

وإذا ظهر لنا أن المباح من الحيوان لا يحل لنا إلا بعد تذكيته، تبين لنا أن التذكية شرط لصحة أكله، وعند فقدان الشرط يحرم علينا أكله.

حكمة مشروعيتها:

للذكاة الشرعية أكثر من حكمة، فبها نعرف حلال اللحم من حرامه، لأن فقدان الحيوان حياته بغير ذكاة، يعني صيرورته ميتة محرمة، وهذا جانب من جوانب العبادة، وهناك جانب صحي، وهو أن الذكاة تطهير للحيوان، لأن الحيوان إذا أسيل دمه فقد طهر وطاب أكله، لأنه يسارع إلى التجفيف. فالذكاة تطييب للذبيحة بإخراج دمها، وهذا تطييب حسي، وفيه فائدة صحية.

(1) انظر الخرشي على مختصر سيدي خليل: 2/ 3

(2)

كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، للعلامة تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني: 516/1

(3)

انظر الخرشي: 2/ 3

(4)

انظر كفاية الأخيار: 1/ 516

(5)

انظر فتح القدير: 8/ 52

(6)

المغني: 8/ 573

ص: 224

شروط صحة الذكاة الشرعية:

بعد أن بينا الذبائح التي أباح الإسلام أكلها، نقف الآن على ما اشترطه الفقهاء من شروط لصحة الذكاة. والذكاة الشرعية على نوعين:

ا- ذكاة اضطرارية.

2-

ذكاة اختيارية.

الذكاة الاضطرارية:

وتقع هذه الذكاة في الحيوان غير المقدور عليه، كحيوان الصيد في الغابة، أو المستأنس إذا توحش كالبعير الناد الذي لم يستطع أحد السيطرة ،وللفقهاء رأيان في طريقة تذكيته:

الرأي الأول:

وهو مذهب أكثر الفقهاء، ويقضي هذا الرأي بأن تذكية مثل هذا الحيوان تتم بجرحه في أي موضع يقدر عليه، فيسيل من جراء الجرح دمه فيقتله، وحينئذ يحل أكله. ومثل ذلك ما لو تردى حيوان في بئر مما يعجز أحد عن تذكيته، فلو جرح في أي موضع يقدر عليه، فقتله، جاز أكله، إلا إذا كانت رأسه متدلية في الماء لا يؤكل، لأن الماء يعين على قتله، فيعتبر من قبيل الخنق، وحكمه حكم الميتة.

هذا ما ذهب إليه أكثر فقهاء الصحابة، منهم: علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال من فقهاء التابعين: مسروق والأسود والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق (1) وإلى هذا ذهب الحنفية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) .

(1) المغني، لابن قدامة: 8/ 566

(2)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني: 5/ 49

(3)

انظر كفاية الأخيار: ا/ 515

(4)

انظر المغني: 8/ 566

ص: 225

دليل هؤلاء العلماء فيما ذهبوا إليه:

أ- ما رواه رافع بن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فندَّ بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا)) ، وفي لفظ "فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا"(1) .

ب- كما استدلوا ببعض الآثار التي حكت فعل كثير من الصحابة، التي تؤيد هذا الرأي، منها أن ثورًا حَرِبَ في بعض دور الأنصار، فضربه رجل بالسيف وذكر اسم الله عليه، فسئل علي ابن أبي طالب، فقال: ذكاة وَحْيَة، فأمرهم بأكله (2)

ج- ومن المعقول قولهم: إن الاعتبار في الذكاة بحال الحيوان وقت ذبحه لا بأصله، بدليل أن الوحشي إذا قدر عليه، وجبت تذكيته بقطع الحلق واللبة، وكذلك الحال في الحيوان الأهلي إذا توحش، فالاعتبار يقع بحاله (3)

(1) متفق عليه

(2)

استدل بالأثر ابن قدامة في المرجع السابق.

(3)

انظر المغني: 8/ 567

ص: 226

الرأي الثاني:

وهو لفقهاء المالكية، ويقضي رأيهم بعدم جواز أكل الحيوان الإنسي الشارد أو المتردي في حفرة إلا بعد ذكاته، قال الخرشي معقبا على ما جاء في مختصر سيدي خليل:(لا نَعْم شرد أو تردى بكوة) : أن النعم إذا نفر شيء منها ولحق بالوحشي، فإنه لا يؤكل بالعقر، أما الإبل فبلا خلاف، وأما البقر فعلى المشهور". (1)

وحكى ابن قدامة مثل هذا الرأي عن ربيعة والليث من فقهاء السلف.

واحتج لهذا الرأي، بأن الحيوان الإنسي لو توحش، فلا يثبت له حكم الوحشي، بدليل لو أن محرما قتله فلا يلزمه الجزاء، ولو كان وحشيا للزمه ذلك، كما أن الحمار الأهلي لا يصبح مباح الأكل فيما لو توحش، وعلى هذا لا يثبت للحيوان الإنسي إذا ند أو تردى من علو حكم المتوحش.

والراجح من القولين هو قول الجمهور؛ لصحة الآثار التي استدلوا بها، لا سيما حديث رافع بن خديج، ولعل الإمام مالكا - كما قال الإمام أحمد - لم يبلغه حديث رافع، والله أعلم.

(1) انظر شرحه على مختصر سيدي خليل: 3/ 9

ص: 227

الذكاة الاختيارية:

وقفنا قبل قليل على رأي الفقهاء في الذكاة الاضطرارية، ونقف الآن على الشروط التي ذكروها لصحة الذكاة الشرعية في حالة السعة والاختيار.

والشروط منها ما يتعلق بالذابح، ومنها ما يتعلق بآلة الذبح، أو محل الذبح من الحيوان، أو فعل الذابح وما يلزمه من ذكر عند الذبح.

شروط الذابح:

اشترط الفقهاء فيمن يتولى الذبح أن تتوفر فيه أهلية الذكاة الشرعية، والأهلية تتحقق بالعقل والدين.

أولا-العقل: وشرط العقل محل اتفاق عند جمهور الفقهاء، لأن الذكاة عبادة تفتقر إلى النية، ومن لا عقل له لا يصح منه القصد.

هذا ما صرح به الحنفية في كتبهم، قال الكاساني:"لا تؤكل ذبيحة المجنون والصبي الذي لا يعقل والسكران الذي لا يعقل، أما لو عقل الصبي الذبح وقدر عليه وكذلك السكران، فإن الحكم يختلف عندئذ، إذ تحل ذبيحتهما في هذه الحالة"(1) .

وهذه وجهة نظر المالكية (2)،وبه قال الحنابلة أيضا (3) . ولفقهاء الشافعية قولان في المسألة: أحدهما يتفق مع وجهة نظر الجمهور هذه، مدللين على ذلك بما استدل به الجمهور من عدم توفر القصد من هؤلاء الذي هو شرط لصحة الذبح، فأشبه فعلهم النائم الذي سقطت من يده السكين على حلقوم شاة فقطعته، فإنها لا تحل، كذلك الأمر في فعل هؤلاء. (4)

والقول الآخر وهو الأظهر عندهم، يقضي بحل ذبيحة هؤلاء الذين في تذكيتهم خلاف بحجة أن للمذكورين قصدا وإرادة في الجملة، بخلاف النائم فإنه معدوم القصد والإرادة، وقد شبهوا فعل المذكورين بالذي قطع حلق شاة ظانا أنه خشبة، فالشاة تحل في هذه الحالة، كذلك الحال بالنسبة لمن لا يعقل (5) .

ومحل الخلاف بين الرأيين كما ذكر العلامة البغوي، هو إذا لم يكن للمجنون والسكران تمييز أصلا، أما إذا كان لهما أدنى تمييز، فإن ذبيحتهما تحل قطعاً.

والقول الأول هو الصحيح عند الإمام الغزالي وجماعة من فقهاء المذهب، في حين نسب القول الثاني لأبي حامد وأبي إسحاق الشيرازي ، وقد حكى صاحب كفاية الأخيار عن بعض كتب المذهب القول بالحل. (6)

(1) انظر بدائع الصنائع: 5/ 45

(2)

انظر الخرشي على مختصر سيدي خليل: 3/3، حيث قال معقبا على كلام سيدي خليل:(مميز بناكح) لا تؤكل ذبيحة المجنون والسكران حال إطباقهما ومثلهما الصبي غير المميز لعدم النية".

(3)

المغني، لابن قدامة: 8/ 581

(4)

مغني المحتاج، للخطيب الشربيني: 4/ 267

(5)

مغني المحتاج، للخطيب الشربيني: 4/ 267

(6)

كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار: 1/ 520

ص: 228

الرأي المختار:

إن القول بحل ذبيحة المجنون والسكران ونحوهما سواء كان لهم أدنى إدراك أو لم يكن قول فيه نظر، لأنه كما قال الجمهور: إن الذكاة عبادة تفتقر إلى نية، وهؤلاء لا تعتبر نيتهم، مثلهم مثل الصبي غير المميز في هذه الحالة.

