الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذبائح
والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة
إعداد
سماحة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي
المفتي العام لسلطنة عمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث ووضع عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم منة منه وتكريما، فأحل لهم بهيمة الأنعام وكل ما كان نافعاً غير ضار من جنس الحيوان، وكرم الإنسان فلم يجعله كالسباع الكاسرة يعدو على البهيمة افتراسا ويقضم لحمها التهاما، بل شرع له الذكاة تطييبا للحم وإتماما للنعمة. والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه للعالمين رحمة وللثقلين هداية، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فإن الله سبحانه اختص الجنس البشري بالتكريم والتفضيل منة منه سبحانه وابتلاء لهذا المخلوق أيشكر أم يكفر؟ ومن مظاهر هذا التكريم البالغ ما نشهده من تسخير ما في الأرض من أجل منفعته، بل تسخير ما في الوجود بأسره ليتحقق به استخلافه في الأرض، وليصل به إلى القيام بما نيط به من تكاليف وواجبات، وشرائع وأحكام تجعله فريدا بين أجناس الموجودات في الأرض في أهليته للاضطلاع بهذه الأمانة الملقاة على عاتقه والواجب الذي شهد على حيزومه، والقرآن الكريم يعلن ذلك كله في قول الحق سبحانه:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]، وقوله سبحانه:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] .
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ} [الأنعام: 165]
ومن تسخيره تعالى ما في الأرض لمصلحة الإنسان تمكينه له من الحيوانات المختلفة التي تشاركه الوجود على ظهر هذا الكوكب المظلم، سواء ما كان منها على أديم اليابسة أو ما كان في أعماق البحار والمحيطات، أو ما كان يسبح في الفضاء طيراناً، وسواء ما كان منها صغير الحجم أو ضعيف القوة، وما كان عظيم الجسم قوي البنية مهيب السطوة، فإن سيطرة الإنسان عليها جميعا سيطرة غالبة وذلك بما منحه الله عز وجل من ملكات العقل ووسائل التدبير.
وقد جعل الله تعالى منافعها متفاوتة بحسب حاجة الإنسان إليها، وكيفية استغلاله لها، ومن بينها منفعة الغذاء الذي جعله الله قواما للأبدان، وهنا تتجلى وسطية الإسلام بين الإفراط والتفريط اللذين لا ينفك عنهما غيره من الأديان والأفكار والنظم، فهو يباين الديانة البرهمية التي تحرم على أتباعها أكل ذوات الأرواح جميعا، كما يباين المذهب الإباحي الذي لا يتقيد في ذلك بقيد ولا يقف عند حد، إذ الإسلام إنما يبيح الطيب دون الخبيث والنافع دون الضار، فلذلك أحل منها ما أحل وحرم منها ما حرم بحسب ما تقتضيه الحكمة الربانية من تحقيق منفعة العباد وتجنيبهم كل ما هو ضار.
على أن ما أباحه الإسلام من أجناس الحيوانات لم يكل إلى الإنسان إزهاق روحه بأي كيفية كانت، وإنما شرع لذلك أحكاما وحد حدودا تتلاءم مع الفطرة وتتواءم مع دواعي الرحمة التي تتدفق بها مشاعر الإنسان السليم، وبهذا ارتفع الإنسان عن دركات السبع الفتاك الذي يعدو على البهيمة فيفري أديمها ويمزع أشلاءها ويلتهم لحمها ولو لم تفارق الحياة جسمها، ويظهر ذلك جليا فيما أتى به الإسلام من أحكام الذكاة الشرعية التي فيها الرفق بالحيوان والسمو بالإنسان، كما تتحقق بها المصلحة وتندرئ بها المفسدة، وبما أن كثيرا من الأحكام المتعلقة بالذكاة اختلفت فيها أفهام أهل العلم فصارت موضع أخذ وردٍّ بين فقهاء الأمة رأى مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن المؤتمر الإسلامي ممثلا في شخص أمينة العام صاحب الفضيلة معالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة- حفظه الله- بحث بعض الموضوعات المتعلقة بذلك، وقد تكرم فضيلته فوجه إلي دعوة للمشاركة ببحث في ذلك بعنوان:(الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة) . وهو ينقسم حسب توجيه فضيلته إلى ثلاثة محاور:
المحور الأول: التذكية الشرعية شروطها وأحكام مخالفتها مما وقع إزهاق الروح فيه بالطرق الحديثة.
المحور الثاني: حكم ما جهل إسلام ذابحه مما حل أكل لحمه.
المحور الثالث: حكم اللحوم المستوردة.
المحور الأول
وهو ينقسم إلى مقدمة وأربعة مباحث.
المقدمة (في تعريف الذكاة لغة واصطلاحا) :
أصل الذكاة لغة بمعنى التمام، كما نص عليه ابن منظور (1) في اللسان، إذ قال: وأصل الذكاة في اللغة كلها إتمام الشيء، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم، وهو تمام السن، قال: وقال الخليل: الذكاء في السن أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استتمام القوة. قال زهير:
يفضله إذا اجتهدوا عليه
تمام السن منه والذكاء
وبمثله قال من المفسرين الفخر الرازي (2) وابن العربي (3) والقرطبي (4) والسيد محمد رشيد رضا (5)، وعليه حمل القرطبي قوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، أي أدركتم ذكاته على التمام. وهو يتفق مع ما نقله تقي الدين الحصني في كفاية الأخيار عن الإمام النووي، وقال:" معنى ذكاة الشاة ذبحها التام المبيح"، ومنه: فلان ذكي أي تام الفهم (6)
غير أن القرطبي ذكر وجهاً آخر، وهو أن أصل التذكية التطييب، من قولهم رائحة ذكية، والحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب، لأنه يتسارع إليه التجفيف، وهذا الذي صدر به تقي الدين الحصني في كفاية الأخيار، وتابعه عليه كل من الدكتور عبد الله عبد الله العبادي في كتابه الذبائح في الشريعة الإسلامية (7) والدكتور محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه أحكام الذبائح في الإسلام (8) وقد يتبادر أن ذلك صحيح، نظرا إلى شيوعه في استعمال الناس، ولكن عندما نعود إلى معاجم اللغة من أجل فهم المراد من ذكاء الرائحة نجد أنه بمعنى الشدة، سواء كانت من طيب أو نتن، كما نص عليه ابن منظور في اللسان، والزبيدي في تاج العروس (9)
(1) لسان العرب- مادة ذكا-: 14/ 288
(2)
التفسير الكبير:11 /135
(3)
أحكام القرآن:2 /541
(4)
الجامع لأحكام القرآن: 6 /51
(5)
المنار: 6/ 143
(6)
تقي الدين الحصني، كفاية الأخيار: 2/ 422
(7)
الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 20
(8)
أحكام الذبائح في الإسلام، ص 34
(9)
انظر المرجعين- مادة ذكا
أما الذكاة الشرعية فقد عرفها ابن العربي (1) والقرطبي (2) بأنها عبارة عن أنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور عليه؛ مقرونا ذلك بنية القصد إليه، وذكر الله تعالى عليه. وعرف ضياء الدين الثميني (3) الذكاة بأنها قطع الحلقوم والمريء والودجين (4) ويتبادر إلى أنه خاص بنوع من التذكية، وهو الذبح دون النحر والصيد.
