الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرة في الاستنساخ وحكمه الشرعي
إعداد
آية الله محمد علي التسخيري
رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية بإيران
نظرة في
الاستنساخ وحكمه الشرعي
ما هو الاستنساخ؟
يقسم العلماء (1) الاستنساخ إلى نوعين: تقليدي وجديد.
أما التقليدي منه فيعني الحصول على عدد من النسخ طبق الأصل من نبات أو حيوان بدون حاجة إلى تلاقح خلايا جنسية ذكرية أو أنثوية.
وتتم من خلال إدخال نواة من أي خلية من خلايا الجسم كخلية جلدية مثلًا إلى داخل بييضة ناضجة بعد أن يتم إخلاؤها من نواتها، فإن النواة الجديدة تشرع في الانقسام في اتجاه تكوين خلايا جلدية ولكن (بتأثير من السائل الخلوي السيتوبلازمي) ، تشرع في تكوين جنين سيكون نسخة طبق الأصل ممن أخذنا عنه الخلية.
وأما الجديد فإنه يعتمد على المنع من تمزق الجدار الخلوي السميك للمنع من الانقسام المعهود في الخلايا الجنسية ذلك أن الحالة الطبيعية المعهودة هي أن يخترق الحيوان المنوي الذكري (الذي يحمل نصف عدد كروموزومات الخلية الإنسانية) البييضة الناضجة (التي تحمل النصف الآخر) لتكمل في الخلية الناتجة الكروموزومات الـ 46 وهي كروموزومات الإنسان، وهذه الخلية الناتجة من الالتحام تتكاثر إلى خليتين ثم أربع ثم ثمان ثم ست عشرة ثم اثنتين وثلاثين
…
وهكذا، ولكن العلماء يركزون على الخلية الناتجة من الالتحام فيمنعون من تمزق جدارها الخلوي، فإن النواة تنقسم إلى قسمين وكل قسم يتصور نفسه النواة الأم وتبدأ في النمو إلى جنين وتتطابق الأجنة تمامًا في الصفات.
والملاحظ: هنا أن هذا الأسلوب بشكليه التقليدي والجديد لا يستغني عن تلاقح الحيوان المنوي الذكري والبييضة الأنثوية ولو في المراحل السابقة، أما في الشكل الجديد فواضح، وأما في الشكل القديم فلأن النواة المجلوبة من الجلد مثلًا إنما نتجت بعد تكاثر خلية ملقحة سابقًا.
وقد ثارت ضجة عالمية حول هذا الموضوع، وانقسم العلماء الطبيعيون والاجتماعيون والفقهاء إلى مؤيدين ومعارضين ونسجت خيالات القُصَّاصِ الكثير من الأوهام، وراح (الأرايتيون) كما يسميهم الدكتور حتحوت يفترضون ويفترضون.
(1) راجع مقالة الأستاذ الدكتور حسان حتحوت حول الموضوع.
وقبل أن نلقي نظرة على الموضوع نرى ضرورة التذكير ببعض الأمور.
الأول: أن كل حدث جديد - وخصوصًا إذا كان يتصل بمسألة حياتية كهذه مما يغير مجرى الحياة البشرية - لا بد أن يثير أجواء عاطفية ويغرق الأفكار في افتراضات وتخمينات بعضها رائع وبعضها مرعب ولكل بعض يتكون أنصار ومؤيدون، وفي هذه الأجواء ربما لا يستطيع الباحث أن يدرس الموضوع بكل موضوعية وتجرد وإنما يجنح مع هذا الفريق أو ذاك دون أن يشعر.
ولذا فمن البعيد التوصل إلى رأي اجتماعي أو علمي أو فقهي موضوعي في هذه المرحلة.
الثاني: أن الأبحاث العلمية لا يمكن منعها والوقوف بوجهها خصوصًا إذا كانت بهذا المستوى من التأثير الواسع، وإذا كانت تطل على عالم مجهول لتفتح مغاليقه ومجاهيله؟ فيجب التأمل كثيرًا قبل إصدار الأحكام المطلقة، ويجب أن نضع في الحسبان تلك الحالات التي سنواجهها شئنا أم أبينا.