وقياس بعض فقهاء الشافعية حل ذبيحة هؤلاء على النائم، أن هذا القول غير مسلم من جميع فقهاء المذهب، فقد حكى الدارمي وجهين لهم في ذبح النائم. وقال الخطيب الشربيني عن ذبيحته:"والذي ينبغي القطع به عدم حله ". (1)

لذا يكون قول الجمهور هو المختار في هذه المسألة، والله أعلم.

ذكاة المرأة:

أجاز الفقهاء ذكاة المرأة وإن كانت حائضا، واحتج لحل ذبحها بما ورد:((أن جارية لآل كعب كانت ترعى غنما لهم فمرضت شاة منها، فكسرت مروة وذبحتها، فسأل مولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز لهم أكلها)) . (2) وقد حكى ابن المنذر إجماع العلماء على حل ذبيحتها (3)

ثانيا-الدين:

لا خلاف بين العلماء أن المسلم أهل للذبح سواء كان عدلا أم لا، إذا أطاق الذبح (4) .

(1) مغني المحتاج: 4 / 267

(2)

أخرج الحديث البخاري: 2/ 62؛ وأحمد: 6/ 386؛ والبيهقي: 9/ 281

(3)

المغني، لابن قدامة: 8/ 581

(4)

المغني، لابن قدامة: 8/ 581

ص: 229

وغير المسلم من أهل الكتاب وغيرهم فيه تفصيل أوضحه فيما يلي:

ذبائح أهل الكتاب:

ذبيحة أهل الكتاب- وهم اليهود والنصارى- حلال بالنص القراني، قال الله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] يعني ذبائحهم، قال البخاري: قال ابن عباس رضي الله عنهما: " طعامهم: ذبائحهم "، وكذلك قال مجاهد وقتادة، وروي معناه عن ابن مسعود. وحكى ابن قدامة إجماع أهل العلم على ما ذكرنا للنص القرآني المذكور (1) .

ولو قيل: إن المراد بطعامهم الفواكه والحبوب، فتحل منهم دون سواها، فيجاب عن ذلك بما يلي:

ا- إن الفواكه والحبوب مباحة من المشركين والمجوس، فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة.

2-

إن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعاما بفعلهم، والذبائح صارت لحما بفعلهم وهو الذبح.

3-

ولأن مطلق اسم الطعام يقع على الذبائح كما يقع على غيرها، بدليل أنه اسم لما يتطعم، والذبائح مما يتطعم بها فيدخل تحت إطلاق اسم الطعام فيحل لنا أكلها. (2)

(1) انظر المغني: 8/ 567

(2)

البدائع، للكاساني: 5/ 45

ص: 230

الكتابي الذي تحل ذبيحته:

المراد بالكتابي الذي تحل ذبيحته هو من يدين بدين أهل الكتاب وهذا لا نزاع فيه سواء كان ذميا أو حربيا، وقد حكى ابن المنذر إجماع الفقهاء على ذلك (1)

والخلاف الذي وقع بين الفقهاء في هذه المسألة، هو من ينطبق عليه وصف أهل الكتاب. وها أنا أتناول بالبحث هنا آراءهم فيمن ينطبق عليه هذا الوصف.

الكتابي من أصل غير كتابي أو كتابي من أصل واحد:

لا خلاف بينهم، رحمهم الله تعالى، أن الكتابي تؤكل ذبيحته إذا كان أبواه كتابيين، أما إذا كان أبواه غير كتابيين، أو كان أحدهما كتابيا والآخر غير كتابي، فقد اختلفت وجهات نظرهم فيه، وذلك على النحو التالي:

ا- ذهب الحنفية إلى حل ذبيحة الكتابي مطلقا سواء كان من أصل كتابي أو غير كتابي، وكذا لو كان غلاما مولودا بين كتابي وغير كتابي، سواء كان مولود الأب أو الأم، معللين ذلك بقولهم:"إن جعل الولد تبعا للكتابي منهما أولى، لأنه خيرهما دينا فينسب إليه ". (2)

وهذه وجهة نظر المالكية أيضاً، فقد ذكر أئمتهم أن المجوسي الذي تنصر أو تهود، فإنه يقر على الدين المنتقل إليه ويصير له حكم أهل الكتاب من أكل ذبيحته وغيره من الأحكام (3) معنى هذا: أنهم لم يشترطوا تنصر أو تهود أبوي المجوسي الذي أصبح كتابيا من أجل حل ذبيحته.

وبخصوص الغلام من أصل كتابي وغير كتابي، فإنهم أباحوا ذبيحته إذا كان من أب كتابي، حكى ذلك الشيخ العدوي عن الشيخ سالم من فقهاء المذهب حيث قال:"وتؤكل ذبيحة الغلام أبوه نصراني وأمه مجوسية، لأنه تبع لدين أبيه ". (4) وذهب الشافعي في أحد قولين له إلى إباحة ذبيحة الكتابي الذي أبوه كتابي أيضا.

2-

قال الحنابلة: إن كان أحد أبوي الكتابي ممن لا تحل ذبيحته والآخر ممن تحل ذبيحته، فلا تحل ذبيحة الذابح في هذه الحالة (5) وبه قال الشافعي إذا كان الأب غير كتابي، وفي قول له وإن كان كتابيا، حكى ذلك ابن قدامة عنه (6) .

(1) المغني، لابن قدامة: 8/ 568

(2)

البدائع، للكاساني: 3/ 46

(3)

انظر الخرشي على سيدي خليل: 3/ 5

(4)

الشيخ العدوي على شرح الخرشي في المصدر السابق أيضا

(5)

انظر المغني: 8/ 568

(6)

انظر المغني: 8/ 568

ص: 231

والمتأمل في رأي الحنفية ومن حذا حذوهم يرجح رأيهم على رأي الآخرين، لأنه كما قالوا: إن العبرة بدين الذابح لا بدين أبويه، بدليل أن الاعتبار في قبول الجزية هو دينه بغض النظر عن دين من انحدر من أصولهم، وكذا أخذا بعموم النص والقياس.

ذبائح نصارى بني تغلب:

مما أثاره فقهاء المسلمين في ذبائح أهل الكتاب، ذبائح طائفة منهم، وهم نصارى العرب من بني تغلب وغيرهم،

وقد اختلفت وجهات نظرهم في هذه المسألة على قولين:

ا- ذهب الشافعية إلى عدم حل ذبح نصارى العرب، وهم نجران وتنوخ وتغلب، مدللين على ذلك بالأدلة التالية:

أ- أن الرسول- عليه الصلاة والسلام نهى عن ذبح نصارى العرب.

ب- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ليس نصارى العرب بأهل كتاب ولا تحل لنا ذبائحهم، ولا تحل لنا ذبائح بني تغلب؛ لأنهم لم يأخذوا من دين أهل الكتاب إلا شرب الخمر وأكل الخنزير"(1)

وإلى هذا ذهب الحنابلة في رواية عن الإمام أحمد (2) ، وحكى ابن قدامة والكاساني ذلك عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (3) وكره ذبائحهم أيضا عطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن علي والنخعي من فقهاء التابعين. (4)

2-

ذهب الحنفية إلى حل ذبائح نصارى بني تغلب وغيرهم (5) وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]

وحكى الكاساني ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما (6)، حيث استدل بقوله عز شأنه:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]

وإلى هذا ذهب الحنابلة في الرواية الصحيحة عن الإمام أحمد،رواها عنه الجماعة وكانت آخر الروايتين عنه (7) .

(1) انظر كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار: 2/ 520

(2)

انظر المغني: 8/ 517

(3)

المغني: 8 / 517؛ البدائع: 5 / 545 فقد حكي عنه- رضي الله عنه أنه قال: "لا تؤكل ذبائح نصارى العرب، لأنهم ليسوا بأهل كتاب ". وقرأ قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] .

(4)

ابن قدامة في المصدر السابق أيضا.

(5)

البدائع، للكاساني: 5/ 45

(6)

البدائع، للكاساني: 5/ 45

(7)

المغني: 8/517

ص: 232

وحكى ابن قدامة ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن الحسن والنخعي والشعبي والزهري وغيرهم من فقهاء السلف، مستدلين بعموم الآية الكريمة التي أباحت طعام أهل الكتاب (1) .