المبحث الأولى: في كيفية الذكاة الشرعية:
لا يخلو الحيوان المراد تذكيته إما أن يكون مقدورا عليه أو غير مقدور عليه، فالمقدور عليه وهو الإنسي وما وقع في قبضة اليد من الوحشي فتذكيته لا تكون إلا بنحر أو ذبح، وفيما يأتي بيان ذلك:
ا- النحر: وهو طعن بآلة ذات نصل حاد في اللبة تحت العنق وفوق الترقوة، مع استحسان أن يكون الحيوان المنحور قائما على ثلاث، وقد عقلت إحدى يديه لقوله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36]
(1) أحكام القرآن: 2/ 541
(2)
الجامع لأحكام القران: 6/ 53
(3)
ضياء الدين الثميني- وهو العلامة المحقق الإمام عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد العزيز الثميني، ولد في بني يسجن بواد ميزاب بالجزائر سنة هـ 1130هـ، نبغ في العلم الشريف حتى آلت إليه الإمامة العلمية بوادي ميزان سنة 1201هـ، له تأليف عظيمة منها كتاب (النيل وشفاء العليل) و (التاج في حقوق الأزواج)(ومعالم الدين في أصول الدين) ، توفي رحمه الله سنة 1223 هـ، انظر شرح النيل وشفاء العليل، ط مكتبة الإرشاد، جدة، السعودية.
(4)
انظر النيل وشرحه: 4/ 432، 433
قال أبو غانم (1) في مدونته: قلت لأبي المؤرج (2) أخبرني قول الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]، قال: حدثني أبو عبيدة (3) عن جابر بن زيد (4)
عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: إن قول الله: {صَوَافَّ} يعني بذلك قيام المعقولات (5) وقد أخرج ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ابن جرير الطبري من طريق أبي ظبيان ومجاهد وغيرهما (6) وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم به في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعيته في الإبل، وألحق بها كل ما كان مثلها في طول العنق كالزرافة، ووردت به السنة في الخيل كما في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما:((نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه)) (7) ووردت به السنة أيضا في البقر كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
(1) هو العلامة بشر بن غانم الخراساني من أهل خراسان، انتقل إلى البصرة لطلب العلم على يد مشائخ أهل الحق والاستقامة، له المدونة الكبرى والمدونة الصغرى، جمعها من تلامذة أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، وهو من علماء القرن الثاني الهجري، انظر المدونة الصغرى، ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان
(2)
أبو المؤرج عمر بن محمد من تلامذة الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة وقرناء الربيع بن حبيب رحمه الله، خالف أهل الحق والاستقامة في مسائل معدودة إلا أن روايته مقبولة عندهم، قال عنه الإمام أفلح رضي الله عنه:"لا يدفع إسناده وهو بمنزلة من سواه من المسلمين "، وقيل رجع عن خلافه لما جاء إلى عمان، وتوفي في طريقه إلى فدم، انظر شرح الجامع الصحيح، والمدونة الصغرى
(3)
هو أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي بالولاء، توفي في ولاية أبي جعفر المنصور (95- 158 هـ) ، وهو تابعي أدرك بعضا من الصحابة، أخذ العلم عمن لقيه من الصحابة، وعن جابر بن عبد الله الصحاري المعروف، وعن جابر بن زيد، وعن صحار العبدي وجعفر السماك، وحمل عنه العلم خلق كثير أشهرهم: الإمام الربيع بن حبيب صاحب المسند، حبس نفسه للتدريس والدعوة إلى الله وتوضيح معالم الإسلام.
(4)
هو الإمام العظيم أصل المذهب الإباضي جابر بن زيد الأزدي، ولد في فرق بولاية نزدى، وانتقل بين البصرة وغيرها من حواضر الإسلام، تتلمذ على أكثر من سبعين صحابيا أخصهم ابن عباس رضي الله عنهما، ثم السيدة عائشة رضي الله عنها، نبغ في العلم وشهر بالتقوى، حتى أخذت عنه العلم الأمة كلها، وأخص تلامذته أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة، توفي رحمه الله سنة 93 هـ. انظر شرح الجامع الصحيح.
(5)
أبو غانم، المدونة الكبرى 1/ 350
(6)
ابن جرير الطبري، جامع البيان: 17/ 118
(7)
رواه البخاري في كتب الذبائح والصيد في باب (24) لحوم الخيل؛ ورواه النسائي في كتاب الضحايا في باب (33) نحر ما يذبح، من طريقتين في أحدهما- وهي من رواية محمد بن آدم- زيادة (ونحن بالمدينة) .
2-
الذبح: وهو حز الرقبة من مقدمتها بسكين أو نحوها مما يفري وينهر الدم، ولا خلاف بين أهل العلم أن تمامه بقطع الحلقوم والمريء والودجين- كما سبق نقله عن صاحب النيل في تعريف الذكاة- وهي الكيفية المجمع على إجزائها في تذكية ما يذبح، واختلف فيما دونها على أقوال: الأول: أنه يكتفي بقطع الحلقوم والمريء، وعليه الشافعية والحنابلة، قال الإمام النووي نقلا عن الرافعي:"الذبح الذي يباح به الحيوان المقدور عليه إنسيا كان أو وحشيا، أضحية كان أو غيرها هو التدقيق بقطع جميع الحلقوم والمريء من حيوان فيه حياة مستقرة بآلة ليست عظما ولا ظفرا"(1)
وقال ابن قدامة في المغني: "وأما الفعل فيعتبر قطع الحلقوم والمريء"(2) وهو قول لبعض علمائنا الإباضية (3) كالإمام أبي العباس أحمد بن محمد بن بكر (4)
(1) النووي، المجموع: 9/ 86، وانظر كذلك كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، لتقي الدين الحصني: 2/ 423
(2)
ابن قدامة، المغني: 11/ 44؛ وانظر أيضاً المقنع مع الشرح الكبير بذيل المغني: 11/ 51؛ وبداية المجتهد: 1/ 445
(3)
اطفيش، شرح النيل: 4/ 435
(4)
هو العلامة المحقق المجتهد أبو العباس أحمد بن محمد بن بكر من الطبقة العاشرة لعلماء المذهب الإباضي بالمغرب، صنف خمسة وعشرين مؤلفا منها: كتاب أصول الأراضين والسيرة في الدماء والجراحات، وجامع أبي مسألة، وغيرها، توفي رحمه الله تعالى سنة 504 هـ؛ انظر تطبيقات المشائخ بالمغرب
الثاني: أنه يجزي قطع ثلاثة منها بدون تعيين وهو قول الإمام أبي حنيفة، ففي (الاختيار لتعليل المختار) :"فإن قطعها حل الأكل " لوجود الذكاة "وكذلك إذا قطع ثلاثة منها" أي ثلاثة كانت (1) وذكر العلامة ابن نجيم أنه قول أبي يوسف أولا (2)
الثالث: أنه لا يجزي إلا أن يقطع من كل واحد منها أكثره، وهو قول محمد بن حسن (3)
الرابع: أنه لا يجزي إلا قطع الحلقوم والودجين وهو قول مالك بن أنس، ففي المدونة:"قلت: أرأيت إن ذبح فقطع الحلقوم، ولم يقطع الأوداج أو فرى الأوداج ولم يقطع الحلقوم أيأكله؟ قال: قال مالك: لا يأكله إلا باجتماع منهما جميعاً، لا يأكل إن قطع الحلقوم ولم يفر الأوداج، وإن فرى الأوداج ولم يقطع الحلقوم فلا يأكله أيضا، ولا يأكله حتى يقطع جميع ذلك؛ الحلقوم والأوداج، قلت: أرأيت المريء هل يعرفه مالك؟ قال: لم أسمع مالكاً يذكر المريء "(4)
الخامس: أنه لا يجزئ إلا قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين، وهو قول أبي يوسف (5) وهو يتفق مع ما في المصنف من كتب أصحابنا (6)
(1) ابن مودود الموصلي، الاختيار لتعليل المختار: 5/ 11؛ وانظر كذلك المبسوط للسرخسي: 2 1/ 2؛ وبدائع الصنائع للكاساني: 6/ 2767
(2)
البحر الرائق: 8/ 193؛ وانظر أيضا بداية المجتهد: 1/ 445؛ والمغني: 11/ 44؛ والشرح الكبير بذيل المغني: 11/ 51
(3)
بدائع الصنائع: 6/ 2767؛ والبحر الرائق: 8/ 193
(4)
الإمام مالك، المدونة الكبرى 1/ 427؛ وانظر كذلك الذخيرة: 4/ 133؛ وبداية المجتهد:4/ 45
(5)
بدائع الصنائع: 6/ 2767، والبحر الرائق: 8/ 193
(6)
الكندي، المصنف: 9/ 186
السادس: أنه يجزئ قطع الحلقوم أو المريء وحده، لأن الحياة لا تبقى بعده، ذكره النووي وجها لأبي سعيد الاصطخري من الشافعية، وتعقبه بقوله:"قال الأصحاب: هذا خلاف نص الشافعي وخلاف مقصود الذكاة، وهو الإزهاق بما يوحي ولا يعذب "(1)
السابع: أنه لابد من قطع الأربعة جميعا، وهو قول أكثر أصحابنا الإباضية كما سبق نقله عن صاحب النيل، وذكره في المغني رواية عن أحمد وعزاه (2) إلى مالك وأبي يوسف، وعزاه إلى مالك أيضا ابن رشد (3) وذكر القرطبي أنه حكاه عنه البغداديون، ونسبه أيضا إلى أبي ثور (4) وفي شرح النيل:"والمشهور أنه لابد من قطع الأوداج والحلق والحلقوم "(5) ومراده بالحلق المريء.