الثالث: قد نجد بعض الافتراضات نتاجًا للخيال القصصي المجنح مما يؤثر سلبيًا على سلامة الدراسة كما أن بعض الافتراضات تحذر من أنماط الاستغلال السيئ، الأمر الذي يدفع الفقهاء والشرعيين للتحريم المطلق سدًا للذرائع، وقد مررنا من قبل بموضوع التلقيح الصناعي والافتراضات التي طرحت حوله ثم استسلم الفقهاء للأمر الواقع وراحوا يدرسون كل حالة على حدة بمنأى عن الضجيج والافتراضات، ومازال البحث فيه غير ناضج كما نعتقد.
الرابع: إن المنهج الصحيح هو دراسة نفس الحالة أولًا ومدى انطباق العناوين المحللة أو المحرمة عليها ثم محاولة معرفة النتائج المتوقعة والعوارض الناتجة لمعرفتها خلال أحكامها المعروفة، وقد تتشابك النتائج الحسنة والسيئة منها، مما يدعو إلى التأمل وملاحظة الأغلبية الساحقة في البين.
الخامس: يجب أن نعترف بأن الأخصائيين الطبيعيين لهم الحق وحدهم في تقرير الآثار العلمية المخربة أو الإيجابية لهذا الأسلوب ولا نستطيع نحن أن نقرر شيئًا إلا بعد انتهائهم من بحوثهم، نعم إذا انتهى هؤلاء إلى نتائج ولو كانت شبه قطعية أمكننا أن نلاحظ مدى انسجام هذه الآثار مع معتقداتنا ومع قيمنا ومع مبادئنا الإسلامية ونظريتنا السياسية والاجتماعية وتخطيطنا للحياة.
ومن هنا فلا ينبغي التسرع في الحكم ما دامت النتائج العملية غير قطعية.
بعد هذا لا بد من أن نلقي نظرة سريعة على آراء المؤيدين والمخالفين، ثم نحاول الترجيح بما لا يخرج هذا البحث عن كونه مجرد إلقاء نظرة على الموضوع:
آراء المؤيدين:
ويركز المؤيدون على نقطتين أساسيتين هما:
أولًا: عدم توفر ما يمنع من القيام بهذه العملية من الأدلة الشرعية.
وثانيًا: الآثار الإيجابية الكبرى التي يتوقع حصولها والآفاق العلمية التي ستنفتح أمام الإنسان، وهم بهذا الصدد يذكرون أمور كثيرة، منها:
أ- المعلومات الضخمة التي سيكسبها العلماء في مجال تمايز الخلايا، ومعرفة جذور أمراض السرطان، والآثار السلبية الوراثية، وعوامل المناعة، وأسباب الإجهاض، ووسائل منع الحمل، وأمثال ذلك.
ب - الآثار التي سيتركها هذا الموضوع في مجال منح الأطفال للأزواج المبتلين بالعقم.
جـ- أنه سيساعد بشكل كبير في التحكم بسلامة الجيل الآتي وتحسين حياته.
د - أنه سيساهم في مسألة الاستفادة من الخصائص المتميزة للأفراد وتكثيرها.
هـ - أنه سيساعد في إنجاح الدراسات بعد إجرائها على أناس متطابقين، وذلك للتأكد من سلامة النتائج.
ويضيف هؤلاء المؤيدون أن الاستنساخ عملية طبيعية قد تحدث بشكل طبيعي عند بعض الحيوانات.
كما يؤكدون أن العلم ملك للجميع ولا يمكن إيقاف بحوثه وحرمان البشرية من نتائجه.
وهنا نجد الإغراق أحيانًا في الخيال بتصور مجتمع خال من الأمراض متحكم في عناصره، يحوي سلالات معرفية واسعة وما إلى ذلك.
آراء المعارضين:
وهؤلاء أيضًا يستفيدون من الخيال المجنح لبيان الأضرار المتوقعة من هذه العملية بل يفرقون المؤيدين في هذا المجال، ومن الأمور المطروحة، ما يلي:
أ- يستلزم اختلاط الأنساب.
ب - يعني تغيير خلق الله.