وهذا -على ما يبدو لي رأي المالكية- أيضا، إذ لم يفرقوا بين كتابي وآخر. (2)

وقد أجاب الأحناف عن الآية التي استدل بها الإمام علي رضي الله عنه بأنها تفيد أنهم من أهل الكتاب، لأن قوله عز وجل:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 78] أي من أهل الكتاب، لأن "من " تفيد التبعيض، إلا أنهم يخالفون غيرهم من النصارى في بعض شرائعهم، وهذا يخرجهم عن كونهم نصارى كسائر النصارى، أما إنهم من أهل الكتاب فهذا مما لا شك فيه (3) .

وبهذا يترجح لدى المتأمل في أقوال الفقهاء حول المسألة المتنازع فيها رأي القائلين بحل ذبائح هذه الطائفة من النصارى، والله أعلم.

(1) المغني: 8/517

(2)

انظر الخرشي على سيدي خليل: 3/ 5

(3)

البدائع: 5/ 45

ص: 233

حكم ذبيحة الكتابي المحرم عليه ذبحها:

يعتقد اليهود تحريم كل ما ليس بمشقوق الأصابع كالإبل والنعام والبط، وكذلك يعتقدون تحريم الشحوم من كل دابة بها شحم، إلا أن غير الشحم حلال في غير ما ليس بمشقوق الأصابع، قال الله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أو الْحَوَايَا أو مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]

وهذه الأشياء حلال، لأن الله حرمها عليهم بسبب بغيهم وظلمهم.

ولكن إذا ذبحوها- وهي محرمة عليهم لا علينا- فهل يحل لنا أكلها؟

اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:

ا- ذهب الشافعية إلى حل ذبائح أهل الكتاب، سواء اعتقدوا إباحته كالبقر والغنم أم تحريمه كالإبل (1) ، والظاهر أن هذا هو رأي الحنفية أيضا، بناء على ما قالوه بحل ذبائح أهل الكتاب ممن تحل لنا مطلقا، وظاهر كلام أحمد إباحة ذلك أيضا، فقد ذكر الخرقي أن أحمد حكى مذهب مالك في اليهودي الذي يذبح الشاة، أنه لا يؤكل من شحمها لاعتقاد اليهودي حرمة ذلك، فقال أحمد عن قول مالك:"هذا مذهب دقيق "، وعقب ابن قدامة على هذا بقوله:"وظاهر هذا أنه- أحمد- لم يره صحيحا". وهذا هو اختيار ابن حامد وأبي الخطاب من فقهاء الحنابلة.

وكذا نص الحنابلة على حل ذبيحة ما زعم الذمي أنها محرمة عليه، ولم يثبت تحريمها في شريعته، فقوله غير مقبول في هذه الحالة (2)

(1) انظر مغني المحتاج: 4/ 266

(2)

انظر المغني: 8/ 582

ص: 234

وقد دلل الحنابلة على إباحة ذلك كله بالأدلة التالية:

أ) ما روي عن عبد الله بن مغفل أنه قال: ((دلي جراب من شحم من قصر خيبر فنزوت لآخذه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم إلي)) .متفق عليه.

ب) إن ذكاة الذمي قد أباحت اللحم والجلد، فكذلك أباحت الشحم، كما هو الأمر بالنسبة لذكاة المسلم.

2-

الرأي عند المالكية هو: عدم حل ذبيحة الكتابي إذا ذبح لنفسه ما يراه غير حلال له، وثبت تحريمه عليه بشرعنا كذي الظفر من الإبل وحمر الوحش والنعام والأوز، وكل ما ليس بمشقوق الظفر ولا منفرج القوائم، فإن لم يثبت تحريمه بشرعنا، بل أخبر هو بحرمته في شريعته كالطريفة، كره أكله من غير تحريم (1)

والملاحظ على رأي المالكية هنا أنهم قيدوا عدم حل ذبيحة الكتابي في المسألة مدار البحث إذا ذبح لنفسه، أما إذا ذبح لغيره من المسلمين، فظاهر قولهم يقضي بحل ذبيحته في هذه الحالة.

وبمثل قول المالكية قال أبو الحسن التميمي والقاضي الحنبلي أبو يعلى، وحكي هذا أيضا عن الضحاك ومجاهد وسوار من فقهاء السلف (2)، وقد دلل أصحاب هذا الرأي بما يلي:

أ- قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وليس المذكور من طعامهم لتحريمه عليهم.

ب- بخصوص الشحم؛ فإنه جزء من حيوان لم يبح أكله لذابحه، فلم يبح لغيره كالدم (3)

(1) انظر الخرشي: 3/ 6، والطريفة هي الذبيحة فاسدة الرئة، أي ملتصقة بظهر الحيوان

(2)

المغني، لابن قدامة: 8/ 582

(3)

المغني، لابن قدامة: 8/ 582

ص: 235

جواب ابن قدامة عن أدلة أصحاب الرأي الثاني:

أجاب ابن قدامة عن أدلة القائلين بتحريم ذبيحة الكتابي المحرم عليه ذبحها بقوله:

أ- بخصوص الآية الكريمة فإنها حجة للقائلين بالحل، لأن معنى طعامهم: ذبائحهم، كذلك فسره العلماء، والحيوانات محل الكلام من ذبائحهم، فيحل أكلها للمسلم وإن كانت محرمة من وجهة نظر الذابح.

ب- أما قياسهم تحريم الشحم باعتباره جزءا من حيوان غير مباح الأكل لذابحه، فلم يبح لغيره كالدم فإنه محرم على المسلم فلا يباح لغيره، فالقياس ينتقض بذبيحة الغاصب، فإنها تحرم عليه، في حين أنها تحل لغيره، وكذلك الحال بالنسبة للشحم فإن تحريمه من وجهة نظر الذابح، لا يعني بالضرورة تحريمه على المسلم (1) .

والراجح من الرأيين هو الرأي الأول، لأن الله عندما حرم على اليهود هذه الأشياء إنما كان بسبب بغيهم، وهي حلال في شرعنا، وقد أباح الله لنا طعامهم فيما هو حلال لنا، وقد جاءت الإباحة مطلقة غير مقيدة بقيد سوى ما ذكرنا من الحل في شرعتنا.

(1) المغني، لابن قدامة: 8/ 582

ص: 236

حكم ما ذبحه الكتابي لغير الله:

ذكرنا فيما تقدم وجهة نظر الفقهاء في ذبيحة الكتابي التي لم يقصد بها القربة، أما لو نوى بها التقرب لكنيسة أو لعيد من أعياده، فللفقهاء رأي آخر في هذه المسألة أوجزه كما يلي:

ا- إن ما قدمه الكتابي من دم بقصد القربة لغير الله، لا يخلو من أن يذبحه مسلم أو يتولى ذبحه بنفسه، فهنا حالتان يختلف حكم كل واحدة منهما عن الأخرى:

الحالة الأولى: إذا تولى الذبح مسلم بأمر من الكتابي، فقد نص الإمام أحمد على إباحة ذبيحته، حكى ذلك ابن قدامة عنه حيث قال:"قال أحمد وسفيان الثوري في المجوسي يذبح لإلهه، ويدفع الشاة إلى المسلم يذبحها فيسمي يجوز الأكل منها"(1) . ونقل عن أحد فقهاء المذهب أنه سأل أحمد عما يقربه المجوس لآلهتهم ويتولى ذبحه مسلم، أنه أجاب بقوله: لا بأس به، فإذا حلت ذبيحة المجوسي في هذه الحالة وهو ليس من أهل الكتاب، فلأن تحل ذبيحة الذمي هنا من باب أولى.

وهذه وجهة نظر المالكية أيضا بناء على قولهم: بحل ذبيحة الكتابي الذي يذبح لله ويقصد به انتفاع الصليب أو عيسى- عليه السلام بثوابه، وكذا قياسا على ما حكي عن الإمام مالك أنه أجاز أكل ما ذكر عليه اسم المسيح عليه السلام مع الكراهة (2) فإذا أجاز ذلك كله عندهم مع أن الذي يتولى الذبح غير مسلم، فلأن يجيزوه مع تولي المسلم الذبح من باب أولى.

(1) انظر المغني: 8/ 568

(2)

انظر الخرشي على سيدي خليل: 3/ 6

ص: 237

وهذا على ما يبدو لي هو رأي الحنفية أيضا، لأن الشرط عندهم في حل الذبيحة هو التسمية كما سيأتي، وهي متوقعة من المسلم عند الذبح بخلاف غيره.

في حين يرى الشافعية حرمة الذبيحة في هذه الحالة، حيث قال الخطيب الشربيني:"لاتحل ذبيحة مسلم ولا غيره لغير الله، لأنه مما أهل به لغير الله ". (1) وقد نص الشافعي على أن الذبح للنبي صلى الله عليه وسلم أو تقربا له، لا تحل الذبيحة في هذه الحالة (2) .