الثامن: أنه يجزئ قطع الودجين وحدهما، ذكره ابن رشد قولا لمالك (6) والأصل في هذا ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شريطة الشيطان)) (7) وفسرت بأنها الذبيحة يقطع منها الجلد ولا تفرى الأوداج وتترك حتى تموت، ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((اذبحوا بكل شيء فرى الأوداج ما خلا السن والظفر)) (8)
(1) المجموع: 9/ 86
(2)
المغني: 44/11، 45
(3)
بداية المجتهد: 1/ 445
(4)
الجامع لأحكام القران: 6/ 54
(5)
اطفيش، شرح النيل: 4/ 436
(6)
بداية المجتهد: 1/ 454
(7)
رواه أبو داود من طريق أبي هريرة وابن عباس في كتاب الأضاحي في باب في المبالغة في الذبح، رقم الحديث: 2827
(8)
انظر حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب وغيرهم، عبد الله بن محمد حميد، ص 9
ولفظة الأوداج تطلق تغليبا على الودجين والحلقوم والمريء، قال الإمام النووي:"أما الحلقوم فهو مجرى النفس خروجا ودخولا، والمريء مجرى الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم، ووراءهما عرقان في صفحتي العنق يحيطان بالحلقوم، وقيل يحيطان المريء يقال لهما الودجان، ويقال للحلقوم والمريء معهما الأوداج "(1) وفي كنز الدقائق وشرحه البحر الرائق: "والمذبح المريء والحلقوم والودجان، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أفر الأوداج بما شئت ". وهي عروق الحلق في المذبح، والمريء مجرى الطعام والشراب، والحلقوم مجرى النفس، والمراد بالأوداج كلها، وأطلق عليه تغليبا، وإنما قلنا ذلك لأن المقصود يحصل بقطعهن، وهو إزهاق الروح وإخراج الدم، لأنه بقطع المريء والحلقوم يحصل الإزهاق، وبقطع الودجين يحصل إنهار الدم، ولو قطع الأوداج وهي العروق من غير قطع المريء والحلقوم لا يموت فضلا عن التوجه، فلابد من قطعهما ليحصل التوجه، ولا بد من قطع الودجين أو أحدهما ليحصل إنهار الدم"(2)
وبما أن مشروعية التذكية من أجل تطييب اللحم مع مراعاة راحة الحيوان المذكى؛ يتبين رجحان القول السابع الذي يشترط في الذبح قطع الحلقوم والمريء والودجين جميعا، فإن ذلك- لا ريب- أبلغ في إراحة المذبوح من شدة معاناة آلام الموت، وأكثر تطييبا للحم بإنهار دمه من كلا ودجيه، وهى الكيفية التي انعقد الإجماع على إجزائها في الذبح، وذلك أحوط في العمل بما دلت عليه السنة من فري الأوداج؛ لصدق مفهوم الأوداج على هذه الأربعة كلها.
(1) المجموع: 9/ 86
(2)
ابن نجيم، البحر الرائق: 8/ 193؛ وانظر أيضا السرخسي، المبسوط: 12/ 2، 3
وهذا لا ينافي كون هذه الأقوال كلها لها وجه من النظر، ونجد في شرح النيل توجيها منصفا لغالب هذه الأقوال عندما قال الشارح:"فإن قلت كيف القول بإجزاء قطع أحدهما- أي الودجين- مع الحلق والحلقوم؟ قلت: لعله ساغ لهم الخلاف مع أن ذلك مأمور به في الحديث من حيث حمل الحديث على الإرشاد إلى المصلحة، والرفق بالدابة فإنه يسهل موتها بجميع ذلك ويسرع، ولم يحملوه كله على الوجوب، فمن أوجب قطع الحلق والحلقوم فقط اعتبر قطع النفس والأكل والشرب، وهن مادة الحياة فلا تصح الحياة مع عدمهن، ومن أوجب قطع الودجين فقط اعتبر أن تلك المجاري الثلاثة تنسد بقطعهما، ومن أوجب قطع الحلق والحلقوم وأحد الودجين جمع بين ذلك، ومن أوجب الكل راعى ظاهر الحديث، وهو الراجح، وقد يوجه أيضا القول باغتفار بقاء ودج واحد مع قطع الحلق والحلقوم والودج الآخر باعتبارها الأكثر وإلغاء الأقل واعتبار أنه لا حكم للأقل ". (1)
هذا وقد شرع الذبح فيما لا ينحر كالغنم والطيور والأرانب، وما كان مقدورا عليه من أشباهها في الحيوانات الوحشية، واختلف فيما هو الأفضل في البقر، فرجحت طائفة الذبح لقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، وهو وإن كان خطابا موجها إلى من قبلنا إلا أنه محكي لنا على أن مشروعية التذكية في كل أمة من الأمم المخاطبة بشرع تتفق مع طبيعة المذكى، فلا ينبغي أن يكون في ذلك فرق بين أمة وأخرى. ورجحت طائفة أخرى النحر؛ لحديث جابر رضي الله عنه أنه قال:((نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة))
(1) شرح النيل: 435/4
(1)
وهو يدل على أن كلا من الإبل والبقر ينحر، ورد بأن ذلك جرى مجرى المألوف في كلام العرب عندما يعطفون خبرا على خبر مع تفاوت المعطوف والمعطوف عليه، بحيث يتعذر أو يبعد أن يكونا على وتيرة واحدة، وذلك أنهم يقدرون قبل المعطوف ما يتلاءم معه كما في قول الشاعر:
ولقيت زوجك في الوغى متقلدا سيفاً ورمحاً
فإنهم قدروا ومعتقلا رمحا، لأن الرمح لا يتقلد، وقول الآخر:
علفتها تبنا وماء باردًا.
فإنهم قدروا وسقيتها ماء، لأن الماء لا يعلف وإنما يسقى، فكذلك يقدر في حديث جابر: وذبحنا البقر. ونسب ذلك الكاساني إلى عامة العلماء (2) إلا أن قفي رواية للدارمي فعن أبي الزبير عن جابر جاءت بلفظ: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البقرة عن سبعة". وهي لا يتأتى معها ذلك التأويل (3)
والذبح أنسب بطبيعة البقر لقصر أعناقها بخلاف الإبل، وقد أوضح حكمة هذا التفاوت العلامة القرافي فقال: "وأصل ذلك أن المقصود بالذكاة الفصل بين الحرام الذي هو الفضلات المستقذرة وبين اللحم الحلال بأسهل الطرق على الحيوان، فما طالت عنقه كالإبل فنحره أسهل لزهوق روحه لقربه من الجسد وبُعد الذبح منه، والذبح في الغنم أسهل عليها لقربه من الجسد والرأس معا، ولما توسطت البقر بين النوعين جاز الأمران، وأشكل على هذه القاعدة النعامة، ففي الجواهر أنها تذبح -ولم يحك خلافًا - مع طول عنقها، ولعل الفرق بينها وبين الإبل أن نحرها ممكن من جوفها، فنحرها شق لجوفها (4)
والظاهر أن عدم الخلاف في ذلك إنما هو في المذهب المالكي، وإلا فقد صرح الحنفية بنحر ما كان طويل الرقبة من الطيور كالوز والنعام (5)
(1) رواه الدارمي في سننه في كتاب الأضاحي، باب البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، من طريق جابر رضي الله عنه، بلفظ نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البقرة عن سبعة.
