المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاستنساخ البشريإعدادالشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد العاشر

- ‌بحثأحكام الذبائح واللحوم المستوردةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادسماحة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية للذكاةإعدادأ. د إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌‌‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌المفطراتإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌مفطرات الصائمفي ضوء المستجدات الطبيةإعداد الدكتور محمد جبر الألفي

- ‌ضابط المفطراتفي مجال التداويالأكل والشربإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المفطراتإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌المفطراتفي مجال التداويإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌التداوي والمفطراتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌المفطراتفي ضوء الطب الحديثإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادالدكتور نزيه كماد حماد

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادد. محمد بن علي القري

- ‌الاستنساخ البشريإعدادالشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية

- ‌نظرة في الاستنساخ وحكمه الشرعيإعدادآية الله محمد علي التسخيري

- ‌الاستنساخ البشريبين الإقدام والإحجامإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌الاستنساختقنية، فوائد، ومخاطرإعدادد. صالح عبد العزيز الكريم

الفصل: ‌الاستنساخ البشريإعدادالشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية

‌الاستنساخ البشري

إعداد

الشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

الاستنساخ

في شهر فبراير من هذه السنة 1997، أعلن العالم السكوتلندي (إيان ولموت) أنه مع فريقه قد حققوا خطوة جديدة في طريق التكاثر النوعي؛ إذ تمكنوا في الضيعة التجريبية في مؤسسة روزلان (Roslin lnstitute) من تطوير التقنيات التي بلغت أن نعجة ولدت نسخة منها دون لقاح.

ما قاموا به يتمثل في الخطوات التالية:

1) الخطوة الأولى: تم تفريغ كل بييضة من البييضات التي أخذوها مما أفرزه مبيض الأنثى- ذات الرأس الأسود - بعد حثه، تفريغها من نواتها وأبقوا على الستوبلازم والغشاء الواقي، وكان عددها 277 بييضة مفرغة.

2) أخذوا من ضرع نعجة من فصيلة (فان دورسات)(Fin dorset) بيضاء الرأس خلايا.

3) نزعوا من كل خلية من خلايا الضرع النواة، ثم خدروا نشاطها.

4) غرسوا داخل كل بييضة مفرغة من نواتها نواة من خلية الضرع، هذه النواة التي تحمل في الستة والأربعين وحدة، الحقيبة الوراثية (مجموع الجينات) ، وهي التي تعطي للكائن المسار الذي يسلكه التطور في كل جزء من أجزائه وتحمل جميع الخصائص الذاتية له التي سيكون عليها في الوجود الفعلي كامل حياته.

هـ) وضعت كل خلية في أنبوب الاختبار.

6) سلطوا على الخلية في أنبوب الاختبار صعقة كهربائية، مساوية للصعقة التي تحدث عند الاندماج الطبيعي بين الثلاثة والعشرين كرموزومًا من الحيوان المنوي والثلاثة والعشرين من البييضة؛ فتحركت للانقسام المتماثل.

من (277) فقط 29 أخذت في الانقسام حتى بلغت ما بين 8 - 0 1 خلايا متماثلة.

7) قاموا بزرع هذه العلقة 8 - 10 في مكانها من الرحم.

ص: 1241

8) من بين 29 بلغت واحدة غاية مداها فولدت سخلة (نعجة صغيرة) حية تامة الخلق في شهر جولاي 1996 وكانت تزن 6 كغ، وهي مماثلة لأمها ذات الرأس الأبيض.

9) أخذوا يراقبون نموها حتى بلغت شهرها السابع، فأعلنوا نجاحهم العلمي للعالم، ونقلت صورتها وسائل الإعلام عبر العالم.

هذه طريقة تم نجاح العلماء السكوتلانديين فيها، ثم إنه بعد مدة قصيرة أعلن عن نجاح تجربة ثانية، هذه التجربة مرت بالمراحل التالية:

1) تم تخصيب بييضة منزوعة من قردة بحيوان منوي من قرد، ووضعت اللقيحة في أنبوب الاختبار.

2) انقسمت اللقيحة حسب سنة الله في الخلق إلى اثنتين، وهكذا.

3) عزلوا من هذه السلسلة المتلاحمة من الخلايا الجنسية الباكرة واحدة، وضمدوا بواسطة تقنيات متطورة مكان الانفصال، فأصبحت خلية مستقلة حاملة لـ 46 كروموزوما، تحتوي على البرنامج الكامل للحقيبة الوراثية التي في الخلايا الأخرى.

4) وضعوا هذه الخلية التوأم في أنبوب الاختبار وقاموا بالتقنيات التي تساعدها على التكاثر الانقسامي.

هـ) بعد مرحلة معينة من التكاثر زرعوا المجموعة الأولى في رحم قردة وزرعوا المجموعة الثانية التوأم في رحم قردة أخرى.

6) نمت كل علقة في الرحم المزروعة فيه إلى أن وضعت كل قردة قريدة توأمًا مماثلة للأخرى، في جميع خصائصها ومميزاتها، وتحمل حقيبة وراثية مساوية للتوأم، ويمكن تسمية هذه الطريقة بالتوأمية - مصدر صناعي: كالمدنية، والتماثلية، والتعددية -

ويبدو الفرق واضحًا بين الطريقتين.

1) الطريقة الأولى: حققت إخراج حيوان حي من بييضة غير ملقحة، وإنما غرس بدل نواتها التي لا تحتوي إلا على نصف كروموزومات الخلية نواة خلية تحمل الستة والأربعين كروموزومًا.

2) الطريقة الثانية: حققت إخراج حيوانين توأمين من الخلية الملقحة بعد انقسامها.

وهناك فرض ثالث لم يعلن عن تجربة ولا عن النجاح فيه لحد الآن هو إخراج توأمين أو عدة توائم من بييضة مفرغة من نواتها ويزرع فيها نواة من خلية، ثم بعد انقسامها الأولي تعزل بعض وحداتها لتأخذ في التكاثر حسبما تقدم، فتكون النتيجة حصول توائم متماثلة تماثلًا كاملًا مع بعضها، ومتماثلة مع من أخذت منه النواة أول مرة.

ص: 1242

تشكيل العقول والمشاعر

تمردت وسائل الإعلام في عصرنا هذا، عن وظيفتها الأساسية التي هي وسيلة تيسير إيصال المعلومات إلى الإنسان بصدق إلى قوة غازية تثير - حسبما سطر لها المتحكمون فيها والموجهون لها - التفاعل إلى الحد الذي يرغبون في بلوغه من الإثارة، أو تنوم العواطف والمشاعر والعقول حسب المقدار المسطر إلى أن يسقط في هوة النسيان أو التعتيم.

فأصبحت البشرية من سحرها الغلاب في كثير من القضايا ترضى بالباطل وتعتقد أنه الحق، وترفض الحق معتقدة أنه الباطل والإثم والضلال المبين، وتشكلت الحقائق بالمظهر الذي يبدو من الزاوية التي يرغبون أن ينظر منها المغزوون. وهذا السلطان أعان على بلوغه الشاشة الصغيرة، باعتمادها نقل المشاهد مقرونة بالخبر، فتجاوزت وسائل الإعلام المحدودة بطبيعتها، فإذا كانت الكتب تعمل على التأثير في القراء الذين لهم مستوى ثقافي ومران أكسبهم حب القراءة، وإذا كانت الجرائد والمجلات لها قاعدة أوسع من الكتاب، فإن التلفزة لا تعرف حدًّا، وتصل بواسطة البصر والأذن إلى كل مبصر وسامع، بل لغة المشاهد الحية تعوض إلى حد جهل الناظر باللغة التي تصحب المعلومات المرسلة، والمنتقاة بطريقة بارعة لتحقيق رد الفعل المرغوب فيه عند المشاهد.

أثر الإعلام بالاستنساخ

ظهرت (دولي) سخلة عمرها سبعة أشهر نشيطة الحركة مرفوعة الرأس مصحوبة صورتها، بأنها طريقة تمت للمرة الأولى في عمر الكون معلنة عن مرحلة سوف تتبعها تطورات لاحقة على هذه السبيل في التكاثر أو في توالد أجيال الأحياء، بوسائل الإعلام المتنوعة قد تكون صورة (دولي) اليوم أعرف من العلماء الذين قاموا بالتجربة وأعلنوا نجاحهم فيها، وتخيروا لها الوضع والزاوية والضوء حتى تكون الصورة مقبولة، لا شعوريًّا من المتابعين للخبر، وأضافوا إلى ذلك تسميتها باسم (دولي) المغنية النجمة الأمريكية ذات الصدر الخصب، بما أنها أخذت من ضرع بَرُزَ واحتقن.

وعقب ذلك هزة عظيمة واضطراب في تحديد الموقف الذي ينبغي أن يقفه العالم من هذه التجربة التي هي الحلقة الأولى في سلسلة التجارب التي ربما سترتفع من النعجة والقرد إلى الإنسان. وانقسمت ردود الفعل الأولى بين مصفق للنجاح وبين رافض له، فصدرت فتوى بأن الذين يقومون بهذه التجارب مفسدون في الأرض، يجب أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، هذا أدنى عقوبة لهم، وإلا فيجب إعدامهم (1)

(1) المسلمون: 14/ 3/ 97

ص: 1243

وتحركت السلط السياسية حركتها المحسوبة الخطى بعوامل المسؤولية والرأي العام، وصفق للحدث المفتونون بالتقدم العلمي أينما كان مساره وإلى أية غاية سيتم الوصول إليها.

وحققت وسائل الإعلام لمن يقف وراء التجربة الهدف الذي يقصدون إليه الذي قد يكون:

أولًا: وزن رد الفعل العالمي على التجربة.

ثانيًا: امتصاص الرفض باستقرار النبأ في العقول مع التعتيم عليه إلى الأجل الذي يظن فيه أن لا يحدث رد فعل قوي إذا تعلق بما يمس الحياة البشرية مساسًا أعمق.

ثالثا: التعريف بالقدرة العلمية للقائمين على المخبر، ومستواهم التقني في ميادين التجربة، وهو ما يحقق لهم أرباحًا هامة، وهذا هو الدافع الكبير - إن لم نقل الوحيد - لهذه البحوث، فشركة P.P.L الإنكليزية لصناعة الأدوية، هي التي مولت مخبر بحوث روزلان، وهي التي تملك البراءة، وقد ارتفعت أسهمها غداة الإعلان بـ 13 % في بورصة لندن.

المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية

في هذه الساحة المضطربة والقلقة أراد القائمون على المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن ينظروا في الموضوع نظرة متأملة مسؤولة - وذلك كشأنهم - لتحديد النظرة الإسلامية إلى التطورات التي تحققت أو ستتحقق في الميدان الطبي، والبيولوجي الطبي، ووصلني البحثان القيمان للأستاذ الكبير في الطب والأديب البارع الدكتور حسان حتحوت، والبحث القيم للعالم الدكتور أحمد رجائي الجندي الأمين العام المساعد للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، والبحوث الثلاثة تتلاقى في الكشف عن التجربة، ثم في إثارة ما يمكن أن ينشأ عنها، وقد أفدت من هذه البحوث ومما طالعته في هذا الموضوع، فتبين لي أن البحث يجب أن يتناول دائرتين:

الدائرة الأولى: هي تدخل الإنسان في ميدان الاستنساخ والتوأمية.

الدائرة الثانية: هي تدخل الإنسان في الحقيبة الوراثية.

الدائرة الأولى: تدَخُّل الإنسان في الاستنساخ والتوأمية

1) تدخل الإنسان في عالم النبات.

2) تدخل الإنسان في عالم الحيوان.

3) تدخل الإنسان في البشر.

ص: 1244

الاستنساخ النباتي:

إن الاستنساخ في عالم النبات قد فتح أبوابًا للعلماء للتحصيل على الفسائل بأقصر طريق وبأقل ثمن، مع الاطمئنان على نوعية الأثمار وخصائص الشجرة التي ستكون كالأصل المأخوذة منه في قوتها ومقاومتها للأمراض ووفرة عطائها ومذاقها، وفي هذا الميدان فإن الأمر الهام هو تكوين المختصين في البحث وتمويل المخابر العلمية، وحفز الهمم للمضي قدمًا في هذه السبيل، فصيحات الفزع من الانفجار السكاني العالمي والخوف من المجاعات ومن اختلال التوازن بين عطاء الأرض والأفواه قد تصبح رؤى أحلام تبددها خصوبة يقظة العلم تحقيقًا للإرادة الإلهية، ولإذنه السامي في تسخير الأرض للإنسان في حياته الدنيا.

الاستنساخ الحيواني في دائرة العلاج:

لما ظهرت صورة الفاتنة دولي ثار سيل عارم من الأسئلة:

السؤال الأول: هل يعتبر هذا العمل تحديًا للقدرة الإلهية؟ هل أصبح الإنسان خالقًا خَلَقَ خلقًا كخلقِ الله؟ هذه القضية التي تحدى بها القرآن الذين اتخذوا آلهة من دون الله {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]

فالقرآن يؤكد في غير ما آية على هذه الحقيقة التي هي عجز كل مخلوق أن يقدر على الخلق، وها هو الإنسان قد وصل إلى الخلق!

إنّ تَصوّر ما قام به هؤلاء العلماء أنه خلق هو تصور خاطئ ينبئ عن سذاجة من توهمه ، ذلك أن غاية ما قاموا به أنهم درسوا قوانين الخلق الإلهي ووعوها وقاموا بتطبيق ما علموا على ما عملوا، فهم لم يوجدوا خلية ولا نواة ولا كروموزومًا، وليس لهم أي تحكم في قسر الخلية على الانقسام والتكاثر لمجرد الإرادة والتسلط، فهي سلسلة متتابعة في التوالد عرفوا كيف يدخلون عليها عوامل من خلق الله ليحدث ما يحدثه الله أرادوه أو لم يريدوه.

والذي يرفع كل ريبة أن الله أرى العالمين أن خلق الإنسان من الذكر والأنثى هو سنة في الطبيعة ذاتها يصل إليها الإنسان بالبحث. فالأجسام مثلًا تنجذب إلى الأرض هذه هي السُّنَّة، ومع هذه السنة المدركة مظاهرها إدراكًا عامًا هناك سنن تمكن الإنسان بذكائه أن يخرج هو، وأن يخرج آلاته من منطقة الجاذبية. والله خلق نسل الحيوان من الذكر والأنثى حسب التكاثر الذي يجري عليه أمر بقاء الفصائل الحيوانية، ويصل الإنسان بعلمه إلى تحويل هذه السنة الكونية، وكما قال عمر:" بل خرجنا من قدر الله إلى قدر الله ".

ص: 1245

السؤال الثاني: لماذا هذا المجهود ولم تصرف هذه الطاقات البشرية؟ أليس هذا عبثًا؟! فإذا كان كل نوع من أنواع الحيوان يتكاثر بالطريقة التي طبع الله عليها الكون ، فلماذا هذا العبث والجهود المهدرة وزعزعة المسار المألوف والوافي بحاجات البشرية؟

إن الذي قام به العلماء ليس القصد منه العبث بالخلق، إن الأمر جدٌّ، وإن العلم قد ارتبط بالاقتصاد، وإنه إذا كانت الحضارة التي كتبت لها اليوم أن تنفرد بسيادة العالم، أعني الحضارة الرأسمالية الغربية، فإن كل مظاهر النشاط العلمي والثقافي والاجتماعي هي مطبوعة بطابع هذه الحضارة وموجهة في الطريق الذي ينسجم معها، في القانون الذي هو القطب والمعيار:(دعه يعمل) الحرية.

ولذلك لا نفهم القصد من هذا العمل إلا إذا نظرنا إليه من زاوية الربح المادي المترتب عن ذلك، إن هذه الحيوانات التي أمكن للعلماء أن يتدخلوا في خليتها الأولى بإبرهم المكروسكوبية قد تمكنوا حتى قبل هذه التجربة من أن يضموا إلى الكروموزومات جين إحدى البروتينات الصالحة لمعالجة بعض الأمراض، وأعطت هذه الحيوانات في ألبانها كمية كبيرة من هذه البروتينات وصلت إلى خمسين نوعًا في سوق الدواء كلها مستخلصة من ألبان النعاج والمعز والخنزيرات، وفي الأخير الأبقار، ولهذا صور بعضهم هذه الطريقة بأنها منجم لا ينضب لاستخلاص ما ينفع الإنسان ويداوي أسقامه، وسوف تفتح هذه التجربة الناجحة بواسطة الاستنساخ آفاقًا أرحب.

يقول الدكتور مارتين بيريز Martin perez بعد أن عدد أنواعًا جديدة من البروتينات العلاجية التي بصدد التجربة والتي سيكون لها دور كبير في علاج بعض الأمراض، يقول: إن اكتشاف هذه الأدوية الرائعة لا تعود إلى المصادفة، بل إن الباحثين قد استطاعوا أن يعزلوا الجين البشري الذي لبرنامجه تأثير في التعرض لمرض معين، وصنعوه في أنبوب ثم لحموه بجين بروتين لبن الثدييات، فوصلوا بذلك إلى تصنيع جين قادر أن ينتج مع بروتين اللبن، بروتينًا علاجيًا مرغوبًا فيه.