والذبيحة التي يتقرب بها الذمي لكنيسته أو لعيد من أعياده، إنما أهلت لغير الله، فلا تحل، وإن تولى ذبحها مسلم.

الحالة الثانية: أن يتولى الذمي ذبح ذبيحته المقصود بها قربته لغير الله، وعندئذ إن سمى الله وحده عند ذبحها، فإن أكلها حلال، لأن شرط الحل -وهو ذكر الله وحده- قد حصل (3) ، وإن ذكر اسم غير الله عليها كالمسيح، فللفقهاء آراء في المسألة أوضحها فيما يلي:

ا- حكي عن الإمام أحمد في أكثر الروايات عنه، عدم حل ذبيحة الذمي في هذه الحالة، قال ابن حنبل:"سمعت أبا عبد الله قال: لا يؤكل- يعني ما ذبح لأعيادهم وكنائسهم- لأنه أهل لغير الله به "(4) . فعدم حل ذبيحة الذمي على رأي أحمد هنا مقيد بأحد أمرين؛ أحدهما ذكر غير اسم الله على الذبيحة، والآخر ترك التسمية عمدا. وبالحرمة قال الشافعية أيضا، بناء على ما حكيناه عنهم في الحالة الأولى، إذ قولهم بحرمة ما ذبح لغير الله من المسلم، ينطبق على تولي غير المسلم الذبح أيضا إذا تقرب بها لغير الله. وهذا هو رأي الأحناف أيضا، فقد ذكر الكاساني، أنه إذا سمع من الكتابي قد سمى المسيح وحده عند الذبح أو سمى الله وأشرك معه المسيح، فلا تؤكل ذبيحته، لأنه مما أهل به لغير الله (5) .

(1) انظر مغني المحتاج: 4/ 273

(2)

انظر مغني المحتاج: 4/ 273

(3)

المغني، لابن قدامة: 8/ 569، وقد جاء فيه ما نصه:"وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم، قال: لا بأس به، وإن ذبحها الكتابي وسمي الله وحده، حلت أيضا، لأن شرط الحل وجد".

(4)

المغني، لابن قدامة: 8/ 569، وقد جاء فيه ما نصه:"وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم، قال: لا بأس به، وإن ذبحها الكتابي وسمي الله وحده، حلت أيضا، لأن شرط الحل وجد".

(5)

انظر البدائع: 5/ 46

ص: 238

2-

فرق المالكية بين قصد الذابح التقرب لغير الله كالصليب أو عيسى عليه السلام أو انتفاع من ذكر بالمذبوح، فإن قصد بذبحه التقرب للصليب أو عيسى عليه السلام فلا يحل أكل ذبيحته، وإن قصد انتفاع من تقرب إليه بالمذبوح، جاز أكله (1)

3-

حكى ابن قدامة الإباحة عن كثير من فقهاء السلف، رحمهم الله تعالى، منهم العرباض بن سارية وأبو أمامة الباهلي، وأبو الدرداء ومكحول وغيرهم، دليلهم في ذلك عموم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم} [المائدة: 5] . وما ذبحه الكتابي سواء كان قصده التقرب به لغير الله أم لا، يعتبر من طعامه، فيحل أكله (2)

وبهذا قال أحمد في رواية عنه، وروي عنه الكراهة مطلقا فيما ذبح لكنائسهم وأعيادهم، وهو قول ميمون بن مهران، لأنه ذبح لغير الله (3) .

(1) حاشية الشيخ العدوي على شرح الخرشي على سيدي خليل: 3/ 6، وقد جاء فيه ما نصه:"والحاصل أنه مع قصد التقرب لا فرق بين الصنم والصليب وعيسى في عدم الأكل، ومع قصد الانتفاع لا فرق بين الثلاثة في الأكل وإن لم يذكر اسم الله عليه". وجاء في موضع آخر من المصدر نفسه: "ذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وشرعا".

(2)

انظر المغني: 8/ 569

(3)

انظر المغني: 8/ 569

ص: 239

الرأي المختار:

والذي أراه أن ما يقدمه الكتابي من ذبائح لكنيسته أو لعيد من أعياده، إن قام بالذبح مسلم، فلا بأس في أكله كما قال المالكية والحنابلة وكثير من فقهاء السلف، لأن ذكر الله من المسلم عند الذبح أمر متحقق الوقوع تغليبا لجانب حسن الظن فيه، وفي هذه الحالة ينتفي القول بأن ذبيحة المسلم وغيره لا تؤكل إذا أهلت لغير الله، فإن المقصود بغير الله هو التقرب إلى هذا المعبود من حجر أو بشر، وهذا غير متصور من المسلم.

أما إذا قام الذمي بذبحه تقربا لكنيسته أو لسيدنا عيسى- عليه السلام-أو غيره، وتأكد لنا عدم ذكر الله عند الذبح، فإني أؤيد وجهة نظر القائلين بحرمة أكل ذبيحته في هذه الحالة، من غير فرق بين أن يكون قد قصد بذبحه التقرب إلى الجهة التي ذبح لها أو انتفاع تلك الجهة بالمذبوح، وذلك لما يلي:

إن الكثير من أهل الذمة يخلط في عقيدته بين التوحيد والشرك، لا سيما في العصر الحاضر، فإذا تأكد لنا أن ذبيحته هذه قد نحرها للكنيسة أو لسيدنا عيسى- عليه السلام ترجح لدينا جانب الإهلال بالمذبوح لغير الله، وهذا حرام ، وهذا لا يدخل في عموم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُم} [المائدة: 5] ؛ لأنه- والله أعلم- المراد بطعامهم ما يذبحونه في الأحوال الاعتيادية، لا ما ينحرونه بقصد التقرب لقربة من القرب، فهذا يدخل في عموم قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] ، والله أعلم.

ص: 240

ذبائح المشركين:

بعد أن وقفنا على رأي الفقهاء، رحمهم الله تعالى، في حكم ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، نقف على رأيهم هنا في ذبائح المشركين، ونعني بهم الكفار الذين لا يدينون بدين سماوي، وهؤلاء غالباً ما يذكرون عند ذبائحهم اسم ما يعبدونه من غير الله.

ولنبدأ الكلام ببيان حكم ذبيحة الكفار من المجوس وغيرهم بشيء من التفصيل.

ذبيحة المجوسي:

المجوس: هم الذين يعبدون النار والكواكب، وقد أجمع العلماء على تحريم صيد وذبائح المجوس إلا ما لا ذكاة فيه كالسمك والجراد، وقد حرم مالك والليث صيد المجوسي من الجراد، ورخصا في السمك.

وممن حكى إجماع العلماء على هذا ابن قدامة، حيث قال:"أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما لا ذكاة له كالسمك والجراد ". (1)

وقد استند إجماع العلماء على الأدلة التالية:

أ- قوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ؛ فإن مفهوم الخطاب يدل على تحريم طعام غير أهل الكتاب من الكفار، ولأنهم لا كتاب لهم، فلم تحل ذبائحهم كعبدة الأوثان والأصنام.

2-

قوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ". وغيرها من الروايات التي تحرم ذبائح المجوس.

(1) انظر المغني: 8/ 570

ص: 241

وقد خالف أبو ثور إجماع العلماء عندما قال بإباحة صيد المجوسي وذبيحته، قياسا على ذبيحة أهل الكتاب، بجامع إقرارهم على الجزية، فيباح صيدهم وذبائحهم كاليهود والنصارى.

وقد قال ابن قدامة، عن هذا القول، بأنه " قول يخالف الإجماع فلا عبرة به ". (1)

حكم ذبيحة السامرة:

السامرة: طائفة من اليهود من بني يعقوب، عليه السلام، لا تؤمن إلا بنبوة سيدنا موسى وهارون ويوشع بن نون من أنبياء بني إسرائيل، وتنكر المعاد الجسماني، ولا يرون لبيت المقدس حرمة، ويحرمون الخروج من جبال نابلس، ويزعمون أن بأيديهم توراة بدلها أحبار اليهود.

وقد صرح المالكية بحل ذبائحهم، وإن خالفوا بعض معتقدات اليهود إلا أن أخذهم ببعض التعاليم اليهودية، اعتبر حكمهم كحكم اليهود في هذه المسألة (2)

(1) انظر المغني: 8/ 570

(2)

انظر الخرشي: 3/ 4

ص: 242

حكم ذبيحة الصابئة:

اختلف الفقهاء في ذبيحة الصابئة نظرا لاختلاف وجهة نظرهم في معتقداتهم، فقد أباح أبو حنيفة حل ذبائحم، وهذا يعني أنه- رحمه الله اعتبرهم من أصحاب الكتاب، أي أنهم موحدون.