(2)
بدائع الصنائع: 6/ 2766؛ وانظر كذلك شرح النيل: 4/ 430، 431
(3)
رواه الدارمي في سننه في كتاب الأضاحي في باب (5) البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
(4)
القرافي، الذخيرة: 4/ 132
(5)
د. عبد الله عبد الرحيم العبادي، الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 44، نقلا عن حاشية ابن عابدين: 6/ 303
3-
هل يجزئ الذبح فيما ينحر والنحر فيما يذبح؟
هذا مما اختلف فيه أهل العلم، فأكثرهم جوزوه وعزاه ابن قدامة في المغني إلى عطاء والزهري وقتادة ومالك والليث والثوري وأبي حنيفة والشافعي وإسحاق وأبي ثور. وإنما حكي عن داود الظاهري أن الإبل لا تباح إلا بالنحر، ولا يباح غيرها إلا بالذبح (1) وهو كما ترى يعزو إلى مالك رأي الجمهور القائلين بالجواز، مع أن المشهور من مذهبه خلاف ذلك كما نص عليه في المدونة، إذ جاء فيها:"قلت: هل ينحر ما يذبح، أو يذبح ما ينحر في قول مالك؟ قال مالك: لا ينحر ما يذبح، ولا يذبح ما ينحر، قلت: قال ابن القاسم: فالبقر إن نحرت أترى أن تؤكل؟ قال: نعم هي خلاف الإبل إذا ذبحت، قال: قال مالك: قال: والذبح فيها أحب إلي، لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} ، قال: فالذبح أحب إلي، فإن نحرت أكلت، قال: والبعير إذا ذبح لا يؤكل إذا كان من غير ضرورة، لأن سنته النحر، قلت: وكذلك الغنم إن نحرت لم تؤكل في قول مالك؟ قال: نعم إذا كان ذلك من غير ضرورة، قلت: وكذلك الطير ما نحر منه لم يؤكل في قوله؟ قال: لم أسأله عن الطير، وكذلك هو عندي لا يؤكل ". (2)
وما في المدونة هو الذي نصت عليه كتب المالكية كالذخيرة وبداية المجتهد (3) وهو يتنافى مع هذا الذي نقله عنه ابن قدامة، إلا أنه قال من بعد:"وحكي عن مالك أنه لا يجزئ في الإبل إلا النحر، لأن أعناقها طويلة فإذا ذبح تعذب بخروج روحه، قال ابن المنذور: إنما كرهه ولم يحرمه "(4) وحمل المنع على الكراهة دودن التحريم بعيد؛ لما ذكرناه من كلامه في المدونة، وإنما هو قول حكاه ابن رشد عن أشهب من أصحابه (5) وحكي عن ابن بكير أنه فرق بين الغنم والإبل، فقال: يؤكل البعير بالذبح، ولا تؤكل الشاة بالنحر (6)
(1) المغنى: 11/ 47
(2)
المدونة الكبرى: 1/ 427، 428
(3)
انظر الذخيرة: 4/ 132؛ وبداية المجتهد: 1/ 444
(4)
المغني: 47/11
(5)
بداية المجتهد: 1/ 444
(6)
بداية المجتهد: 1/ 444
هذا وأما ما حكاه ابن قدامة عن داود أنه لا يبيح نحر ما يذبح ولا العكس؛ فإن ابن حزم ذكر عن بعض أصحابه موافقة رأي الجمهور في الجواز، ولم يشر إلى داود إلا أنه أطال في رد قول مالك منتصرا لرأي المجيزين حتى ادعى أنه لا سلف لمالك في المنع (1) والخلاف في هذه المسألة جاء في كتب مذهبنا الإباضي، ففي النيل:"وهل يؤكل إن نحر ما يذبح كعكسه - وهو المختار- أو لا؟ قولان، قال شارحه: ثالثهما الإبل تنحر فإن ذبحت لم تؤكل، والبقر والغنم تذبح، فإن نحرت لم تؤكل، ورابعها جواز أكل الإبل إن ذبحت دون غيرها إن نحر، وكره بعضهم نحر الشاة قائمة بلا تحريمها"(2)
ومع النظر يتبين أن القول الثالث هو عين القول الثاني، ويشكل ذكره فيه البقر مع الغنم أنها لا تؤكل إن نحرت، مع الاتفاق على جواز النحر في البقر، وإن رجح الأكثر فيها الذبح.
ثم قال مصنف النيل: "وجاز الكل للضرورة إجماعا، قال الشارح: وفي هذا دليل على جواز ذلك أيضا، في غير الضرورة، وأنه لا تحرم به الدابة، ولو كان لا يجوز في غير الضرورة وأنه في غير الضرورة لا تحل به الدابة لم يجز في الضرورة إلا إن اضطر إلى ميتة، ولما حلت بذلك بدون أن يضطر إلى ميتة علم أن ذكر النحر في الإبل إنما هو على سبيل الترجيح، لأنه أسرع في موتها لا على سبيل الوجوب، ولما كانت البقر بين الإبل والغنم ورد فيها الذبح والنحر على حد سواء، ولما سهل أمر الشاة ورد ذبحها ولم يمتنع نحرها"(3)
(1) المحلى:445/7-446
(2)
شرح النيل: 4/ 432
(3)
شرح النيل: 4/ 432
ورد ابن رشد (1) هذا الاختلاف إلى معارضة الفعل للعموم، فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام:"ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا". وأما الفعل فإنه ثبت ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر الإبل والبقر وذبح الغنم)) ، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وعلى ذبح الغنم لقوله تعالى في الكبش {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]
ولا ريب أن العموم مجمل هنا فهو بحاجة إلى البيان، وخير ما بينه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي العدول عنه.
4-
حصر التذكية في اللبة والحلق وحكمة ذلك:
استقر العمل في الإسلام على تذكية المقدور عليه من الحيوان في الحلق واللبة، وثبت ذلك بالسنة والإجماع، فقد أخرج الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله ((بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال)) . (2) وروى سعيد والأثرم بإسنادهما عن الفرافصة قال: كنا عند عمر فنادى: إن النحر في اللبة والحلق لمن قدر (3) . قال العلامة ابن قدامة في المغني: "وأما المحل فالحلق واللبة وهي الوحدة التي بين أصل العنق والصدر، ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع - إلى أن قال: وإنما نرى أن الذكاة اختصت بهذا المحل لأنه مجمع العروق، فتنسفح بالذبح فيه الدماء السيالة ويسرع زهوق النفس، فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان ". (4)
(1) ابن رشد- بداية المجتهد: 1/ 444
(2)
رواه الدارقطني في سننه، في كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك، رقم الحديث في هذا الباب (45)
(3)
المغني، ابن قدامة: 11/ 44
(4)
المغني: 11/ 44، وانظر كذلك البحر الرائق: 8/ 193
وهذا يعني أن العدول عن هذه التذكية الشرعية إلى أي طريقة أخرى في إزهاق روح الحيوان تجعله ميتة غير حلال الأكل، وأما ما رواه أحمد وأصحاب السنن عن أبي العشراء عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: ((لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك)) . فهي رواية متروكة لا عمل بها عند الأمة، وناهيكم أن الإجماع انعقد على خلافها، كما نص على ذلك كلام ابن قدامة السالف وغيره من الفقهاء، وأبو العشراء هذا مجهول يروي عن جهول، قال أحمد: أبو العشراء هذا ليس بمعروف (1)،وقال الخطابي:" وضعفوا هذا الحديث لأنه رواية مجهول "(2) وقال الحافظ في التلخيص: "قد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح ولا يعرف حاله "(3)
ولا يشك عاقل أن الخير في الاتباع لا في الابتداع، وأن خير العباد فيما أمرهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] ولا مساغ للاجتهاد مع النص أو الإجماع، وقد تبين لنا باستقراء الأدلة الشرعية أن التذكية من أمور العبادات التي لا يسوغ فيها العدول عما شرع فيها، ولا تجاوز حدودها التي رسمت.