ص: 1246

ولكن منظمة الصحة العالمية أيقظت العالم من مركز مسؤوليتها على الصحة العالمية، إلى ما يمكن أن يصحب هذا المنهج في التحصيل على الدواء من مضاعفات سلبية قد تكون خطرًا على الإنسان، فقد جاء في الإعلان الذي جاء على لسان الناطق باسم المنظمة الدكتور هيروشي نكاجاما:" إنه إذا كانت آثار الاستنساخ الحيواني والأنواع المتغيرة جينيًّا يمكن أن تكون إيجابية، فإنه يجب أن نكون دائمًا على حذر من الآثار السلبية كخطر انتقال أمراض للإنسان، بمجاوزة الحدود النوعية، وعلى جميع الأحوال فإنه ينبغي دومًا ملاحظة مبدأ الاحتياط، بأن يكون بين أيدينا دومًا المراجع التقنية والخِلقية التي تؤمن صحة وكرامة الإنسان وتحفظها بصفة كاملة ".

إن هذا التحذير الذي صيغ في قالب واضح دون أن يتعرض للطرق التنفيذية، التي قد تقترحها المنظمة بعد عقد لقاءات تجمع الباحثين والعلماء، والتي ستكون أول حلقاتها ستلتئم في نهاية شهر إبريل حسبما جاء في التصريح، إن هذا التحذير يجب أن يفهم على أساس كبح التسرع في الإعلان عن النتائج أو الاطمئنان إليها في ميدان ما يزال جديدًا، والذي قد تكون آثاره السلبية بطيئة لا تظهر إلا بعد مدة طويلة.

إن ظاهرة التسرع في عرض الأدوية الجديدة للرواج العام؛ أمر يدركه أهل الاختصاص وغيرهم، فقد حصل في هذه السنوات الأخيرة أنه يسحب من الأسواق أنواع من الأدوية كشفت التجربة عن آثارها السيئة على الصحة بعد أن استهلكها المرضى وعلقت آثارها السيئة بأبدانهم، واستقل أصحاب البراءة بالغُنْم، ولكن وسائل الإعلام تعتم على هذا الجانب السلبي ولا تتولى نقده وإثارة الرأي العام العالمي، حتى يكون سندًا لاستصدار ميثاق عالمي للأدوية، يكون الإنسان وصحته الغاية التي تحكم ترويج الأدوية، وليس وسيلة تشبع جشع الشركات الكبرى المصنعة للدواء.

إن تجربة (دولي) ينظر فيها من نواحٍ عديدة:

أولًا: باعتبار أنها تجربة تعطي للمختصين إمكانات أوسع لاستخراج أدوية جديدة تساعد على الشفاء من أمراض ما تزال لحد اليوم مستعصية على العلاج، أعجزت الأطباء عن تخفيف آلام المصابين أو إنقاذ حياتهم، ومن هذه الناحية فإن التجربة مشروعة والاستمرار فيها لتبلغ الدقة اللازمة لا يختلف حكم ذلك عن حكم تصنيع بقية الأدوية لنفع الإنسان.

ص: 1247

كما ينظر فيها ثانيًا من ناحية اتخاذ الحيوان وسيلة وحقلًا للتجارب، وهذا أمر مشروع، لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . [البقرة: 29]

فجميع الكائنات فوق هذه الأرض وفي باطنها وفي جوها والتي هي من خلق الله ومملوكة له، قد مكن منها الإنسان ليستفيد منها ويطورها تبعًا لما آتاه الله من ذكاء وقدرة على تطويعها في نطاق مصلحته الحقيقية، لا في نطاق هواه ونزواته، ودون تعسف أو فساد.

كما ينظر فيها ثالثًا على أساس أن ذلك مستوى علمي ستظهر الحاجة إليه واعتماده، فينقلب السعي إلى بلوغ ذلك المستوى واجبًا كفائيًّا على الأمة، على ما حققه أبو إسحاق الشاطبي من أن المباح أو المندوب بالجزء ينقلب واجبًا بالكل، فإذا كان التوجه للاستفادة من استنساخ الحيوان في ميدان العلاج أمرًا غير واجب على كل فرد من أعضاء الأمة الإسلامية، فإنه من ناحية تحتم أن يكون في الأمة الإسلامية من يغنيها في هذا الميدان عن الاحتياج لغيرها ينقلب واجبًا كفائيًّا تأثم الأمة كلها بتقصيرها فيه إذا هي لم تخصص الاعتمادات اللازمة والإطارات المقتدرة على البحث والاكتشاف.

الاستنساخ الحيواني لتحسين النوع

كما فتح الاستنساخ الحيواني لمخابر الدواء طرقًا جديدة في استحضاره، فإنه فتح في ميدان الفلاحة إمكانات جديدة لتحسين الإنتاج كمًّا ونوعًا.

لقد شرعوا في تجربة زرع الأجنة الممتازة المأخوذة من بييضات من أبقار مختارة لسرعة نموها أو لوفرة ما تدره من ألبان أو لمذاق لحمها، بعد تخصيبها خارج الرحم من فحول ممتازة؛ فتحمل البقرة اللقيحة لتبلغ بها إلى ولادتها في أمدها. ابتدأت البحوث من سنة 1940 وبلغت نجاحها سنة 1970، حتى وصل عدد الأبقار التي حملت بهذه الطريقة في سنة 1996 (27000) بقرة بفرنسا.

إن هذه التقنية تأخذ مرحلة جديدة بعد الاستنساخ، ذلك أن الشبه في اللقيحة المخصبة خارج الرحم لا يحقق تماثلًا تامًّا بين البقرة صاحبة البييضة وبين النتاج، أما بواسطة التقنية الجديدة فإن التماثل سيكون قريبًا من التمام، وبذلك يمكن في النهاية امتلاك قطعان من الأبقار متماثلة في الشكل والعطاء وقوة المناعة مما يوفر أرباحًا أكثر للفلاحين.

ص: 1248

تنبيه أول: إن سِفْرَ الحياة علمنا من الواقع المشاهد ما علمناه يقينًا بواسطة الوحي أن علم الإنسان محدود وقليل، وأنه لا يحيط بالموضوع إحاطة كاملة ولا يتأتى الكامل من الناقص، قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]

ولذا فإنه كثيرًا ما ينخدع العلماء والباحثون بما ينكشف لهم من الجوانب الإيجابية لتجربة فيجزمون بصلاحها للحياة ثم تصبح في التطبيق المستمر شواهد غفلتهم وحدود معرفتهم، ولكن بعد هدم وتخريب. جنون البقر الذي كان حصيلة تغذية، وصفت بأنها علمية ومفيدة وتعطي للأبقار ما هي في حاجة إليه من متنوع العناصر المستحضرة صناعيًّا إدرارًا للألبان ونموًا سريعًا في الوزن، مع نتيجة المعادلة التي هي دومًا وفرة في الأرباح؛ فزيادة القطعان التي اضطربت حياتها وضعت قوائمها عن حملها وفسدت فطرتها، سرى الداء إلى الإنسان الذي تغذى من لحومها وألبانها وسجلت وفيات من تأثير ذلك.

إن الاستنساخ لتحسين النوع يجب أن يحرم إدخاله في حياة الإنسان إلا بعد أن تمضي مدة كافية تنفي كل احتمال ضرر للإنسان من تناول لحم أو لبن الحيوانات التي تمت بواسطة الاستنساخ، حسبما يقرره الخبراء الذين لا تربطهم صلة بالمخابر باستمرار المراقبة الحازمة جيلين أو ثلاثة حتى نطمئن على سلامة صحة الإنسان وأنه لا يمكن أن تظهر أعراض متولدة عن التناسخ ضارة.

تنبيه ثانٍ: إن عالم المكروبات عالم متطور ما يزال العلم بعيدًا عن الإحاطة بالعوامل التي تعمل في تحولاته العميقة وتشكله ومناعته، حتى فيروس الزكام يغالطنا باستمرار، وتبين التجربة أنه كثيرًا ما يتم تلقيح البشر بما يكسبهم المناعة منه، ولكنه عندما يغزوهم يكون قد تشكل بشكل جديد خادع لا تستيقظ له قوة الدفاع الذاتي، فكذلك قد تحدث أوبئة فتقضي على سلالات تكون عاجزة عن مجابهة جيوش المرض، وتقاوم سلالات أخرى فتصمد ويكتب لها الاستمرار، فالمضي في التجربة يجب أن يصحبهما دومًا الاحتفاظ بالسلالات الأخرى حتى لا ينقطع النوع في الحالات غير المتوقعة والتي يجب أن لا تغيب على القائمين على أمن الغذاء للعالم.

ص: 1249

الاستنساخ البشري

إن استمرار الحياة البشرية قد تم في تاريخ الكون بطريقة واحدة، أن تلقح بييضة الأنثى بالحيوان المنوي داخل الرحم فتنشأ الخلية الأولى التي حسب قوانين الخلق حتى تبلغ إنسانًا سويًّا قادرًا على التأقلم مع الأرض ومحيطها، ولم يشذ عن سنة الخلق هذه إلا آدم عليه السلام، فقد خلق بأمر التكوين من غير أب ولا أم، وحواء زوجه التي خلقت كأول أنثى من آدم، وعيسى عليه السلام الذي ولدته أمه وليس له أب ، إعلان من القدرة الإلهية للإنسان بأن التوالد على سنة الاتصال الجنسي ليس أمرًا يقضي به العقل، ولكنه أمر نظّم عليه الكون، مما يعبر عنه بالقوانين الطبيعية، والقوانين الطبيعية تُخْرَق، أما القوانين العقلية فهي ثابتة مستمرة لا يلحقها خلل ولا استثناء متى كانت صحيحة.

ومنذ القرن الماضي أخذ الطب يتدخل في الإنجاب؛ ففي سنة 1884 تم في أمريكا الشمالية حقن كمية من المني داخل الرحم لستر عدم خصوبة الزوج، وتبقى هذه الطريقة محاطة بالسرية الكاملة، فلا يعرف المانح أين ذهب ماؤه، ولا تعرف المرأة صاحب المني، ولما تمكن العلماء من تجميد اللقاح تيسر انتشار هذه الطريقة في الخمسينات، وهذا محرم في نظر الإسلام، واختلاط الأنساب فيه واضح.

وفي سنة 1978 تطورت التقنيات فتمت ولادة لويز بروان، بتخصيب ببيضة أمها باللقاح خارج الرحم in- vitro في بريطانيا، واستمرت هذه التقنيات في حالات كسل الحيوانات المنوية أو قلتها أو في حالة انسداد قناة فالوب موعد اللقاء والاندماج بين البييضة واللقاح.

وفي سنة 1983 وصلت التقنيات لتجميد اللقائح، الأمر الذي يمكن من الاحتفاظ بها لمدد طويلة، فاتسعت دائرة استخدام طريقة الحمل بواسطة زرع هذه اللقائح في الرحم بعد تحريكها من جديد لتبدو الحياة الكامنة فيها. وفي سنة 1993 تمت أول محاولة للاستنساخ البشري في الولايات المتحدة الأمريكية على الطريقة التوأمية وتم الإعلان عنها في مؤتمر الخصوبة الأمريكية بمدينة مونريال.

وأعلن العالمان اللذان قاما بها أنهما عزما من أول الأمر على أن تكون تجربتهما تقف عند حد محدود ولا تنتهي إلى غاية المدى الذي تصل فيه اللقيحة إلى إنسان مكتمل الخلق، ذلك أنهما خصبا البييضة بأكثر من حيوان منوي، فأصبحت بذلك محكومًا عليها سلفًا بالتوقف عن الانقسام وبالموت. واعتبر المؤتمرون تجربتهما أفضل ما قدم في المؤتمر لما اعتمدته من تقنيات دقيقة ومضبوطة أدت إلى عزل خلية عن أختها مع الحفاظ على كل مقومات الحياة لها للاستمرار لو لم تخصب قصدا بأكثر من واحد، وتحصلا بذلك على جائزة أهم بحث في المؤتمر.

ص: 1250

وإذا كان المؤتمرون قد رأوا في هذه النتيجة فتحًا حقق في ميدان الواقع ما كان ينظر إليه من قبل كفرض من الفروض بعيدة التناول ونوهوا مكرمين صاحبيه، فإن وقع الخبر لما تردد صداه في أنحاء العالم كان له دوي هائل في أوساط علماء الدين وعلماء الأخلاق والفلاسفة ورجال السياسة والصحافة والإعلام.

وما أن أطلّت (دولي) تغازل البشرية أو تتحداها حتى ملأت الدنيا وشغلت الناس، وحق للإنسان أن يشعر بالخطر الداهم من الزلزال الذي سيدك كل ما بنيت عليه البشرية من قيم وأخلاق وروابط اجتماعية.

إن القرن العشرين الذي ورث حصاد ما زرعه الفكر الإنساني في حقل المعرفة من أول الكون إلى اليوم قد تمرد فيه العلم تمردًا أعماه عن البصر بدوره الذي هو إسعاد البشرية، فعزل الغاية، وقصر همَّه على ذاته فانطلق بدون هدى يهديه ولا قيم تحكمه، يبني ويهدم يعمر ويخرب، ويستعبد الإنسان ثم يرمي به في زاوية العجز ليقضى عليه.

إن قرننا هذا هو قرن الزلازل.

فما إن انتهى النصف الأول حتى فجر العلماء ما خلق ليكون ملتئمًا، فجروا الذرة فكان للفيزياء الدور الرائد، وتسابق رجال السياسة للبذل السخي على تطوير البحوث والتجارب وخزنوا من قوة التدمير ما يكفي لإفناء الأرض وما عليها مرات متوالية.

ويكفي أن يتسرب حتى الشعاع من مفاعل ذري قالوا إنه للسلم والحياة المدنية السهلة، حتى يدمر الحياة من حوله ويأتي على الأخضر واليابس. وما تزال إلى اليوم مشكلة النفايات التي يبقى إشعاعها أكثر من ألفي سنة حملًا مرهقًا عجزت البشرية عن إيجاد حل له يؤمن المحيط من تلوثه المخرب، وإذا استعصت مشكلة النفايات إلى هذا الحد فأعجزت؛ فإنه يبدو أن التخلص من السلاح النووي ما يزال خيالًا بعيد المنال. أدخلوا العلم المنبت المتمرد في هاوية الخراب والتدمير، وأوهموا الإنسانية أنها تقدمت؛ ولكنه تقدم إلى الفناء والعذاب.

وما أن استيقظ العالم مما جرفتنا له العلوم الفيزيائية حتى قامت العلوم البيولوجية تأخذ صدارتها في نهاية القرن، مؤذنة بانهيار كل القيم الإنسانية سواء أتعلقت بكرامة الإنسان أو بالأصول التي يقوم عليها الترابط الاجتماعي أو بالمشاعر والعواطف التي كانت لُحمة النسيج الرابط بين البشر.

ص: 1251

نعم إن العلماء لم نسمع منهم إلى حد الآن أنهم قد وصلوا إلى الاستنساخ البشري، ولكن الاستنساخ قد خطا خطوة عملاقة وسريعة. كانت المحاولة الأولى الناجحة أجريت على الضفادع سنة 1975، أجراها العالم جون قوردون في أكسفورد، أخذ الخلية من مصير شرغوف هو ولد الضفدع في تطوراته (قبل أن ينقلب ضفدعًا) ، ومن جلد ضفدع بالغ وبما أن نواة خلية الضفدعيات أضخم من نواة خلية الثدييات، فإن التجربة كانت أيسر، ومع هذا فإن الضفادع المستنسخة كانت عقيمة، إذ لم تصل إلى الضفدع البالغ، والنجاح في استنساخ (دولي) ، معناه أنه قد تم التغلب على كثير من المعوقات واقترب العلم جدًّا من التدخل في استنساخ الإنسان.

وما الذي يمنع العلماء في مخابرهم من القيام بهذه التجربة؟ إن الستار الحديدي أطلق تجوزًا على العالم الشيوعي إبان الحرب الباردة، ولكن الستار الحديدي الذي أحكم عزله عن العالم الخارجي هي المخابر، لا يقل حرص الشركات عن حرص الدول على صيانتها من الأسماع والأبصار، وتقوم فرق حماية التجسس في كل دولة على هذه المخابر حتى لا يتأتى اختراقها لأحد، ويكاد الضنّ بها والاحتياط ومحاولات التجسس لا تختلف بين الدول المرتبطة بأوثق الروابط الاقتصادية والدفاعية وبين الدول التي تقوم علاقتها على أخذ الحيطة لكل واحدة من الأخرى.

