المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ضابط المفطراتفي مجال التداويالأكل والشربإعدادالشيخ محمد علي التسخيري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد العاشر

- ‌بحثأحكام الذبائح واللحوم المستوردةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادسماحة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية للذكاةإعدادأ. د إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌‌‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌المفطراتإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌مفطرات الصائمفي ضوء المستجدات الطبيةإعداد الدكتور محمد جبر الألفي

- ‌ضابط المفطراتفي مجال التداويالأكل والشربإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المفطراتإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌المفطراتفي مجال التداويإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌التداوي والمفطراتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌المفطراتفي ضوء الطب الحديثإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادالدكتور نزيه كماد حماد

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادد. محمد بن علي القري

- ‌الاستنساخ البشريإعدادالشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية

- ‌نظرة في الاستنساخ وحكمه الشرعيإعدادآية الله محمد علي التسخيري

- ‌الاستنساخ البشريبين الإقدام والإحجامإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌الاستنساختقنية، فوائد، ومخاطرإعدادد. صالح عبد العزيز الكريم

الفصل: ‌ضابط المفطراتفي مجال التداويالأكل والشربإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

‌ضابط المفطرات

في مجال التداوي

الأكل والشرب

إعداد

الشيخ محمد علي التسخيري

الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [لبقرة: 183]

سيكون بحثنا في هذا المقال في مجالين:

الأول: ضابط المفطرات في مجال التداوي.

والثاني: ضابط المفطرات في مجال الحالات المرضية

المجال الأول - ضابط المفطرات في مجال التداوي:

قبل الورود في البحث لابد أن نستعرض طريقتنا في البحث، وهي تبتني على ذكر مقدمات:

الأولى: الإشارة إلى بعض النصوص الدالة على مفطرية الأكل والشرب.

الثانية: تعريف حقيقة الأكل والشرب وتحديدهما بالدقة، بحيث نتمكن من تشخيص المصاديق بقدر الإمكان.

الثالثة: تعريف حقيقة الصوم، للتمكن من تشخيص الوظيفة عند الشك.

الرابعة: تعيين المرجع عند الشك، وقد يعبر عن ذلك بتأسيس الأصل.

وبعد بيان هذه الأمور ندخل في صلب الموضوعات المطروحة، فإن وجدنا فيها نصا خاصًا نأخذ به، وإلا نرجع إلى العمومات، وإن لم تشملها العمومات نرجع إلى الأصول المنقحة في المقدمة.

ص: 663

فلابد أولًا من ذكر هذه الأمور الأربعة كمقدمة للبحث، فنقول بتوفيق من الله العزيز العلام:

المقدمة الأولى: الإشارة إلى بعض النصوص.

فمن الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]

ودلالة الآية الكريمة على مفطرية الأكل والشرب مما لا ريب فيه، وإنما الذي لابد من التعرض له هو تحقيق كلمتي الأكل والشرب، وإثبات إطلاقهما.

المقدمة الثانية: في تحقيق حقيقة كلمتي الأكل والشرب.

الأكل في اللغة:

قال الراغب في المفردات (1) : " الأكل تناول المطعم ".

وقال الزبيدي في تاج العروس (2) : " أكله أكلًا ومأكلًا، قال ابن الكمال: الأكل إيصال ما يمضغ إلى الجوف ممضوغًا أو لا، فليس اللبن والسويق مأكولًا، قال المناوي: وفي كلام الرماني ما يخالفه حيث قال: الأكل حقيقة بلع الطعام بعد مضغه، قال: فبلع الحصاة ليس بأكل حقيقة ".

وقال أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة (3) : " أكل: الهمزة والكاف واللام باب تكثر فروعه، والأصل كلمة واحدة ومعناه: التنقص، قال الخليل: الأكل معروف ".

وقال جلال الدين الخزرجي في لسان العرب (4) : " أكلت الطعام أكلًا ومأكلًا، وقال ابن سيده: الطعام يأكله أكلًا ".

وقال الجوهري في الصحاح (5) : " أكل: أكلت الطعام أكلًا ومأكلًا ".

وفي المصباح المنير للفيومي (6) : " الأكل معروف - إلى أن قال - قال الرماني: " والأكل حقيقة بلع الطعام بعد مضغه فبلع الحصاة ليس بأكل حقيقة ".

(1) ص 20

(2)

1/ 19

(3)

1/122

(4)

11 / 19

(5)

4/ 241

(6)

1/ 10

ص: 664

الشرب في اللغة:

قال الزبيدي في تاج العروس (1) : " شرب الماء وغيره، كسمع، يشرب شربًا، مضبوط عندنا بالرفع، وضبطه شيخنا بالفتح، وقال: إنه على القياس، وقال أيضاً: إن الفتح أفصح وأقيس، قلت: وسيأتي ما ينافيه ". وفي لسان العرب (2)" ابن سيده: شرب الماء وغيره شَرْباً وشُرْبًا وشِرْبًا ".

وفي القاموس المحيط (3) : " شرب كسمع شربًا، ويثلث ".

وفي معجم مقاييس اللغة (4) : " الشين والراء والباء أصل واحد منقاس مطرد، وهو الشرب المعروف ".

وفي أساس البلاغة للزمخشري (5) : " شرب الماء والعسل والدواء ".

وفي المصباح المنير (6) : " الشراب ما يشرب من المائعات ".

وفي أقرب الموارد (7) : " ولا يشترط فيه توسط الشفة في إيصال المجروع إلى الجوف ".

وفي المفردات للراغب (8)" الشرب تناول كل مائع ماء كان أو غيره ".

هذه كلمات جماعة من أئمة اللغة، والظاهر أن أكثرهم - كما ترى - أوكلوا الأمر إلى وضوحه، سيما في الشرب.

والمتيقن من جميعها اعتبار تحقق أمور أربعة في حقيقة الأكل:

ا - إيصال المأكول أو المشروب إلى الجوف.

2 -

كون الإيصال من طريق الحلق.

3 -

كون المأكول ممضوغًا (أي مما يمضغ) .

4-

تحقق المضغ.

وإذا لم يتحقق أحدها فصدق الأكل حقيقة مختلف فيه.

فهذا هو الرماني قد صرح بعدم صدق الأكل حقيقة على بلع الحصاة، وابن الكمال قد صرح بعدم صدقه على إيصال اللبن والسويق إلى الجوف، لأنه ليس مما يمضغ.

ولأجل هذا الاختلاف - الواقع في كلماتهم - لا يمكن حصول الاطمئنان بحقيقة معنى الأكل والشرب في اللغة.

ولما كانت خطابات الشارع ملقاة إلى العرف، فلابد في تشخيص العناوين المأخوذة فيها من الرجوع إلى العرف.

(1) 1/ 312

(2)

1/ 487

(3)

1/ 267

(4)

3/ 350

(5)

ص 324

(6)

1/ 140

(7)

1/ 579

(8)

ص 257

ص: 665

الأكل والشرب في العرف:

الظاهر اعتبار أمرين في صدق عنواني الأكل والشرب عند العرف وهما:

1-

إيصال الشيء إلى الجوف بالبلع.

2 -

كون ذلك من طريق الحلق، ومع تحققهما يصدق الأكل عرفا سواء أكان مما يمضغ أم لا، وسواء أتحقق المضغ أم لا، والفرق بين الأكل والشرب في ما يصل إلى الجوف، فإذا كان مائعا يكون شربًا، وإذا لم يكن مائعاً يكون أكلا.

وعليه إذا أوصل الشخص الحصاة إلى جوفه من طريق الحلق يصدق أنه أكل الحصاة، وإذا وصل الطعام إلى جوفه من غير طريق الحلق لا يصدق أنه أكله.

فتحصل مما ذكر في هذه المقدمة: الظاهر أنه لابد من حمل الأكل والشرب في الكتاب الكريم والسنة الشريفة على إيصال الشيء إلى الجوف من طريق الحلق، سواء أكان معتادًا أم غير معتاد، وسواء أكانت كيفية الأكل متعارفة أم غير متعارفة، وسواء أكان الورود من طريق الفم أم الأنف أم غيرهما.

ص: 666

المقدمة الثالثة: في تحقيق معنى الصيام.

الصوم في اللغة:

قال الراغب (1) : " الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل؛ مَطعمًا كان أو كلامًا أو مشيًا ".

والصوم في الشرع: إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن

وقال أحمد بن فارس (2) " صوم: الصاد والواو والميم أصل يدل على إمساك وركود في مكان

من ذلك صوم الصائم هو إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر

".

وفي الصحاح (3) قال الخليل: " الصوم قيام بلا عمل، والصوم: الإمساك عن الطُّعم ".

وفي العين (4) : " الصوم: ترك الأكل وترك الكلام

والصوم قيام بلاعمل ".

وفي المصباح المنير (5) : " صام يصوم صومًا وصيامًا، قيل: هو مطلق الإمساك في اللغة، ثم استعمل في الشرع في إمساك مخصوص ".

ومن التقفية في اللغة (6) : " والصوم عن الطعام والشراب، وكل ممسك عن شيء من الأشياء فهو صائم عن الكلام وغيره ".

وفي تاج العروس (7) : " صام صومًا وصيامًا - بالكسر - واصطام إذا أمسك، هذا أصل في اللغة في الصوم، وفي الشرع: عن الطعام والشراب

- إلى أن قال -: وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سَيْر

".

وفي لسان العرب (8)" الصوم: ترك الكلام والشراب والنكاح - إلى أن قال - التهذيب: الصوم الإمساك عن الشيء والترك له - إلى أن قال -: قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم ".

وفي أقرب الموارد (9) : " صام الرجل يصوم صومًا وصيامًا: إمساك عن الطعام والشراب والكلام والسير، وأصله في الإمساك والسكون عن الفعل ".

(1) المفردات، ص 291

(2)

معجم مقاييس اللغة: 3/ 323

(3)

5/ 1970

(4)

العين للخليل بن أحمد الفراهيدي: 7/ 171

(5)

1/161

(6)

لأبي بشر البندينجي، ص 636

(7)

تاج العروس، مادة صوم

(8)

12 / 350

(9)

1/ 670

ص: 667

الصوم في كلمات الفقهاء رحمهم الله تعالى:

قال المفيد (1) : " والصيام هو الكف عن تناول أشياء ورد الأمر من الله تعالى بالكف عنها في أزمان مخصوصة ".

وقال الطوسي (2) : " وفي الشرع هو إمساك مخصوص على وجه مخصوص ممن هو على صفة مخصوصة.. ".

وقال العلامة (3) : " وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص

انتهى ". وقريب منه عبارة السرائر (4) وعبارة المغني لابن قدامة (5) والشرح الكبير لعبد الرحمن بن قدامة، والفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري (6) ، وقال المحقق (7) : " الصوم وهو الكف عن المفطرات مع النية ".