غير أنا رأينا العلامة السيد محمد رشيد رضا يجنح في تفسيره المنار إلى أن الذكاة ليست من العبادات، ويومئ إلى أنه يسوغ للناس أن يعدلوا فيها إلى الوسائل المستجدة في إزهاق الروح، لأنها أسهل مما هو معهود من قبل، وهذا نص كلامه:
(1) المغني: 44/11
(2)
الخطابي، معالم السنن: 4/ 117
(3)
التلخيص:134/ 4
"ولما كانت التذكية المعتادة في الغالب لصغار الحيوانات المقدور عليها هي الذبح، كثر التعبير به فجعله الفقهاء هو الأصل وظنوا أنه مقصود بالذات لمعنى فيه، فعلل بعضهم مشروعية الذبح بأنه يخرج الدم من البدن الذي يضر بقاؤه فيه لما فيه من الرطوبات والفضلات، ولهذا اشترطوا فيه قطع الحلقوم والودجين والمريء على اختلاف بينهم في تلك الشروط، وإن هذا لتحكم في الطب والشرع بغير بينة، ولو كان الأمر كما قالوا لما أحل الصيد الذي يأتي به الجارح ميتا وصيد السهم والمعراض إذا خزق؛ لأن هذا الخزق لا يخرج الدم الكثير كما يخرجه الذبح، والصواب أن الذبح كان ولا يزال أسهل أنواع التذكية على أكثر الناس، فلذلك اختاروه وأقرهم الشرع عليه أنه ليس فيه من تعذيب الحيوان ما في غيره من أنواع القتل، كما أقرهم على صيد الجوارح والسهم والمعراض ونحو ذلك، وإني لأعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لو اطلع على طريقة للتذكية أسهل على الحيوان ولا ضرر فيها كالتذكية الكهربائية - إن صح هذا الوصف فيها- لفضلها على الذبح، لأن قاعدة شريعته أنه لا يحرم على الناس إلا ما فيه ضرر لأنفسهم أو لغيرهم من الأحياء، ومنه تعذيب الحيوان بالوقذ ونحوه، وأمور العادات في الأكل واللباس ليست مما يتعبد الله الناس تعبدا بإقرارهم عليه، وإنما تكون أحكام العبادة بنصوص من الشارع تدل عليها، ولا يعرف مراد الشارع وحكمته في مسألة من المسائل إلا بفهم كل ما ورد فيها بجملته، ولو كان إقرار الناس على شيء من العادات أو استئناف الشارع لها حجة على التعبد بها لوجب على المسلمين اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية أكله وشربه ونومه، بل هنالك ما هو أجدر بالوجود كالتزام صفة مسجده وحينئذ يحرم فرشه ووضع السرج والمصابيح فيه.
وقد تأملنا مجموع ما ورد في التذكية ففقهنا أن غرض الشارع منها اتقاء تعذيب الحيوان بقدر الاستطاعة، فأجاز ما أنهر الدم وما مَرَّاه أو أمرَّاه أو أمرَّه، وهو دون معنى (أنهره) في معنى إخراجه أو إسالته، وأمر بأن تحد الشفار وأن لايقطع شيء من بدن الحيوان قبل أن تزهق روحه، وأجاز النحر والذبح حتى بالضرار أي بالحجارة المحددة، وبالمرو أي الحجر الأبيض، وقيل الذي تقدح منه النار، وبشق العصا وهذا دون السكين غير المحدد بالشحذ، ولكل وقت وحال ما يناسبهما، فإذا تيسر الذبح بسكين حاد لا يعدل إلى ما دونه، وإذا تيسر في الذبح إنهار الدم يكون أسهل للحيوان وأقل إيلاماً له فلا يعدل عنه إلى مثل طعن المتردية في ظهرها أو فخذها أوخزق المعراض وخدشه لأي عضو من البدن، والرمي بالسهم للحيوان الكبير ذي الدم الغزير" (1)
وقد نحا هذا النحو من أهل زماننا العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، إذ قال في رسالته (فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب) :"ليس عندنا ما يدل على قصر التذكية وحصرها في قطع الحلقوم والمريء حسبما شرطه الفقهاء، إلا أنها جرت العادة بذلك في الإسلام وزمن الجاهلية، ولأن هذه الكيفية أسرع وأسهل لإزهاق روح الحيوان، لكون الحلقوم والمريء هما مجرى النفس والطعام والشراب، ولأن هذه الكيفية هي أبقى وأسلم للجلد الذي له قيمة في زمانهم، حتى كانوا يسلخون جلود الميتة وينتفعون بها". (2)
(1) المنار: 6/ 144- 145
(2)
آل محمود، فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب، ص 7
وأرى أن العالمين الجليلين قد اشتطا كثيرا وأبعدا النجعة في هذه المسألة، وكفى بانعقاد الإجماع قبلهما على خلاف ما ذهبا إليه حجة ودليلا على شططهما، وقد علمنا من خلال استقرائنا لأدلة الشرع من نصوص الكتاب والسنة أن التذكية من الأمور التعبدية، وليست من الأمور العادية التي توكل إلى تجارب الناس وأذواقهم، فلا مقارنة بينها وبين اللباس وسائر الأمور الشكلية الموكولة إلى العادات، وكفى دليلا على ذلك أن الله تعالى قرن بين النحر والصلاة في قوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وكذلك قوله:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] فإن النسك: الذبيحة في قولي أكثر المفسرين، وأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه في قوله:{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 18]، ونهى عن أكل ما لما يذكر اسمه عليه إذ قال:{وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وأمر بذكره عند نحر البدن إذ قال:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ، وحذر من أكل ما أهل به لغيره، كما في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3]
فإن قيل؛ ليس مطلق التذكية عبادة وإنما ينحصر ذلك فيما كان قربانا إلى الله كالهدي والأضاحي والنذور ونحوها.
قلنا: هذا الحصر لا دليل عليه، بل الأدلة قائمة على خلافه، إذ لو أريد بالذبح مجرد زهوق الروح لما كان معنى لحصر الإباحة في ذبائح المسلمين وأهل الكتاب وحدهم دون المشركين، على أن المشرك قد يحسن الذبح كما يحسنه المسلم، ولم يحجر الدين على المسلم الانتفاع بما يعمله المشركون من الصناعات، فله أن يلبس مما ينسجون وأن يستعمل كل آلة مما يصنعون، كركوب السيارات والقطارات والطائرات، ولو كان ذلك في أسفار العبادات كالحج والعمرة والجهاد، ولا يمنع من الصلاة بالثوب الذي نسجه المشرك والإحرام فيه، ومع هذا كله يمنع منعا باتا من أكل ما يذبحونه، ولو استوفى ذبحهم جميع الشروط الشرعية الواجب توافرها في ذبيحة المسلم، ولو كان ذلك تحت إشراف المسلم نفسه.