إن هذه الأسوار العازلة للمخابر وما يجري في عوالمها الداخلية، وسلطان السبق للأسواق والاستئثار بما يدره الجديد من أرباح مما يزيد الأمر خطورة وتعقيدًا.

إنه إذا جاوزنا قصار النظر الذين لا يرون في (دولي) إلا نجاحًا علميًّا، وأن العلم سالك سبيله في البحث والاكتشاف، وأن طبيعة العقل البشري أن تستفيد من الحاصل لتنطلق منه إلى المجهول حتى إذا غدا المجهول معلومًا فتح للعلماء آفاقًا جديدة من البحث عن مجاهيل أخرى وهكذا دواليك، وأن العهد الذي كانت الكنيسة توقف سير العلم قد ولى من بداية عهد التنوير، وأن استنساخ البشر يحل مشاكل كانت مستعصية كالأم التي حرمت الإنجاب لعقم خلقي فيها أو في زوجها، فيصبح في الإمكان أن تنجب وأن تنعم بالولد، والأسرة التي فقدت ولدها يمكن أن تكون نسخة منه محفوظة مجمدة فيحضنها رحم الأم أو رحم مستعار وما هي إلا تسعة أشهر حتى يكون شقيق الميت المساوي له في كل الصفات يملأ حياتها بهجة، وإذا تعرض الولد لمشاكل صحية وتعذر الحصول على عضو لا يرفضه جسم المريض أو خلايا نخاع أو كبد أو غير ذلك، فإنا نجد في النسخة المحفوظة ما يساعد الأطباء على إنقاذ حياة التوأم. وهكذا في سلسلة التطبيقات الداخلة في إطار الخيال العلمي مما يتوقع تحققه ومما هو بعيد عن التحقيق.

إن كل ما سمعته من أقلام المؤيدين أجده لا يصمد أمام المبادئ الآتية:

فالعلم حقًا قد تحرر من وصاية الكنيسة عليه، وأن هذه الحرية هي التي مكنت الحضارة الإنسانية من المكاسب التي دخلت كل ميدان، واستفادت منها حتى الكنيسة ذاتها في تعديل مواقفها ورؤاها. فالنظرة الموضوعية للأشياء والأخذ بمبدأ قبول الحقائق التي يؤمن بها البشر عن تقليد للتعديل حسبما يؤدي إليه سلطان العقل وما تبرزه التجربة، وأن الحقائق الكونية مرجعها التجربة فيما تثبته والعقل فيما يتصوره ويتأكد عنده بالبرهان ثم ينجلي عنه الشك والزيف بالعيان تطبيقًا عمليًّا متكررًا إلى أن يذوب كل أثر للمصادفة أو للظروف الطارئة وغير الثابتة.

ص: 1252

وليس معنى تحرر العلم من سلطان الكنيسة أنه استبدل كرامة الإنسان وحقوقه بحريته، وإن شئت فقل: إنه فرق عظيم بين حرية البحث الذي يسعد الإنسان، والبحث المدمر للإنسان، إنه ليس السلطان الغيبي الذي لا يعطيه العلمانيون أية قيمة هو الذي يصرخ بالمنع. ولكن إلى جانب ذلك الإنسانية يعلو صوتها مستغيثة من تمرد التجارب اللامسؤولة ودخولها نطاق الإنسان ذاته لتحطم عزته وحقوقه، فليست وصاية على العلم، لكن تبصير العلم بحدوده حتى لا يدمر نفسه ويدمر الإنسان معًا؛ هذا الإنسان الذي تكمن سر إنسانيته في كرامته، وذهاب كرامته معناه ضياعه وضياع مكاسب الإنسانية التي جاهدت وما تزال تجاهد في الحفاظ عليها والتي تعتبر كل المكاسب الحضارية الأخرى متفرعة عنها ومنبثقة منها.

والإسلام يؤكد على صيانة الكرامة الإنسانية.. تناولها القرآن بطرق مختلفة وبأساليب متنوعة تفضي كلها إلى الحقيقة التي لا تقبل الإخلال بها في عرف الحق الذي أنزله الله - أن الإنسان مكرم ، وغاية لا وسيلة.

إنه من أول مراحل التكوين البشري، يبرز القرآن كرامة الإنسان وتفضيله بجعله خليفة في الأرض، بتمكينه من المعرفة والوصول إلى الحقيقة، بسجود الملائكة له، وبتمكينه من الاختيار في حياته، إذ كل الكائنات تسير حسبما هو مودع في ذاتها إلى أن تفنى، يستوي في ذلك أصغر كائن كالهباءة وأضخم كائن من الكواكب، كلها تسير وفق قانونها المودع فيها لا تحيد عنه، وكرم الإنسان فأعطي القدرة على الاختيار ثم اعتبر هذا حقًّا له، فالآيات القرآنية تعتبر التسلط على الإنسان التسلط السالب لاختياره تعديًا مرفوضًا وغير مقبول بحال، حتى الحق الذي جاء به القرآن لا يكره الناس عليه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] ، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وعبر عن هذه الحقيقة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خالطت أنوار الهداية الإلهية قلبه وعقله: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ "

فاتخاذ نسخة موازية للتوأم والاحتفاظ بها لتكون رصيدًا لقطع الغيار لأخيه التوأم إهدار للقيمة الإنسانية التي يتساوى فيها المولود والمجمد يوم أخذت نسخته فأودعت الرحم وأودعت الأخرى التبريد الآزوتي. وصورة أخرى إذا كبر التوأم ولم يحتج إلى أخيه فهل نحكم عليها بالإعدام أو نبقيها إلى أبد الآبدين، مع ما في التجميد من خطر الاختلاط، فقد أعلنت جريدة الفيغارو في سنة 1995 أن الخطأ في اللقائح المجمدة يصل إلى 10 % في إنكلترا.

أولًا: أن اللقيحة أو البييضة المعوضة نواتها بنواة خلية تامة، كائن إنساني في أول مراحل حياته، له من الكرامة ما يتناسب مع عمره ولا يقبل أن تكون وسيلة لغيرها.

ص: 1253

ثانيًا: فإن الله لما كلف الإنسان بمهمة تعمير الأرض خلقه خلقًا يمكنه من ذلك، فتعمير الأرض لا يتحقق إلا بتوجه كل فرد إلى ما يلائم مواهبه وإمكاناته، ثم ضم ما ينتجه جهده إلى جهود إخوانه وإفادته منها؛ ولذا كان الاختلاف ضروريًّا لعمارة الكون، فلو اتحدت أذواق وعقول وميول البشر لانصبوا على مكان واحد وعلى عمل واحد وعلى إنتاج واحد، الأمر الذي يساوي في الحقيقة التعطل العام المطلق، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]

ثالثًا: إن الاجتماع البشري يقوم على أساس العائلة، واستمرار طفولة الإنسان، واحتياجاته سنوات إلى من يقوم عليه بالتربية للتطور، وليسلم عقله ومشاعره وقواه الجسمية، تجعل قيام راشد واحد بذلك حِملًا ثقيلًا، ولذا فإنه في حالات اليتم العارض يدعو الإسلام بقية أعضاء الأسرة والجماعة الإسلامية لبذل رعاية خاصة للأيتام تعويضًا عما فقدوا وكانت القوامة والحرمة للزوجين الذكر والأنثى، والاستنساخ يهدم القيم الاجتماعية كلها، فيقيم الحياة على المرأة التي هي العنصر الذي لا غنى عنه فيه، ويصبح دور الرجل لا يتعدى إشباع الشهوة، فالمرآة هي التي تفرز البييضة وهي التي تحملها، فإذا تعلقت الرغبة بولادة الأنثى أضحى أي دور للذكر، وإذا تعلقت الرغبة بميلاد ذكر، فإن دوره لا يتعدى أخذ خلية من خلاياه، وقد تكون شعرة من شعره كافية، والله يقول:{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]

ر ابعًا: إن التقدير المحكم الذي يسير عليه الكون، مما تمت ملاحظته فيه من أسرار، أن التوازن بين الذكران والإناث متقارب دائمًا، فإذا اختل التوازن زمن الحرب بموت الرجال في الحروب عاد التوازن سريعًا بتفوق ولادة الذكور، فلو ارتبط الإنجاب برغبة النساء وهن حسب قانون الاستنساخ صواحبات الحق والدور الفعلي، فإن الاختلال سيلحق المجتمع في تنوع الجنس، قال تعالى:{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) } .

[النجم: 45 -46]

ص: 1254

خامسًا: ماذا ستكون علاقة النسخة؟ هل النسخة باعتبار أنها تحمل نفس الحقيبة الوراثية، وأنه سيبرز كل خط من خطوط البرنامج في النسخة، فهل تكون النسخة بالنسبة للمأخوذ منها وهي أنثى، أختًا لها أو بنتًا، أو هي ذات واحدة في شخصين؟ ما علاقة النسخة بالزوج، أهي ربيبة أو هي أخت زوجته أو هي زوجته كما لو تضخم ثدي زوجته أو يدها أو رجلها أو أي جزء من أجزائها، مع أن زوجته هي التي ولدتها في حال قيام العلاقة الزوجية. ولو حملت الزوجة بالنسخة من الزوج وسيولد ذكرًا، هل يكون أخًا لزوجها، وقد حملته في بطنها وولدته، أو يكون زوجًا لها في صورتين الأصلية والنسخة، أو يكون ابنًا لها؟

ولو فرضنا أن الزوجة أُعجبت برجل ، فأخذت خلية من خلاياه، ويكفي شعرة واحدة سقطت من رأسه ثم تستكمل المراحل حسبما وصفناه ، فتكون صلته بالزوج كصلته بالزوج الذي خدعته زوجته وحملت من غيره، يجب عليه شرعًا أن ينفي نسبه منه، لأن اختلاط الأنساب محرم في شرع الله، وليس قبوله أو رفضه مرتبطًا برضا الزوج، لأنه عندما يولد على فراشه سيكون اتصاله النسبي بكل أصوله وفروعه، ولا يحل له أن يدخل عليهم من ليس هو منهم.

ولو فرضنا الزوجة أن الزوجة لإعجابها بأبيها (وكل فتاة بأبيها معجبة) ، فأخذت نواة خلية من أبيها وأُودعت مكان نواة بييضتها ، ثم غُرست في الرحم، ووصل المولود إلى أمد وضعه؛ هل يكون هذا المولود أبًا لها، أو ابنًا أو أخًا؟

إن الصور التي يمكن أن تحدث من المضي قدمًا في هذه التقنية لا تحصر، وإنها في معظم الأحوال ستؤدي إلى فوضى في العلاقات البشرية، ثم إنه لا يستطيع أي فرد أن يتصور الانعكاسات السلبية لذلك على التوازن النفسي للإنسان في المستقبل، وبذلك فهي خطر على الإنسان وخطر على العلم ذاته الذي هو ثمرة الصحة العقلية والنفس السوية.

سادسًا: إن هذه التقنيات يوم يكتب لها أن تصل إلى غاية مداها فستفتح على مصراعيها أبواب استئجار الأرحام، فإذا كان الفقر والخصاصة، والجوع والعراء قد وصلت بالإنسانية إلى التجارة في السوق السوداء بالأعضاء البشرية، وإذا كان في كثير من الدول الآسيوية والإفريقية يرضى الإنسان أن يبيع كليته لمن يربح فيها أضعاف أضعاف ما يبذله للإنسان (الشيء والمتاع) ، فإن سوق استئجار الأرحام ستكون قطعًا نافعة بمقدار تعدد الأغراض وسعة مسالك الشهوة والخطيئة.

ص: 1255

1) تلتجئ إليها العاقر التي ترغب في تعمير بيتها بأنفاس الطفولة البريئة، ونغمات أصواتها التي توقظ الأم من عمق النوم وتلهيها حتى عن نفسها، فترغب العاقر في القيام بتمثيلية تعيش فيها مع الخيال أشواطًا، ذلك أن الأم ترتبط بوليدها من أول ما تشعر أنها أصبحت حاملة لحياة في أحشائها، محتضنة لاستمرارها في الوجود في بطنها، ثم تتأكد الصلة كلما نما، وتنسج مع إحساسها بحركته الأولى حركتها النفسية لرؤيته يومًا بين يديها حتى يثقلها فتضعه، وسترسل في عالم المشاهدة مع ما كان إحساسًا غير مرئي ولا مسموع.

2) ترغب باستئجار رحم الأنثى المعجبة بوسامتها الحريصة على أناقتها من النجوم والمترفات والمثريات، فهي تستطيع أن تشتري بييضة من أنثى، وخلية منها أو من ذكر يملأ عينيها، ورحمًا تودع فيه الخلية لتبلغ به إنسانًا مكتمل الخلق، وقد دفعت الثمن فهي أحق به، وتكون علاقتها به في الحقيقة صفقة تجارية، هذا ما يؤدي إليه الاسترسال في اقتحام الاستنساخ.

3) أما عصابات الإجرام فستفتح لهم ساحات العمل الإجرامي، فهم يستطيعون كما بيناه التحصيل على نسخ من أكبر المجرمين شراسة ومكرًا، حسبما تبين أعلاه ثم هم ينشؤونهم تنشئة تزيد انحرافهم حدة ويضللون العدالة بالنسخ المتماثلة، إذ يخفون الذي قام بالجريمة، ويثبتون أن مماثله كان في الوقت الذي حدثت فيه الجريمة بعيدًا آلاف الأميال عن موقعها.

4) ولا نغفل عن المتاجرين بالجنس فهؤلاء سوف يجدون في الاستنساخ ما كان يتجاوز أحلامهم، إذ يستطيعون إنجاب نسخ من نجوم السينما وملكات جمال العالم بثمن زهيد على الطريقة السابقة، خلية بييضة، رحم مولودة نسخة مساوية لصاحبة الخلية طولًا وتناسبًا وجمالًا وصفاء، تربى تربية خاصة حتى إذا ما نضجت كانت تبعًا لتربيتها وغسل دماغها وإغراء الشباب وسلطان الوسامة ثروة في سوق الخَنَا يدرّ على الأشقياء.

وقائمة الاضطراب الفردي والاجتماعي تطول وتطول في ميدان التطبيقات التي لا تجد ما يحول بينها وبين التحقيق، والإمعان في الفساد والاختلال في منحرف الطريق إلا عامل الدين المستند إلى صادق التنزيل الذي يبصر العقل والعلم ويهديهما سواء السبيل البصيرة التي لا تنخدع بالجديد لجدته، ولا تقدس القديم لتطاول مدته، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . [يوسف: 108]

ص: 1256

وبجانب إحياء القيم الدينية لا بد من رادع يحرم على كل مؤمن أو كافر أن يفسد على الإنسانية حياتها وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية، ويهدم ما بنته الإنسانية في عشرات القرون، فظنت أنها أمنت الإنسان على كرامته، وأقامت المنظمات تحرس حقوقه وحقوق المرأة وحقوق الطفل، فيكون العبث بهذا الهرم الحضاري عداء للإنسانية على الأمم والدول أن تحمي نفسها باستصدار ميثاق ملزم توقع عليه كل الدول معتبرة كل من يعمل على الاستنساخ أو التوأمة من الباحثين أو المؤسسات مجرما ضد البشرية تأخذه أحكام وتبعات ذلك أينما حل في أرض الله.

هذا وقد أخذت البشرية بحمد الله تقوم بالدفاع عن نفسها من هذا الخطر الذي هو الابن غير الشرعي لحضارة السوق، فإنه بمجرد ما تم الإعلان عن بلوغ (دولِّي) شهرها السابع وانتشرت صورتها في أرجاء العالم حتى سبق البرلمان النرويجي فأصدر قانونًا وافق عليه 88 نائبًا من مجموع تسعين، يمنع منعًا باتًّا إجراء التجارب أو القيام باستنساخ الإنسان أو أحد أعضائه الرفيعة التطور، وكذلك رئيس الجمهورية الفرنسية فقد دعا في نفس اليوم المجلس الاستشاري القومي للأخلاق، وطلب منه أن يدرس القانون الفرنسي ليطمئن على سلامته من وجود ثغرات يمكن للباحثين الفرنسيين أن يقوموا في يوم من الأيام بالاستنساخ البشري، وبعد أن اتصل بتقريرهم يوم 29 إبريل 1997 أعلن أنه يعتقد أن الاستنساخ الإنساني هو تعدٍّ مهين للكرامة الإنسانية وأنه لا بد من العمل على منع القيام به على النطاق العالمي، وأنه سيكون المثير لهذا التوجه والمدافع عنه في اجتماع الدول السبع الأكثر غنى في العالم في اجتماعهم القادم في آخر شهر جوان - بدنفار - بالولايات المتحدة الأمريكية.

فعلى وسائل الإعلام الشريفة أن تمضي في هذه السبيل حتى يصدر ميثاق المنع العالمي.