وقال أبو يوسف ومحمد: بحرمة ذبائحهم لأنهم عبدة كواكب (1)

وهذه وجهة نظر المالكية أيضا، حيث صرحوا بحرمة ذبائح الصابئة وإن أخذوا ببعض تعاليم النصرانية (2)

والرأي القائل بحرمة ذبائح الصابئة هو المختار؛ وذلك لعدم وضوح معتقداتهم، والقول بالحرمة هو الأحوط.

ذبيحة الوثني والزنديق وغيرهم من الكفار:

الوثني: هو من يعبد الوثن من شجر أو حجر وغيره، وذبيحته حرام؛لعدم ذكره الله عند الذبح، فيصبح من باب ما أهل لغير الله به، فحكم ذبيحته ذبيحة الميتة.

الزنديق: هو الذي لا يدين بدين إلهي كما ذهب إلى ذلك فريق من العلماء، فلا تحل ذبيحته، لأنه لا دين له، ومثل الزنديق والوثني في الحكم الوجودي الذي ينكر المغيبات والسمعيات، ولا يعتمد إلا على المشاهدات والمحسوسات، فهو كافر لنكرانه الخالق سبحانه وتعالى، ولا يؤمن بما لا يثبت بالحس والمشاهدة، وعلى هذا فذبيحته حرام. ومن قبيل من ذكرنا من الزنادقة والوجوديين في الحكم: الشيوعي، وهو من ينكر صانع الوجود سبحانه وتعالى، وفي نظره أن الأديان مخدرة للشعوب، والحياة مادة، وهؤلاء أتباع ماركس ولينين ممن حاربوا الأديان السماوية، وقالوا بشيوعية المال والجنس، وأنكروا كل ما يمت إلى الأديان بصلة، فذبيحة الشيوعي حرام سواء ذبحها في بلده لأهله، أو ذبحها لغير أهله بقصد التصدير، ومثل من ذكرنا في الحكم ذبيحة الكفار من الهنود والبوذيين ومن على شاكلتهم ممن لا يدينون بدين سماوي.

(1) انظر البدائع: 5/ 45

(2)

انظر الخرشي: 3/ 4

ص: 243

قال ابن قدامة: "وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم حكم المجوسي في تحريم ذبائحهم وصيدهم إلا الحيتان والجراد وسائر ما تباح ميتته "(1) . وحكى الكاساني مثل ذلك عن الأحناف (2) . وهذه وجهة نظر المالكية (3) والشافعية أيضاً (4) .

والحكمة في تحريم ذبائح المشركين والكفار من مجوس ووثنيين وغيرهم ممن ذكرنا، أن ذبحهم يكسب المذبوح خبثا يوجب حرمته، لذكر معبودهم من كواكب وأوثان عند الذبح، وذكر الله وحده يكسبها طيبا، وإذا ذكر اسم غير الله صارت الذبيحة كالميتة، فإن قيل: هذا المعنى متحقق في أهل الكتاب أيضا، إذ الغالب منهم لا يسمي الله عند الذبح، أو يذكرون اسم غير الله.

فالجواب على هذا: أن أهل الكتاب عندهم من التوحيد وتعاليم الرسل والأنبياء ما لم يكن عليه عبدة الأوثان وغيرهم، كما أن أهل الكتاب يؤمنون بالجزاء والنبوات في الجملة، بخلاف أولئك الذين هم حرب على الرسل من عهد نوح إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

(1) انظر المغني: 8/ 571

(2)

انظر البدائع: 5/ 45

(3)

انظر الخرشي: 3/ 3

(4)

انظر كفاية الأخيار: 2/ 520؛ مغني المحتاج: 4/ 266.

ص: 244

ذبيحة المرتد:

المرتد: هو الذي يكفر بعد إسلامه بارتكاب ما يتناقض مع قواعد الإسلام، كاعتناقه مبدأ من المبادئ الهدامة مثل الشيوعية والقاديانية والبهائية، أو أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة كجحوده وجوب الصلاة أو الزكاة، أو اعتقد تحليل شيء محرم بالإجماع كاعتقاده حل شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير، أو تنصر أو تهود.

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم ذبيحة المرتد وإن تدين بدين أهل الكتاب، لأنه كما قال الكاساني:"لا يقر على الدين الذي انتقل إليه، فحكمه حكم الوثني الذي لا يقر على دينه "(1) .

ولم يفرق أكثر أهل العلم بين من ارتد لدين سماوي أو غيره، قال الخرشي:"لا تؤكل ذبيحة المرتد ولو لدين أهل الكتاب "(2) ، وبهذا صرح الكثير من الفقهاء في كتبهم (3)

وقد خالف الأوزاعي وإسحاق وجهة نظر الفقهاء هذه، حيث ذهبا إلى إباحة ذبيحة المرتد إلى النصرانية أو اليهودية، بحجة أن من تولى قوما فهو منهم.

وقد رد ابن قدامة على وجهة نظر الأوزاعي وإسحاق هذه بقوله: "إن المرتد كافر فلا يقر على كفره، فلا تباح ذبيحته كعابد الوثن ". (4)

كما أن أبا يوسف من الحنفية ذهب إلى حل ذبيحة المرتد المراهق، لأن ردة المراهق من وجهة نظره- رحمه الله غير صحيحة، وقد خالفه أبو حنيفة ومحمد، حيث اعتبرا ردته صحيحة، وهذا هو الرأي المفتى به في المذهب (5)

(1) انظر البدائع: 5/ 45

(2)

انظر شرح الخرشي على سيدي خليل: 3/ 3

(3)

البدائع، للكاساني: 5/ 45؛ المغني، لابن قدامة: 8/ 565

(4)

انظر المغني: 8/ 565

(5)

انظر البدائع: 5/ 45

ص: 245

التسمية:

التسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه، والحكمة من مشروعيتها، أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها، ويطرد الشيطان عن الذابح والذبيحة.

وقد اختلف الفقهاء في وجوبها على ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول:

أنها شرط مع الذكر، وتسقط بالسهو، هذا ما نص عليه الحنفية في كتبهم، قال الكاساني في معرض ذكره لشروط الذبح:"ومنها التسمية حالة الذكر عندنا". (1) وهذه وجهة نظر المالكية أيضا، قال سيدي خليل:"وتسمية إن ذكر"، وقد عقب الخرشي على ذلك بقوله:"إن التسمية أيضا واجبة مع الذكر في الذكاة من حيث هي، فيقول: باسم الله والله أكبر، عند الذبح وعند النحر، وعند الإرسال في العقر". (2) وهذا هو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب كثير من علماء السلف- رحمهم الله تعالى- منهم ابن عباس والثوري وإسحاق وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب والحسن وغيرهم.

دليل هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى:

ا- قوله عز وجل {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]

وجه الاستدلال بالآية من وجهين:

أحدهما: أن مطلق النهي يفيد التحريم في حق العمل.

والوجه الآخر: أن الله عز وجل اعتبر أكل ما لم يذكر اسم الله عليه فسقاً، حيث قال:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ولا فسق إلا بارتكاب المحرم.

وأجابوا عما لو قيل: إن النهي ينصرف إلى الميتة وذبائح أهل الشرك كما جاء في سبب نزول الآية؛ بما يلي:

أ) إن العام لا يخص بالسبب عندنا، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ب) إن حرمة الميتة وذبيحة المشرك قد ثبتت حرمتها بنصوص أخرى، منها قوله عز وجل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله جل وعلا: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 5] وغيرها من النصوص الأخرى، فحمل النص الذي استدللنا به على حرمة متروك التسمية عمدا يكون أولى، وفيه فائدة جديدة أيضا.

(1) البدائع: 5/ 46.

(2)

انظر الخرشي: 3/ 15

ص: 246

2-

واستدلوا أيضا بقوله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] حيث ورد الأمر بذكر اسم الله عند الذبح، ومطلق الأمر الوجوب في حق العمل، ولو لم يكن شرطا لَمَا وجب.

3-

واستدلوا كذلك بالسنة النبوية الشريفة، منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل صيد الكلب إذا شاركه في الصيد كلب آخر، وقد علل صلى الله عليه وسلم عدم الأكل بترك التسمية، فدل على أنها شرط (1)

(1) والحديث كما رواه الشعبي عن عدي بن حاتم- رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب، فقال:(ما أمسك عليك ولم يأكل منه فكله، فإن أخذه ذكاته، فإن وجدت عند كلبك غيره فحسبت أن يكون أخذه معه وقد قتله فلا تأكل، لأنك إنما ذكرت اسم الله تعالى على كلبك ولم تذكره على كلب غيرك) . وقد استدل بالأثر الكاساني؛ أنظر البدائع: 5/ 46

ص: 247

المذهب الثاني:

وهو للشافعية، ويقتضي مذهبهم بعدم اشتراط التسمية عند الذبح، فلو تركها المذكي عمدا أو سهوا حلت ذبيحته، واعتبروها سنة، مستدلين بالأدلة التالية:

أ- قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} [المائدة: 3] إلى قولى عز وجل: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . وجه الاستدلال من الآية أنها أباحت المذكى دون ذكر التسمية، ولو كانت شرطا لنص عليها.