وقريب منه عبارة العلامة في القواعد والشهيد الأول في الدروس (8)

ولا نطيل بنقل سائر العبارات التي نراها على ثلاثة أقسام: فقسم عرف بالإمساك، وقسم عرف بالكف، وقسم عرف بتوطين النفس.

ولا نتعرض لتحقيق الحق في حقيقة الصوم، بعد ما كان المطلوب

ترك المفطرات مع النية.

(1) المقنعة، ص 49.

(2)

المبسوط: 1/ 265

(3)

منتهى المطلب: 2/ 557

(4)

السرائر، ص 82

(5)

المغني والشرح الكبير: 3/ 2

(6)

الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 541

(7)

شرائع الإسلام: 1/ 187

(8)

الدروس الشرعية، ص 70

ص: 668

المقدمة الرابعة: وهي مقدمة أصولية تتحدث عن المرجع عند الشك، الشك الذي يعتري المكلف في حصول المفطر قد يكون على إحدى صور:

الأولى: الشك في مفهوم الأكل والشرب سعة وضيقًًا، ونسميه بالشبهة المفهومية، والتحقيق كما عليه أهله: جريان البراءة بالنسبة إلى الزائد عن المتيقن، فإذا شككنا - مثلًا - في أن الأكل يشمل المأكول غير المتعارف حتى يحرم أم لا يحرم، تجري البراءة عن لزوم الاجتناب عنه.

الثانية: الشك في المصداق (الشبهة المصداقية) ، كما إذا شككنا مثلا في أن الماء وصل من قضاء الفم إلى الجوف أم لا، فالحق أيضا جريان البراءة - كما حقق في محله - بعد عدم شمول أدلة المنع له؛ والوجه في عدم الشمول هو أن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ممنوع قطعا، وإذا لم تشمله نشد في الحكم، فإن كان هناك دليل فوقاني نرجع إليه كالروايات الحاصرة، وإلا نرجع إلى الأصل كما بيناه.

الثالثة: الشك في صحة الصوم، وإذا وقع الشك في صحة الصوم مع تناول ما يشك في كونه أكلًًا فالحق أيضًا الصحة، لاستصحاب بقاء الصوم إذا كان مسبوقًا بتحقق الصوم.

وبعدما عرفت هذه المقدمات نَرِد في صلب الموضوع.

ضابط المفطر (الأكل والشرب) :

لا يخفى أن الأكل والشرب من المفطرات للصوم في الجملة بإجماع المسلمين، بل الضرورة قائمة على ذلك، ويدل عليه قبل الإجماع الكتاب والسنة، ولا كلام في ذلك، إنما الكلام في تحديد هذا الضابط، وأنه هل أن الأكل والشرب مطلقًا من المفطرات، أم تختص المفطرية بما يتعارف أكله وشربه؟ وأيضاً هل المفطر إيصال المأكول والمشروب إلى الجوف من أي طريق كان، أم يعتبر في المفطرية كون الوصول من الطريق المتعارف؟

فيقع الكلام في تعيين الضابط في مقامين:

المقام الأول:

في مفطرية إيصال ما ليس بمتعارف إلى الجوف من طريق الحلق، فقد قيل: إن المسألة ذات أقوال ثلاثة:

الأول: المفطرية وإيجاب الكفارة.

الثاني: عدم المفطرية.

الثالث: المفطرية من غير إيجاب الكفارة.

والأول هو المشهور، بل مورد التسالم.

ونسب الخلاف إلى ابن الجنيد وبعض كتب السيد من الإمامية، وإلى الحسن بن صالح وأبي طلحة الأنصاري من فقهاء أهل السنة.

ص: 669

ولنذكر أولًا بعض عبارات الإمامية:

قال الشيخ الطوسي (1) : " الأكل لكل ما يكون به أكلاً، سواء أكان مطعوماً مثل: الخبز واللحم وغير ذلك، أو لا يكون معتاداً مثل: التراب والحجر والفحم والخزف والبرد وغير ذلك.

والشرب بجميع ما يكون به شارباً، سواء أكان معتادًا مثل: الماء والأشربة المعتادة، أو لم يكن معتاداً مثل: ماء الشجر

" إلخ. اهـ.

وقال أيضًا (2) " إذا أكل ما لا يؤكل باختياره كالخزف والخرق والطين والخشب والجوهر، أو شرب غير مشروب كماء الشجر

كل هذا يفطر. وهو قول جميع الفقهاء إلا الحسن بن صالح بن حي، فإنه قال: لا يفطر إلا المأكول المعتاد ".

وقال أيضا (3) : " من أكل البرد النازل من السماء أفطر، وبه قال جميع الفقهاء، وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يقول: لا يفطر ".

وقال الشيخ المفيد (4) : " ومن ازدرد شيئًا مما لا يؤكل كالقطعة والحصاة والخرزة وما أشبه ذلك متعمدًا فقد أفسد صيامه، وعليه القضاء والكفارة ".

وقال السيد المرتضى في الناصريات (5) : " ولا خلاف فيما يصل جوف الصائم من جهة فمه - إذا اعتمد - أنه يفطر مثل: الحصاة والخرزة وما لا يؤكل ولا يشرب. وإنما يخالف في ذلك الحسن بن صالح، وقال: إنه لا يفطر، وروي نحوه عن أبي طلحة، والإجماع متقدم ومتأخر عن هذا الخلاف، فسقط حكمه ".

وقال المحقق (6) : " يجب مع القضاء الكفارة بسبعة أشياء: الأكل والشرب المعتاد وغيره ".

وقال العلامة (7) : " يجب الإمساك عن الأكل والشرب - إلى أن قال: - ولا فرق بين المعتاد وغيره عند علمائنا، سواء تغذى به أم لا، وهو قول عامة أهل العلم

إلخ ".

واختاره أيضاً في المختلف (8) وقال الشهيد الأول: (9) " كتاب الصوم: وهو توطين النفس على ترك الثمانية: الأكل والشرب المعتاد وغيره

إلخ ".

واختاره أيضًا الشهيد الثاني في الروضة، والفاضل النراقي في مستند الشيعة، وصاحب الرياض (10) وصاحب الجواهر (11) والمحقق الهمداني، وبالجملة لم نجد مخالفًا من الإمامية إلا ما ينسب إلى السيد المرتضى وابن الجنيد، والنسبة إلى السيد محل تأمل، ومال إليه الشيخ الأنصاري (12) من حيث الدليل، ثم قال: إن مقتضى الاحتياط اللازم وجوب الكف عنه.

(1) المبسوط: 1/ 270

(2)

الخلاف: 2/ 213، مسألة 72

(3)

الخلاف: 2/ 213، مسألة 72

(4)

المقنعة، ص 54، 55

(5)

الجوامع الفقهية، ص 206، المسألة 26

(6)

الشرائع: 1/ 190، 191

(7)

التذكرة: 1/ 257

(8)

المختلف: 46/2 المنتهى، ص 563

(9)

الدروس، ص 70

(10)

الرياض: 1/ 304

(11)

الجواهر، ص 16، 218

(12)

كتاب الصوم

ص: 670

وأما فقهاء السنة:

ففي بداية المجتهد (1) : " وتحصيل مذهب مالك أنه يجب الإمساك عما يصل إلى الحلق، من أي المنافذ وصل، ومغذيا كان أو غير مغذ ".

وفي المغني (2) : " وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يُتغذى به، فأما ما لا يُتغذى به فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به، وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب. وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم، ويقول: ليس بطعام ولا شراب ".

وفي الشرح الكبير (3) : " فأما أكل ما لا يتغذى به فيحصل به الفطر في قول عامة أهل العلم، وقال الحسن

إلخ ".

وغير ذلك كالفتاوي الهندية (4) واللباب (5) والمجموع (6) والأم (7) وكفاية الأخيار. (8)

هذا وقد ذكرت الموسوعة الكويتية الشروط التالية (9)

1-

أن يكون الداخل إلى الجوف من المنافذ الواسعة أو المفتوحة كالفم والأذن.

2-

أن يكون بالاختيار.

3 -

أن يستقر في الجوف، كما هو عند الحنفية والمالكية، ولا يشترط أن يكون مغذياً.

هذه هي فتاوى الفقهاء.

وقد رأينا أن الشهرة العظيمة محققة على القول الأول، بل كاد أن يكون إجماعًا كما ادعِي.

(1) 1/ 300

(2)

3/ 36

(3)

3/ 36

(4)

1/ 202، 205

(5)

اللباب في شرح الكتاب: 1/ 166

(6)

المجموع: 6/ 317

(7)

الأم: 2/ 100

(8)

1/ 126

(9)

28/ 30

ص: 671

أدلة القول الأول (المفطرية) :

ويمكن أن يستدل له بأمور:

الدليل الأول:

الإطلاقات من الكتاب والسنة، كالآية الكريمة (1) وتقريب الاستدلال يتوقف على بيان أمرين:

1-

أن الضابط في الأكل والشرب - كما أثبتناه - إيصال الشيء المأكول والمشروب إلى الجوف بالبلع من طريق الحلق، وإن لم يكن متعارَفًا. (2)

2-

حذف المتعلق يدل على العموم كما ثبت في محله.

وحينئذ نقول: لما كان متعلق الأكل والشرب محذوفًا، نستنتج ممنوعية كل ما يكون متعلقا للأكل والشرب، يعني كل ما يصل إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق سواء أكان متعارفًا أم لا.

ويؤيد ما ذكرنا (3) ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، أو الإمام الباقر عليه السلام أنه سئل عن المرأة تكتحل وهي صائمة؟ فقال: إذا لم يكن كحلًا تجد له طعما في حلقها فلا بأس.

والرواية معتبرة لوثاقة جميع رواتها، ولا نطيل بالتفصيل، حيث يمكن أن يستفاد منها أن الضابط في الإضرار بالصوم الوصول إلى الحلق، وإن لم يكن مأكولًا (متعارفًا أكله) كما في الكحل غالبًا.

وقد يستشكل عليه بأمور:

الإيراد الأول: الانصراف: بيانه أن الأكل والشرب ينصرفان - من الذهن العرفي - عن غير المتعارف أكله وشربه، فلا تشمله الإطلاقات.

والجواب:

أولاً: أن الانصراف يحتاج إلى منشأ، ولا يمكن أن يكون هذا المنشأ غلبة وجود المتعارف، وإنما يكون منشأ الانصراف أنس الذهن، وهو يحصل بغلبة الاستعمال وغلبة الاستعمال البالغة حدًّا يوجب الانصراف غير محرزة، فلا وجه للانصراف.