الدائرة الثانية: تدخل الإنسان في الحقيبة الوراثية

إن ما خط من برنامج حياة الكائن في الكروموزومات لم يفصح عن كل محتواه وأسراره لحد الآن، وما يزال العلماء يتعاونون في هذا الميدان، وفي حدود علمي فإنهم وصلوا إلى قراءة بعض ما هو مسجل من استعدادات كامنة قابلة للظهور في المستقبل، وأنهم يتوقعون أنه يمكنهم التأثير فيما قرؤوه فعرفوه، وهذا التأثير منه ما هو من باب الوقاية كما لاحظوه في بعضها من استعداد للتحول إلى فوضى سرطانية والتدخل لحماية الإنسان باكرًا مشروعة.

وقد يكون التدخل لتغيير صورة الإنسان كلَوْنِ جلده أو شكل شعره تبعًا لرغبة الأبوين، وأرجح أن هذا من باب الاعتداء على حرية الإنسان في حال قصوره عن التعبير عن اختياراته في ميدان لا ضرر عليه فيه، وأن ذلك غير جائز.

ولما كانت البحوث لم تستكمل بعد، وأن التدخل في ميدان دقيق كهذا أو انزلاق الإبرة المكروسكوبية غير مأمون؛ فإن الذي أطمئن إليه أن لا نتعجل ولا نحكم على الشيء قبل تصوره في ذاته، وتصور السلاسل المترتبة عن ولوج هذا النوع من التأثير.

والله أعلم.

محمد المختار السلامي

ص: 1257

الاستنساخ

حقيقته - أنواعه - حكم كل نوع في الفقه الإسلامي

أ. د. حسن علي الشاذلي

الخبير بموسوعة الفقه الإسلامي

بقطاع الإفتاء والبحوث الشرعية

بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

ومن نهج على نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين

الاستنساخ

تعريفه لغة وشرعًا واصطلاحًا طبيًّا

أ- تعريف الاستنساخ لغة:

النسخ لغة يقال لأكثر من معنى، فهو يستعمل بمعنى النقل، وبمعنى الإزالة، يقال: نسخت الكتاب نسخًا - من باب نفع - أي نقلته، وانتسخته كذلك أي نقلته.

وكل شيء خلف شيئًا فقد (انتسخه) .

قال ابن فارس: كل شيء خلف شيئًا فقد (انتسخه)، فيقال:(انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، أي: أزاله) .

وكتاب (منسوخ) و (منتسخ) منقول، و (النسخة) الكتاب المنقول، والجمع (نسخ) مثل غرفة وغرف، وكتب القاضي (نسختين) بحكمه، أي كتابين.

و (تناسخ) الأزمنة والقرون تتابعها وتداولها، لأن كل واحد (ينسخ)

حكم ما قبله ويثبت الحكم لنفسه، فالذي يأتي بعده (ينسخ) حكم ذلك الثبوت، ويغيره إلى حكم يختص به، ومنه تناسخ الورثة؛ لأن الميراث لا يقسم على حكم الميت الأول، بل على حكم الثاني، وكذا ما بعده.

وفي الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري أن الفرق بين الكتب والنسخ، أن النسخ نقل معاني الكتاب، وأصله الإزالة، ومنه نسخت الشمس الظل، وإذا نقلت معاني الكتاب إلى كتاب آخر، فكأنك أسقطت الأول وأبطلته، والكتب قد يكون نقلًا، وغيره، وكل نسخ كتب، وليس كل كتب نسخًا.

ص: 1258

والنسخ شرعًا هو أن يرد دليل شرعي متراخيًا عن دليل شرعي مقتضيًا خلاف حكمه، فهو تبديل بالنظر إلى علمنا، وبيان لمدة الحكم بالنظر إلى علم الله تعالى.

أو هو بيان انتهاء الحكم الشرعي في حق صاحب الشرع، وكان انتهاؤه عند الله تعالى معلومًا، إلا أن في علمنا كان استمراره ودوامه، وبالناسخ علمنا انتهاءه، وكان في حقنا تبديلًا وتغييرًا. (1)

الاستنساخ في اصطلاح الأطباء:

يختلف تعريف الاستنساخ باختلاف أنواعه، وأنواعه كما بيّنها لنا علماء هذا الفن ثلاثة:

النوع الأول: الاستنساخ التقليدي:

وهو زرع خلية جسمية (تحتوي على 46 كروموزومًا) مكان نواة منتزعة من بييضة في هذه البييضة، ليتولى السيتوبلازم المحيط بالنواة الجديدة حثها على الانقسام والتنامي من طور إلى طور من أطوار الجنين الذي يكون بعد ودلاته صورة مطابقة لصاحب تلك الخلية الجسمية من الناحية المظهرية. (2)

النوع الثاني: الاستنساخ الجديد (الاستتئام) :

وهو العمل على فصل خلايا بييضة ملقحة بحيوان منوي، بعد انقسامها إلى أربع خلايا، لتصبح كل خلية منها صالحة للانقسام أيضًا بعد تهيئة ظروف نموها وانقسامها ، ثم زرع إحدى الخلايا في رحم الأم، وتبريد الباقي، ليحتفظ به إلى وقت اللزوم.

النوع الثالث: الاستنساخ العضوي:

وهو العمل على استنساخ العضو الذي يحتاج إليه الإنسان في حياته، حال حدوث عطب في هذا العضو.

ونتناول كل نوع من هذه الأنواع في بحث منفصل على حدة، ونبين رأي الفقه الإسلامي في جوازه أو عدم جوازه بعد مقدمة نؤيد فيها الأمر بالاستزادة من العلم النافع ، وبالله التوفيق.

(1) المصباح المنير؛ والفروق اللغوية، ص 240؛ والتعريفات للجرجاني.

(2)

راجع تعريف الدكتور أحمد رجائي الجندي في بحثه: الاستنساخ البشري بين الإقدام والإحجام.

ص: 1259

مقدمة

تحتوي على:

1) الأمر بالبحث العلمي في الإسلام.

2) الأمر بالاستزادة من العلم النافع.

3) التحذير من العلم الضار.

الأمر بالبحث العلمي في الإسلام:

إن العلم هو فيض إلهي، وهو هبة من الخالق جل شأنه لعباده، وهو نور يستضاء به لمعرفة أسرار الكون، وفهم نواميس الحياة، وإدراك حكمة الله في الخلق، الذي {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } [البقرة: 255]

ينزل الله العلم بقدر، ويأذن فيه لمن يشاء بحكمة، ويوحي به إلى العقول شيئًا فشيئًا، وآنًا بعد آن، مع تناسب تام بين قدرات الإنسان- جميعها- على تحمل هذا الفيض الرباني، وبين معطيات عصره، وحاجات زمنه، قطرة فقطرة، وجرعة بعد جرعة؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وليهتدي الضال، ويسترشد الحائر، بآيات الله البينات التي أدركها، وسننه المتتاليات التي وعاها، ومعجزاته الظاهرات التي اكتشفها، والتي يقف أمامها العلماء خاضعين خاشعين، قائلين:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} .

وقد أرشدنا الله تعالى في كتابه الكريم - القرآن- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى البحث فيها وعنها في أكثر من موطن، ومن ذلك:

قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) } [الذريات: 20- 23]

ص: 1260

ومعرفة هذه الآيات، وهذه المعجزات في الأرض، وفي النفس، وفي السماء، هي تكليف رباني وإرشاد إلهي إلى البحث في الأسرار الكامنة في هذه الأشياء التي نعيش عليها، وفيها، وتحتها، طوال حياتنا؛ وما البحث في أسرار النفس الإنسانية، وفي معجزات الله في خلقه - جل شأنه، في تكوينها - بدءًا، ونهاية، حياة وموتًا، تدرجًا في الخلق، خلية فنطفة، فعلقة، فمضغة، فعظامًا، ولحمًا، ورُوحًا، فولادة، ثم صغرًا وشبابًا وشيبة، صحة ومرضا، قوة وضعفًا ثم موتًا؛ أسرار تتلوها أسرار، ومعارف تتلوها معارف، وعلوم تتلوها علوم ، الكل قابع مفكر ويلتمس شعاعًا من أشعة أسرار الخلق، وبصيصًا من أنوار الهدى الرباني ويكشف عن سر من أسرار حقيقتنا، وحقيقة ما يحيط بنا من أرض وسماء، من شموس وكواكب، وماء وهواء ونبات وحيوان، وجماد، وأمطار، وبحار وأنهار.

إن البحث في كل ذلك لا يمكن أن يصل إليه الإنسان طفرة؛ إذ من آياته البينات، وسننه الظاهرات اليقينيات أن تتمشى العلوم والمعارف، حقائقها وإدراكاتها واكتشافاتها، وآفاقها، ونتائجها مع تطور الخلق - جيلًا بعد جيل - وتقدم العقل، ونمو الفكر آنًا بعد آن، مع ما يلازمه من ظروف وأسباب تفجر ينابيع البحث وتزكي عناصر المعرفة وتدعو إلى البحث والتنقيب عن علاج مرض من الأمراض، أو مواجهة ظاهرة من الظواهر، تؤثر على مسيرة الإنسان، أو طلبًا لما هو أفضل وأكمل في نظر الباحثين والعلماء.

لكل ذلك كان التطور والتنامي في الأبحاث العلمية منذ بدء الخليقة، طفرة إثر طفرة، وجديدًا إثر جديد، حتى انبلج في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، وأوائل القرن الخامس عشر الهجري، الذي يوافقه القرن العشرون الميلادية؛ ظاهرة غير مسبوقة في موضوعات متنوعة، وفي مجالات شتى، كلها لا يصدقها إلا العلماء، ولا يفهمها إلا المتخصصون، وقد كان من بين ذلك البحث في تكوّن الجنين وتكوينه منذ بداية علوقه، وفي أثناء تشكله وتطوره، وقبل كل ذلك وبعده، مما كشف لنا عن بعض الأسرار، ووضع يدنا على معارف جديدة.

ص: 1261

ونحن في دائرة شريعة الله تعالى، الشريعة التي نزلت على خاتم المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي - نؤمن تمام الإيمان بأن العلم في كل مجالاته وفروعه، سواء ما تعلق منها بالخالق جل شأنه - معرفة وإيمانًا وتصديقًا وامتثالًا - أو بالمخلوق من إنسان أو حيوان أو نبات أو ماء أو جماد أو أرواح أو غير ذلك؛ بحثًا في تكونه وتكوينه، وفي تنميته وتطوره، وفي الحفاظ عليه ودرء الأخطار عنه، وفي معرفة كل ما يحيط به وما يؤثر فيه، أو يتأثر به، كل ذلك مطلوب منا شرعًا، ونحن مكلفون به، أفرادًا وجماعات، دولًا، وشعوبًا، والأمر في ذلك عام لكل البشر، لكل من آتاه الله عقلًا، وحباه بصرًا وبصيرة، ولكل من هيَّأه الله تعالى للنظر والبحث، ووهبه نعمة العلم.

والآيات الدالة على الأمر بذلك كثيرة منها:

قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) } [الطارق: 5- 7]

وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) } . [عبس: 24 -32]

وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) } [الغاشية: [17- 22] .

وأيضًا بعد أن يبين الله جل شأنه في سورة الروم آيات الله في الخلق ، في الحياة والموت، وفي خلق الإنسان وتطور خلقه، وفي سنة زواجه، وفي خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، وفي النوم واليقظة، وفي إنزال المطر لتحيا الأرض بعد موتها، وفي البعث بعد الموت ، ثم يقول جل شأنه:

{فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50]

فقد أمرنا الله تعالى بالنظر والبحث الدائم، والتفكر الدائب في كل أسرار الكون، لمعرفة آيات الله جل شأنه فيه، وقدرته، هداية لنا، وبثًّا، ودفعًا لنا إلى الانخراط في آفاق العلم المتنوعة، حتى يتبين لنا أنه الحق- جل شأنه - وأنه على كل شيء قدير.

ص: 1262

الأمر بالاستزادة من العلم النافع:

إن اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء قضية أساسية، وركيزة هامة، وركن ركين في المحور الإيماني للمسلم.

يفيدنا ذلك بوضوح تام، ويدلنا عليه دلالة واضحة؛ أن أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي هو أمره بالقراءة، وهي وسيلة الحصول على المعارف والعلوم.

قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق: 1- 5]

ثم يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن يدعوه جل شأنه أن يزيده في العلم، فيقول جل شأنه:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]

يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم حينما ينزل عليه الوحي بأن ينصت إليه، ولا يتعجل بالقرآن قبل أن ينتهي المَلَك من تلاوة ما أنزل، ثم يأمره بأن يدعوه - جل شأنه - أن يزيده علمًا:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي زدني منك علمًا، قال ابن عيينه رحمه الله:"ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عز وجل "، ولهذا جاء في الحديث:((إن الله تَابَعَ الوحيَ على رسوله، حتى كان أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال)) (1)

ومن ثم كان طلب العلم دائمًا تكليفًا كلف الله به خلقه، وفي تقرير ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . [الحجرات: 13]

والتعارف هو تعرُّف على ما عند الآخرين من علم ومعرفة، وتعرف الآخرين على ما عندنا من علم ومعرفة، وليس التعارف هو مجرد معرفة من أنت ومن أبوك ومن أي بلد، بل هو أعمق من ذلك؛ هو متابعة ما عند شعوب أهل الأرض، ما عند علمائهم وحكمائهم، ما عند مدارسهم وما في معاملهم ونتائج تجاربهم من علم ومعرفة، ومن تطور وتقدم في فروع العلوم المختلفة، فقد خلقنا الله ذكورًا وإناثًا، شعوبًا وقبائل، من أجل هذا التعارف وهذا التلاقي، وهذا الانتفاع والاقتباس، والتقدم والتطور {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} . [هود: 118]

(1) رواه ابن ماجه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة:(.. الحديث..) ، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب، عن عبد الله بن نمير به، وقال: غريب من هذا الوجه، ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس، عن أبي عاصم، عن موسى بن عبيدة به، وزاد في آخره (وأعوذ بالله من حال أهل النار) ابن كثير.

ص: 1263

ولقد كان تكريم العلم والعلماء في ظل الإسلام وفي ظل شريعته الغراء آية تكشف لنا عن مدى اهتمام المشرع الحكيم بتنمية هذا الحقل، ورعاية هذا الغرس حتى يؤتي ثماره، ويحقق أهدافه السامية في إسعاد البشرية جميعها.

قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] . وقرئ لفظ (العلماء) مرفوعًا على أنه فاعل يخشى، أي أن العلماء العالمين به جل شأنه هم الذين يخشونه أشد الخشية، وقرئ منصوبًا على أنه مفعول ليخشى ولفظ الجلالة فاعله، وحينئذ تكون خشية الله من العلماء العالمين والمؤمنين به هي خشية تكريم وإجلال لهم.

وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . [الزمر: 9]

وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1)[المجادلة: 11]

وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ، شهد الله تعالى وكفى به شهيدًا، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين (لا إله إلا هو) أي المنفرد بالألوهية، وأن الجميع عبيده وخلقه، وفقراء إليه، وهو الغني عما سواه، ثم قرن - جل شأنه - بشهادته شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم، وهذه خصوصية عظيمة لأولي العلم في هذا المقام، وهي أجل مقام وأعزه.

ومن الأحاديث أنه روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سلك الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وإن العالم ليتستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثُوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) . (2)

(1) المعنى أن الله سبحانه وتعالى يرفع الذين آمنوا منكم في الدنيا وفي الآخرة بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات.

(2)

أخرجه الترمذي: 5/ 48- 49، وقال: ليس عندي بمتصل؛ وأخرجه مسلم: 4/ 2074 من حديث أبي هريرة مرفوعًا (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة) .

ص: 1264

التحذير من العلم الضار:

بين الله تعالى أن من يتعلم العلم بغية الإضرار بنفسه، أو بالناس، أو يعلمه لغيره؛ فما له من خلاق في الآخرة، وبئس ما باع به نفسه، فقال تعالى بشأن من يتعلمون السحر، أو من يعلمونه:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . [البقرة: 102]

وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوردناه آنفا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا، والحمد لله على حال)) .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في دعائه من علمٍ لا ينفع، فقد كان يقول:((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشغ، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) . (1)

وفيما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ضرر، ولا ضرار)) أي لا يضر الإنسان غيره، ولا يرد الضرر بالضرر، والعلم الذي يضر ولا ينفع، داخل تحت هذا الحديث، والعبرة بالضرر العام، فما كان ضرره عامًّا يحرم ويمنع، حتى وإن كان فيه مصلحة خاصة.. وشواهد ذلك كثيرة في شريعة الله تعالى ، ومنها الخمر والميسر، فقد حرما، مع أنه قد يكون فيهما نفع، قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، فنفعهما أُهدِر، وجاء التحريم بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] ، يما يترتب عليهما من مضارَّ كثيرة.

(1) رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 1871 مختصرًا، رواه زياد بن أرقم.