ب- إن الله تعالى أباح طعام أهل الكتاب، وهم في الغالب لا يسمون عند الذبح، مما يدل على أنها غير واجبة.

ج- ومن أدلتهم بالسنة النبوية، ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ((إن قوما قالوا: يا رسول الله، إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، أنأكل منها؟ فقال:"اذكروا اسم الله وكلوا".))

واستدلوا أيضا بروايات أخرى يستفاد منها عدم إلزام المذكي بالتسمية.

ص: 248

جواب الشافعية على أدلة المخالفين لهم في الرأي:

ا- أجابوا عن قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ليس المقصود من الآية أن عدم ذكر الله على الذبيحة يوصف بالفسق، إذ جملة (وإنه لفسق) غير معطوفة على ما قبلها، وذلك للتباين التام بين المعطوف والمعطوف عليه، فالأولى فعلية إنشائية والثانية اسمية خبرية، ولا يجوز أن تكون جوابا لمكان الواو، فتعين أن تكون حالية، فتقيد النهي بحال كون الذبح فسقا، والفسق في الذبيحة مفسر في القرآن الكريم بما أهل لغير الله به، ونحن نقول بحرمته في هذه الحالة.

وعززوا توجيههم هذا لهذه الآية بما روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وآخرين "أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه الميتة، وذلك أن مجوس الفرس قالوا لقريش: "تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله؟ " فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1)

2-

وأجابوا عن الآثار التي تلزم الصائد بالقوس أو الكلب المعلم بالتسمية، حيث ورد في بعضها:"وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل ". فقالوا: "إن الأمر يحمل على الندب لا الوجوب "(2)

(1) مغني المحتاج، للخطيب الشربيني: 4/ 272

(2)

مغني المحتاج، للخطيب الشربيني: 4/ 272

ص: 249

جواب الحنفية عن أدلة الشافعية:

أجاب الكاساني عن بعض ما استدل به الشافعية بما يلي:

ا- أجاب عن قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] الآية أن المخاطب بالآية الكريمة هو الرسول- عليه الصلاة والسلام كان يجد وقت نزول الآية محرما سوى المذكور فيها، فاحتمل أنه كان كذلك وقت نزول الآية، ثم وجد تحريم متروك التسمية بعد ذلك لما تلونا من قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] كما كان لا يجد تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الحمار والبغل عند نزول الآية، ثم وجد بعد ذلك بوحي متلو أو غير متلو على ما ذكرنا.

2-

أنكر الحنفية على القائلين: أن متروك التسمية عمدا ليس بميتة، بل هو ميتة، مع أنه لا يجد فيما أوحي إليه محرما سوى المذكور في الآية، وأضافوا قائلين: نحن لا نطلق اسم المحرم على متروك التسمية عمدا، إذ المحرم المطلق ما ثبتت حرمته بدليل مقطوع به، ولم يوجد ذلك في محل الاجتهاد (1)

(1) انظر البدائع: 5/ 47

ص: 250

الرأي الراجح:

من خلال ما ذكرناه من أقوال الفريقين المختلفين بشأن التسمية عند الذبح وبيان أدلة كل فريق منهما، يترجح لنا رأي القائلين: بوجوب التسمية لوجاهة أدلتهم.

ما المراد بالتسمية؟

ا- يرى الفقهاء القائلون بوجوب التسمية عند الذبح، أن ذكر أي اسم من أسماء الله عز وجل يفي بالغرض، بناء على ما يأتي من الأدلة:

ا- قوله تعالى {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]، من غير فصل بين اسم واسم. وقوله عز شأنه:{وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ} [الأنعام:121] فإذا ذكر اسم الله عليه، لم يكن المأكول داخلا في المنهي عنه.

ب- وكذا ما جاء في حديث عدي بن حاتم، رضي الله عنه: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل

". فالحديث النبوي الشريف لم يفصل بين اسم وآخر.

2-

أن يقصد الذابح بها التسمية على الذبيحة، ولو قصد بها افتتاح العمل لا تحل ذبيحته؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذكر اسم الله عند الذبح، فيجب أن تتجه نية الذابح في التسمية لهذا.

3-

أن يقصد بذكر اسم الله تعظيمه على الخلوص، دون أن يشوبه معنى الدعاء، حتى لو قال عند الذبح:"اللهم اغفر لي " فلا تعتبر تسمية.

4-

ومن شروط التسمية أيضا عند القائلين بوجوبها عند الذبح، تجريد اسم الله عن اسم غيره، حتى لو كان اسم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لو قال:"باسم الله واسم الرسول " لا تحل ذبيحته، لأنه قد أهل لغير الله به.

ص: 251

وقت التسمية:

إن وقت التسمية في الذكاة الاختيارية هو وقت الذبح، فلا تتقدم عليه إلا بزمان قليل لا يمكن التحرز عنه، لأن النهي قد جاء عن أكل كل ما لم يذكر اسم الله عليه، ومراد النهي الامتناع عن أكل المذبوح الذي لم يذكر اسم الله عليه عند الذبح، أي ساعة الذبح.

أما وقت التسمية في الذكاة الاضطرارية فهو وقت الرمي والإرسال لا وقت الإصابة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، رضي الله عنه، حين سأله عن صيد المعراض والكلب:((إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله عليه فكل، وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)) . وقوله: (عليه) أي على المعراض والكلب، ولا تقع التسمية على السهم والكلب إلا عند الرمي والإرسال، فكان وقت التسمية فيها هو وقت الرمي والإرسال (1)

(1) انظر البدائع: 5/ 48، 49

ص: 252

آلة الذبح:

من شروط صحة الذكاة استعمال آلة في الذبح ينحر بها المذبوح، لما روي عن رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله: إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى (1)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر، وسأخبركم عدا ذلك أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)) رواه الجماعة. والحكمة في اشتراط إنهار الدم تمييز حلال اللحم والشحم من حرامها، وتنبيه إلى أن تحريم الميتة كان بسبب بقاء دمها الخبيث فيها.

وقد اشترط جمهور الفقهاء في آلة الذبح شرطين:

الأول: أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها.

الثاني: أن لا تكون سنا ولا ظفرا.

فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء، حل الذبح سواء كان حديدا أو حجرا أو بلطة أو خشبا.

هذه هي وجهة نظر الحنابلة (2) والشافعية (3) وقول للإمام مالك (4) وهو رأي أبي ثور وإسحاق وعمرو بن دينار من فقهاء السلف، رحمهم الله (5) .

وقد اعتمد هؤلاء الفقهاء- رحمهم الله في رأيهم على الآثار الواردة بذلك، ومنها حديث رافع بن خديج السابق.

(1) مدى: جمع مدية وهي السكين، وسميت مدية لأنها تقطع مدى حياة الحيوان أي عمره، فسميت الآلة بها تجوزا، وسميت السكين سكيناً لأنها تسكن حركة الحيوان.

(2)

انظر المغني: 8/ 574

(3)

مغني المحتاج، للخطيب الشربيني: 4/ 273

(4)

انظر الخرشي على سيدي خليل: 3/ 17، وقد حكى خلاف فقهاء المذهب في جواز الذبح بالعظم والسن على ثلاثة أقوال: (أحدها: لا تجوز الذكاة بهما مطلقا، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز، قال ابن القصار: هذا هو حقيقة مذهب مالك، وقال الباجي عن هذا القول: هو الصحيح ".

(5)

المغني: 8 / 574

ص: 253

في حين يرى الحنفية جواز الذبح بالسن والظفر إذا كانا منزوعين، مع الكراهة (1)

وقد عللوا الجواز بقولهم: "إن قطع الأوداج من الحيوان هو المقصود، وقد تحقق، فصار الذبح بالظفر والسن كالذبح بالمروة وليطة القصب، فكما يصح الذبح بهما كذلك يصح فيما ذكرنا".

وقد أجابوا عن حديث رافع بن خديج، أن النهي منصب على السن القائم والظفر القائم، لأن الحبشة إنما كانت تفعل ذلك لإظهار الجلادة، وذلك بالسن القائم لا بالمنزوع.