وثانياً: أنه لو كان المنصرف إليه ما اعتاده غالب الناس - أي التعارف النوعي - فيلزم اختلاف المفطِّر مع اختلاف عادات الأغلبية باختلاف الأزمنة والأصقاع، وهو فاسد، وإن كان ما اعتاده كل مكلف بشخصه ففساده أظهر، بل يكون ضروريًّا؛ لاستلزامه عدم بطلان صوم من لا يعتاد أكل الخبز مثلا، ومن لا يعتاد شرب الشاي بأكل الخبز وشرب الشاي.

الإيراد الثاني: أن ما ذكرتم من دلالة حذف المتعلق على العموم صحيح مع تحقق عنوان المتعلق، وحذف المتعلق لا يتكفل لصدق عنوان المتعلق، والمشكلة هي عدم صدق عنوان الأكل والشرب، والجواب عنه قد اتضح من تقريب الاستدلال أن صدق العنوان محرز من الخارج.

الإيراد الثالث: لو سلم الإطلاق فلابد من تقييده بالنصوص الدالة على أن المفطِّر ما تعارف أكله وشربه، وهو الطعام والشراب.

والجواب عن هذه النصوص يأتي، إن شاء الله تعالى، عند التعرض لها دليلًًا للقول الثاني.

(1) سورة البقرة: 187

(2)

كما استعمل الأكل في غير ما هو المتعارف أكله وشربه في بعض الروايات الشريفة، فراجع، ويستعمل كثيرًا كذلك في الاستعمالات العرفية.

(3)

التهذيب: 4/ 259، وص 9؛ الاستبصار: 2/ 90؛ الوسائل (آل البيت) : 10/ 75، وص 5

ص: 672

الدليل الثاني:

ما ذكره أحد المحققين وهو: أن حقيقة الصوم إنما هو الإمساك، وهو غير صادق على من تناول غير المعتاد.

ويرد عليه: أن من الظاهر عدم كون حقيقة الإمساك بقول مطلق، بل الإمساك عن أشياء خاصة، والمخالف يقول بأن تناول غير المعتاد ليس من هذه الأشياء الخاصة.

الدليل الثالث:

الشهرة العظيمة المحققة، والإجماع المحكي عن جماعة من المحققين كالسيد المرتضى في الناصريات (1) والشيخ الطوسي في الخلاف (2) وابن زهرة في الغنية، وابن أديس في السرائر (3) والعلامة في المنتهى وغيرها، بل ادعي في الخلاف (4) والناصرية إجماع جميع العلماء إلا النادر من المخالفين، وصرح الشيخ في الخلاف (5) بإجماع المسلمين على مفطرية أكل البرد النازل من السماء، وأن المخالف قد انقرض.

وقد نقلنا سابقًا عبارة المغني لابن قدامة (6) والشرح الكبير، حيث ذكرا اتفاق عامة أهل العلم إلا الحسن بن صالح، حيث قال: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب. وأبا طلحة الأنصاري حيث يأكل البرد وهو صائم ويقول: ليس بطعام ولا شراب.

نعم يمكن أن يقال بعدم حجيته، لأنه محتمل المدرك بل مقطوعه، والإجماع المدركي ليس حجة لدى الإمامية.

ولكن الإنصاف أن هذه الإجماعات المدعاة بضميمة الشهرة المحققة مما توجب الاطمئنان بالحكم.

أدلة القول الثاني:

ويمكن أن يستدل له - بعد دعوى انصراف إطلاقات مفطرية الأكل والشرب عن غير المعتاد - بالروايات الدالة على عدم مفطرية غير المتعارف من المأكول والمشروب.

فيقيد بها إطلاقات الأكل والشرب على فرض تسليم إطلاقها،

منها ما ورد في حصر المفطرات، كصحيحة محمد بن مسلم، وهي ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن يعقوب بن يزيد، وبإسناده عن علي بن مهزيار جميعًا، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: " لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال - في رواية محمد بن علي بن محبوب: أربع خصال - (7) الطعام، والشرب، والنساء، والارتماس في الماء ". (8)

وروى الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم مثله. (9)

والرواية صحيحة كما هو واضح، ولا سبيل للخدش في سندها حتى يحتاج إلى البحث، كما هو واضح لمن راجع الأصول الرجالية لدى الإمامية.

(1) الجوامع الفقهية، ص 206، مسألة 26

(2)

الخلاف، ص 213

(3)

ص 85

(4)

ص 212

(5)

ص 213

(6)

المغني: 1/ 300

(7)

والأمر سهل؛ لإمكان عد الطعام أو الشرب أمراً واحداً تارة وأمرين أخرى

(8)

التهذيب: 4/ 189، 202، 318؛ الاستبصار: 2/ 80؛ والوسائل الباب 1 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 1

(9)

الفقيه: 2/ 67، ح 276

ص: 673

تقريب الاستدلال:

إن مقتضى حصر الإمام عليه السلام ما يضر الصائم في هذه الأمور الأربعة أو الثلاثة؛ عدم إضرار غيرها كما هو واضح، ومن المعلوم أن ما ليس بمتعارف أكله وشربه لا يصدق عليه الطعام والشراب، فليس أحدها، فلا يضر الصائم، فلا يكون مفطرًا.

ومنها: ما ورد في دخول الذباب في الحلق وهي:

ما رواه (1) محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: أن عليًّا عليه السلام سئل عن الذباب يدخل حلق الصائم؛ قال: ليس عليه قضاء، لأنه ليس بطعام. (2)

ورواه الشيخ (3) بإسناده عن جعفر عن أبيه عن آبائهم عليهم السلام مع فرق اختلاف يسير.

والرواية معتبرة سندا لجلالة شأن محمد بن يعقوب وعلي بن إبراهيم كما هو واضح، وأما هارون بن مسلم فقد قال النجاشي في حقه:(4) ثقة وجه. اهـ.

وجاء أيضًا في إسناد كامل الزيارات (5)

وأما مسعدة بن صدقة فقد أورده ابن قولويه في إسناد كامل الزيارات (6) فيشمله توثيقه العام - على المبنى - هذا طريق محمد بن يعقوب.

وأما طريق الشيخ إلى هارون بن مسلم فصحيح أيضًا.

ومنها بعض ما ورد في الاكتحال، وهي:

1-

ما رواه محمد بن يعقوب (7) عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سليمان الفراء (سليم الفزاء كما في بعض النسخ وفي الوسائل أيضا) عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في الصائم يكتحل؛ قال: لا بأس به؛ ليس بطعام ولا شراب.

ورواه الشيخ في التهذيب (8) عن محمد بن يعقوب مع اختلاف يسير.

ورواه أيضًا في الاستبصار (9) عن أحمد بن محمد مع اختلاف يسير.

2-

ما رواه الشيخ (10) بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن الحسين بن أبي غندر، عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكحل للصائم، فقال: لا بأس به؛ إنه ليس بطعام يؤكل.

والرواية صحيحة بناء على التوثيق العام في كامل الزيارات.

وتقريب الاستدلال يتوقف على بيان مقدمة، وهي:

أنه قد ثبت في محله أنه إذا كان الاستدلال في ظاهر الدليل بالصغرى فتكون الكبرى مفروغًا عنها، كأن يقول الإمام: لا تصلِّ في هذا اللباس فإنه نجس، فيستفاد منه أن كل نجس لا تجوز الصلاة فيه، إذا عرفت هذا فنقول: إن قوله عليه السلام في هذه الروايات: " لأنه ليس بطعام ولا شراب " ، " إنه ليس بطعام يؤكل " تعليل لعدم وجوب القضاء وعدم البأس، وهو في الحقيقة الصغرى والكبرى وهي:" كل ما ليس بطعام ولا شراب لا بأس " ، " كل ما ليس بطعام يؤكل لا بأس به " لا بد أن تكون مفروغًا عنها.

(1) الكافي: 4/ 115، ح2

(2)

الوسائل: ج 10، باب 39 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 2

(3)

التهذيب: 4/ 323

(4)

رجال النجاشي: 1180

(5)

كامل الزيارات: الباب 66، 9

(6)

كامل الزيارات: الباب 66، 9

(7)

الكافي: 4/ 111، ح 1

(8)

4 / 258، ح 765

(9)

2/ 89

(10)

التهذيب: 4/ 258، 259، ح 766؛ والاستبصار: 2/ 89، ح279، مع اختلاف يسير، كتصريحه بصفوان بن يحى؛ الوسائل: ج 10، الباب 25 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

ص: 674

فالمستفاد من هذه الروايات عدم مفطرية غير الطعام والشراب، فتقيد بها الإطلاقات الدالة على مفطرية الأكل والشرب، وإن كان المأكول والمشروب غير متعارف.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام الاستدلال للقول الثاني.

وقد أجيب عنه: أما عن الروايات الحاصرة فبوجوه:

الأول: الظاهر أن الحصر في الصحيحة إنما لوحظ بالقياس إلى سائر الأفعال الخارجية والأمور الصادرة من الصائم، دون ما للطعام والشراب من الخصوصية، وليست الصحيحة بصدد بيان المراد من الطعام والشراب وأنه مطلق المأكول والمشروب أم خصوص المعتاد منهما، فلا تدل على حصر المفطِّر في العادي.

ويشكل عليه: أن الحصر وإن كان إضافيًّا، ولكنه يستفاد منه - على أي حال - أن ما لم يكن من هذه الأمور المذكورة لا يضر الصائم، وحينئذ نقول: إن ما ليس بمتعارف لا يصدق عليه أحد هذه الأمور، يعني لا يصدق عليه الطعام والشراب، فلا يضر الصائم.

وبالجملة لا نريد أن نتمسك بإطلاق الطعام والشراب حتى يَرد عليه ما ذكر.

الثاني: أن كلمتي الطعام والشراب مجملتان؛ لإمكان أن يكون المراد منهما المعنى المصدري، أي الأكل والشرب - كما ذكر في القاموس - لا الذوات الخارجية، أي المطعوم والمشروب، فلا تصلح لتقييد المطلقات.

ويرد هذا بأنه: مضافًا إلى بعد هذا الاحتمال في نفسه، يبعده ما ورد في صحيحة ابن أبي يعفور من قوله عليه السلام:" إنه ليس بطعام يؤكل " حيث وصف الطعام بأنه يؤكل؛ وتوضيحه: أنه لو كان الطعام بمعنى الأكل لا يمكن أن يتصف بأنه يؤكل، فظهور الطعام في المطعوم ثابت.

الثالث: أن عموم الرواية الحاصرة يخصص بالأدلة الدالة على المفطرية.