جـ- يعني التقاء المياه الأجنبية.
د - إنه التدخل في خلق الله.
هـ- إنه يؤدي إلى الاستغناء عن الزواج.
و استلزامه لإماتة اللقائح وهي مشروعات إنسانية جاهزة.
ز - احتمال تهديم المجتمعات وتجريد الإنسان من إنسانيته.
ح - إن استمرار البشرية يعتمد على التنوع الجنيني وهذا التنوع يفنى من خلال هذا الأسلوب.
ط - إنه يشجع عمليات الإجهاض.
ي - تحويل الرغبة الطبيعية في الأولاد إلى الرغبة في الصفات المعينة.
الثاني: إن هذه الحالة لا يمكن أن تشكل ظاهرة اجتماعية واسعة، بل هي حالات قليلة - على الأقل في الإمكان الحاضر - ولا مانع حينئذ من وجود أفراد لا يعلم نسبهم أو ينتسبون إلى الأم فقط كما ينتسب ولد الشبهة إلى أمه فلا يلزم منه اختلاط الأنساب - كما يقال - وإنما قد يلزم مجهولية النسب مما يخرجه موضوعًا عن أحكام النسب.
الثالث: إن احتمال إساءة الاستفادة موجود بنفس النسبة في موضوع التلقيح الصناعي وقد أجازه كل الفقهاء تقريبًا.
ولا نريد أن نؤيد هذه الإشكالات بقدر تأكيدنا على لزوم التأكد من المحذور.
أما موضوع تغيير خلق الله تعالى: فقد ذكر أن الآية الشريفة تقول عن الشيطان: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) } [النساء: 118 -119]
ومن الواضح أن الشيطان الرجيم يهدد بالتركيز على مجموعة من عباد الله ليسخرهم لأعماله الشيطانية ومنها تبتيك آذان الأنعام وتغيير خلق الله ، وهي أمور مبغوضة للمولى جل وعلا بلا ريب ، ولذا يعدها سبحانه من الخسران المبين.
فهل هذا العمل الذي نحن بصدده من مصاديق تغيير خلق الله المنهي عنه؟ وهنا يقال بأن التبتيك والتغيير لا يمكن أن يكون المراد به مطلق المفهوم اللغوي لهما، حتى ولو كان بدواع مشروعة عقلانية لا شيطانية، وإلا لكان كل تغيير يحدث في البدن كحلق الشعر أو الختان أو تعليم آذن الإبل أو التجميل من المحرمات، وهو أمر واضح البطلان.
بل إن التعميم يعني كل تغيير في خلق الله وهذا يعني في تغيير في الطبيعة، فهل نمنع ذلك؟ كلا، فليس المراد هو العموم وإنما المراد - وكما يقول بعض العلماء - عمليات شيطانية خرافية تقوم على أساس من تصورات شيطانية جاهلية يتم بموجبها إهدار للثروات الطبيعية، من قبيل ما جاء في قوله تعالى:
. [المائدة: 103]
حيث تبتك آذان البحائر وتترك، يقول العلامة الطباطبائي في الميزان:" إن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها "، كما يؤكد أنه ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، مستشهدًا بقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] ، ولعل سباق الآيات يساعد على ذلك، وقد أيدته رواية عن الإمام الصادق (ع) كما جاء في مجمع البيان في ذيل تفسير هذه الآية، وحينئذ لا يمكن أن يستند لهذه الآية الشريفة في رد أي تغيير طبيعي، ومنه موردنا هذا، إذ المراد وهو قسم خاص يتم بتسويل الشيطان وتسويغه.
على أنه في الواقع استفادة من قوانين طبيعية فرضها الله في الطبيعة ولا يمكن أن يعد تدخلًا في خلق الله- كما جاء في اتهامات المعارضين - أو يعد تحديًا لله تعالى في خلقه - كما ربما يأتي على ألسنة بعض المخالفين للاستنساخ - وإلا كان علينا أن نسد باب أي إبداع علمي في علم الوراثة في جميع حقول الخلق.