وقد عززوا قولهم هذا بما جاء في بعض الآثار: "إلا ما كان قرضا بسن أو حَزًّا بظفر". والقرض إنما يكون بالسن القائم (2)

وحكي مثل هذا الرأي عن مالك في قول له رواه عنه ابن حبيب - أحد فقهاء المذهب (3)

وللإمام مالك قول ثالث، أجاز فيه الذبح بالسن والظفر مطلقا، سواء كانا متصلين أو منفصلين، وقد اختار ابن القصار- أحد فقهاء المذهب- هذا الرأي. وقد اختلفت كتب المذهب في تفسير قول مالك الأخير هذا؛ هل هو محمول على الضرورة أم لا؟

وقد ذكر الخرشي ما يفيد أنها تصح ولو بدون ضرورة، ولكنها مع الإساءة، كما قال أبو محمد من فقهاء المذهب (4)

والرأي المختار هو الرأي القائل: بجواز الذبح بالسن والظفر إذا كانا مخلوعين كما هو حال الذابح بالمحدد من حديد أو قصب، لأن النحر بهما يكون بحدهما لا بقوة الإنسان، وهذه هي وجهة نظر الحنفية، وإليه ذهب مالك في قول له.

(1) انظر البدائع: 5/ 42

(2)

انظر البدائع: 5 / 42

(3)

انظر الخرشي على سيدي خليل: 3/ 17

(4)

انظر الخرشي على سيدي خليل: 3/ 17

ص: 254

حكم الذكاة بالعظم:

مما أثاره فقهاء المسلمين في آلة الذبح: الذبح بالعظم من غير السن والظفر، وقد ذهب جمهورهم إلى جواز النحر بالعظم على خلاف ما ذكروه في السن والظفر.

فقد أجاز الحنفية الذبح بالعظم (1)، وبه قال المالكية (2) والحنابلة (3) دليلهم في هذا: أن العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة المبيحة للنحر بها، وذلك لحصول المقصود بها، فأشبهت سائر الآلات (4)

وقال الشافعية: بعدم صحة النحر بالعظم، لأن علة تحريم الذبح

بالسن لأنه عظم، فحرمة الذبح بالعظم من باب أولى، كما حكوا سببا آخر في تحريم الذبح به، وهو أنه من باب التعبد، لأنه ينجس بالدم، وقد نهينا عن الاستنجاء بالعظم، خوفا من تنجسها، لكونها طعام إخواننا الجن. (5) ورأي الجمهور هو المختار، لأن نهر الدم يحصل به كما هو الحال في المحدد، وهو المقصود من التذكية.

(1) انظر البدائع: 5/ 42

(2)

انظر الخرشي: 3/17، وقد جاء فيه ما نصه:"وروي عن مالك جواز الذكاة بالعظم مطلقا".

(3)

انظر المغني: 8/ 574

(4)

المغني، لابن قدامة في: 8/ 575

(5)

انظر مغني المحتاج: 4/ 273

ص: 255

محل الذبح من الحيوان:

اتفق الفقهاء على أن محل الذبح هو الحلق واللبة، ولا يجزئ الذبح في غير هذا المحل، وقد اختص الذبح بهذا المحل، لأنه مجمع العروق، فيحصل بالذبح فيه إنهار الدم، ويسرع زهوق الروح؛ فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان.

وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، رضي الله عنهما:"الذكاة في الحلق واللبة"(1)

والذكاة في الحلق- وهو أعلى العنق- تسمى ذبحا، ويكون ذلك فيما عدا الإبل؛ والذكاة في اللبة تسمى نحرا، وذلك بالنسبة للإبل خاصة. واللبة: هي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، أي الثغرة التي في أسفل العنق، أو موضع القلادة من الصدر (2) .

(1) روي هذا الحديث النسائي وكذا عن عمر وجابر مرفوعا من وجه واه؛ انظر فتح الباري: 9/ 641

(2)

انظر أحكام الأطعمة والذبائح في الفقه الإسلامي، للدكتور أبو سريع محمد عبد الهادي، دار الجيل- بيروت، ص 159

ص: 256

ما يجب قطعه من الحيوان:

اختلف الفقهاء فيما يكتفى به من القطع من الحيوان من الأعضاء الأربعة؛ الحلقوم، المريء، الودجين (1) وذلك على النحو التالي:

ا- الرأي عند أبي حنيفة، أن المعتبر في الذبح قطع أكثر الأوداج، وهو ثلاثة منها، أيَّ ثلاثة كانت، وترك واحد منها يحل. وقال أبو يوسف:"لا يحل حتى يقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين ". وقال محمد: "لا يحل حتى يقطع من كل واحد من الأربعة أكثره ".

وجه قول محمد: أنه إذا قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة فقد حصل المقصود بالذبح وهو خروج الدم، لأنه يخرج ما يخرج بقطع الكل. وجه قول أبي يوسف: أن كل عرق من العروق الأربعة يقصد بقطعه غير ما يقصد به الآخر، لأن الحلقوم مجرى النفس والمريء مجرى الطعام والودجين مجرى الدم، فإذا قطع أحد الودجين حصل بقطعه المقصود منهما، وإذا ترك الحلقوم لم يحصل بقطع ما سواه المقصود منه، ولذلك اختلفا.

ولأبي حنيفة أن قطع الأكثر من العروق الأربعة، وللأكثر حكم الكل فيما بني على التوسعة في أصول الشرع، والذكاة بنيت على التوسعة حيث يكتفى فيها بالبعض بلا خلاف بين الفقهاء، وإنما اختلفوا في الكيفية، فيقام الأكثر منها مقام الجميع (2)

(1) الحلقوم: هو مجرى النفس، المريء: هو مجرى الطعام، الودجان: هما عرقان في صفحتي العنق يحيطان بالحلقوم، وقيل يحيطان بالمريء

(2)

انظر البدائع، للكاساني: 5/ 41، 42

ص: 257

2-

المالكية: قالوا: إن شرط صحة الذكاة قطع الحلقوم، وهي القصبة التي هي مجرى النفس، وكذا الودجين، وهما عرقان في صفحتي العنق يتصل بهما أكثر عروق البدن ويتصلان بالدماغ، وأضافوا: أن شرط صحة التذكية أن يكون من مقدم العنق لا من المؤخر (1)

3-

الشافعية: ويقضي مذهبهم بالاكتفاء بقطع كل الحلقوم وكل المريء، وقالوا باستحباب قطع الودجين، لأنه أسهل لخروج الروح، فهو من الإحسان في الذبح، وعللوا عدم القول بوجوب قطع الودجين، بأنهما قد يسلان من الحيوان فيبقى على قيد الحياة، وما هذا شأنه لا يشترط قطعه كسائر العروق (2)

وبهذا قال الحنابلة في رواية عنهم، وعن الإمام أحمد رواية أخرى، تتفق مع مذهب المالكية، حيث اشترط فيها قطع الحلقوم والمريء والودجين (3)، مستدلا على ذلك بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج ثم تترك حتى تموت)) رواه أبو داود.

ورأي الشافعية هو المختار، لأن المقصود هو إزالة الحياة بطريق شرعي، وبقطع الحلقوم والمريء يفقد الحيوان حياته، وبذلك تتحقق الذكاة الشرعية، والله أعلم.

(1) انظر الخرشي: 3/ 4

(2)

انظر مغني المحتاج: 4/ 271

(3)

المغني، لابن قدامة: 8/ 575

ص: 258

حكم اللحوم المستوردة إلى بلاد المسلمين:

في ختام بحثنا للذبائح والطرق الشرعية للذكاة. أود أن أبين في ختام بحثنا هذا حكم اللحوم المستوردة إلى بلاد المسلمين على ضوء ما ذكرناه من آراء فقهية في هذا البحث.

فأقول وبالله التوفيق: لقد صدرت عن بعض العلماء المعاصرين فتاوى في حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى في عصرنا هذا، منها ما يحظر ذبائح أهل الكتاب اليوم مطلقا، ومنها ما يحل ذبائحهم مطلقا، ومنها ما يحل ذبائحهم ضمن قيود وشروط، ومن هذه الفتاوى:

ا- فتوى الشيخ محمد رشيد رضا:

قال الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه الفتاوى إجابة على سؤال من سنغافورة: "إن المسألة ليست من المسائل التعبدية، وأنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق بروح الدين وجوهره إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى، لأن هذا من عادات الوثنيين وشعائر المشركين، فحرم علينا أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه.

ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين دخلوا في دينهم لا سيما النصرانية، وأراد الله تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة المشركين، استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد.

كما أباح لنا التزوج منهم مع علمه بما هم عليه من نزعات الشرك التي صرح فيها بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] على أنه حرم علينا التزوج بالمشركات بالنص الصريح، ولم يحرم علينا طعام المشركين بالنص الصريح

" (1)

ثم يقول: "ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة صرح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته فإن ذبيحته تؤكل، مع أن الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة، فإن ذبيحته لا تؤكل "(2)

ويختم فتواه بقوله: "إن الحكمة من إباحة طعام أهل الكتاب مجاملتهم ومحاسنتهم دون النظر إلى طريقة ذبحهم أو طبخهم ".