توضيحه: أن الرواية الحاصرة أعم من أدلة الأكل والشرب مطلقًا؛ لأن مفادها عدم الإضرار وعدم مفطرية شيء في العالم سوى هذه الأربعة فتكون عامة، وأدلة الأكل والشرب خاصة، لاختصاصها بعنوان الأكل والشرب فقط - وإن كان لهذه الأدلة العموم أيضًا بالنسبة إلى أفراد- فيخصص بها.

ص: 675

فإذن نستنتج: أن ما لا يكون من هذه الأربعة، ولم يصدق عليه الأكل لا يضر الصائم، فلم تقيد إطلاقات الأكل والشرب بالرواية الحاصرة، بل الأمر بالعكس.

الرابع: أنه لا يمكن العمل بها لمخالفتها للإجماع المحكي والشهرة العظيمة المحققة.

فالحق في الجواب هو الجواب الثالث والرابع.

وأما سائر الروايات (الطائفة الثانية) فقد أجيب عنها:

بأن المراد من الطعام هو الأكل (المعنى المصدري) دون المطعوم، والأكل يشمل المأكول المتعارف وغيره كما أثبتناه سابقًا.

والدليل على إرادة هذا المعنى في رواية الذباب أمر، وفي رواية الاكتحال أمر آخر، أما رواية الذباب؛ فهو أن مرجع الضمير في قوله:" لأنه ليس بطعام " هو الدخول، ولما كان الدخول غير اختياري، والأكل أمر اختياري فيمكن أن نقول: إن الدخول ليس بأكل ولا يصدق عليه الأكل. والشاهد عليه: قضاء الضرورة ببطلان صوم من أكل من الذباب كمية وافرة وبمقدار الشبع.

وفيه: أن قضاء الضرورة ببطلان هذا الصوم أمر، ودلالة الرواية أمر آخر، وعلينا أولًًا أن نلاحظ مفاد الرواية، وظاهرها هو الطعام بمعنى المطعوم، نعم لو كان هذا المفاد مخالفًًا للضرورة والإجماع المحكي المعتضد بالشهرة المحققة، فنرفع اليد عن الرواية.

وبعبارة أخرى: لو رفعنا اليد عن ظاهر الرواية بقضاء الضرورة؛ لم يكن الاستدلال استدلالًا بالسنة فقط.

ص: 676

وأما روايات الاكتحال فالدليل على إرادة الأكل من الطعام هو: أنه لو كان الطعام فيها بمعنى المطعوم يلزم بطلان الصوم بالاكتحال بالمطعوم كالعسل وطحين الحنطة، مع وضوح عدم بطلان الصوم.

وفيه: أولًا ما أوردناه على سابقه.

وثانيًا: أن بعض روايات الاكتحال مذيلة بقوله: " إنه ليس بطعام يؤكل " كما نقلناها سابقًا، وقد قلنا: إن قوله: " يؤكل " يمنع عن كون الطعام بمعنى الأكل.

وهذا الأمر يبعد إرادة المعنى المصدري في رواية الذباب أيضًا.

والحق في الجواب هو الجواب الأخير عن الرواية الحاصرة وهو:

سقوط الاستدلال بها، لمخالفتها للإجماع المعتضد بالشهرة العظيمة المحققة، وشذوذ القول بالخلاف جدًّا على تقدير وجوده، وكذا الجواب الثالث وهو تخصيص الكبرى (وهو لا شيء بما ليس بطعام مفطر) بأدلة الأكل كما سبق.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وخلاصة ما انتهينا إليه في هذا المقام بعون الله تعالى: أن الأكل والشرب يفطران الصائم سواء كان ما يصل الجوف مما يتعارف أكله وشربه أم لا.

وضابط الأكل والشرب: إيصال الشيء إلى الجوف من طريق الحلق بالبلع.

ص: 677

المقام الثاني:

في إيصال الشيء - ولو كان متعارفًا - إلى الجوف من غير الطريق المتعارف، كالأنف والعين مثلًا.

والظاهر أن حكمه قد ظهر مما أسلفناه، وملخصه:

أنه إذا كان الإيصال إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق يصدق الأكل والشرب فيكون مفطرًا؛ لعمومية أدلة مفطرية الأكل والشرب وإطلاقها.

ويمكن أن يستدل للمفطرية بأمرين آخرين:

الأول: الصحيحة الحاصرة، وتقريبه: أن الطعام والشراب فيها مطلقان من حيث صدق الأكل والشرب وعدم صدقهما، وهذا يعني استفادة أن عدم الاجتناب عن الطعام والشراب يضر بالصوم سواء صدق الأكل والشرب أم لا.

وبعبارة أخرى: أنه يصدق على من أوصل الطعام إلى جوفه من أنفه مثلًا أنه لم يجتنب الطعام والشراب، فلابد من الاجتناب عنه أيضًا.

وفيه: أن المتفاهم عرفًا من الاجتناب عن الطعام والشراب: الاجتناب عن أكله وشربه، لا الاجتناب عن كل ما له مساس بالطعام والشراب، وهذا واضح؛ ضرورة أنه لو لم يكن كذلك يلزم الاجتناب المطلق عن الطعام والشراب، وعدم التصرف فيهما بأي نحو من أنحاء التصرف حتى البيع والشراء والنقل من مكان إلى مكان آخر، وهو باطل بالضرورة.

الثاني: إلغاء الخصوصية عن روايات الاحتقان، بأن يقال: إن ملاك الحكم بالمفطرية في الاحتقان دخول الشيء إلى الجوف من أي منفذ كان، ولا خصوصية للاحتقان، فيبطل الصوم بالوصول إلى الجوف من أي المنافذ.

وفيه: أنه لا دليل على هذا الإلغاء أصلًا، بل صرح في بعض الروايات بعدم البأس باستدخال الصائم الدواء، كما سيأتي.

هذا كله إذا كان الإيصال من طريق الحلق ولو من غير الفم.

وأما إذا كان من غير طريق الحلق أيضًا، فقد ظهر حكمه أيضًا وملخصه:

عدم صدق الأكل والشرب قطعًا، فلا تشمله أدلة مفطرية الأكل والشرب والطعام والشراب، فيدخل في العام المستفاد من الصحيحة الحاصرة عدم مفطرية جميع الأشياء سوى المحصورات، فلا يضر الصائم غيرها.

ص: 678

تنبيه: يمكن أن يستدل هنا أيضًا للمفطرية بالدليلين الأخيرين.

هذا تمام الكلام في ضابط مفطرية الأكل والشراب (السؤال الأول) وملخصه:

1 -

مفطرية إيصال الشيء إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق ولو لم يكن متعارفًا.

2 -

مفطرية إيصال الشيء إلى الجوف بالإرادة من غير طريق الفم إذا كان من الحلق.

3 -

عدم مفطرية ما لم يكن إيصاله من طريق الحلق إلا أن يكون عليه نص خاص.

نعم لما كان احتمال كون ملاك المفطرية في هذا المجال هو التغذي غير بعيد لابد من الاحتياط وجوبًا في ما كان كذلك.

الفرع الأول: ما يدخل من أحد السبيلين (القبل والدبر) كتنظيف الرحم والتحاميل، والحقن الشرجية وما شابه ذلك.

ص: 679

هذا الفرع مشتمل على أمور نبحث عن كل منها مستقلًا، لأمر يتضح خلال البحث.

الأول: تنظيف الرحم.

الظاهر الجواز سواء كانت آلة التنظيف مصاحبة لمائع أو لا.

والدليل عليه: أننا لم نجد دليلًا على المنع، لعدم صدق الأكل والشرب عليه، فنرجع إلى مفهوم الحصر في الصحيحة الحاصرة ثم إلى الأصل، ولا تشمله أدلة حرمة الاحتقان، ولا يمكن إلغاء الخصوصية عنها كما سبق.

نعم يمكن أن يتوهم دلالة الرواية الواردة في استنقاع المرأة في الماء على عدم الجواز، إذا كانت هذه العملية مستلزمة لوصول الماء إلى داخل الرحم، توضيحه:

قد تعرض الفقهاء لمسألة جواز استنقاع المرأة في الماء وعدمه، فذهب المشهور إلى الجواز، ونسب إلى أبي الصلاح وجوب القضاء، وعن ابن البراج وجوب الكفارة أيضًا.

واستدل للمنع بموثقة حنان بن سدير التي رواها المشايخ الثلاثة (1) وهي:

ما عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن حنان بن سدير، أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الصائم يستنقع في الماء؟ قال: لا بأس ولكن لا ينغمس، والمرأة لا تستنقع في الماء لأنها تحمل الماء بقبلها. تقريب الاستدلال: أنه يستفاد من هذا التعليل - كما تقدم – ضابط كلي وهو ممنوعية حمل المرأة الماء بقبلها.

والرواية موثقة سندًا، ويمكن الجواب عنه بأمرين:

الأول: لو كان الاستنقاع للمرأة محرّمًا لبان وشاع.

الثاني: أن التعليل المذكور في الرواية يوجب حمل النهي على التنزيه والكراهة؛ لأن دخول الماء في القبل ليس من قواطع الصوم حتى عند أبي الصلاح وابن البراج، فلابد من حمله على التنزيه والكراهة.

(1) الفقيه: 2/ 71، ح 307؛ وعلل الشرائع، ص 388، ح 1؛ والكافي 4/ 106 ح5؛ والتهذيب: 4/ 263، ح 789 مع اختلاف يسير.

ص: 680

الثاني: التحاميل:

إن كان المراد منها تحميلة المهبل - أي فزرجة - فالظاهر الجواز، لعدم صدق العناوين الممنوعة عليه لا الأكل ولا الشرب ولا الاحتقان، فيرجع إلى عموم الحصر والأصل، وإن كان المراد منها تحميلة المستقيم - أي لبوس- فيمكن إدخاله في البحث عن الاحتقان بالجامد، فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.

الثالث: الحقن الشرجية.

الظاهر أن المراد منها الاحتقان، المبحوث عنه عند الفقهاء.

فلابد من البحث عن الاحتقان، وهنا يقال: إن الحقنة على ضربين:

ا - الحقنة بالمايع.

2 -

الحقنة بالجامد.

فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: الحقنة بالمايع.

ويقع البحث في هذا المقام في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في الحكم التكليفي.

لاخلاف ظاهرًا في حرمتها عند الإمامية، ولم ينقل الخلاف إلا من ابن الجنيد، حيث حكي عنه استحباب الاجتناب عنها، وذهب جماعة من فقهاء أهل السنة أيضًا إلى الحرمة (1)

والدليل عليه الروايات الشريفة:

1 -

منها: صحيحة أحمد بن أبي نصر، وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن عليه السلام: أنه سأله عن الرجل يحتقن تكون به العلة في شهر رمضان، فقال: الصائم لا يجوز أن يحتقن.