أما حكاية التقاء الأجنبية هنا فهي مرفوضة كبرى وصغرى أما كبرى:
فلا دليل على حرمة التقاء المياه الأجنبية، وإنما الأدلة كلها تنظر إلى عملية الزنا، إلا ما يتوهم استفادته من روايات تتحدث عن حرمة وضع المني في الرحم المحرم من قبيل ما جاء في الكافي بإسناد معتبر إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله الصادق (ع)، قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أقر نطفته في رحم يحرم عليه. (1) ورواه الصدوق في عقاب الأعمال (2) وعن البرقي في المحاسن مثله.
وما جاء عن الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يعمل ابن آدم عملًا أعظم عند الله تبارك وتعالى من رجل قتل نبيًا أو إمامًا، أو هدم الكعبة التي جعلها الله عز وجل قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حرامًا)) .
إلا أن أمثال هذه الروايات بالإضافة لضعف سندها ناظرة بلا ريب إلى عمليات الزنا خصوصًا إذا لاحظنا العذاب الشديد المذكور فيها فلا يحتمل أن العذاب إنما هو لمجرد إيصال ماء الرجل إلى رحم يحرم عليه.
وشموله لموردنا من حيث الصغرى أيضًا غير صحيح، فليس هنا التقاء ولا انعقاد - كما هو واضح - إلا أن يقال: إن المورد هو بحكم انعقاد النطفة فيقاس عليه، وهنا يقتصر على المورد الذي يحل فيه هذا الانعقاد. أما موضوع الاستغناء عن الزواج فإذا افترضنا أن الأمر فيه تيسر إلى هذا الحد - وهو بعيد - فإن دواعي الزواج لا تقتصر على الاستيلاد أولًا، على أن الاستيلاد من طريق الزواج هو المطلوب للإنسان قبل كل شيء، ولا يُلجأ لمثل هذه الطرق إلا استثناء.
(1) الكافي باب الزاني، من كتاب النكاح: 5/ 541؛ الوسائل باب 4: 14/ 239
(2)
ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص 310.
أما مسألة اللقائح المتعددة وإعدامها فالذي يتصور في البين أن هذه اللقائح لا ينطبق عليها أنها أناس، وأن إعدامها غير مشمول لأدلة حرمة القتل، أو أدلة دية الجنين، وأمثال ذلك.
وأما مسألة احتمال تهديم المجتمعات، أو تجريد الإنسان من إنسانيته فهو مسألة لا دليل عليها، بل إن عملية إنقاذ بعض المجتمعات أو بعض العوائل من أمراضها الوراثية وتقوية الصفات الجيدة مطروحة هنا، وكذلك مسألة التنوع الجنيني فإنه أولًا لم يثبت التطابق التام إلى حد ينتفي معه أي تنوع، على أن اختلاف البيئات والعوامل الخارجية لا بد أن تؤدي إلى نوعٍ من الاختلاف.
ونحن نتصور أن عمليات الإجهاض إنما يتحكم فيها القانون والشريعة، تمامًا كما هي الحال في وضعنا الحالي.
ومسألة الرغبة الطبيعية في الأولاد سوف تبقى، لأنها نابعة من عمق الفطرة الإنسانية، ولسنا نتصور الإنسانية آلة صماء لا تحكم إلا ما خطط لها من قبل، دونما رحمة أو عواطف أو دواعي فطرية.
أما احتمال أن يعرف التوأم الصغير مستقبله من خلال حياة التوأم الكبير، فهي قد تكون مشجعة على تلافي الوقوع في المرض من خلال الرصد المبكر لها.
وتبقى المسألة الشرعية للإرث والنظر والعلاقات الاجتماعية، فهي أمور يجب أن يسعى الفقه الإسلامي لبيان موقفه فيها بدلًا من التخلص من التبعة عبر إغلاق الباب من الأساس، وحرمان العلم الإنساني النتائج الباهرة لهذه البحوث.
وأخيرًا تبقى مسألة التطبيق السيء لهذا الكشف والاستغلال السيء له فهذا أمر بيد الإنسان يستطيع أن يتجنبه ويتحاشاه عبر بناء الخلق الاجتماعي الرصين، والروح الإنسانية النزيهة، ولا يمكننا أن نغلق بابًا للخير لأن هناك من يستفيد منه للشر.