وقد سبق للأستاذ محمد رشيد رضا أن ذكر في تفسيره المنار أن قال:"إن المقصود بالتذكية إزهاق روح الحيوان دون تعذيبه، وتجوز بأية وسيلة تؤدي إلى ذلك، ولو كانت بالقتل الكهربائي دون الذبح وإنهار الدم ". (3)

(1) فتاوى محمد رشيد رضا: 1/ 352، جمعها وحققها الدكتور صلاح الدين المنجد ويوسف خوري، نقلا عن كتاب حكم اللحوم المستوردة إلى بلاد المسلمين للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، دار العدوي للطباعة والنشر- عمان، الأردن، ص 64

(2)

فتاوى محمد رشيد رضا: 1/ 353.

(3)

انظر تفسير المنار: 6/ 120

ص: 259

2-

لجنة الفتوى بالأزهر الشريف:

لقد صدرت عن لجنة الفتوى بالأزهر الشريف فتويان:

الأولى: وتقضي بأن الأطعمة المستوردة من بلاد أهل الكتاب حلال ما لم يعلم أنهم سموا عليها غير الله، أو ذبحت بغير الذكاة الشرعية كالخنق والوقذ، ومن باب أولى ما علم أنها من الخنزير أو الميتة أو الدم.

وقد صدرت هذه الفتوى في عهد الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله.

وقد أفتى الشيخ محمود شلتوت- رحمه الله بمثل ذلك (1)

والفتوى الثانية: تقضي بأن الأطعمة المستوردة من بلاد أهل الكتاب حلال ما لم تتحقق أنها من المحرم لذاته، وهو الميتة والخنزير والدم، وكل ما وراء ذلك فهو حلال وإن تحققنا أنه أهل به لغير الله أو لم يذك بالذكاة الشرعية الإسلامية (2)

وقد صدرت هذه الفتوى في عهد الشيخ مصطفى المراغي- رحمه الله وقد سبق لجنة الفتوى بالأزهر إلى هذه الفتوى الشيخ محمد عبده رحمه الله ، وأيده في ذلك محمد رشيد رضا رحمه الله، كما ذكرنا ذلك قبل قليل.

كما صدرت فتاوى أخرى من بعض المشايخ المعاصرين منهم المتشدد ومنهم المتساهل.

جل اعتماد الفتاوى المتشددة مستند إلى أن هذه اللحوم التي تستورد من بلاد كتابية أو غير كتابية لا تذبح على الطريقة الشرعية في نظر أصحاب تلك الفتاوى، إذ غالبا ما يجري الذبح في تلك البلاد بالوسائل التالية:

1-

تزهق روح الحيوان في بعض البلاد بضربه على جبهته بمحتوى مسدس، ثم يهوي إلى الأرض، ثم يسلخ.

2-

تضرب جبهة الحيوان في بلاد أخرى بحديدة فيموت دون ذبح، ثم يسلخ.

3-

الدجاج يصعق بالتيار الكهربائي بمسدس في أعلى لسانه، فتزهق أرواحه، ثم يمر على آلة تقوم بنزع ريشه.

(1) انظر تفسير القرآن للشيخ محمود شلتوت، ص 292، 293

(2)

انظر تفسير المنار: 6/ 162؛تفسير القران للشيخ محمود شلتوت، ص 293

ص: 260

وقد نقل بعض المسلمين الذين زاروا البلاد الأوروبية والأمريكية الطرق المذكورة التي يستخدمها سكان هذه البلاد في تذكية حيواناتهم.

أما مستند القائلين بتحليل اللحوم المستوردة من البلاد التي أهلها أهل كتاب، فيستندون إلى عموم الآيات القرآنية والآثار النبوية التي تبيح طعامهم، ويحرمون ما جاءنا من بلاد لا يدين أهلها بكتاب سماوي؛ كالبلدان الشيوعية والبوذية ونحوها.

الرأي المختار في اللحوم المستوردة من بلاد غير إسلامية:

بعد هذا العرض لآراء الفقهاء- رحمهم الله تعالى- في الذكاة الشرعية وما يشترط فيها، وبعد ذكرنا لآراء بعض فقهائنا المعاصرين في اللحوم المستوردة، أرجح من تلك الآراء الرأي القائل:

ا- اللحوم التي تأتي من بلاد لا تؤمن بدين سماوي كالشيوعية وغيرها حرام، إلا إذا علمنا علم اليقين أن الذي قام بالذبح مسلم أو كتابي، أما ما يأتي منها من مطعومات أخرى غير الذبائح فهو حلال كالحبوب والخضروات والفواكه والأسماك.

2-

اللحوم التي تأتينا من أهل الكتاب، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

ص: 261

القسم الأول: ما علم أنه ذبح على الطريقة الشرعية، كما لو أخبرنا بذلك من يوثق بكلامه، فهذا حلال.

القسم الثاني: ما علم أنه ذبح على غير الطريقة الشرعية بيقين، أو أهل به لغير الله، فهذا حرام.

القسم الثالث: ما جهل حاله، فلا ندري على أي صفة تمت تذكيته، وكان مصدره إحدى الدول التي تدين بدين سماوي- أي من أهل الكتاب- فالذي أميل إليه، والله أعلم، حل هذه الذبائح للأدلة التالية:

أ- إن اليقين لا يزول بالشك، فاليقين هو حل طعام أهل الكتاب بالنص، لايزول بالشك في شرعية الذبح أو عدمها، لأن حل الطعام لا يزول بالشك، ولا يحرم إلا بالتأكيد بأنها وردت من بلاد لا دينية، أو ذبحت على خلاف الطريقة الشرعية.

ب- إن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة المهداة إليه من المرأة اليهودية بدون أن يسأل عن كيفية ذبحها، وكثير من الصحابة فعلوا ذلك، ولسنا مأمورين بالبحث في طريقة ذبح كل ذبيحة، إلا أن الواجب علينا أن نتحرى عن الذابح، ما إذا كان مسلما أو كتابيا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف أن الشاة من امرأة كتابية.

أ- روي عن عائشة رضي الله عنها أن قوما كانوا حديثي عهد بالإسلام يأتوننا باللحم، ولا ندرى أذكر اسم الله عليه أو لا، فقال صلى الله عليه وسلم:((سموا أنتم وكلوا)) ، فإذا كان مجهول الحال بالنسبة إلى التسمية عند القائلين بوجوبها يؤكل بعد تسمية الآكل عليه، فكذلك مجهول الحال في طريقة الذبح؛ يسمي الآكل عليه ويأكله.

هذا والله أعلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أ. د إبراهيم فاضل الدين

ص: 262

مصادر البحث

* (بعد القرآن الكريم)

1-

صحيح البخاري.

2-

سنن أبي داود.

3-

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للإمام أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، الطبعة الثانية، 1406هـ/ 1986م، دار الكتب العلمية- بيروت.

4-

الخرشي على مختصر سيدي خليل وبهامشه حاشية العدوي ،دار الكتاب الإسلامي لإحياء ونشر التراث الإسلامي- القاهرة.

5-

المغني، لابن قدامة المقدسي، على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين الخرقي. الناشر: مكتبة الجمهورية العربية، مكتبة الكليات الأزهرية- القاهرة.

6-

رد المحتار على الدر المختار، شرح تنوير الأبصار (حاشية ابن عابدين) للعلامة محمد أمين بن عابدين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.

7-

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للشيخ شمس الدين محمد بن شهاب الدين الرملي.

8-

مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للشيخ محمد الشربيني الخطيب، على متن المنهاج لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي،شركة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1377هـ/ 1958م.

9-

بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد. محمد بن أحمد القرطبي، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية.

10-

الفتاوى الكبرى لابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم أبو العباس تقي الدين ابن تيمية الإمام، دار الكتب الحديثة 14 شارع الجمهورية، مطبعة دار الجهاد بالقاهرة، 1385 هـ/ 1965 م.

11-

كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، للإمام تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي، تحقيق علي عبد الحميد بلطه جي ومحمد وهبي سليمان، الطبعة الأولى 1412هـ/ 1991 م، دار الخير- بيروت.

12-

الاختيار لتعليل المختار، تأليف عبد الله بن محمود بن مولود الموصلي الحنفي، الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1370 هـ/ 1951م.

13-

أحكام الأطعمة والذبائح في الفقه الإسلامي، للدكتور أبو سريع محمد عبد الهادي، دار الجيل- بيروت.

14-

حكم اللحوم المستوردة إلى بلاد المسلمين، للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، دار العدوي- عمان، الأردن.

ص: 263