ورواه أيضًا الكليني والصدوق (2)

والرواية صحيحة، والدلالة أيضًا تامة؛ فإن المتيقن من مفهوم الاحتقان: الاحتقان بالمائع.

2 -

ومنها: موثقة الحسن بن فضال، وهي ما رواه محمد بن يعقوب، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحسين (الحسن) ، عن محمد بن الحسين (الحسن) ، عن أبيه، قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: ما تقول في اللطف يستدخله الإنسان وهو صائم؟ فكتب عليه السلام: لا بأس بالجامد (3)

ورواها محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحسن، عن أبيه إلا أن فيه في التلطف بالأشياف. (4) والرواية معتبرة موثقة وإن كان فيها الحسن بن فضال لأنه ثقة، ودلالتها على عدم جواز الاحتقان بالمايع.

وهاتان الروايتان وإن دلتا على المفطرية كما سيأتي، ولكن تستفاد الحرمة بضميمة ما يدل على حرمة الإفطار واضحة.

إن قلت: هناك رواية تدل على الجواز، فتعارض ما دل على المنع، وهي ما رواه محمد بن يعقوب (5) عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل والمرأة هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء وهما صائمان؟ قال: لا بأس.

ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن جعفر عليه السلام (6)

قلت: هذه الرواية مطلقة؛ لأن ترك الاستفصال عن السائل يدل على الشمول، وموثقة الحسن بن فضال مقيدة، فتحمل عليها، فتحصل: أن الاحتقان بالمائع محرم تكليفًا.

(1) المغني: 3/ 39؛ والسراج الوهاج، ص 139؛ والبحر الزخار: 3/ 253؛ وعدة من كتبهم الأخرى.

(2)

الوسائل: ج10، الباب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح1؛ عن التهذيب: 4/ 204، ح 589؛ والاستبصار: 2/ 83، 265؛ والكافي: 4/ 110، ح 3؛ والفقيه: 2 / 69

(3)

الوسائل: ج 10، الباب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 2؛ عن الكافي: 4 / 110، ح6

(4)

التهذيب: 4/ 204، ح 559؛ الاستبصار: 2/ 83، 257

(5)

التهذيب: 4/ 204، ح 1؛ الاستبصار: 2/ 83، 257

(6)

التهذيب: 4/ 325، ح 1005

ص: 681

الجهة الثانية: في الحكم الوضعي، أعني بطلان الصوم بالاحتقان بالمايع وعدمه، وفيه قولان:

الأول: عدم البطلان كما حكي عن جملة من كتب الشيخ، وعن ابن إدريس والمحقق في المعتبر، وقواه صاحب المدارك، وتردد فيه صاحب الشرايع، ويظهر من الموسوعة الكويتية أنه رأي غير مشهور عند المالكية. (1)

الثاني: البطلان كما حكي عن جماعة، وادعي عدم الخلاف فيه، واعتبرته الموسوعة الكويتية مذهب الجمهور، وهو مشهور مذهب المالكية ومنصوص خليل، وهو معلل بأنه يصل به الماء إلى الجوف من منفذ مفتوح، وبأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل، وبأنه أبلغ وأولى بوجوب القضاء من الاستعاط، استدراكًا للفريضة الفاسدة (2)

والحق هو الثاني، لأنه ثبت عدم جوازه مباشرة في الجهة الأولى، وقد ذكر الأصوليون أن النهي في المركبات الخارجية إرشاد إلى الحكم الوضعي، فتثبت مفطرية الاحتقان بالمائع.

فإذن لا مجال للاستدلال على عدم البطلان بالرواية الحاصرة والأصل، لوجود الدليل على البطلان، فيخصص عموم مفهوم الحصر، ولا وجه للرجوع إلى الأصل مع وجود الدليل.

تنبيه: لا يخفى أنه لا فرق في مفطرية الحقنة بين الاختيار والاضطرار لمعالجة المرض لأمرين:

1 -

ظاهر الصحيحة.

2 -

إطلاق الموثقة.

(1) 28 /38

(2)

28 /38، وقد ذكرت مصادر الأقوال.

ص: 682

الجهة الثالثة: في وجوب الكفارة بالاحتقان وعدمه.

الأقوى الوجوب، وحكي عليه الإجماع؛ لإطلاق ما دل على أن من أفطر متعمدًا فعليه كذا؛ فإنه يشمل الإفطار بالأكل والشرب وغيرها، والظاهر أنه لا منشأ لدعوى الانسباق (1) إلى الإفطار بالأكل والشرب فقط؛ كما يتضح بالرجوع إلى اللغة والاستعمالات، كما استعمل في الإفطار بالكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. (2) واستعمل أيضًا كثيرًا في مقابل الصوم.

هذا وذكرت الموسوعة الكويتية أن الكفارة لا تجب لعدم استكمال الجناية على الصوم صورة ومعنى، كما هو سبب الكفارة، واستدل المرغيناني وغيره للإفطار بالاحتقان وغيره كالاستعاط والإفطار بحديث عائشة:" إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج وقول ابن عباس: " الفطر مما دخل وليس مما يخرج ". (3)

والحاصل: أن الحق مفطرية الاحتقان بالمائع وإيجابه الكفارة.

المقام الثاني: في الاحتقان بالجامد.

الحق عدم الحرمة كما نسب إلى المشهور لدى الإمامية.

وخالف جماعة من الإمامية فذهبوا إلى الحرمة، كما حكي التصريح به عن المحقق في المعتبر، والعلامة في المختلف، وصاحب المدارك، وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة يفطر، لأنه واصل إلى الجوف باختياره فأشبه الأكل. (4) وللحنفية تفصيل، وللمالكية أقوال.

والدليل على المختار أمور:

الأول: الروايات الخاصة:

الأولى: موثقة الحسن بن فضال المروية سابقًا (5) حيث صرح فيها بعدم البأس بالجامد.

الثانية: صحيحة علي بن جعفر، وهي: ما رواه محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل والمرأة، هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء وهما صائمان؟ قال: لا بأس.

ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن جعفر (6) والرواية صحيحة بطريقيها، لجلالة شأن محمد بن يعقوب وشيخه محمد بن يحيى، وعلي بن جعفر لا يحتاج إلى التعرض، والعمركي بن علي أيضًا موثق كما وثقه النجاشي، وإسناد الشيخ إلى علي بن جعفر أيضًا صحيح.

(1) كما ادعاه المحقق الهمداني، ولذا قال: فالقول بعدم الكفارة على تقدير عدم كونه إجماعيًّا أيضًا أشبه بالقواعد. انتهى؛ وعن الحنفية والحنابلة أيضًا عدة ما في ما يوجب القضاء دون الكفارة، كما في الفقه على مذاهب الأربعة للجزيري: 1/ 565، 567

(2)

الوسائل ج 10 الباب 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 1

(3)

الموسوعة الكويتية: 28/ 38، 39

(4)

المغني: 3/ 37؛ وكشاف القناع: 2/ 318

(5)

الوسائل/ ج 10، الباب 5 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 1 عن الكافي: 4 / 110 م 5

(6)

التهذيب: 4/ 325، ح 1005

ص: 683

تقريب الاستدلال: أنها تدل على جواز الاحتقان بالجامد، إما بترك الاستفصال الدالة على العموم، وإما باختصاصها بالجامد بناء على تقييدها بما دل على عدم جواز الاحتقان بالمائع، كما مر آنفًا.

إن قلت: إنهما معارضتان بصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر الدالة على عدم جواز الاحتقان للصائم، كما تقدم البحث عنه مفصلًا.

قلت:

أولًا: أن صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر لا تشمل الاحتقان بالجامد؛ لمكان انصراف لفظة الاحتقان عن استدخال الجامد، وعدم صدقه عليه عرفًا.

وثانياً: على تقدير عدم إحراز الانصراف، لا أقل من الشك في صدق الاحتقان في الجامد، فلا تشمله الصحيحة؛ لأن التمسك بالعام والمطلق في الشبهة المصداقية ممنوع قطعًا.

وثالثاً: على تقدير شمول الصحيحة للاحتقان بالجامد، لابد من تقييده بالموثقة الدالة على عدم البأس بالجامد، كما سبق ذكرها.

الثاني: الحصر الوارد في بعض الروايات الدال على عدم البأس بغيرها؛ لأن الاحتقان بالجامد ليس أحدها.

الثالث: الأصل الذي نقحناه في المقدمة الرابعة.

فتحقق مما ذكرنا أن الحق عدم حرمة الاحتقان بالجامد.

ومما ذكر تبين حكم إدخال الرجل الدواء إلى باطنه من منفذ قبله.

ص: 684

الفرع الثاني: ما يدخل الجسم عبر الجهاز التنفسي من الأدوية كالبخاخ للربو وكل ما يستنشق، ويتصور لهذا الفرع شقوق متعددة؛ لأن هذه الأدوية إما أن تصل إلى الجوف من طريق الحلق أيضًا أو لا، وأيضاً إما تحمل مواد كثيرة بحيث يصدق معها الأكل أو الشرب أو لا، فالشقوق أربعة.

والظاهر مفطرية الشق الثالث، لصدق الأكل أو الشرب، وأما سائر الشقوق ففيها وجهان:

الأول: عدم المفطرية، وهو الحق.

والدليل عليه أمور:

الأول: أن المفطرات محصورة في أمور ليس التداوي بهذه الصور الثلاث أحدها، لعدم صدق الأكل والشرب، فيدخل في عموم المستفاد من المفهوم، وهو عدم مفطرية غير المذكورات في الصحيحة.

الثاني: ما رواه الشيخ (1) بإسناده عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضَّال، عن عمرو بن سعيد، عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه؟ فقال: جائز لا بأس به. كلام حول السند:

عبر بعض الأعاظم عن الرواية بالموثقة: لأن عمرو بن سعيد ثقة كما وثقه النجاشي، وإن كان فطحيَّ المذهب، وكذا أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ثقة، كما وثقه النجاشي والشيخ، وإن كان فطحيًّا على ما قيل، لعدم قدح اختلاف المذهب في قبول رواية الراوي لو كان ثقة. وإسناد الشيخ إلى أحمد بن الحسن بن علي بن فضال صحيح أيضًا.

ولكن الحق، أن صحة إسناد الشيخ إليه لا يجدي في تصحيح هذه الرواية؛ لأن إسناد الشيخ على ما صرح به نفسه إنما هو بالنسبة إلى كتابيه الصلاة والوضوء، ولا نعلم أنه نقل هذه الرواية منهما أم من كتبه الأخرى، فتسقط عن الاعتبار.