وقد جاء النص القطعي بتحريم الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما أدركت ذكاته، مع أن كل ذلك حيوانات زهقت أرواحها لأسباب وقعت عليها، ولم تمت حتف أنفها، غير أنها شرعًا الحقت بما مات حتف أنفه في التحريم، فما الداعي لتحريمها لولا أنها لم يكن زهوق روحها بطريقة تعبدية خاطب الله بها العباد وألزمهم إياها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وليت شعري أي فارق بين أكيلة السبع التي حرمت بالنص وبين ما صادته الجوارح فمات في أثناء الصيد لولا اعتبارالجانب العبادي في الصيد وهو النية والتسمية؛ ومثلها النطيحة في ذلك.
ولئن قيل بأن الموقوذة إنما حرمت من أجل ما حل بها من التعذيب المنافي لما يأمر به الإسلام من الرفق بالحيوان. فالجواب: أن هذه الحرمة كانت جديرة بأن تكون خاصة بالواقذ دون غيره، على أن الوقذ قد يكون من متعد غير مالك للحيوان، فيَحرُم به على مالكه إن لم يدرك تذكيته، ولو كانت الحرمة من أجل التعذيب وحده لما كان معنى لإباحة الموقوذة إن ادركت ذكاتها، كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، على أن هذه الحرمة لم تنحصر فيما وقع عليه الأثر بفعل فاعل مكلف، إذ حرمت كذلك المنخنقة والمتردية، وقد يكون الانخناق بفعل الدابة نفسها، بحيث تلتوي بحبلها على عنقها إلى أن تختنق أنفاسها، وقد تتردى نفسها من شاهق من غير أن يدفعها أحد، على أنها لو تردت فوقعت على آلة حادة أصابت مذبحها أو منحرها، فقطعت منها ما يقطعه الذابح أو الناحر لما حلت بذلك، ولما خرجت عن حكم الميتة، فما هو الفارق بين هذه الصورة وبين التذكية إلا فقدان عنصر العبادة فيها؟
وقد تظافرت الروايات الدالة على هذا المعنى، منها حديث:"ألا إن الذكاة في الحلق واللبة" وقد تقدم، ومنها أحاديث اشتراط ذكر اسم الله على الذبح والنحر وإرسال السهم والجارحة، وسوف نذكر- إن شاء الله- ما تيسر ذكره منها في موضعه، كما يدل على ذلك أيضاً ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبي الدرداء وغيره رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل المجثمة)) . (1) وأخرج النسائي والدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تحل المجثمة)) (2) والمراد بها التي تصبر للنبل، ولم تحصر حرمتها على صابرها أو راميها فحسب.
ويدل على ذلك أيضا حديث عدي بن حاتم عند الشيخين أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض، فقال له صلى الله عليه وسلم:((إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ)) . (3)
ومثله ما أخرجه الشيخان عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله، وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب يوما ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله)) . (4)
(1) انظر حكم اللحوم المستوردة، ص 11
(2)
رواه النسائي في سننه في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل السباع من طريق أبي ثعلبة؛ ورواه الدارمي في سننه في كتاب الأضاحي، باب ما لا يؤكل من السباع، من طريق أبي ثعلبة الخشني أيضا
(3)
رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب تفسير المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وكذلك في باب صيد المعراض؛ ورواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، بعدة طرق.
(4)
رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة؛ ورواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة.
قال الإمام النووي في شرحه: "فيه بيان قاعدة مهمة وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه "(1)
ومن أصرح الأدلة على كون التذكية عبادة ما ثبت عن علي كرم الله وجهه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) . (2)
هذا وقد ثبت طبياً أن الذكاة الشرعية هي أسلم طريقة وأبعدها عن التأثر بالمضار، فما قاله الفقهاء في تعليل التذكية ومشروعيتها في موضعها لم يكن تحكما في الطب، وسنبين ذلك- إن شاء الله- في موضعه.
وأما ما ذكره العلامة ابن محمود أن قصر التذكية وحصرها في قطع الحلقوم والمريء أمر جرت به العادة في الإسلام وزمن الجاهلية، وأن من جملة أسبابه أن هذه الكيفية هي أبقى وأسلم للجلد الذي له قيمة في زمانهم، فقد تقدم فيما ذكرناه أنفا ما يدل على خلافه، ورد هذا التعليل الذي ذكره الشيخ العلامة عبد الله بن محمد بن حميد بأنه منتقض بذبحهم لما لا ينتفع بجلده كالدجاج والطيور ونحوها، فإنهم يذبحونها في حلوقها وليس لها جلد ينتفع به (3)
هذا وهناك مسائل تتعلق بكيفية الذبح وقع الخلاف فيها بين أهل العلم نرى ضرورة إيرادها هنا:
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 13/ 78
(2)
رواه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله؛ ورواه النسائي في كتاب الضحايا، باب من ذبح لغير الله عز وجل.
(3)
ابن حميد، حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب وغيرهم، ص 24
ا- عدم قطع الغلصمة: إن لم تقطع الغلصمة في منتصفها وخرجت إلى جهة البدن، فقد حكى ابن رشد عن مالك وابن القاسم أنها لا تؤكل، وعن أشهب وابن عبد الحكم وابن وهب جواز أكلها (1) وقال الإمام الثميني في النيل:"وكرهت إن ذبحت ورجعت حنجرتها لما يلي المنحر لا بفساد، لجواز قطع الحلق والحلقوم من أصلهما أو وسطهما"، وأقره شارحه ونقل عنه- أي مصنف النيل- أنه قال في التاج:"كل الرقبة مذبح من الرأس إلى استفراغها من الأسفل "، ثم قال الشارح بعد كلام:"وظاهر كلام التاج أنه إن فصل الحلق كله إلى الرأس أو إلى الجسد ولم يقطع بعضه لم تحرم على قول، والصحيح الفساد"(2) وفي (بيان الشرع) نقلا عن كتاب الرقاع أنه لا حرمة بشيء من ذلك (3) ونقل الدكتور العبادي جواز الأكل في هذه الحالة عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد لحصول المقصود بذلك (4) ورد ابن رشد هذا الخلاف إلى اختلافهم في اشتراط قطع الحلقوم، فمن اشترطه منع أكلها، ومن لم يشترطه أجازه (5) وذكر القرافي أن المنع مبني على مراعاة دلالة الحديث على قطعها التزاما والإباحة مبنية على أن انقطاع النفس حاصل بذلك، وهو كاف في زهوق الروح (6)
(1) بداية المجتهد:1/ 445، 446؛ وانظر الذخيرة: 4/ 137؛ وتفسير القرطبي: 6/ 54
(2)
شرح النيل: 4 / 436، 437
(3)
بيان الشرع: 27/ 16
(4)
الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 22
(5)
بداية المجتهد: 1/ 446
(6)
الذخيرة: 4/ 137
2-
قطع جميع الرأس والنخاع: وقد اختلف فيه، ففي مدونة الإمام مالك:"قلت: أرأيت إن سبقت يده في ذبيحته فقطع رأسها، أيأكلها أم لا في قول مالك؟ قال: قال مالك: يأكلها إذا لم يتعمد ذلك "(1) ومفهومه أنه إن تعمده لم يأكلها، وإن قال ابن القاسم: بأنه لم يحفظ في ذلك شيئا عنه، ونقل القرافي من المالكية عن ابن القاسم جواز أكلها وإن تعمده، وهو المنصوص عنه في المدونة، وعن اللخمي أنها لا تؤكل مع العمد (2) وهو الذي نسبه النووي إلى مالك، وقال:"وهي رواية عن عطاء "(3)
ولا خلاف في المذهب عندنا أنه يعذر المخطئ في ذلك، وإنما الاختلاف في العامد، وقد جاء في (بيان الشرع) ما نصه:"ومن تعمد لقطع رأس الذبيحة فقطعت فقيل إنها لا تؤكل، وإن لم يتعمد ذلك فسبقته الشفرة فلا بأس بأكلها". (4) ونصت كتب الحنفية على كراهة ذلك من غير تحريم (5) وعللت الكراهة في البحر الرائق وفي بدائع الصنائع بأن في ذلك زيادة تعذيب للحيوان، ونص النووي على أن مذهب الشافعي جواز أكل ما فعل به ذلك عمدًا، ونقل عن ابن المنذر أنه حكاه عن علي بن أبي طالب وابن عمر وعمران بن الحصين، وعطاء والحسن البصري والشعبي والنخعي والزهري، وأبي حنيفة وإسحاق وأبي ثور ومحمد، وحكى كراهتها عن ابن سيرين ونافع (6)