ص: 1265

النوع الأول

الاستنساخ التقليدي

زرع خلية جسدية في بييضة منزوعة النواة

عرف العلماء هذا النوع من الاستنساخ بأنه: "زرع نواة خلية من خلايا الجسم الحي - كالجلد مثلًا - داخل بييضة ناضجة تم إخلاؤها من نواتها ومن ثم تأخذ النواة الضيفة في الانقسام لتكون جنينًا ". لا نفس العضو الذي أخذت منه.

والهدف من هذا النوع هو الحصول على عدد من النسخ مطابقة إلى حد كبير من الناحية المظهرية للجسم الذي أخذت منه هذه النواة، من إنسان، أو حيوان، أو نبات، ولا يحتاج هذا النوع إلى تلقيح خلايا ذكرية وأنثوية. والنسخة الناتجة من هذا الزرع تحتوي على التراث الإرثي الكامل الموجود في خلايا صاحب الزريعة.

نجاح هذا النوع من الاستنساخ:

أخبرنا العلماء المتخصصون في هذا الفن أن هذه التجربة كما نجحت من قبل في النبات نجحت أيضًا في استنساخ الحيوان، فقد تتم استنساخ ضفدعة، ثم في الفئران - منذ عشرين عامًا -، ثم في الأبقار - منذ عشر سنوات - وأخيرًا في النعجة (دولي) . (1)

(1) تراجع أبحاث: د. أحمد رجائي الجندي، د. حسان حتحوت، د. صديقة العوضي، وأيضًا د. مختار الظواهري - نشر صحيفة القبس الكويتية في 25/ 3/ 1979

ص: 1266

حكم الاستنساخ التقليدي

بالنسبة للكائنات الحية غير الإنسان

في الفقه الإسلامي

إن جميع الكائنات الموجودة في الكون - غير الإنسان - والتي تقع تحت نظرنا، أو أذن الله بأن يحيط بها علمنا، ما ظهر منها وما بطن، كلها: من سماء بما تحويه من نجوم وكواكب ومن شمس وقمر فأرض، وما نتج عن حركتها من ليل ونهار وفصول، وما تحمله من جبال وسهول ووديان ، وحيوان بأنواعه، ونبات بأشكاله وألوانه، ومن زرع وثمر، وبحار وأنهار بما تحويه، وأمطار وما تحمله وتحدثه، كل تلك الكائنات خلقها الله تعالى وسخرها لخليفته في الأرض وهو الإنسان. (1) قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 30]

فقد عني القرآن الكريم بإبراز هذا التسخير في ثماني عشرة آية، كلها تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد خص الإنسان بالتمتع بكل هذه الكائنات رقبة ومنفعة، أو منفعة فقط، أو انتفاعًا فقط، كل ذلك في إطار شرع الله تعالى، وكل ذلك منحة من عند الله لعبده دون مقابل، إلا الحمد والشكر لخالقه، ونعمة ومنة منه جل شأنه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} موردًا جل شأنه في نهاية كل آية من الآيات الدالة على التسخير ما يدفع العلماء إلى البحث والتفكر في خلق الله تعالى:{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، ثم يقول:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} .

(1) ومن هذه الآيات: قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) } [إبراهيم: 32- 34]، وقالي تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] ومنها قوله تعالى: {..وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 5-19]

ص: 1267

من هذا يتبين لنا أن جميع ما في الكون من الكائنات الحية، في عالم الحس والمشاهدة هي أمارات دالة على قدرة الله جل شأنه، وهي الطريق الموصل إلى معرفته، والهادي إلى الإيمان به والناطق بوحدانيته ذاتًا وصفات، والإيمان بما جاء به رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وما جاء به خاتم النبيين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم من شريعة.

وفي نفس الوقت هي نعم موهوبة، وهي نعم متجددة، وهي نعم تسد حاجة الإنسان في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن هنا فإن إعمال العقل الواعي والفكر السليم في هذه النِّعم يزيدها خيرًا، وينمي آفاقها، ويوسع عطاءها؛ خدمة لخليفته في الأرض، وحفاظًا عليه، ومدًّا لأسباب الكائنات المسخرة.

ولذلك كان الاستنساخ في هذا المجال- مجال الحيوان والنبات- سببًا من أسباب تنمية هذه الكائنات المسخرة للإنسان، ووسيلة توسع آفاق الانتفاع بها وتطوره تطويرًا نافعًا، وتوجيهًا للعلماء والباحثين نحو العمل على ما ينمي مصادر ثرواتهم والخيرات الممنوحة لهم، ونحو ما يحقق مصالحهم الضرورية والحاجية والتحسينية، ويلبي رغباتهم في ظل الشريعة التي جاء بها خير الأنام، وإذا كان الاستنساخ هنا سببًا ووسيلة لتحقيق مصالح الناس، كان أمرًا جائزًا شرعًا، بل هو مطلوب ومأمور به في كل مكان؛ لأنه طريق المعرفة الحقة، ومحور الهداية، والنور الكاشف لبعض أسرار الخلق، والمحقق لمصالح الناس أجمعين، والماد لأسباب البقاء لهم، والكاشف عن نعم جديدة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} .

حكم الاستنساخ التقليدي

بالنسبة للإنسان في الفقه الإسلامي

أرى أن أوجز هنا وجهة نظر المؤيدين للمضي في قضية الاستنساخ التقليدي بالنسبة للإنسان، ثم وجهة نظر المعارضين من علماء هذا الفن، ثم أتبع ذلك ببيان رأي الفقه الإسلامي.

ص: 1268

أ- دواعي المضي في هذ االنوع من الاستنساخ عند علماء هذا الفن:

ذكر العلماء الباحثون في هذه القضية الدواعي التي من أجلها حدث هذا الاتجاه نحو اقتحام منهج التناسل الطبيعي، والخروج على المألوف، والمعتاد، والمشروع منذ بدء الخليقة حتى الآن، ويمكن أن نلخص ما أورده مؤيدوا الاستنساخ - كما قدمه لنا أ. د: أحمد رجائي الجندي في بحثه فيما يلي (1)

- نسخ أشخاص بهدف تحسين النوع، وإضافة البهجة على الحياة.

- تأمين مجموعات كبيرة من البشر المتطابقين وراثيًّا، بغية إجراء دراسات علمية عليهم لمعرفة أهمية كل من البيئة والتربة في مختلف أوجه الأداء البشري.

- نسخ الأصحاء لتلافي مخاطر الأمراض الوراثية الكامنة في (يانصيب) التراكيب الجسدية.

- منح طفل للزوجين العقيمين.

- إنجاب طفل له طابع وراثي معين حسب الطلب.

- التحكم في جنس الأطفال في المستقبل.

- إنتاج مجموعات من الأشخاص المتطابقين لأداء مهمات خاصة في

الحرب.

- إنتاج نسخة جنينية لكل شخص تحفظ وقت الحاجة إليها أثناء مرضه، أو إعادته مرة ثانية للحياة.

- التفوق على الروس والصينيين، ومنع حدوث فجوة علمية في مجال النسخ.

- من بين التطبيقات - بالتعاون مع الهندسة الوراثية والاستنساخ - هو تغيير الوظائف الفسيولوجية لبعض أنواع البكتريا؛ لإنتاج أنواع ذات صفات معينة لها قدرات خاصة، إما لمعالجة مشاكل مثل: بكتريا البترول، والإنفلونزا، أو إنتاج سلالات لها مقاومة خاصة لأنواع من المضادات الحيوية؛ خاصة تلك التي تستخدم في الحرب الجرثومية.

- التغلب على الشيخوخة إذا نجحت هذه الأبحاث.

ب - دواعي رفض المضي في هذا النوع من الاستنساخ في نظر علماء هذا الفن:

ذكر العلماء الرافضون لاستنساخ الإنسان عدة أسباب لرفضه، ويمكن إجمالها فيما يلي:

يثير الاستنساخ البشري كثيرًا من التحفظات حول:

الأسرة - وتعريفها - الأبوة والأمومة - ما نسب النسخة، هل هو ابن صاحب الخلية، أو هو شقيقه

والحاضنة هل هو ابنها، أو زوجها، أو شقيق زوجها؟ وما كيفية توريثه من كل من صاحب الخلية، ومن الحاضنة، ومن أقارب كل منهما؟ وما كيفية تزويجه - إذا كان صالحًا للزواج - من المحرم، ومن غير المحرم منه -؟ على ضوء جهالة حقيقة وضعه الشرعي أو القانوني.

(1) يراجع بحث د. أحمد رجائي الجندي، وبحث د. صديقة العوضي، سواء بالنسبة للمؤيدين أو المعارضين.

ص: 1269

- فرض وضع معين على الإنسان المستزرع شكلًا، وذاتًا، لا يتعداه.

إذ هو صورة مطابقة لمن أخذ منه الخلية غالبًا، وقد لا يرتضي هو ذلك في مستقبل حياته، وبخاصة أن البيئة قد تبذل كثيرًا من المفاهيم السائدة حول الحاجة إلى إنسان ذي صفة معينة، تبعًا لاختلافها وتبذل الظروف والأحوال والأزمان والأماكن.

- إذا ترتب على الاستنساخ إنتاج نسخة بها عيوب خطيرة، ما مصير هذا الإنسان؟ ومن المسؤول عنه؟

- هل يعطي حق الاستنساخ لكل شخص إذا أراد أن يحسن نسله

سواء بطريقة الاستنساخ التقليدي، أو الاستتئام؟

- لكل خلية عمر افتراضي، فإذا أخذت من إنسان كبير السن - 50 سنة مثلًا - فما عمر هذه النسخة؟ هل هو نفس العمر؟ أم هو استكمال للجزء الباقي من عمر صاحبه، أم عمر جديد؟

- إن نجاح هذه التجارب قد يؤدي إلى تدمير البشرية؛ فالاكتشافات البشرية جميعها موجهة ومسخرة لدمار الإنسان، فمخزون الأسلحة النووية بأنواعها يكفي لتدمير البشرية عشرات المرات ، ورغم هذا فشل العالم في حل مشكلة المجاعة.

- إن الاستنساخ يؤدي إلى هدم التنظيم المحكم الذي أراده الله للبشرية، في أن يكون بينهم الصحيح والمريض، والقوي والضعيف، والقادر والعاجز، والذكي والخامل

وكل له دوره في الحياة، وبهم جميعًا يسعد المجتمع ويتواد ويتراحم.

جـ - موقف الفقه الإسلامي من استنساخ الإنسان استنساخًا تقليديا:

يلزمنا حين نتعرض لبيان حكم هذا النوع من الاستنساخ أن نوضح المنهج الذي أوضحته الشريعة الإسلامية طريقًا للتناسل والتكاثر البشري، والإرواء الغريزي، والعاطفي، والنفسي، والاجتماعي، وما يحققه هذا المنهج من فوائد، وما يدفعه من مضار ، ثم نبين بعد ذلك ما في الاستنساخ التقليدي من منافع، وما يحققه من مضار، ونحن نعلم أن الشيء إذا غلب نفعه على ضرره شرع، وإذا غلب ضرره نفعه مُنِع.

أولًا: المنهج والأسلوب الذي سار عليه الفقه الإسلامي في التناسل البشري:

اختص الله سبحانه وتعالى الإنسان خليفته في أرضه بنظام معين ومحدد يحقق له كل مآربه الغريزية، والعاطفية، والنفسية، والاجتماعية، والحياتية؛ مالية وغيرها، فضلًا عن حياته العقائدية والأخلاقية، وطالبه بأن يهتدي إلى الطريق المستقيم، بأن يلتزم بما أمره الله تعالى به وينهاه عنه

وجعل العقل الذي ميزه وخصه به دون سائر المخلوقات؛ هو مركز التكليف، وبه يكون الثواب، ويكون العقاب ، ولا يشاركه في هذه الخاصية أحد من الكائنات.

ص: 1270

وكان منهج الإنسان في حياته تلك يسير مع هذه الخاصية، وهذه الميزة، ومن ثم:

- اختص الله تعالى الإنسان بمنهج معين للزواج، أي للإرواء الغريزي، والعاطفي، والنفسي، والاجتماعي ، فكان أن شرع الله تعالى له الزواج، رباطًا وثيقًا بين الرجل والمرأة، ووثاقًا مؤكدًا يجمع بينهما {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] وأقامه على الرضا، والاختيار، وحسن العشرة، وتفيض الآيات الكريمة والسنة النبوية المطهرة في إرساء ضوابط هذه العلاقة الزوجية ، (1) فتبين ضوابطها، في البداية وفي النهاية، وفيما بينهما (2) ، وترغب فيها، وتعدد فوائدها.. قال تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . [النور: 32]

وقال صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) . (3) وغير ذلك كثير.

- وكما اختار الله تعالى للإنسان الزواج حدد له من يحل له التزوج منها، ومن يحرم (4) تحديدًا قطعيًا بآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

- كما حدد للزوجين طريق الإرواء الغريزي والعاطفي، والنفسي ومنهجه، قال تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . [البقرة: 223]

قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: " الحرث مكان الولد " أقول: إذ بذلك تتحقق مصالحه من الإرواء الغريزي، والمودة والسكن، والإنجاب، وتكوين الأسرة

، وبغير هذا المسلك الشرعي بداية ونهاية ينتشر الفساد في الأرض؛ من الزنا، واللواط، والسحاق

، وما يصاحب كل ذلك من انهيار الأسرة، وتفسخ المجتمع، وضعف الانتماء الوطني

(1) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول:(تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) رواه ابن حبان وصححه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط، وقال ابن أبي حاتم: رجاله رجال الصحيح.

(2)

قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]

(3)

رواه الجماعة.

(4)

راجع آيات سورة النساء: 22، 23، 24

ص: 1271

- كما بين بوضوح العلاقات والانتماءات التي تنبثق أساسًا من علاقة الزوجية؛ فهذا زوج وهذه زوجة، هذا أب وهذه أم، وهذا ابن وهذه ابنة، وهذا أخ وهذه أخت

إلى آخر هذه العلاقات، مُطلِقًا على كل علاقة الاسم الذي يناسبها قربًا أو بعدًا، من جهة الأب أو من جهة الأم

وكلها علاقات محددة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكل علاقة من العلاقات حقوق وعليها واجبات.. تشير إلى ذلك الآيات الكريمة، ومنها: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . [الأعراف: 189] فقد أشار القرآن الكريم إلى أن حواء خلقها الله من آدم، فهي جزء من نفسه، من ضلعه الأقصر الأيسر، جزء من قلبه؛ ولذلك كان الائتلاف بينهما، وكان السكن والهدوء

وكانت آمالهما متجهة إلى ربهما صاحب النعم أن يؤتيهما من الذرية الصالحة.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . [النساء: [1]

- كما بين القرآن الكريم أن هذه العلاقة المنبثقة عن الأرحام، هي أولى العلاقات ببعضها من غيرها من العلاقات، ولها حقوق وعليها واجبات، في الحياة وبعد الممات، في السراء وفي الضراء

قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] .

وبين حقوق كل قريب من قريبه.. في مجالات متنوعة، منها في المواريث قوله تعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] ، ثم بين هذا النصيب في آيات منها الآيتان 11، 12 من السورة نفسها، وأولهما {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، والآية 176 من السورة نفسها.

ص: 1272

فالعلاقات كلها مبينة وكلها محددة، وكل علاقة منها تجب لها حقوق وتَلَزَمُها واجبات، فأي خلل يصيبها يهدم كل هذا البيان الذي نظمه الشرع وشيده لحكمة بالغة، بنصوص قطعية.

ثانيًا - المرحلة الأولى لتكون الإنسان:

- وهي مرحلة أخرى يلزمنا الإشارة إليها، والتعرض لمنهجها، طبقًا لما ورد في الكتاب والسنة، وهي مرحلة الجنين؛ لأنه موضع بحثنا الرئيسي:

- فقد أشار القرآن الكريم لبداية تكون الإنسان في أكثر من آية، وفي أكثر من حديث، ومن هذا قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنون: 12-14](1)

فقد عبر القرآن عن مراحل تكون الإنسان بعد خلق آدم عليه السلام من سلالة من طين؛ بأن جعل أول مراحل جنس الإنسان النطفة، وهي في اللغة: الشيء القليل.. والمراد بها هنا {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) } [الطارق: 5- 7]، أي: من صلب الرجل - وهو المني - وترائب المرأة - وهي البييضة- فإذا التقيا وشاء الله الحمل، أصبحا علقة، وسميت بذلك لأنه لا بد من تعلقها برحم المرأة وانغراسها فيه لتعيش وتنمو، ويتوالى نموها، لتصبح مضغة، فعظامًا:{فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . [المؤمنون: 12- 14]

فإشارة القرآن واضحة إلى أن تكون الإنسان إنما يكون من مني الزوج وبييضة زوجته.. قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] فالماء الدافق هو: المصبوب في الرحم، والمجمع فيه، وهو مني الرجل وبييضة المرأة.