تقريب الاستدلال: أن المتفاهم منها عرفًا أن الوجه في الجواز مع فرض الدخول في الحلق هو عدم تحقق عنوان المفطر هنا، وهو الأكل والشرب المأخوذ في بعض الأدلة، والطعام والشراب المأخوذ في بعض آخر، وبهذا يسري الجواز إلى ما يشبه الدخنة إذا دخل الحلق، وبالأولوية يسري إلى ما لا يدخل في الحلق.

الثالث: الأصل.

(1) الوسائل: ج 10، الباب 22 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 2 عن التهذيب: 4/ 324

ص: 685

الوجه الثاني: ويمكن أن يستدل له بأمرين:

الأول: ما يستفاد من الأدلة الدالة على مفطرية الغبار من مفطرية كل ما يدخل الجوف غير الهواء الذي لابد منه.

ويرده: أنه حكم تعتدي، فيقتصر على مورده، ومما يدل على عدم كونه مفطرا من جهة كونه مصداقا للأكل ما ورد في بعض رواياتها، فإن ذلك له مفطر مثل الأكل والشرب والنكاح (1)

الثاني: استقرار سيرة المتشرعة على التحزز عن الدخان، فيسري حكمه إلى غيره.

والجواب واضح؛ لأن اتصال هذه السيرة إلى زمان المعصوم عليه السلام غير محرز، بل محرز العدم، هذا أولًا.

وثانياً: لا وجه أصلًا لإسراء حكم المستفاد من السيرة الواجدة للشرائط في مورد إلى غير مورده وإن كان مشابهاً لها.

فتحصل أن الحق في المسألة الجواز.

الفرع الثالث: ما يكون استعماله مقصورًا على الفم من العلاج كالغرغرة وقلع السن.

يستفاد حكم هذا الفرع مما سبق، وأن الحق الجواز، إلا إذا أدخل الماء أو الدواء أو الدم إلى الجوف من طريق الحلق، أو علم بأن الغرغرة وقلع السن وما شابهما تلازم وصول الماء وغيره إلى الحلق، بل يمكن أن يقال بلزوم كفارة الجمع إذا أوصل الدم في قلع السن إلى جوفه من طريق الحلق، لصدق الإفطار بالمحرم.

فالحق أن قلع السن جائز، ولكن هناك رواية موثقة تدل على المنع وهي:

ما رواه محمد بن يعقوب (2) عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله عليه السلام في الصائم ينزع ضرسه؛ قال: لا، ولا يدمي فاه، ولا يستاك بعود رطب.

ورواه محمد بن علي بن الحسين (3) بإسناده عن عمار بن موسى الساباطي مثله إلى قوله: ولا يدمي فمه.

ودلالتها على عدم جواز نزع الضرس واضحة، ولا دليل على رفع اليد عن هذا الظهور، وإن قام دليل على إرادة الكراهة في الاستياك بالعود الرطب مثلًا، فلا يلزم منه رفع اليد عن ظهورها في الحرمة في نزع الضرس.

والسند أيضًا معتبر، وإن كان فيه الفطحيون لوثاقتهم.

فما العلاج؟ الظاهر أنه لا يمكن الاعتماد للإجماع على خلافها، ولعله لذا أفتى جماعة بالكراهة.

(1) راجع الوسائل، كتاب الصوم، باب 22 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

(2)

الكافي: 4/ 112، ح 4؛ الوسائل: 10 الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 3

(3)

الفقيه: 2/ 70، ح 294

ص: 686

الفرع الرابع: ما يكون محله البطن كإدخال المناظير للجوف، وأخذ عينة من الكبد وغيره، الظاهر أن ما كان منها يدخل المعدة من طريق الحلق إذا كان بحيث يصدق عليه الأكل فهو مفطر، خصوصًا إذا كانت تلك الآلة مستصحبة لشيء من الأدوية جاعلة لها في المعدة، وأما إذا لم يكن بحيث يصدق عليه الأكل فلا دليل على حرمتها، بل يدخل في العموم المستفاد من الحصر، فيحكم بالجواز مضافًا إلى الأصل.

نعم إذا كان إخراجه من المعدة إلى الخارج بإرادة من الصائم، بحيث يصدق عليه القيء فيدخل في عنوان القيء، وحينئذ يكون محكومًا بحكمه. وأما ما كان منها ما يدخل الباطن غير المعدة، أو من غير طريق الحلق فالظاهر الجواز مطلقًا، لعدم صدق الأكل والشرب والطعام والشراب، فيدل مفهوم الحصر ثم الأصل على جوازه.

الفرع الخامس: ما قد يصل إلى الجسم عبر الجلد كالحقن في الجلد والعضل، وأدوية يمتصها الجسم عبر الجلد، وما شاكل ذلك.

الظاهر: أنه لا بأس بها، لعدم صدق عنواني الأكل والشرب، فيدخل في مفهوم الحصر، فيحكم بالجواز مضافًا إلى الأصل.

نعم هناك أمر عام ننبه عليه آخر البحث إن شاء الله تعالى.

الفرع السادس: ما قد يصل إلى الجسم عبر الأوعية الدموية، مثل الأوردة والشرايين، كسحب الدم أو إدخاله (نقله) والفصد والحجامة.

هذا الفرع مشتمل على أمرين:

1-

إدخال الدم بالآلات الحديثة.

2 -

إخراج الدم.

أما الأول: فالظاهر أنه غير مفطر لعدم صدق الأكل والشرب، فيدخل في مفهوم الحصر الدال على الجواز إلا أن يكون ذلك بحيث يصدق عليه التغذي، فيأتي فيه ما وعدنا ذكره آخر البحث.

وأما الثاني: فلا إشكال في الجواز، سواء أكان بالآلات الحديثة أو بالفصد، نعم يمكن أن يقال بالكراهة في بعضها، كما سيأتي تفصيله في البحث عن الحجامة.

ص: 687

وأما الحجامة فالظاهر أنها ليست بمفطرة كما ادعي عليه الإجماع، وإنما ذهب جماعة إلى الكراهة، ولفقهاء السنة فيها أقوال ثلاثة:

1-

القول بالمفطرية، ذهب إليه أحمد وداود والأوزاعي وإسحاق بن راهويه.

2-

القول بالكراهة، ذهب إليه مالك والشافعي والثوري.

3-

الإباحة، ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه. (1)

ولكن الحق عدم المفطرية، وأما الكراهة فيأتي الكلام فيها. والدليل على المختار قبل الإجماع أمور:

الأول: عموم المستفاد من الحصر.

الثاني: النصوص الخاصة:

1 -

مثل ما رواه الشيخ (2) بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله، عن أبيه عليهما السلام قال: ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء، والاحتلام، والحجامة، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان لا يرى بأسًا بالكحل وهو صائم. والرواية معتبرة لصحة إسناد الشيخ إلى الحسين بن سعيد، ووثاقة الحسين نفسه بتوثيق الشيخ، وحماد بن عيسى بتوثيق النجاشي والشيخ، وعبد الله بن ميمون بتوثيق النجاشي.

تنبيه: نقل صاحب الوسائل هذه الرواية في موارد متعددة (3) عن الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، مع أن الموجود في التهذيب والاستبصار المطبوعين هو رواية الشيخ عن محمد بن يعقوب عن حماد بن عيسى، كما هو كذلك في جامع أحاديث الشيعة. (4)

ولكن لا يخفى أنه لا يقدح ذلك في حجية الرواية، لصحة إسناد الشيخ إلى محمد بن يعقوب أيضًا.

2 -

وما رواه محمد بن يعقوب (5) عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه جميعًا، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الصائم، أيحتجم؟ فقال: إني أتخوف عليه، أمَا يتخوف على نفسه؟ قلت: ماذا يتخوف عليه؟ قال: الغشيان أو تثور به مرة، قلت: أرأيت إن قوي على ذلك ولم يخش شيئا؟ قال: نعم إن شاء.

ورواه الشيخ (6) بإسناده عن محمد بن يعقوب.

ورواه أيضًا الصدوق بإسناده عن الحلبي (7)

والرواية معتبرة، كما يتضح بالرجوع إلى أصول الرجال.

3 -

وما رواه البخاري في الصحيح، قال: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم (8)

والرواية صحيحة على ما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد. (9)

(1) بداية المجتهد: 1/ 300

(2)

التهذيب: 4/ 260، ح 775؛ الاستبصار: 2/ 90، ح 3

(3)

منها: ج 10، الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 11

(4)

9/ 238

(5)

الكافي: 4/ 109 ح 1

(6)

التهذيب: 4/ 261، ح 777؛ والاستبصار: 2/ 91، ح 290

(7)

الفقيه: 2/ 68، 287

(8)

صحيح البخاري: 1/ 332، باب الحجامة والقيء.

(9)

1/ 300

ص: 688

الثالث: الأصل

وأما الكراهة: فقد ذهب إليها جماعة.

والمستند في ذلك الروايات كما يتضح بالرجوع إلى الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم من الوسائل، ولا تحتاج إلى الذكر.

ولكن في النفس بالنسبة إلى الكراهة شيء، للتعليل الوارد في بعض الروايات بخشية الغشيان والخوف على النفس، فإنه ظاهر في الإرشاد إلى المفسدة، وليس حكما تعبديًّا حتى يستفاد منه الكراهة شرعًا.

نعم لا بأس بالقول بالكراهة بناء على تمامية قاعدة التسامح وجريانها في المكروهات.

وأما القول بالحرمة:

فاستدل له بما روي من طريق ثوبان ومن طريق رافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) .

قال ابن رشد (1) : وحديث ثوبان هذا كان يصححه أحمد.

وفي دلالتها - على تقدير صحة السند - ما لا يخفى، فإنا نعلم بعدم بطلان صوم الحاجم، فلابد من حمل الإفطار على معنى آخر.

كما رواه الصدوق (2) عن أحمد بن الحسن القطان، عن أحمد بن محمد بن يحيى بن زكريا، عن بكر بن عبد الله بن حبيب، عن تيم بن بهلول، عن أبي معاوية، عن سليمان بن مهران، عن عباية بن ربعي - في حديث - قال: سألت ابن عباس عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى من يحتجم في شهر رمضان: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ، فقال: إنما أفطرا لأنهما تسابا وكذبا في سبهما على النبي صلى الله عليه وسلم، لا للحجامة، هذا أولًا.

وثانياً: أنها معارضة بما يدل على الجواز، فإن رجحنا الروايات الدالة على الجواز بموافقتها لعمومات الكتاب فهو، وإلا فلابد أن نرجع بعد تساقطها إلى العموم المستفاد من الحصر ثم إلى الأصل.

فلا وجه للقول بالحرمة قطعًا.

ولابن قدامة (3) في الدفاع عن القول بالحرمة كلام حول حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) لا يخلو من مناقشات، فراجع.