وهنا نعود لما ساقه المؤيدون من أدلة، فنراها أدلة قوية محكمة ينبغي التأمل فيها ودراستها، وخصوصًا ما ذكروه من أن العلم للجميع، ولا يمكن حرمان البشرية من نتائجه لمجرد احتمالات وظنون وافتراضات، تقابلها ظنون إيجابية واحتمالات إثباتية مقبولة.
نعم: يجب أن تخلو الأساليب المتبعة مما يخالف الشريعة من الملابسات التي تقترن بشكل طبيعي بمثل هذه الأبحاث.
وأخيرًا:
فلسنا نريد أن نصدر حكمًا قاطعًا بهذا الشأن، بقدر ما نريد أن نؤكد على ضرورة عدم التسرع في الحكم ونقله من صفحات الجرائد إلى معاهد البحث العلمي، وتخليصه من الأجواء الحماسية والعاطفية والغوغائية، ونقله إلى حيث البحث العلمي النزيه.
والله تعالى هو العالم بالصواب
محمد علي التسخيري
الاستتئام والاستتنساخ
الاستتئام والاستتنساخ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الثورة العلمية المعاصرة قد أتحفت البشر بما ليس في الحسبان في عالم النبات والحيوان، وستفضي في المستقبل القريب أو البعيد بما تحمله من تقنية عالية إلى ثورة في المعرفة تقلب الموازين، خصوصًا في عالم التكاثر البشري، فالعلم والعقل لا بد لهما من انطلاق، ولا يجوز أن نحجر على العقل في التفكير وعلى العلم في المواصلة والارتقاء وتقصي الاحتمالات للتوصل إلى الممكن.
ولكن لا بد من أن يحكم العلم نظام ويهيمن عليه دستور ليكون في صالح البشرية لا في ضررها وفنائها، ولهذا احتجنا إلى الفقه أو القانون لأجل أن يصرح بكلمته اتجاه هذه الثورة المعاصرة التي لا بد لها من الاستمرار لصالح المجتمع، فإن الدين قادر على مواجهة ومسايرة الحياة وانضباطها بالشكل الصالح للمجتمع.
ومن الطبيعي أن يعتمد الفقه أو القانون على أهل التخصص بالعلوم الطبيعية في تشخيص الموضوع الموجود أو الذي يفترض أن يحدث لأن الحكم على شيء فرع تصوره.
وهذا الذي ذكرنا هو الطريق الأصلح للعلم الذي لا بد أن لا يترك لوحده يمتطي طغيانه في عالم البشرية الكبير، ولهذا سنعتمد على أهل التخصص في تصوير الموضوع الذي حدث أو الذي يترقب أن يحدث، ثم نعرضه أمام الفقه ليقول كلمته من القرآن والسنة أو قواعد الشريعة المستلهمة منهما.
توطئة:
كانت هناك فكرة بدأت (بدافع التمييز البشري) في ألمانيا في العقد الثالث من هذا القرن (العشرين) يوم قرر الحزب النازي بقيادة هتلر خلق عرق متميز، ولكن التقنية المتوفرة آنذاك قد خذلته.
ثم جاءت نقطة التحول عام 1960 م يوم استطاع العلماء استنساخ النباتات.
ثم في عام 1993 م حيث تمكن (جيري هال وروبرت ستلمان) العالمان الأميركيان من إنجاز علمي كبير كشفا عنه خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة منتريال بكندا في أكتوبر، وهذا الحدث قد تناول جنين الإنسان رأسًا، وقد حصل هذا الإنجاز العلمي على جائزة أهم بحث في المؤتمر، ثم أعقبه زوبعة من الاعتراضات.
وهذا الإنجاز العلمي يطلق عليه اسم (الاستتئام) لأنه يحاول إيجاد التوائم البشرية بطريقة علمية سيأتي شرحها.
ثم في عام 1995 تمكن علماء يابانيون من دمج خلية جنينية (بييضة) مع خلية جسدية عن طريق تيار كهربائي ليحصلوا لأول مرة في تاريخ الإنسان على نسل لم يتم بالمعاشرة الجنسية (أي طريق تلقيح البييضة بالحيوانات المنوية) .