فوائد هذا المنهج على الأفراد والجماعات:

لا نستطيع أن نحصر حكمة الله تعالى في اختيار هذا المنهج لتناسل الإنسان (الزواج) فإنها أجل وأعظم من أن تحصى أو تعد، فهي ناطقة بتكريم الله للإنسان، وتمييزه عما سواه من الكائنات؛ لما أودعه الله تعالى فيه من ميزات، جعلته أهلًا لأن يكون خليفته في الأرض (2) وأن يتحمل الأمانة.. ولكن يمكننا فقط أن نبرز في هذه العجالة، بعض ما يجلي لنا الأمور في قضية الاستنساخ بأنواعه، ويوضح أمامنا طرفًا من هذه الحكم، فنقول:

أ- ذكرنا آنفًا بعضًا من الفوائد أثناء شرحنا لهذا المنهج الذي نظمه الإسلام، سواء منها ما كان عائدا على الزوجين، أم ما كان عائدًا منها على فلذات أكبادنا.. أم ما كان عائدًا على الأسرة أو على المجتمع في كل الظروف والأحوال؛ في الحياة وبعد الممات، في السراء وفي الضراء - فلا داعي للإعادة.

ب- هذا المنهج يحقق الارتقاء بالنوع الإنساني أو البشري على مر الأزمان وتوالي القرون، واختلاف الأماكن.. هذه الحقيقة تتضح من خلال ما عرضه علينا العلماء والمختصون في هذا الفن فقالوا:

"يتمثل هذا الارتقاء في عملية الانتخاب الطبيعي الذي يحدث أثناء عملية الإخصاب، حيث لا يظفر من بين الملايين من الحيوانات المنوية التي يقذفها الرجل في المرأة الواحدة (من 200-600 مليون) إلا حيوان منوي واحد غالبًا، هذا الحيوان استطاع أن يقطع الطريق إلى مكان البييضة في الثلث الطرفي من قناة المبيض (قناة فالوب) - وهي حوالي عشرة سنتمترات، وهذا يدل على لياقته البدنية والصحية، فهو أقوى وأصح هذه الحيوانات المنوية، وبذلك يحصل انتخاب وراثي وطبيعي ورباني، يجني ثماره المخلوق الجديد.

(1) وتدبر الآيتين 5، 6 من سورة الحج وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

(2)

يراجع بحث د. مختار الظواهري - أستاذ الوراثة الطبية بكلية العلوم جامعة الكويت، نشر صحيفة القبس يوم 25/ 3/ 1997

ص: 1273

ويتمثل أيضًا هذا الارتقاء بالنوع البشري في علمية انتخاب ثانية بالنسبة للبييضة التي تفرزها الزوجة، حيث لا تنمو سوى بييضة واحدة في كل دورة، وهي البييضة السليمة وراثيًّا، وذلك يجني ثماره أيضًا المخلوق الجديد.

ومن ناحية ثالثة: فإنه بعد تلقيح هذه البييضة بهذا الحيوان المنوي، فإنها لا تستكمل التضاعف، والتشكل إلا إذا كانت سليمة وراثيًّا وإحصائيًا؛ فإن من 40- 60 في المائة من الأجنة في الإنسان يطردها الرحم، أو تجهض ذاتيًّا في مراحل الحمل المبكرة، ووجد أن نصفها على الأقل يحتوي على شذوذات كروموزومية، وذلك أيضًا يجني ثماره المخلوق الجديد.

ومن ناحية رابعة: فإن في حالة الزواج إذا ورث الطفل جين مرض معين من الأم، فإن جين الأب السليم يسود عليه، ويخفي أثره، والشيء نفسه يحدث إذا ورث الطفل جين المرض من الأب فإن جين الأم السليم يسود عليه ويخفي أثره، والنتيجة غالبا - أن يكون الطفل أقوى وراثيًا وصحيًا من الأب والأم ".

فهذه العمليات الطبيعية الربانية التي تصاحب الطفل منذ أن كان في صلب أبيه وبين ترائب أمه.. إلى أن يندمج ويتشكل ويصبح خلقًا جديدًا، هي عملية محاطة بحِكَم بالغة وقدرة فائقة.. تجمع بين المتباعدين، وتدمجهما إدماجًا ذاتيًّا وعاطفيًّا ونفسيًّا.. وبقدر هذا الاندماج بقدر ما يكون الخير للطفل.. وللمجتمع وللعالم بأسره.

وصدق الله العظيم إذ يقول: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . [المؤمنون: 14]

ولقد رأينا كيف أن الشريعة الإسلامية حرمت بنصوص من كتاب الله تعالى - أن يكون الزوجان من ذوي القرابات القريبة - أي من ذوي الرحم المحرم (1) قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23]، وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:((اغتربوا لا تضووا)) أي: تزوجوا من الأباعد عنكم في القرابة.. ((لا تضووا)) أي: لا يضعف نسلكم.. والحكمة في ذلك واضحة وضوحًا تامًا، وقد قررها العلماء المختصون في هذا الشأن- كما ذكرنا آنفًا.

(1) وذوو الرحم المحرم من إذا فرضت أحدهما ذكرًا والآخر أنثى، لا يحل لهما أن يتزوجا، كالأب وابنته أو الأم وابنها.. كما في الآية.

ص: 1274

المضار التي تترتب على إباحة الاستنساخ التقليدي:

إن ما ذكرناه آنفًا من المنافع التي تترتب على المنهج الطبيعي والشرعي للزواج؛ تبرز لنا بشكل قاطع أن ترك كل منفعة منها يؤدي إلى إحداث ضرر خاص، وعام. ومع ذلك فإننا نوضح هنا المخاطر الأخرى التي تترتب على إباحة هذا النوع من استنساخ، وهي:

أ- اختلال أو انعدام صفة الأمومة أو الأبوة التي ترتبط بها الأحكام الشرعية، وذلك لأن هذه الصفة هي حقيقة شرعية، أو معنى شرعي، لا يتصور إلا بوجود أركانه وتوافر شرائطه.

أما أركانه فهي:

1-

وجود حيوان منوي صادر من الزوج.

2 -

بييضة صادرة من الزوجة.

3 -

التقاؤهما (الحيوان- البييضة) في رحم الزوجة، وتعلق اللقيحة به، وتدرجها في النمو من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى أن تولد خلقًا سويًّا.

ومن ثم مثل الفقهاء لهذه العلاقة بعلاقة التعاقد (إيجاب، وقبول) ، ومحل للتعاقد؛ فأي اختلال في أحد هذه الأركان يجعل العقد باطلًا، ولا ينتج آثاره، ومثل ذلك نقوله إذا لم تتوافر أركان هذه النسبة (الأبوة والأمومة) .

فإذا عرضنا هذه الحقيقة، وهي صفة الأمومة والأبوة على حالتنا هذه - وهي الاستنساخ التقليدي - نجد الأمر يختلف، والأركان لا تتوافر، ومن ثم لا نستطيع أن نطلق هذه الحقيقة على الكائن أو الإنسان الذي نتج عنها، وذلك لأن أركان هذه العلاقة الجديدة - في الاستنساخ التقليدي- هي:

1-

خلية جسدية، مستوفية لكل مقومات النمو، إذ هي مكونة من 46 كروموزومًا، فصفاتها الوراثية كاملة بما تحمله من محاسن وعيوب ولا تحتاج إلا إلى وسط تعيش وتنمو فيه، لتخرج لنا نسخة من صاحبها.

2 -

بييضة ناضجة تنزع نواتها ، أو بعبارة أخرى تفرغ من جوهرها، وهي النواة، ولا يبقى إلا هيكلها بما فيه من سيتوبلازم، كالجسم الذي نزع قلبه ، وتوضع الخلية الجسدية فيها، لتنتفع بالسائل المحيط بالنواة - السيتوبلازم - وتنمو فيه، هي بخواصها وصفاتها الوراثية فقط، وليس للبييضة أي أثر في تغيير هذه الصفات أو تعديلها؛ ومن ثم كان الناتج نسخة من صاحب الخلية الجسدية فقط بكل ما فيه من محاسن أو مساوئ، من ضعف أو قوة، من طول أو قصر، من مرض أو صحة، من لون أو شكل - بل قد يكون - ومن عمر؛ وبانتشار هذا المسلك ينهار التنظيم الحكيم من وراء التفاوت بين الخلق، وبذلك ينهار التعاون والتواصل والتخادم، ويتوقف التطور.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأمومة بالمعنى الشرعي الذي ذكرناه قد فقدت تمامًا، وأيضًا فإن الأبوة بالمعنى الشرعي الذي ذكرناه قد فقدت، إذ حقيقتها وأركانها فيها قد اختلت، وأصبح ما معنا هو خلية أخذت من جسم حي، بغية إيجاد صورة منه بالطريق الذي ذكرناه.

ص: 1275

ومن ثم فما أخذ من جسم الإنسان ليكون إنسانًا بعد نموه على المنهج الذي ذكرناه، لا يصدق عليه أنه ابن لمن أخذت منه الخلية الجسدية، إذ هو نسخة منه، أي هو نفسه، ولا يصدق عليه أنه هو نفسه، إذن صاحب الخلية الجسدية شخص معين، أصبحت له حقوق وعليه واجبات، قِبَل الخالق والمخلوق، قبل الأب والأم، وقبل الأسرة جميعها، وقبل المجتمع، في الشرع، بل وفي القوانين الوضعية.

وكذلك لا يصدق عليه أنه شقيق له، لأن علاقة الإخوة لها أيضًا أركان لا بد من استيفائها، وهي تدور حول ما أنجبه الزوجان من أولاد لهم تحت ظل عقد زواجهما على المنهج الشرعي المعروف ، ومن ثم فلا يتأتى شرعًا وعقلًا وعرفًا أن يقتحم هذه العلاقة كائن جديد، لا تتوافر فيه هذه الضوابط، ولا يتأتى أيضًا أن يتأثر بحقوق غيره من أصحاب الحقوق الشرعية ويختص بها دونهم، فإذ حدث ذلك حدث تغالب وتناحر، وأدى هذا إلى فساد كبير.

وكذلك لا يصدق على هذا الكائن (النسخة) أنه ابن للمرأة التي أخذت بييضتها، وفرغت من نواتها، ووضعت فيها هذه الخلية الجسدية

وذلك لأن خواص الأم، وصفاتها الوراثية قد أعدمت عندما انتزعت نواة بييضتها، ولم يتحقق الامتزاج بين خلية الذكر وخلية الأنثى على الوجه الذي ذكرناه، ولم يكتسب الجنين من صفات الأم الوراثية الأساسية شيئًا، أي لم يحدث انتماء لها لا معنًى ولا حقيقة.. سوى كونها حاضنة، ودور الحاضنة هو دور إنماء لا إنشاء، ودور رعاية وتنمية لا دور تكوين وتكون، ما دامت خواصها وصفاتها الوراثية قد انتزعت من بييضتها، وحل محلها كائن آخر لا يحتاج إلا إلى وسط ملائم لنموه، وبذلك تفقد صفة الأم أهم أركانها وأساس محورها ومحور كيانها ووجودها حقيقة لا صورة ولا شكلًا.

وكذلك لا يصدق عليه أنه زوج لهذه المرأة؛ إذ الفرض أن الخلية أخذت من زوجها وإلا لا يجوز إطلاقًا ، إذ علاقة الزوجية أيضًا مثل علاقة الأبوة والبنوة، هي علاقة خاصة بين اثنين معينين بذواتهما، اسمًا ورسمًا - فلان وفلانة، تحت ظل عقد زواج صحيح، ولا يسمح الشرع باختلاط هذه العلاقة أو العبث بها، أو اقتراب الغير منها، وإلا كان العقاب أشد العقاب.. ومن ثم لا تأخذ (النسخة) الحادثة من الاستنساخ التقليدي صفة الزوجية، باعتبار أنها أخذت من الزوج، كما أنها لا تأخذ صفة البنوة، لأن دور الأمومة قد انتقض بتفريغ نواة بييضة الزوجة من صفاتها وخواصها الوراثية، وعادت مجرد وعاء يحوي إنسانًا كاملًا له خواصه وصفاته

وأيضًا من المشكلات التي يمكن تصورها، والتي تؤدي إلى اضطراب كبير ما يلي:

- ما يمكن أن يتصور حينما يتجه الزوج إلى أخذ خلية منه لاستنساخه، ليكون المستنسخ ولدًا.. كما تتجه الزوجة إلى أخذ خلية منها واستنساخها ليكون الناتج أو المستنسخ بنتًا.. فما علاقة كل من المستنسخين الولد والبنت بالآخر، هل هما أخوان؟ هل هما بمنزلة زوج وزوجة، بحيث يمكن أن يكون وجودهما امتدادًا للزواج السابق للأصليين؟ هذا ما لا يتأتى.

ص: 1276

ومن كل ذلك يتبين لنا بما لا يحتمل الشك جهالة موقف المستنسخ من انتمائه النسبي جهالة فاحشة، وأيضا ًجهالة من يصح شرعًا أن ينسب إليه من الأصول، الآباء والأمهات، وإن علوا، والفروع وإن نزلوا.. مما يؤدي قطعًا إلى جهالة حقوقه وواجباته المقررة شرعًا له وعليه.

ومن المعلوم لدينا يقينًا أن الحقوق لا تنال إلا بحق، فطريقها اليقين، أما الظن أو الشك أو الوهم فلا مجال لإثبات الحقوق أو الواجبات الشرعية بأي منها، ولكل صاحب مصلحة الحق كل الحق في أن يتدخل لمنع المستنسخ مما قد يعطى له تحت أي اصطلاح أو مسمى.. لأن الشريعة قد أعطت كل ذي حق حقه، وبينت ذلك بيانًا واضحًا لا لبس فيه.

البصمة:

هذا وفي المجال الجنائي قد أصبحت (البصمة) دليلًا قويًا، يتعرف بها على المجرمين، وهنا وفي ظل هذا النوع من الاستنساخ ستكون بصمة المستنسخ مطابقة لبصمة من أخذت منها خليته الجسدية، ومن ثم يفقد هذا الدليل قدرته على التعرف على مرتكبي الجرائم، وبخاصة أنه يمكن أن تستنسخ بؤر الإجرام أشخاصًا متعددين من شخص واحد، ثم تدفعهم لارتكاب الجرائم التي يرغبون في ارتكابها في أي مكان، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

الرأي في الاستنساخ التقليدي:

إنه إزاء ما ذكرته من أدلة، وما أوضحته من مضار لهذا النوع من الاستنساخ (التقليدي) ، وما ثبت من تقلص جدواه ومنافعه، أرى أنه لا يجوز شرعًا اتخاذ هذا المسلك لإيجاد إنسان عن طريق الاستنساخ التقليدي، تكريمًا للإنسان وحفاظًا على ذاتيته وكيانه، وصيانة لحقوقه وواجباته، ودفعًا للشرور المترتبة على ذلك، ودرءًا لمفاسد عظيمة عن الأفراد والجماعات، بل والعالم بأسره، كما أرى أن الاستنساخ التقليدي في مجال المسخرات للإنسان - من النبات والحيوان - جائز شرعًا لما سبق أن ذكرته من أدلة. والله الهادي إلى سواء السبيل.

أما علاج العقم فقد أشار القرآن الكريم إلى أن من المتزوجين من ينجب إناثًا، ومنهم من ينجب ذكورًا، ومنهم من ينجب ذكورًا وإناثًا، ومنهم من يكون عقيمًا، أحوال أربعة:

قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } [الشورى: 49- 50]

وقد ثبت بما لا يقبل شكًّا أو ظنًّا ما يأتي:

أن العالم ينمو بصفة دائمة ومطردة، في كل دول العالم دون استثناء، حتى أن بعض الدول أخذت تدعو إلى تحديد النسل، أو تنظيمه، ليس فقط بل وبعضها لا يمنع ذلك داخليًّا ويدعو إليه دولًا أخرى، بل ويقدم معونات للإنفاق على هذه الدعوة، لمآرب وغايات، ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها لا يخفى على لبيب.. فالنمو البشري مطرد بصفة دائمة ومنتظمة رغم ما يتفجر من حروب وما قد ينتشر من أوبئة.. مما يدل على أن الكون قد نظمت جميع أموره بحكمة بالغة، وقدرة لا تدانيها قدرة.

ص: 1277

وأيضًا فإن نسبة الذكور إلى الإناث في العالم، بل وفي كل دولة على حدة متقاربة إلى حد كبير، بتدبير الله، فلا تطغى نسبة الذكور على الإناث، ولا نسبة الإناث على الذكور، رغم سريان المنهج الطبيعي للتناسل، وترك تحديد نوع الإنسان لخالق الإنسان ومدبر الكون، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة.. قال تعالى:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] .