(1) المدونة الكبرى: 1/ 428
(2)
القرافي، الذخيرة: 4/ 138
(3)
المجموع:9/ 91
(4)
بيان الشرع: 27/ 17؛ وانظر كذلك النيل وشرحه: 4/ 439، 440
(5)
انظر المبسوط للسرخسي: 12/ 2؛ وبدائع الصنائع للكاساني: 6/ 2768؛ والبحر الرائق لابن نجيم: 8/ 194
(6)
المجموع: / 91
وأرى أن المتشددين في هذه المسألة نظروا إلى أن قطع جميع الرأس يفضي قطعا إلى قطع النخاع، وهو يؤدي إلى الإسراع في الموت فيكون موت الدابة بعامل آخر غير تذكيتها، والخلاف واقع بين أهل العلم في نفس قطع النخاع هل يؤدي إلى حرمة المذبوح أو لا إن تعمده؛ فمالك كره ذلك إذا تمادى في القطع ولم ينو قطع النخاع من أول الأمر، قال ابن رشد:"لأنه نوى ذلك فكأنه نوى التذكية على غير الصفة الجائزة ". (1) ومفهومه أنه إن نواه تجاوز حكم الكراهة إلى ما هو أشد منها، وقال مطرف وابن ماجشون:"لا تؤكل إن قطعها متعمدا دون جهل، وتؤكل إن قطعها ساهيا أو جاهلًا ". (2) وفي الكنز وشرحه البحر من كتب الحنفية كراهة ذلك (3) وهكذا في المجموع، ونقل عن ابن المنذر أنه حكي عن ابن عمر عدم جواز أكلها، وبه قال نافع، وكرهه إسحاق، قال: وكرهت طائفة الفعل وأباحت الأكل، وبه قال النخعي والزهري والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور، قال ابن المنذر: بقول هؤلاء أقول، قال: ولا حجة لمن منع أكله بعد الذكاة. (4) وأرى أن حجتهم ما ذكرته في قطع جميع الرأس، ثم وجدته منصوصا عليه في شرح النيل (5) على أنه جاء في المسند الصحيح للإمام الربيع بن حبيب عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد قال: "سمعت ناسا من الصحابة يروون عن النبي ((أنه نهى في الذبائح عن أربعة أوجه: الخزل والوغز والنخع والترداد)) ، وفسر الربيع النخع بكسر الرقبة، وذكر شارحه الإمام السالمي (6) أن غير الربيع فسره أنه المجاوزة بالسكين منتهى الذبح إلى النخاع، وهو خيط أبيض داخل عظم الرقبة يمتد إلى الصلب يكون في جوف الفقار (7) ومن المعلوم أن الأصوليين مختلفون في النهي هل هو يدل على فساد المنهي عنه أو لا؟ فلا يستبعد أن يكون ذلك منشأ الخلاف المذكور.
(1) بداية المجتهد: 1/ 446
(2)
بداية المجتهد: 1/ 446
(3)
البحر الرائق: 8/ 194
(4)
المجموع:9/ 91
(5)
شرح النيل: 4/ 44
(6)
الإمام السالمي: هو المحقق نور الدين عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي، ولد ببلدة الحوقين بولاية الرستاق عام 1288 هـ، كان ذكيا فهما حافظا، اتسمت تآليفه بالتحقيق والتأصيل العلمي، ترك أثرا عظيما في التاريخ العُمَاني بما قام به من جهود إصلاحية باهرة، من أشهر مؤلفاته: مشارق أنوار العقول، وشرح الجامع الصحيح، وتحفة الأعيان، وجوهر النظام، ومؤلفاته نافت على العشرين مؤلفًا، توفي رحمه الله تعالى عام 1332 هـ.
(7)
السالمي، شرح الجامع الصحيح لمسند الإمام الربيع بن حبيب: 3/ 341
3-
الذبح من القفا: اختلف فيه إن وصل الذابح إلى ما يجب قطعه في الذبح، فعن أحمد أنها لا تؤكل، وهو مفهوم كلام الخرقي، وحكي هذا عن علي وسعيد بن المسيب ومالك وإسحاق، قال إبراهيم النخعي: تسمى هذه الذبيحة (القفينة)، وقال القاضي: إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء حلت وإلا فلا، ويعتبر ذلك بالحركة القوية، وهذا مذهب الشافعي (1) وصحح هذا الرأي صاحب المغني معللًا إياه أن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله كأكيلة السبع والمتردية والنطيحة، وأنه لو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلت بذلك حسبما نص عليه أحمد، إذ قال: لو أن رجلا ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكله، وقد روي عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه قال: تلك ذكاة وَحْيَة.
وأفتى بأكلها عمران بن الحصين، وبه قال الشعبي وأبو حنيفة والثوري، ونقل أبو بكر عن الإمام أحمد قولين فيها، وصحح أنها مباحة لأنه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه مع الذبح فأبيح، وعضد ذلك بما روي عمن ذكر من الصحابة من غير مخالف، وفرع عنه صاحب المغني ما لو ذبحها من قفاها فلم يعلم هل كانت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء أولا؟ أنه ينظر فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القتل فالأولى إباحته، لأنه بمنزلة ما قطعت عنقه بضربة السيف، وإن كانت الآلة كالة وأبطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح، لأنه مشكوك في وجود ما يحله، كما لو أرسل كلبه على الصيد فوجد معه كلباً آخر لا يعرفه (2)
(1) المغني: 11/ 50
(2)
المغني: 11/ 50، 51
وعند الحنفية أنه ما ذبح من قفاه مكروه إن بقيت فيه الحياة حتى وصل الذبح إلى ما تتوقف التذكية على قطعه، وإلا حرم، وعللوا الكراهة بما في ذلك من زيادة الألم (1) وذكر ابن رشد من المالكية أنه لا خلاف في المذهب المالكي أن ذلك لا يجوز، وعزاه إلى ابن شهاب وسعيد بن المسيب (2) ، وقالت الشافعية بحلها مع مراعاة الشرط المذكور. (3) ، ومذهبنا في ذلك كمذهب مالك في كونها لا تحل، سواء وقع ذلك عن طريق العمد أو الخطأ إلا إن كان بسبب انقلاب الآلة للقفا لتحرك المذبوح مع نية الذبح في المكان الشرعي (4) وهو مبني على ما ذكرناه من قبل من أن التذكية أمر تعبدي، والأمور التعبدية توقيفية، فإن جاء على خلاف ما أمر به الشرع ردت لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) . (5)، وفي رواية:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (6)، ورد ابن رشد الخلاف في ذلك إلى أنه: هل تعمل الذكاة في المنفوذة المَقَاتِل أو لا؟ وذلك لأن القاطع لأعضاء الذكاة من القفا لا يصل إليها بعد قطع النخاع وهو مقتل من المقاتل فتأتي الذكاة على حيوان أصيب مقتله (7)
(1) البحر الرائق: 8/ 194؛المبسوط: 12/ 3؛ بدائع الصنائع: 6/ 2768
(2)
بداية المجتهد: 1/ 446
(3)
المجموع:91/9
(4)
شرح النيل: 4/ 434، 438؛ الإيضاح: 2/ 431؛ بيان الشرع: 27/ 76، 77؛ جامع أبي الحسن: 3/ 221
(5)
رواه الإمام الربيع بن حبيب في مسنده الجامع الصحيح باب (7) في الولاية والإمارة، رقم الحديث (49) ؛ ورواه مسلم في كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(6)
رواه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود؛ ورواه مسلم في كتاب (الأقضية؛باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور)
(7)
بداية المجتهد: 1/ 446
4-
الذبح من تحت الأوداج: هذا وقد كره أصحابنا إدخال آلة الذبح من تحت الأوداج بينها وبين النخاع وجرها إلى الأمام حتى تقطع الأوداج لما فيه من مخالفة المعهود من الذكاة والوقوع فيما ورد من الوخز وزيادة إيلام الحيوان (1)
5-
التراخي في الذبح: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في عدم جواز التراخي في الذبح من أجل الاستراحة، وذلك بأن يشرع الذابح في ذبح الحيوان ثم يتركه فترة من الزمن ثم يعود إليه، لما في ذلك من إطالة تعذيبه، وإنما اختلفوا فيما إذا رفع يده عن الذبيحة ثم عاد إليها سريعا، فالأكثرون على أنها تؤكل، وقال سحنون من أصحاب مالك: لا تؤكل، وقيل: إن رفعها اختيارا هل تمّت ذكاتها أو لا؟ وأعادها على الفور بمجرد ما تبين أنه لم تتم أكلت، وهو أحد ما تؤول على سحنون، وقد تؤول قوله على الكراهة، وحكى ابن رشد عن أبي الحسن اللخمي أنه لو قيل عكس هذا لكان أجود، يعني أنه إذا رفع يده وهو يظن أنه قد أتم الذكاة فتبين له غير ذلك فأعادها أنها تؤكل؛ لأن الأول وقع عن شك، وهذا عن اعتقاد ظنه يقينا، وبنى ابن رشد ذلك على أن من شرط الذكاة قطع كل أعضاء الذكاة، فإذا رفع يده قبل أن تستتم كانت منفوذة المَقَاتِل غير مذكاة، فلا تؤثر فيها العودة لأنها بمنزلة ذكاة طرأت على المنفوذة المقاتل (2) .