(1) 1 /300

(2)

عيون أخبار الرضا، ص 319، ح 1؛ الوسائل، الباب 26 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 9

(3)

المغني: 3/ 37

ص: 689

الفرع السابع: ما يكون استعماله بالتقطير في العين أو الأنف أو الأذن.

والتحقيق: أنه إن وصل الدواء إلى الجوف من طريق الحلق بحيث يصدق الشرب فيكون مفطرًا، سواء أكان وروده من الأنف أم الأذن أم العين، وإن كان قد وصل الدواء إلى الجوف من غير طريق الحلق فهو مشكل.

وذهب إليه الشافعي ومالك (1)

والدليل عليه: أمران:

الأول: إطلاقات مفطرية الأكل والشرب، للضابط الذي أثبتناه سابقًا.

الثاني: مفهوم رواية علي بن جعفر الآتية.

: وإن لم يصل إلى الجوف من طريق الحلق فلا يكون مفطرًا.

ويستفاد من كلام ابن قدامة (2) نقلًا عن الشافعي المفطرية، حيث قال: أو ما يدخل من الآذان إلى الدماغ، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من دواء المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يفطره، لأنه واصل إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكل، وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه، سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه، وبهذا كفه قال الشافعي.

ويدل على ما اخترناه أمور:

الأول: العموم المستفاد من الحصر كما سبق توضيحه.

الثاني: النصوص الخاصة:

منها: ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الصائم: هل يصلح له أن يصب في أذنه الدهن؟ قال: إذا لم يدخل حلقه فلا بأس. (3)

ومنها: ما رواه محمد بن يعقوب، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان قال: سأل ابن أبي يعفور أبا عبد الله عليه السلام أنا أسمع -: عن الصائم يصب الدواء في أذنه؟ قال: نعم.

وهي تدل على الجواز إذا لم يدخل الحلق، إما بالإطلاق المستفاد من ترك الاستفصال، أو باختصاصها بما إذا لم يدخل الحلق بناء على تقييدها بالمفهوم المستفاد من رواية علي بن جعفر (4)

(1) المغني: 3/ 37

(2)

المغني: 3/ 37

(3)

الوسائل، ط. آل البيت عليهم السلام: 10/ 73، ح 5 عن كتاب مسائل علي بن جعفر، ص 110، ح23

(4)

الوسائل، ط. آل البيت عليهم السلام: 10/ 73، ح 5، عن كتاب مسائل علي بن جعفر، ص 110، ح 4

ص: 690

الثالث: الأصل:

وأما ما ذهب إليه الإمام الشافعي وما استند إليه فيظهر الخدش فيها مما ذكرناه هنا وما ذكرناه سابقًا، فقد استدل له: بأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل، ولكن ما الدليل على مفطرية ما شابه الأكل؟

الفرعين الثامن والتاسع: التداوي بالحقن (الإبر) في العضل أو الأَلية أو الأوردة وحقن الحقن الغذائية، قد تبين حكمها مما ذكرناه سابقًا وأن التحقيق عدم كونها مفطرة.

لكن هنا كلام وهو:

أنه لما كان من المحتمل كون مفطرية الأكل والشرب من جهة التغذي، وأن التغذي هو المفطر واقعًا، وإن لم يؤخذ في الأدلة موضوعًا، فلابد من الاحتياط وجوبًا في التداوي بما يصدق عليه التغذي كالحقن الغذائية بأقسامها، وضخ الدم إذا صدق عليه عنوان التغذي.

وكذلك لابد من الاحتياط وجوبًا في بلع ما ليس بمأكول ولا مشروب كالحديدة، إذ لا يصدق عليه التغذي وإن كان يصدق عليه أكل الحديدة، وهذا الأمر هو الذي أشرنا إليه في بعض الفروع السابقة، ووعدنا التنبيه عليه.

ص: 691

المجال الثاني - ضابط الإفطار في مجال الحالات المرضية:

يقع البحث هنا في مجالات عديدة أهمها:

الأول: في أقسام المرض وما يترتب عليها من أحكام (وجوب الإفطار أو جوازه أو حرمته) والضابط فيها.

الثاني: في ضابط تشخيص المرض، وهل هو اليقين به أو الظن به أو احتماله.

الثالث: في تبعات الإفطار من فدية وقضاء وغيرها.

وسوف لن نتحدث عن البحث الثالث فله مجاله، وإنما سنقصر بحثنا على المجالين (الأول والثاني) لأنهما محل التساؤل هنا.

البحث الأول: حول أقسام المرض وما يترتب عليها من أحكام:

من خلال ملاحظة النصوص وأقوال الفقهاء يتبين لنا أن المعيار في التقسيم هو مدى الضرر والحرج الذي يلحق بالمكلف جراء قيامه بالصوم، والضرر والحرج منفيان بالنصوص إما بعنوانيهما - كما هو واضح - أو بعنوان المرض أو الشيخوخة أو الحمل أو الإرضاع أو العطش أو غيرها، وبطبيعة الحال فإن الأحكام وتبعاتها تتفاوت بتفاوت مقادير الضرر بما ينسجم وقاعدة اليسر في الشريعة الإسلامية، وهذا ما نلحظه فيما يلي:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } [البقرة: 183- 185]

فالمرض والسفر يعرضان على الإنسان فيسقط عنه الحكم، وعليه أن يقضي في أيام أخر تحقيقًا لليسر الإسلاميّ، ولكن هناك فئة يمكنها أن تفعل ذلك بمشقة، ومع ذلك فقد رخص لها الترك على تفصيل.

ص: 692

بعض الروايات الواردة: عن أبي عبد الله الصادق قال: اشتكت أم سلمة رحمها الله عينها في شهر رمضان، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفطر وقال:((عشا الليل لعينك ردي)) (1)

قال محمد بن مسلم: سمعت أبا جعفر (يعني الباقر عليه السلام يقول: الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا شهر رمضان، ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمدٍّ من طعام، ولا قضاء عليهما، وإن لم يقدرا فلا شيء عليهما. (2)

وعن رفاعة عن أبي عبد الله (يعني الصادق عليه السلام في قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير (3)

وعن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يصيبه العطاش حتى يخاف على نفسه، قال: يشرب بقدر ما يمسك رمقه، ولا يشرب حتى يروى. (4)

وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان، لأنهما لا تطيقان الصوم، وعليهما أن تصدق كل واحدة منهما في كل يوم تفطر فيه بمد من طعام، وعليهما قضاء كل يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد. (5)

وعن الوليد بن صبيح قال: حممت بالمدينة يومًا من شهر رمضان، فبعث إلي أبو عبد الله بقصعة فيها خل وزيت، وقال: أفطر، وصلِّ وأنت قاعد. (6)

وعن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر (7)

وعن بكر بن محمد الأزدي قال: سأله (يعني الصادق عليه السلام أي عن حد المرض الذي يترك الإنسان فيه الصوم، قال: إذا لم يستطع أن يتسحر. (8)

وروى الصدوق عنه عليه السلام قوله: كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب. (9)

وعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله: ما حد المريض إذا نقه في الصيام؟ فقال: ذلك إليه ، هو أعلم بنفسه إذا قوي فليصم. (10)

وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: كل شيء من المرض أضر به الصوم فهو يسعه ترك الصوم.

جاء في الموسوعة الكويتية: فالمريض الذي يخاف زيادة مرضه بالصوم أو إبطاء البرء أو فساد عضو؛ له أن يفطر، بل يسن فطره ويكره إتمامه، لأنه قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه. (11)

ونقلت عن الحنفية قولهم: إذا خاف الصحيح المرض بغلبة الظن فله الفطر، فإن خافه بمجرد الوهم فليس له الفطر.

(1) وسائل الشيعة: 7/ 155

(2)

وسائل الشيعة: 7/ 155 ص 150

(3)

وسائل الشيعة: ص 151

(4)

وسائل الشيعة، ص 153

(5)

وسائل الشيعة، ص 153

(6)

وسائل الشيعة، ص 155

(7)

وسائل الشيعة، ص 155

(8)

وسائل الشيعة، ص 156

(9)

وسائل الشيعة، ص 156

(10)

وسائل الشيعة، ص 156

(11)

الموسوعة الكويتية: 28/ 45، وأرجعت هذا إلى حاشية القليوبي على شرح المحلى، ص 1 - 83؛ وكشاف القناع، ص 2 - 310؛ ومراقي الفلاح، ص 373؛ ورد المحتار، ص 2-116

ص: 693

وعن المالكية: إذا خاف حصول أصل المرض بصومه فإنه لا يجوز له الفطر على المشهور؛ إذ لعله لا ينزل به المرض إذا صام، وقيل: يجوز له الفطر.

فإن خاف كل من المريض والصحيح الهلاك على نفسه بصومه وجب الفطر، ولذا لو خاف أذى شديدًا كتعطيل منفعة من سمع أو بصر أو غيرهما وجب الفطر؛ لأن حفظ النفس والمنافع واجب، وهذا بخلاف الجهد الشديد فإنه يبيح الفطر للمريض، قيل: والصحيح أيضًا.

وقال الشافعية: إن المريض - وإن تعدى بفعل ما أمرضه - يباح له ترك الصوم، إذا وجد به ضررًا شديدًا، لكنهم شرطوا لجواز فطره نية الترخص - كما قال الرملي واعتمد -: وفرقوا بين المرض المطبق، وبين المرض المتقطع (من حيث النية في الليل)

ولخص ابن جزي من المالكية أحوال المريض بالنسبة إلى الصوم وقال: للمريض أحوال:

الأولى: أن لا يقدر على الصوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب.

الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة، فالفطر له جائز، وقال ابن العزي: مستحب.

الثالثة: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان.

الرابعة: أن لا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور، خلافًا لابن سيرين. (1)

وعن الحامل والمرضعة اتفق الفقهاء على جواز الفطر إن خافتا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته أو الضرر أو الهلاك.

ولا خلاف بينهم في جواز إفطار من أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد، وكذلك من يخاف الضعف عند لقاء العدو.

وتصريحات الإمامية تقرب من هذه الفتاوى.

فقد ذكر الشيخ المفيد من متقدميهم في المقنعة: " والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إذا لم يطيقا الصيام وعجزا عنه فقد سقط عنهما فرضه ووسعهما الإفطار، ولا كفارة عليهما، وإذا أطاقاه بمشقة عظيمة وكان يمرضهما إذا فعلاه أو يضرهما ضررا بينًا وسعهما الإفطار، وعليهما أن يكفرا عن كل يوم بمد من طعام ".