والخلاصة: في العشرة الأخيرة من القرن العشرين شهد العالم حدثين مهمين:
الأول: ما حدث سنة 1993 م على يد العالمين الأمريكيين وهو (الاستتئام) .
والثاني: ما حصل سنة 1997 م من استنساخ النعجة (دولي) على يد البروفسور (آيان ويلموت) العالم الأسكوتلندي مع خبراء من معهد روزلين في مدينة أدنبرة البريطانية، وهذا يعتبر تعميقًا لما عمله العلماء اليابانيون من دمج خلية جنينية مع خلية جسدية عن طريق التيار الكهربائي.
والآن سنشرح كلا الحدثين المهمين مع رأي الفقه الإسلامي فيهما.
الأول: الاستتئام (1)
وقبل البدء في بيان طريقة الاستتئام يحسن بنا أن نبين الولادة التي تتم عن طريق الخلايا الجنسية فنقول:
الخلايا الجنسية هي المنويات التي تفرزها الخصية ، والبييضات التي يفرزها المبيض ، وهذه الخلايا الجنسية تختلف عن بقية خلايا الجسم؛ وتوضيح ذلك:
إن خلايا الجسم (غير الجنسية) كخلايا الأمعاء والجلد والعظم وغيرها تشتمل على نواة في داخل الخلية هي سر النشاط الحياتي فيها، ويحيط بالنواة غشاء نووي، وتحتوي النواة بداخلها على شبكة مكونة من ستة وأربعين شريطًا تسمى بالأجسام الصبغية (الكروموزومات) ، أما باقي مساحة الخلية فيما بين النواة وبين جدار الخلية فمليء بسائل يعرف بالسائل الخلوي أو (السيتوبلازم) .
والأجسام الصبغية (الكروموزومات) الستة والأربعين هي حوامل الصفات الوراثية التي تسمى (الجينات) وهي التي تقرر الصفات الوراثية للفرد.
(1) إن توضيح موضوع الاستتئام اعتمدنا فيه على بحث الأستاذ الدكتور حسان حتحوت، في بحث له تحت عنوان (استنساخ البشر) ، ولكن هناك معلومات أخرى أضيفت من علماء آخرين نشرت الصحف والمجلات العالمية تصريحات لهم.
وتتكاثر الخلية بالانقسام الذي بموجبه ينشق كل شريط من هذه الأجسام طوليًا إلى نصفين يتمم كل منهما نفسه إلى شريط كامل بالتقاط المواد اللازمة من السائل المحيط به، وهكذا تتكون شبكتان صبغيتان تغلف كل منهما نفسها بغلاف نووي لتصبح هناك نواتان تقتسمان السائل الخلوي ويحيط بكل منهما غشاء خلوي وتصبح الخلية خليتين وهكذا أجيالًا بعد أجيال من الخلايا المتماثلة، فالخلية الجلدية مثلًا تنجب أجيالًا من الخلايا الجلدية، وخلية الكبد تعطي أجيالًا من خلايا الكبد
…
وهكذا.
أما الخلية الجنسية: فلها خاصيتها التي ليست لغيرها، وذلك فإنها في انقسامها الأخير الذي تتهيأ به للقدرة على الإخصاب، لا ينشطر الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمل كل منهما نفسه، بل تبقى الأجسام الصبغية سليمة، ويذهب نصفها ليكون نواة خلية والنصف الآخر ليكون نواة خلية أخرى، وحينئذ تكون نواة الخلية الجديدة مشتملة على ثلاثة وعشرين من الأجسام الصبغية (لا على ثلاثة وعشرين زوجًا) ، ولهذا يسمى هذا الانقسام بالانقسام الاختزالي، فكأن النواة فيما يختص بالحصيلة الإرثية نصف نواة. (1)
والقصد من ذلك: أنه إذا أخصب منوي ناضج بييضة ناضجة باختراق جدارها السميك تممت نواتاهما إلى نواة واحدة ذات ثلاثة وعشرين زوجًا لا فردًا، أي صارت النواة مشتملة على (46) من الأجسام الصبغية كما هي سائر خلايا جسم الإنسان، فكأن المني مع البييضة نصفان التحما إلى خلية واحدة هي البييضة الملقحة، وهي أول مراحل الجنين.