وأيضًا فإن العقم، وهو عدم الإنجاب، لم يشكل في العالم حتى الآن ظاهرة بارزة، ولا صفة سائدة أو غالبة عمت البشر أو كادت.. ولم يبت العالم مضطربًا ولا خائفًا منها، من سطوتها وشمولها، بل خطورتها، وتهديدها للعالم بالانقراض، لا بل هي حالات فردية، قد يكون سببها عضويًا، أو نفسيًّا، أو اجتماعيًّا، أو غير ذلك من الأسباب التي يعرفها أهل الخبرة وذوو البصر بهذه الأمور، والحالات الفردية - بل والجماعية - لا يمنع المشرع الحكيم من التصدي لها بالدراسة ووصف الدواء لذي الداء دون أن يضر بالآخرين.

التداوي من الأمراض مطلوب شرعًا:

التداوي أمر مطلوب شرعًا، كما نص عليه المحققون من علماء الشريعة الإسلامية، وقد عرضنا في كتابنا (حكم نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي)(1) وبينا أدلته من الكتاب والسنة، ويكفي أن نشير هنا إلى بعض الأحاديث، ومنها ما رواه أسامة بن شريك أنه قال: جاء أعرابي، فقال: يا رسول الله، أنتداوى؟ قال:((نعم، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)) . (2)

وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى)) (3)

وفي التداوي بالمحرمات، أوردنا الأحاديث التي تناولت ذلك، ومنها ما روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام)) . (4)

وعن وائل بن حجر الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنه ليس بدواء، ولكنه داء)) . (5)

ورجحت جواز التداوي بالمحرمات كالدم والميتة - سوى المسكر - وذلك عند عدم وجود دواء يغني عنه، ويقوم مقامه من الطاهرات، فإذا لم يوجد غير المسكر دواء جاز التداوي به للضرورة، إنقاذًا للنفس البشرية من الهلاك.

فعلاج العقم مطلوب شرعًا لمن رغب في علاجه، وقد تطور الطب بحمد الله تعالى في علاج جميع الأمراض، ومن بينها العقم، في حالات كثيرة، وكان (طفل الأنابيب) أحد أساليب علاج هذه الحالة؛ بعد أن وضعت له الضوابط والقيود التي تؤمن مسيرة هذا العلاج في طريقها الصحيح، ومن ثم حوصرت مثالب هذه الحالة إلى حد كبير إذ أجريت تحت بصر وبصيرة الأطباء المسلمين الحاذقين العدول الذين يخشون ربهم، ولا يبيعون دينهم بدنياهم.

أما علاج العقم عن طريق الاستنساخ التقليدي، فنتيجته لا تنتج للزوجين ما أراده من ابن أو بنت لهما - كما بينا آنفًا - فهو علاج لم يصادف محله، ولم يعالج دواء، بل فجر فسادًا كبيرًا، ونشر داء عظيم الخطر على كل الناس.

* * *

(1) ينظر كتابنا (حكم نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) من ص 25 -36، نشر كتاب الجمهورية- مصر.

(2)

رواه أحمد

(3)

رواه أحمد ومسلم.

(4)

رواه أبو داود.

(5)

رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.

ص: 1278

النوع الثاني:

الاستنساخ الجديد (الاستتئام)

أ- تعريف هذا النوع من الاستنساخ:

أ- عرف العلماء هذا النوع من الاستنساخ بأنه: " تلقيح حيوان منوي- يحتوي على 23 كروموزومًا ببييضة تحتوي على 23 كروموزومًا لينتجا بييضة ملقحة ذات ستة وأربعين كروموزومًا، ثم تنقسم هذه الخلية إلى جيل بكر من خليتين، ثم جيل حفيد من أربع خلايا

وهكذا تتضاعف الخلايا

وهنا بدأ العلماء في فصل كل خلية عن أختها، بإذابة الغشاء البروتيني السكري المحيط بهذه الخلايا ، بواسطة أنزيم ومواد كيماوية ، فانفصلت عن بعضها، وتوصل العلماء إلى مادة جديدة من الطحالب البحرية، لإصلاح جدار الخلايا المنفصلة وتغطيتها، بحيث لا تفقد صلاحيتها.

ثم أخذت كل خلية من هذه الخلايا، وتم استنساخ كل واحدة منها على حدة، لتنتج أربع خلايا مرة ثانية ، ثم فصلت هذه الخلايا

وهكذا، وبذلك تكون كل واحدة من هذه الخلايا صالحة لأن تكون جنينًا إذا وضعت في رحم الأم.. وبذلك يصبح لدينا عدة أجنة تَوَائِمُ متشابهة وكلهم ينتمون إلى أم وأب معينين، وهما اللذان تم التلقيح بين ماءيهما؛ (1) مني الرجل وبييضة المرأة.

وقد كشف عن هذا النوع من الاستنساخ عام 1993 العالمان الأمريكيان (ستيلمان، وهول) ولكنهما بعد أن جمدا هذه الخلايا الناتجة؛ أخذا خلية واحدة فقط لتنميتها حتى وصلت إلى 32 خلية، ولم يكملا العمل خوفًا من الجوانب الأخلاقية

" (2)

- ومن هنا يتضح لنا الفرق بين الاستنساخ التقليدي - الأول - حيث البداية نواة خلية جسدية تنقل إلى بييضة منزوعة النواة، وبين الاستنساخ الجديد - الاستتئام - إذ البداية حيوان منوي ينغرس في بييضة، وهي الطريقة الطبيعية لبداية تكون الجنين

- وقد تم إنتاج (القردة) في جامعة أوريجون بطريق استنساخ خلايا

جنينية.

ب- فوائد هذا النوع من الاستنساخ (الاستتئام) :

ذكر العلماء المؤيدون له أن من فوائده:

1 -

التغلب على مشكلة العقم بالنسبة لكل من الزوجين:

قالوا: إن هذه الطريقة تفيد الزوج الذي تكون حيواناته المنوية معظمها ميت إلا أن القليل جدًّا منها به حياة، أو ضعيفة، أو مصابة بتشوهات، وتكون البييضة من الزوجة صالحة، ففي هذه الحالة يمكن تلقيح البييضة بالحيوان المنوي، فإذا تم ذلك أمكن الوصول بهذه الطريقة إلى الحصول على أكثر من توأم، وفي هذه الحالة يمكن التغلب على مشكلة العقم بطريقة علمية مأمونة. (3)

(1) يراجع بحث د. حسان حتحوت؛ وبحث د. أحمد رجائي الجندي، وبحث د. صديقة العوضي.

(2)

عن بحث د. أحمد رجائي الجندي، وقد بين الدكتور " أن هذين العالمين لم يتمكنا من إنتاج إنسان بسبب أن البييضات التي استخدماها كانت ملقحة من حيوانين منويين، حيث البييضة تحتوي على عدد كبير من الكروموزومات بسبب تلقيحها من الحيوان الثاني، إلا أنهما حققا هدفًا كانا يسعيان إليه "، ويمكن استخدام هذه التكنولوجيا نفسها في حال كون البييضة ملقحة تلقيحًا طبيعيًّا، لتنتج المطلوب من الأجنة التي ستتطور - إذا ما وضعت في أرحام الأمهات - إلى إنسان كامل كما قال الدكتور أحمد:" إن هذا البحث جرى بعيدًا عن أعين اللجان الأخلاقية وعلماء الدين، إلا أن علماء الخلايا والبيولوجيا منحوه جائزة أحسن بحث في المؤتمر، وقد زعما أنهما أخذا تصريحًا بهذا العمل، إلا أن التصريح من أجل هذه التجارب، وهذا ما أفزع علماء الأخلاقيات، وطالبوا بوضع حدود معينة للأبحاث في هذا المجال ".

(3)

بحث د. أحمد رجائي الجندي.

ص: 1279

- وأيضا فإن الزوجة التي يعاني مبيضها نوعًا من الفقر البييضي، فلا تنتج إلا بييضة واحدة - مهما أعطيت من الأدوية المنشطة للإباضة - فإذا تم تلقيح هذه البييضة، فإن فرصتها في الحمل تهبط هبوطًا كبيرًا، لأنها قد لا تنغرس في الرحم.. ولا توجد بييضات أخرى ملقحة غير هذه البييضة حتى يعاد غرس غيرها مرة أخرى- كما هو الحال في أطفال الأنابيب - لذلك قالوا: إنه من الممكن أن نفصل بييضتها الملقحة في بواكير انقسامها إلى جنينين، ثم نفصل كلاًّ منهما إلى جنينين أيضًا، وهكذا حتى نوفر عددًا كافيًا من الأجنة يودع في رحمها منه أربعة ويحفظ ما زاد من الأجنة (التوائم) في التبريد العميق ليكون رصيدًا احتياطيًّا يستعمل في مرات قادمة، أو مرات، إذا لم تسفر الزرعة الأولى عن حمل.

2 -

كما قال المؤيدون: " إن هذه الطريقة لها فائدة أخرى للنساء اللائي تعاني نوعًا من الفقر المبيضي، وذلك في مجال تشخيص مرض جنيني محتمل قبل أن يودع الجنين الباكر، المكون من عدد صغير من الخلايا إلى الرحم لينغرس، فقد جرى الأمر على فصل خلية من هذا الجنين لإجراء تشخيص عليها، فإذا كان الجنين صحيحًا معافى غرس، وإلا أهدر، لكن أخذ خلية من جنين باكر ذي عدد محدود من الخلايا فيه خطر على الجنين، بينما لو فصلنا هذا الجنين إلى توأمين، بطريقة الاستتئام هذه، فإننا نستعمل نسخًا - توأمًا - للتشخيص، والآخر للزرع كاملًا غير منقوص ". (1) أي أننا نهدر واحدًا من الأجنة تحقيقًا لمصلحة الآخر.

جـ - العيوب التي تنتج عن استخدام هذه الطريقة (الاستتئام) :

أفاض بعض العلماء في ذكر العيوب والمثالب التي تترتب على الاستنساخ (الاستتئام) وكان من بين ما أثاروه من عيوب ما يلي:

1 -

إن طريقة الاستتئام هذه تفضي إلى وجود أجنة فائضة ليس أمامها إلا الموت، أو الاستزراع في أرحام سيدات أخريات، فإن تركت للموت؛ كان مؤدى هذه الطريقة هو التسبب في إنشاء حياة، ثم إسلامها إلى الموت!! وإن أودعت الأجنة الفائضة في أرحام نساء أخريات غير الأم؛ كان مؤدى ذلك أن تحمل أنثى جنينًا غريبًا عنها، لا هو من زوجها - لأن الحيوان المنوي ليس من زوجها - ولا هو منها في نطاق عقد زواج. (2) أقول: وكل ذلك يمنع شرعًا وعقلًا، وخُلقًا وعادة؛ لأن التسبب في الموت جريمة، ولأن انتماء الجنين إلى غير أبويه جريمة.

2 -

إن النسخ الفائضة عن الحاجة "يمكن حفظها في التبريد لآماد طويلة، وربما زرعت النسخة (المبردة) في وقت أجل في رحم، في الوقت الذي يكون توأمها - النسخة الأصل - قد بلغ من العمر سنوات، وهي تقانة ستفضي بالتأكيد لا إلى سوق - بورصة - جينية فحسب، بل إن المشترية تستطيع أن ترى شكل جنينها مستقبلًا بالاطلاع على صورة لتوأمه - النسخة الأصل - الذي يكبره بسنوات، وقد تنتقي جنينها من (كتالوج) يحمل صور النسخ التي عمرها سنوات، من الفائضة عن الحاجة من الأمهات والآباء الذين أخذو النسخة أصل، وتركوا الباقي مبردًا ". (3)

(1) بحث الدكتور حسان حتحوت.

(2)

عن بحث أ. د. حسان حتحوت.

(3)

عن بحث أ. د. حسان حتحوت.

ص: 1280

أقول: وأيضًا فإنه يمكن أن يموت الأب، الذي لقح حيوانه المنوي بييضة زوجه، وتم استنساخ هذه الخلية، يمكن بعد موته أن تطلب الزوجة التي مات عنها زوجها أن تضع هذه النسخة - التوأم- في رحمها، لتنجب منه طفلًا أو أطفالًا آخرين، هم في الظاهر أشقاء لأبنائها منه، مع أن الشرع والعقل يقضي بأن من ينتمي إلى الميت، والمستحق لحقوقه من ميراث وغيره ينحصر في الموجودين فعلًا وقت حادثة الموت، أما الجنين فلابد من أن يكون عالقًا في رحم أمه حتى يأخذ هذه الحقوق، ومن ثم وضع الشرع له مدة من الزمن، إذا ولد فيها كان ابنًا له، أو أخًا - حسب حالة القرابة - فإذا تجاوز هذه المدة، أو كانت المرأة غير حامل إطلاقًا عند الموت، فإن الصلة قد انقطعت بينهما، ولا يحل لها أن تستدخل في رحمها هذه النسخة؛ التوأم.

3 -

إن هذه البحوث إن استطردت بغير معوقات، فمن المؤكد أن تلك الأجنة النسخ ستستخدم كوسيلة تأمين على الحياة أو على الصحة، فإذا حملت الأم، واختزنت منه نسخة تحفظ بالتبريد، فإن هذه النسخة قد تدعو الحاجة إليها إن مات الطفل، وأراد والداه أن يعوضاه بطفل مماثل له تمامًا.

أو قد يحتاج الطفل في المستقبل إلى زرع عضو أو نسيج، وتعوق ذلك مشكلة المناعة إن عز العثور على الزرعة الموائمة، فتزرع النسخة التوأم الاحتياطية، وتنمو ليؤخذ منها العضو أو النسيج المطلوب، ونظرًا للتطابق بينهما، فمن المؤكد أن الزرعة سيقبلها الجسم المنقولة إليه دون احتمال رفضها مناعيًّا.

ويقول الأستاذ الدكتور حسان حتحوت: " وهل من الجائز أن تنشأ حياة ثم تهدر من أجل إنقاذ حياة أخرى؟ "(1)

أقول: إن حياة الإنسان مصونة ومعصومة لا تمس إلا بحق - ولو كان جنينًا ولو في مراحله الأولى - قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] ، والجنين نفس، لها حياتها ولها حقوقها شرعًا؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم

حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا

)) (2)

وليس من الحق شرعًا أن نأخذ من جنينن عضوًا، أو نسيجًا، أو غيرهما؛ لينتفع به شخص آخر، ولو كان المنتفع أبًا له، أو أمًا، أو ابنًا، أو بنتًا، أو أخًا، أو أختًا

أو غير ذلك من القرابات، قربت أم بعدت، لأن عصمة النفس الإنسانية معناها أن هذه النفس يمنع الاعتداء عليها، ويرتب الشرع على كل اعتداء عليها عقوبة أو ضمانًا؛ إذ هي بنيان الرب، وملعون من هدم بنيانه. (3)

4 -

وقال البعض: إن قدرة الجنس البشري على البقاء في حياته الأرضية اعتمد بدرجة كبيرة على التنوع الجيني، وفتح باب الاستنساخ خطوة في عكس الاتجاه؛ إذ سيكون الاتجاه إلى إنجاب الذراري المتشابهة جينيًّا، وذات الصفات الوراثية المتميزة مع الاستغناء - عن طريق الإجهاض - عن الأجنة التي لا تتمتع بهذه الصفات، مما سيزيد في ترخيص الحياة البشرية، خاصة في بلاد مثل أمريكا، إذ تتم بها كل عام مليون ونصف المليون من عمليات الإجهاض؛ لأسباب تافهة، أو لغير سبب على الإطلاق، وبذلك تدخل البشرية حقبة جديدة لا يكون الطفل فيها مرغوبًا من والديه بدافع غريزة الوالدية، لأنه ضناهما وفلذتهما، لكن بشروط ومقاييس وصفات وراثية، إن توفرت فبها ونعمت، وإن لم تتوفر فلهما عنه مندوحة. (4)

(1) يراجع بحث أ. د. حسان حتحوت.

(2)

الحديث رواه مسلم، رقم 707 (المختصر) .

(3)

راجع: لنا بحث (حق الجنين في الحياة) ؛ وبحث (حكم نقل أعضاء الإنسان) .

(4)

بحث د. حسان حتحوت.

ص: 1281

حكم الاستتئام في الفقه الإسلامي:

على ضوء ما بيناه آنفًا يتضح لنا أن فوائد هذا النوع من الاستساخ الجديد (الاستتئام) تظهر في علاج العقم، وفي المساعدة على تشخيص مرض جنيني محتمل، قبل أن يودع الجنين الباكر.. إلى الرحم، عن طريق فصل خلية من هذا الجنين لإجراء تشخيص عليها، فإذا كان الجنين صحيحًا غرس، وإلا أهدر.

وأن من عيوب هذه العملية أنها تفضي إلى وجود أجنة فائضة عن الحاجة ليس أمامها إلا الموت، أو الاستزراع في أرحام سيدات أخريات لا علاقة لهن بهذه الأجنة، كما أنه يمكن تبريدها وتركها مدة طويلة، ثم استزراعها بعد أن يبلغ عمر النسخة الأولى - الأصل - عدة سنوات.. وأشرنا إلى ما ذكره العلماء من مخاطر حول وجود هذه الأجنة.