ثم حدَّ المرض قائلاً: " إذا عرض للإنسان مرض فكان الصوم يزيد فيه زيادة بينة وجب عليه الإفطار، فإن كان يزيد عليه يسيرًا أو لا يزيد فيه فعليه التمام ". (2)

(1) الموسوعة الكويتية: 28/ 46

(2)

الينابيع الفقهية، ص 73

ص: 694

وكذلك نجد السيد المرتضى يحد المرض بأنه " الذي يخشى أن يزيد فيه الصوم زيادة بينة ". (1)

وكذا نجد الشيخ الطوسي يقول في النهاية: " وحد المرض إذا علم الإنسان من نفسه أنه إن صام زاد ذلك في مرضه أو أضر به، وسواء الحكم في الجسم، أو يكون رمدًا أو وجع الأضراس فإنه عند جميع ذلك يجب الإفطار مع الخوف من الضرر ".

وإذا انتقلنا إلى المتأخرين من الإمامية نجد هذه المعايير تتكرر بشيء من التفصيل والاستدلال.

يقول صاحب الجواهر: " لا خلاف ولا إشكال في أنه يصح الصوم من المريض ما لم يستضر به، لإطلاق الأدلة السالم عن معارضة إطلاق ما دل على الإفطار للمريض من الآية والرواية، بعد معلومية كون المراد منه خصوص المتضرر به منه نصًّا وفتوى لا مطلق المرض، وعلى ذلك ينزل خبر عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام: " في رجل صام وهو مريض قال: يتم صومه ولا يعيد، يجزيه ، ضرورة عدم جواز الصوم للمريض الذي يتضرر بالصوم بزيادة مرضه أو بطء برئه أو حدوث مرضي آخر أو مشقة لا تتحمل أو نحو ذلك، وأنه إذا تكلفه مع ذلك لم يجزه، بل كان آثمًا بلا خلاف أجده فيه ". (2)

وبعد بحث عن مدى تشخيص الضرر يقول: " وكيف كان فقد ظهر لك أن المدار في الإفطار على خوف الضرر من غير فرق بين المريض والصحيح في ذلك؛ لإطلاق قوله عليه السلام: " كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب ". ولأنه المناسب لمقتضى سهولة الملة وسماحتها وإرادة الله اليسر بالناس دون العسر، ولظهور النصوص في أن المبيح للفطر في المريض الضرر، فلا يتفاوت بين الصحيح والمريض معه ". (3)

وذكر المرحوم السيد كاظم اليزدي في (العروة الوثقى) أن من شرائط صحة الصوم: عدم المرض أو الرمد الذي يضره الصوم لإيجابه شدته، أو طول برئه، أو شدة ألمه أو نحو ذلك، ثم ذكر أنه لا يكفي الضعف وإن كان مفرطًا ما دام يُتحمل عادة، نعم لو كان مما لا يتحمل عادة جاز الإفطار، وهذا ما أيده المرحوم السيد الحكيم مستدلًا له في (مستمسكه) . (4)

(1) الينابيع الفقهية، ص 93

(2)

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 16/ 345

(3)

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ص 348

(4)

مستمسك العروة الوثقى: 8/ 418 - 420

ص: 695

النتيجة:

من كل ما رأيناه نستطيع أن نصل إلى النتيجة التالية:

أن المعيار في الأمر هو الضرر الذي يصيب المكلف من الصوم لا غير، لأنه المستفاد من الآية بالظهور العرفي وهو ما أكدته الروايات، وقد رأينا الإمام الصادق عليه السلام يعطي هذه القاعدة:"كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب" مستفيدًا ذلك من ظهور الآية الشريفة، كما رأينا الفقهاء يفهمون ذلك أيضًا بملاحظة ما ذكرته الآية من أن الله تعالى يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.

يبقى أن نذكر أن الضرر ينقسم إلى أقسام، فيتفاوت الحكم معها، فهناك:

أولًا: الأثر اليسير الذي يتحمل عادة بل قد لا يعتبر في نظر العرف ضررًا - كالضعف مثلًا - وحينئذ يبقى المكلف معه مشمولا لإطلاقات أدلة التكليف بالصوم، ولا يمكن تخصيصها بهذه الأدلة.

وهناك ثانيًا: الفعل الذي يشكل مجرد مشقة يصعب تحملها عادة، وهذا يبيح الإفطار بمقتضى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] مع جواز الصيام كما تدل عليه الأدلة.

وأخيرًا نجد ثالثًا: الضرر العرفي، وفي هذه الحالة يأثم الإنسان مع الإتيان به، ويتوقف فساد العبادة على نتيجة البحث عن اقتضاء النهي فساد العبادة أم لا، وهو بحث أصولي لا محل له هنا.

البحث الثاني: في ضابط تشخيص المرض أو (الضرر) .

لا ريب في أن تشخيص الضرر باليقين يترك الأثر المطلوب، وكذلك التشخيص بالظن، لأنه المفهوم العرفي من الأدلة، ولكن وقع البحث في مجرد احتمال الضرر الموجب ما للخوف، وهل يبيح الإفطار أو يحرمه أم لا؟

ونقطة التشكيك تنبع من:

التشكيك في صدق الخوف من الضرر (الوارد في الروايات) مع مجرد احتماله، وهو مرفوض على الظاهر، فإن الخوف حاصل بمجرد احتمال الضرر احتمالا عرفيًّا، وعندما يصدق الخوف يمكن التمسك برواياته.

ويمكن أن يقال: إن أدلة نفي الضرر والحرج ورفع التكليف عن المريض باعتبار ضرره إنما تحمل ظاهرًا على الاحتمالات العرفية، والمفروض أنها متوفرة في البين.

ومن هنا يعلم أن الاحتمال إن لم يكن عرفيا لا قيمة له.

وقد رأينا أن الروايات أوكلت الأمر إلى المكلف نفسه وجعلته المعيار في الأمر، بتعبيرات من قبيل:"هو مؤتمن عليه مفوض إليه" أو: "ذلك إليه، هو أعلم بنفسه" فهو يتصرف بذهنه العرفي، ويشخص الموضوع بما يحقق له المجوز للإفطار.

* * *

ص: 696

خلاصة البحث

انقسم البحث كما هو مقرر إلى مجالين:

المجال الأول: ضابط المفطرات في مجال التداوي.

وقد ذكرنا مقدمات قبل تحقيق الضابط هذا، وهي:

أ- بعض النصوص الدالة على مفطرية الأكل والشرب، وهي توكل الأمر بطبيعة الحال إلى اللغة والعرف.

ب - حقيقتهما لدى اللغويين والعرف.

ج - تحقيق معنى الصيام في اللغة وأقوال الفقهاء.

د - الحديث عن الأصل الذي نرجع إليه عند الشك.

وبعد ذلك دخلنا في صميم الموضوع وهو تعيين الضابط من خلال البحث في مقامين:

الأول: في مفطرية إيصال ما ليس بمتعارف إلى الجوف من طريق الحلق، وبعد استعراض أقوال العلماء واستدلالاتهم وصلنا إلى النتيجة التالية:

1-

أن الأكل والشرب يفطران الصائم سواء كان ما يصل الجوف مما يتعارف أكله وشربه أم لا.

2 -

أن ضابط الأكل والشرب هو إيصال الشيء إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق.

الثاني: في مفطرية إيصال الشيء - ولو كان متعارفًا - إلى الجوف من غير الطريق المتعارف كالأنف والعين، وتوصلنا لما يلي:

1 -

إذا كان الإيصال إلى الجوف بالإرادة من طريق الحلق يصدق الأكل والشرب، فيكون مفطرًا.

2 -

أما إذا كان من غير طريق الحلق فلا يصدق العنوانان عليه، وفرَّعنا على هذه النتائج فروعًا هي:

الأول: ما يدخل من أحد السبيلين (القبل والدبر) . ورأينا أنه لا مانع من عملية تنظيف الرحم، حتى ولو كانت مصاحبة لمائع، وكذلك بالنسبة للتحاميل.

أما الحقن الشرجية فقد رأينا أن الحقنة بالمائع محرمة تكليفًا، أما بطلان الصوم بها، فرغم الاختلاف فيها رجحنا مسألة البطلان ووجوب الكفارة، خلافًا لما ذكرته الموسوعة الكويتية.

وفي حال كون الاحتقان بالجامد فقد رأينا أنه أمر غير محرم.

الثاني: ما يدخل إلى الجسم عبر الجهاز التنفسي من الأدوية، فقد رأينا:

أ- أن هذه الأدوية إن دخلت إلى الجوف عن طريق الحلق وحملت معها مواد يصدق عليها عنوان الأكل والشرب فهي مفطرة.

2 -

وفيما عدا ذلك استقر الرأي على الجواز.

ص: 697

الثالث: ما يكون استعماله مقصورًا على الفم من العلاج كالغرغرة وقلع السن، وحكمه الجواز ما لم يصل إلى الجوف.

الرابع: ما يكون محله البطن كإدخال المناظير إلى الجوف، والظاهر أنها لا تفطر إلا إذا حملت معها أدوية إلى المعدة، أو أخرجت شيئًا يصدق عليه القيء.

الخامس: عدم المانع من ما يصل إلى الجسم عبر الجلد.

السادس: ما قد يصل إلى الجسم عبر الأوعية الدموية، وفيه صورتان:

إخراص الدم، وإدخال دم إضافي.

أما الإخراج فلم نر أنه مفطر، وأما إدخال الدم أو الحقن بالإبر للمغذي وغيره فلم نر منه مانعًا، إلا أننا أكدنا على الاحتياط وجوبًا إذا كان يصدق عليه عنوان التغذية.

السابع: ما يكون استعماله بالتقطير في العين أو الأنف أو الأذن.

فإذا دخل إلى الجوف عن طريق الحلق كان مفطرًا، أما إذا دخل إلى الجوف من غير طريق الحلق فقد تم التوقف فيه.

هذا كله في المجال الأول.

المجال الثاني - ضابط الإفطار في الحالات المرضية:

وقد تحدثنا فيه عبر مقامين:

الأول: في أقسام المرض وما يترتب عليها من أحكام، ورأينا أن الضابط هو: الضرر الذي يصيب الإنسان من الصوم لا غير، عبر قاعدة ذكرها الإمام الصادق عليه السلام بقوله:" كل ما أضرَّ به الصوم فالإفطار له واجب ". وقسمنا آثار الصوم إلى ثلاثة:

ا - الأثر اليسير الذي يتحمل عادة كالضعف ويجب معه الصوم.

2 -

المشقة التي يصعب تحملها عادة، وهي تبيح الإفطار.

3 -

الضرر العرفي، وهو يوجب الإفطار ويأثم الإنسان لو ارتكبه، ويتوقف فساد العبادة المنهي عنها على البحث الأصولي هنا.

الثاني: أن ضابط تشخيص المرض هو اليقين والظن وحتى الاحتمال، شريطة أن يكون الاحتمال عرفيًا.

والله أعلم.

محمد علي التسخيري

ص: 698