(1) إن الآيات القرآنية تشير إلى هذه الحقيقة، فقد قال تعالى:{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] ، وهذا خطاب لكل البشر حيث قال الله تعالى لهم لقد خلقت هذا النوع من البشر وكثر أفراده من نفس واحدة (الزوج، أو آدم أبو البشر) وزوجها الذي هو الأنثى مثلًا، فقد قال الراغب: الزوج يقال: لكل واحد من الفريقين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة، وقد قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] أي خلق لأجلكم من جنسكم قرائن لأن كل واحد من الرجل والمرأة يجهز بجهاز تناسلي يتم فعله بمقارنة الآخر، فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر، ويحصل من المجموع واحد تام له أن يلد وينسل. ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر، حتى إذا اتصل به سكن إليه. راجع تفسير الميزان، السيد الطباطبائي: 16/ 166
خصوصية البييضة الملقحة: وهناك خصوصية للبييضة الملقحة تنفرد بها دون سائر خلايا الجسم، وسر هذه الخصوصية مركوز في السائل الخلوي (السيتوبلازم) الذي يحيط بالنواة، إذ بينما تتكاثر خلايا الجسم إلى أجيال لا نهاية لها من الخلايا المتماثلة، فإن البييضة الملقحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة لعدد محدود من الأجيال، فما تكاد تفضي إلى كتلة من اثنين وثلاثين خلية حتى تتفرع خلايا الأجيال التالية إلى اتجاهات وتخصصات شتى ذات وظائف متباينة، وتتخلق إلى خلايا الجلد والأعصاب والأمعاء وغيرها، أي ينحو إلى تكوين جنين ذي أنسجة وأعضاء مختلفة ومتباينة رغم أنها لا زالت تشبه خلايا الأم التي ينشق الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمل كل منهما نفسه، ولكن طوائف من الجينات (الكروموزومات) تنطفئ (بقدرة قادر) فتبقى موجودة (لكنها غير فعالة) في تمايز يتيح لكل مجموعة من الخلايا أن تفضي إلى نسيج أو عضو من أنسجة الجسم وأعضائه المتعددة، هذا كله هو الطريق المألوف للولادة الذي يتم عن طريق التلاقح الجنسي.
أما الاستتئام:
فهو إنجاز علمي "كشف عنه العالمان (جيري هال) و (روبرت ستلمان) خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة منتريال بكندا في أكتوبر عام 1993 م؛ تناول جنين الإنسان رأسًا، وحصل هذا الإنجاز العلمي على جائزة أهم بحث في المؤتمر.
وخلاصة هذا الإنجاز العلمي هو: أن البييضة الناضجة التي تحتوي على (23 كروموزوما) إذا اخترق جدارها السميك منوي ناضج يحتوي على (23 كروموزومًا) فتلتحم النواتان في نواة تحمل الكروموزومات الستة والأربعين (23 زوجًا) وهي صفة خلايا الإنسان.
ثم يحدث انقسام النواة إلى جيل بكر من خليتين، وإلى جيل حفيد من أربع خلايا، وأجيال تالية من ثماني، ثم أجيال من ست عشرة، ثم أجيال من اثنين وثلاثين، ثم يحدث الشروع في التخصص لتكوين أنسجة وأعضاء. وبما أن الانقسام الأول للخلية الأم إلى خليتين يحتوي على تمزق الجدار الخلوي السميك، فيكون عندنا خلية أم أصلية واحدة يتم انقسامها لتكوين جنين واحد، ولكن كشف العلماء في أن الانقسام الأول إذا لم يمزق الجدار السميك فإن كلًّا من الخليتين الناتجتين عن الانقسام الأول تعتبر نفسها، أما أصلية من جديد، وتشرع في الانقسام لتكوين جنين لوحدها، وهذا ما يحدث في الطبيعة في حالات التوائم المتشابهة (أي التي تنتمي إلى خلية أم واحدة) .
آية الله محمد علي التسخيري