فإذا نظرنا إلى حكم هذا النوع من الاستنساخ في الفقه الإسلامي فلابد من أن نبرز الحقائق التالية:

أولًا: أن الاستنساخ الجديد (الاستتئام) قد تم حسب المنهج الطبيعي للتناسل بين الزوجين وهو (حيوان منوي ناضج من الزوج لقح بييضة ناضجة من الزوجة) وإلى هنا فالأمر طبيعي.

ثانيًا: ولكن بعد هذا التلقيح وعند بداية التكاثر إلى خلايا تدخل العلم ففصل الخلية عن أختها، بالأسلوب العلمي الذي ذكرناه، وأصلح جدار الخلايا التي انفصلت، ثم غطاها، ثم أخذ يستنسخ كل واحدة منها على حدة.. وهكذا، لتصبح كل واحدة منها جنينًا.

ثالثًا: عند غرس إحدى هذه الخلايا في الرحم فإنها تواصل مسيرتها الطبيعية في تكوين الجنين بإذن الله تعالى.

أقول: إن الأمر إلى هنا لا يظهر فيه إلا مخالفة واحدة عن المنهج الطبيعي، وهي العمل على فصل الخلايا عن بعضها بإذابة الغشاء البروتيني السكري المحيط بالخلايا بواسطة (أنزيم ومواد كيماوية، ثم إصلاح جدار الخلايا وتغطيتها

) وإلى هنا فإننا إذا سلمنا ألا تأثير على أي خلية من الخلايا أثناء عملية الفصل، وعملية التغطية.. وبخاصة أننا نتعامل مع (خلية) بالغة الدقة تحتوي على كل ما في الإنسان، وأن كل ذرة كائنة في الخلية تمثل جزءًا من أجزاء الإنسان، وأن أي عطب يصيبها يصيب جزءًا من الإنسان، ومن ثم يشكل ذلك اعتداء على الجنين.

ص: 1282

أقول: فإنه إذا قطع الأطباء بسلامة كل خلية من هذه الخلايا بعد فصلها، وتغطيتها؟ أنها لم ولن يعتريها تخريب، أو عطب، أو أي أثر ضار عليها من قريب أو من بعيد، فإنها قد تتشابه من وجه - وهو بداية التلقيح، أو مرحلة الجنين الأولى - مع (طفل الأنابيب) الذي أخذ حظه من الدراسة الفقهية، وسلم فقهاء الشريعة في المجامع الفقهية بجوازه إذا كان بين زوجين، وعلى يد طبيب مسلم حاذق تتوافر فيه صفة العدالة، وتحت مظلة من رعاية وإشراف دولة مسلمة، صيانة وحماية للنفس الإنسانية، وحفظًا للأنساب، ومنعًا من الاتجار بها، وقد كان للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية دور بارز في تناول هذه القضية في وقتها، وعلى ضوء ما رأته صدر تنظيم قانوني لهذه العملية في دولة الكويت ، على حد علمي.

ولكنها تختلف عنه بعد ذلك اختلافًا جوهريًّا، فإن الأمر هنا في الاستتئام يختلف عن طفل الأنابيب، إذ كل طفل من أطفال الأنابيب يتكون من بييضة ملقحة بحيوان منوي، فلكل طفل ذاتيته، وصفاته وخواصه، وحياته الطبيعية، وتدرجه في الأطوار، دون تدخل أو مساس بمسيرته الذاتية.

أما في حالة (الاستتئام) ففي الحقيقة هو جنين واحد مكون من تلقيح بييضة بحيوان منوي، وعندما يأخذ في التنامي والتكاثر تتدخل الأيدي فتفصل كل خلية من خلاياه عن الأخرى، ثم الخلية المنفصلة يجري عليها ما جرى على الأولى، وهكذا حتى يصبح عندنا من جنين واحد عشرات الأجنة، وجميعها في واقع الأمر ترجع إلى ذات واحدة وصفات وراثية واحدة وخواص واحدة، أي هي إذا صح التمثيل كشخص واحد وقف أمام عدة مرايا، فانعكست صورته في كل مرآة لتردها إلى الأخرى حتى يرى نفسه عشرات المرات.

ومن هنا يختلف طفل (الاستتئام) عن طفل (الأنابيب) ويقترب من طفل الاستنساخ التقليدي؛ إذ الأخير كانت خليته جسدية بها (46) كروموزومًا، والبييضة منزوعة النواة هي الحاضنة فقط، وكلما كررنا الخلية الجسدية في بييضة منزوعة النواة نتج عنها نفس الشخص بجميع صفاته، ثم إنها أيضًا في طفل (الاستتئام) وقد اتحدت الذات والشكل والصورة، يلزم أن تتحد البصمات أيضًا، ويصبح لدينا تحت ظل (الاستتئام) أناس متعددون جسمًا، وقد يختلفون عمرًا، ولكنهم متحدون في أشكالهم وصفاتهم.

ويترتب على ذلك اضطراب في معرفة أصحاب الحقوق، ومن نحملهم الواجبات، ومن يعاقبون، إذا حدث التناكر والتهرب من الاعتراف بالحقيقة، أو ادعاء ذلك، كما أنه إذا ظهر عيب في واحد منهم فإنه سيتكرر في كل واحد منهم، ولا يملك أحدهم إعدام الآخرين، لأن للجنين حرمته. (1) وقد سبق أن قررت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية "أن الخلايا الجنينية هي: الخلايا الجنينية الباكرة لإنسان الغد، والاعتداء عليها اعتداء على الإنسان، وهي حياة محترمة في كل أطوارها تتدرج عقوبتها بسبب أطوارها ". (2)

أما من حيث انتماء أطفال الاستتئام إلى الأب والأم - أي الزوج والزوجة - فلا ريب في اتصال نسبهم بالزوج - الأب - صاحب الحيوان المنوي، وبالزوجة - الأم - صاحبة البييضة الملقحة بهذا الحيوان، والحاضنة للخلية الأصل، طالما تم غرس هذه الأجنة في رحم الزوجة تحت ظل الزوجية الصحيحة والقائمة التي لم تنفصل عراها بطلاق أو غيره، أو موت الزوج.

(1) راجع: لنا بحث (حق الجنين في الحياة) نشر في مجلة كلية الحقوق بجامعة الكويت، والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية؛ بحث د. أحمد رجائي الجندي.

(2)

وقد بينت في كتابي (حق الجنين في الحياة) العقوبات التي يقررها الفقه الإسلامي على الاعتداء على الجنين في كل طور من أطواره.

ص: 1283

النوع الثالث:

الاستنساخ العضوي، والخلوي، والجيني

بين لنا العلماء المتخصصون (1) أن هناك نوعًا ثالثًا من الاستنساخ، يقتصر دوره على إنتاج عضو معين من الأعضاء، أو استنساخ جين معين من الجينات، أو استنساخ خلايا (2)

وقد عرف الدكتور أحمد رجائي الجندي الاستنساخ العضوي بقوله:

" يقصد به استنساخ بعض الأعضاء التي يحتاجها الإنسان في حياته في حالة حدوث عطب في أحد هذه الأعضاء ".

ثم ذكر أنه قد نجحت حتى الآن زراعة الجلد البشري، ويوجد بنوك لهذا الجلد في معظم العالم، ثم يقول:"ومن المعروف أن الجلد يعتبر أحد الأعضاء الهامة والتي يتوقف عليها إنقاذ إنسان تعرض جسده بنسبة كبيرة للحروق، وكما ذكر أحد الباحثين، إمكانية النجاح في استنبات المبايض والخصي الذكرية البشرية مخبريًا، بحيث يمكن الحصول منها على بييضات ونطف بشرية ". (3)

ثم ذكر لي في محادثة تليفونية معه " أن ما نجحوا فيه بالنسبة للجلد هو استنبات الأنسجة فقط، أما ما يحتويه الجلد من أعصاب وشرايين وغير ذلك فإنه لم يحدث، وكذا ما تحدثوا عن إمكانه بالنسبة لاستنبات المبايض والخصي، لم يحدث أيضًا حتى الآن ".

وتقول الدكتورة صديقة العوضي: " إن استنساخ الأعضاء أمر مستبعد، لأن عملية تكوين الأعضاء داخل الجنين تخضع لعوامل وراثية، أو مورثات مسؤولة عن تكوين هذه الأعضاء ما دامت داخل الجنين. إنه بدراسة علم الأجنة (Embryology) كل طبيب يعلم كم من المراحل المتعددة تتعاقب في توال ونظام محكم لتصل في النهاية للكائن الحي بأعضائه، وأن أي خطأ - ولو كان صغيرًا - يؤدي إلى التشوهات الخلقية، على هذا الأساس فإنه لو زرعت نواة الخلية الكبدية في بييضة فارغة، فإنها بالتالي ستنتج مستنسخًا كاملًا - أي جنينًا - وليس كبدًا فقط، أما إذا زرعت الخلية في وسط المعمل فإنها تنتج كلون (Clone) مكونًا من صنف واحد من الخلايا الكبدية (Manclonalcells) وليس كبدًا بكل أوصافه وأشكاله ووظائفه المختلفة، قس على ذلك جميع الأعضاء ".

(1) بحث د. أحمد رجائي الجندي؛ د. صديقة العوضي.

(2)

بحث د. أحمد رجائي الجندي؛ د. صديقة العوضي.

(3)

بحث د. أحمد رجائي الجندي؛ د. صديقة العوضي.

ص: 1284

ومثل ذلك ما قرره الدكتور مختار الظواهري أستاذ الوراثة الطبية بكلية العلوم بجامعة الكويت (1)

(1) يقول أ. د. مختار الظواهري في مقاله الذي نشر بالقبس تحت عنوان (لا تطبيقات مفيدة في الاستنساخ البشري) في 25/ 3/ 1997: "يظن البعض أن الاستنساخ البشري سيحل مشكلة توفير أعضاء بشرية لزرعها لمن يحتاج إليها، يقول: هذا أمل كاذب، يمني به من لا يملك لمن يعيشون على الأمل، فيصدمون بالسراب والفشل، فالاستنساخ لن يحل هذه المشكلة، ولن تكون تقنية لإنتاج قطع غيار بشرية، مثل: كبد، قلب، كلية، أو بنكرياس

فالبعض يقترح أن يكون هناك نسخة أخرى للطفل المريض ليكون مخزونًا، أو اسكراب، يؤخذ منه قطعة غيار لنسخته الأصل المريضة كلما اقتضى الأمر!! كيف ذلك؟ ولا تعليق ". أقول: قد ذكرنا فيما تقدم أن حياة كل كائن مصونة ولا تمس إلا بحق، وهذا ليس بحق، فلا يجوز شرعًا التسبب في إيجاد حياة ثم إعدامها من أجل أي شيء، ولو كان لحياة نفس أخرى، أما الاقتراح الآخر الأكثر منطقية - إذا كان ممكنًا - فهو دفع خلية كبد لتنمو في خارج الجسم إلى كبد!! كيف؟ وهذا غير ممكن، بل ومستحيل؟ إذ أن أي عضو ينمو من خلال منظومة هندسية مبرمجة وراثيًّا بشكل دقيق ومعقد للغاية، فالعضو لا ينمو ويتشكل إلا من خلال كيان متكامل يمد هذه الأعضاء بالإحساس، والأوامر العصبية والدم والهرمونات، لكي تنمو وتتشكل، وتستطيع القيام بوظائفها، وكل عضو ينمو ويتشكل حسب دوره في النوتة الموسيقية ضمن المنظومة الجينية المتكاملة لجسم الإنسان، وليس منفصلًا عنها، وبذلك إذا زرعت خلية من كبد في معزل عن باقي الجسم لمحاولة إنتاج كبد، كعضو مستقل، فإنها ستنتج نسيجًا فقط مشابهًا لنسيجها المأخوذة منه، ولن ينمو أبدًا إلى عضو منفرد مستقل بعيدًا عن جسم الجنين، فلا نتوقع أن يستطيع العلماء إنتاج قلب فقط، أو رئة فقط، أو كبد فقط، أو كلية فقط، كقطعة غيار بشرية. ونشر في صحيفة الوطن الكويتية الصادرة يوم الأحد 28/ 11/ 1417 هـ، 6/ 4/ 1997م مايلي: "شانغهاي - شينخو: نجح طبيب صيني في استنساخ أذن إنسانية بواسطة تجربة لتكاثر الخلايا، وقد بدأ الطبيب (تساو بي لين) بحثه في عام 1993م معتمدًا على تجاربه الإكلينيكية في جراحة التجميل، ولاستنساخ العضو أخذ (تساو) خلايا العضو لإكثارها، ورباها في جهاز مصنوع من مادة خاصة على شكل حامل، ثم بعد ذلك نقل الجزء الغضروفي المتكون في الخلايا، وزرعه في فأر أبيض، فظهرت أذن إنسان على الحيوان في غضون ستة أسابيع، وتوقع (تساو) أن تستخدم هذه التكنولوجيا في جسم الإنسان بنهاية القرن، مع تطور هندسة الأنسجة. وعلى أساس نفس المبدأ يمكن تصور إعادة إنتاج القصبة الهوائية، وكبد، ومفاصل، وأوتار، وجلد، وعظام إنسان، بجمع بعض الأنسجة النشطة من الأعضاء المريضة، وقال (داي كيرونغ) اختصاصي جراحة تقويم الأعضاء - المشهور في الصين -: إن هندسة الأنسجة تختلف عن استنساخ الحمض النووي (D.N.A) إذ أنه في هندسة الأنسجة يمكن تكثير أنسجة الخلايا، كما أنه يمكن استخدامها بشكل واسع في الممارسات الإكلينيكية.

ص: 1285

حكم استنساخ العضو في الفقه الإسلامي:

تبين لنا مما تقدم أن استنساخ عضو معين فقط دون استنساخ كل الجسم، كالقلب، والكبد، والكلية، واليد، والرجل، والعين، والأذن، والجلد

وغير ذلك بكل خواصه التي أودعها الله فيه، غير ممكن علميًّا؛ فبعضهم استبعده، وبعضهم جعله أملًا كاذبًا، أو أنه غير ممكن، بل ومستحيل، كما نقلنا عنهم آنفًا، وهم أهل الاختصاص في هذا الفن.

- أما استنساخ الأنسجة فقط، فيمكن - كما حدث في الجلد - ونسخها حينئذٍ يتم معمليًّا، كما ذكرت الدكتورة صديقة العوضي، من أنه إذا زرعت خلية كبد في وسط المعمل فإنها تنتج (كلون) مكونًا من صنف واحد من الخلايا الكبدية، وليس كبدًا بكل أوصافه وأشكاله ووظائفه المختلفة، قس على ذلك جميع الأعضاء.

أقول: إن ما يصل إليه العلم من استنساخ شيء من أنسجة الأعضاء منفصلًا عن استنساخ جسم الإنسان كله ، كما هو الحال في الاستنساخ التقليدي معمليًّا - على الوجه الذي أوضحناه - فإنني لا أرى مانعًا شرعيًّا من المضي فيه، وإنتاجه، ولكن بقيود:

أولها: أنه من خلايا الإنسان الذي كرمه الله تعالى وعصم دمه، ومنع المساس به إلا بحق، وجعل كل دمه وبشرته حرام على غيره، وحرم ورود العقد عليه من بيع أو غيره، وعلى أجزائه كذلك. (1) فهي بمنزلته في التكريم والعصمة، وقد سبق أن أوردنا الأحاديث الدالة على ذلك، ومنها:((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) .

وثانيها: أن انتفاع الإنسان بنسيج من أنسجته، لعلاج ما قد أصابه من مرض، أو حادث - كما يحدث في حال تآكل جلد من أصابته النار فاحترق بعض جلده - جائز شرعًا، بل ومطلوب حتى تعود - بإذن الله تعالى - بشرته وجلده على ما كان عليه قدر الإمكان.

وثالثها: أن انتفاع الغير بذلك النسيج مشروط بالحاجة الملحة فقط، وقد تنزل الحاجة منزلة الضرورة، وبخاصة أن توافر استنساخ هذا النسيج من نفسه لنفسه في وقت معين، قد يحتاج إيجاده إلى وقت بعيد، مما قد يؤدي إلى الإضرار به، إلا أنه مع ذلك يجب الاطمئنان إلى عدم نقل هذا النسيج مرضًا من الأمراض المعدية التي قد يكون صاحبه مصابًا بها، وأن يأذن له به.

هذا ما أردنا إبرازه في هذا المجال، والله ولي التوفيق.

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 286] صدق الله العظيم.

أ. د حسن علي الشاذلي

(1) راجع لنا (حكم نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) نشر الجمهورية في مصر، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة.

ص: 1286