(1) شرح النيل: 4/ 438
(2)
بداية المجتهد: 1/ 446، 447
تذكية غير المقدور عليه:
وهو نوعان:
ا- ما كان أصله وحشيا: كالظباء والوعول والبقر الوحشي والحمار الوحشي والطيور الوحشية، وحكم هذا النوع إن لم يقدر عليه بإمساكه وتذكيته كما تذكى الحيوانات الإنسية أن يصنع به مادل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال:((إذا أرسلت كلبك المعلَّم فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركت وقد قتل ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله، وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب يوما ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله)) . (1)
وحاصل ذلك أن الله تعالى بفضله لم يكلف عباده في مثل هذا النوع من الحيوان أن يذكوه ذكاة الأهلي المقدور عليه، لما في ذلك من المشقة والعسر، مع أنه تعالى خلق للإنسان ما في الأرض جميعا، وأباح له الانتفاع به في حدود المصلحة التي حددتها الشريعة، فلذلك جعل له سبيلا إلى الانتفاع بهذا النوع بالوسائل المشروعة التي جاء بها القرآن في قوله عز وجل:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [المائدة: 2] ؛ وجاءت بها السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في هذا الحديث وأمثاله، وقد جعل الله تعالى في ذلك تذكية شرعية مبيحة لأكل لحمه إن لم تدرك حياته فيذكى كما يذكى الأهلي.
وقد تعورف على تسمية هذه التذكية صيدا، وعني الفقهاء ببحث أحكامها في دواوين الفقه بما يشفي الغليل ويكشف الغمة ويحدد المنهج السليم، وليس ذلك مما يتعلق ببحثنا هذا لأنه خارج عن موضوعه، وإنما ذكرناه لبيان ما يقابل المقدور عليه، وللتمهيد لما يأتي عما قريب- إن شاء الله- من بيان بعض ما يتعلق بموضوع بحثنا.
(1) رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة؛ ورواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة.
2-
ما كان أصله أهليا فَنَدَّ وتعذرت السيطرة عليه بأي حيلة فإنه يعامل معاملة الوحشي في قول جمهور أهل العلم، وعزي إلى علي بن أبي طالب وعائشة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس من الصحابة رضوان الله عليهم، وبه قال طاووس وعطاء والشعبي والحسن البصري ومسروق والأسود بن يزيد والحكم وحماد والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود، وهو قول الشافعي وأصحابه (1) وهو الذي قال به بعض أصحابنا، منهم صاحب النيل وشارحه (2)
وذهب مالك إلى أنه لا ينتقل عنه حكم الأهلي ولا يكون الاصطياد تذكية له، بل يجب أن يذكى بالذبح أو النحر (3) ، وبه قال ربيعة والليث بن سعد، وعليه أصحاب مالك إلا ابن حبيب، فإنه فرق بين البقر وبين الإبل والغنم، فأخذ برأي الجمهور في البقر دونهما، وعلل ذلك بأنها شبيهة بالصيد (4) ، ويفهم من كلام النيل وشرحه أن قول مالك هو مذهب لبعض أصحابنا.
(1) انظر المجموع: 9/ 126؛ والمغني: 11/ 34؛ وكفاية الأخيار: 2/ 421؛ والبحر الرائق: 8/ 194؛ وبدائع الصنائع: 6/ 2772؛ والمحلى: 7/ 459
(2)
شرح النيل: 4 / 513، 515
(3)
انظر الذخيرة للقرافي: 4/ 177؛ وبداية المجتهد: 1/ 454؛ وتفسير القرطبي: 6 / 55، 56
(4)
انظر المراجع السابقة
وحجة الجمهور حديث رافع بن خديج قال: كنا مع النبي في غزاة وقد أصاب القوم غنما وإبلا، فند منها بعير فرمي بسهم فحبسه الله به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا)) . (1) ، وذلك أن تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة، واستدلوا من جهة القياس أيضا أن الوحشي إذا تأنس يعامل معاملة الأهلي، فهكذا الإنسي إذا توحش (2) ، واحتج المالكية ومن وافقهم بأنه مقدور عليه في غالب الأحوال، فلا يراعى النادر منه وإنما يكون ذلك في الصيد، وأجابوا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره لقوله:"فحبسه " ولم يقل: إن السهم قتله. (3)
ويستأنس لرأي الجمهور بتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم لأوابد البهائم الأهلية بأوابد الوحش، إذ في ذلك إشارة لطيفة إلى أنها يصنع بها كما يصنع بالوحشي، وألحق عند الجمهور بالنادّ من بهيمة الأنعام ما وقع في بئر أو نحوها، فتعذر التوصل إلى تذكيته بالذبح أو النحر (4)
(1) رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، ورواه كذلك في كتاب الجهاد والآلة؛ ورواه أيضاً غيره من أهل السنن كالنسائي والدارمي وغيرهم.
(2)
انظر المجموع: 9/ 122، 123
(3)
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6/ 56
(4)
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6/ 56
المبحث الثاني: في أهلية المذكي:
لا خلاف بين الأمة في كون المسلم الدائن بوحدانية الله عز وجل، المؤمن برسالة الحق التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أولى من يقوم بالتذكية من أجل سلامة باطنه من الانحراف الفكري، وظاهره من الانحراف السلوكي، وهو أولى بأن يحافظ على الأمانة ويوفي التذكية حقها الشرعي، ولا خلاف بينها في أن المشركين من عبدة الأوثان والملاحدة الذين لا دين لهم لا تحل ذبائحهم، لأنها في حكم الميتة، ولا خلاف في أن لأهل الكتاب حكما خاصا مخالفا لأحكام المشركين في ذلك لقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، وإنما وقع الخلاف في أمور منها ما يعم المسلم والكتابي، ومنها ما هو خاص بالكتابي وحده، ومن حيث أن مساحة هذا البحث محدودة وموضوعه مقيد نقتصر على ذكر بعض ما وقع فيه الخلاف:
ا- هل يشترط أن يكون المذكي عاقلا؟ اختلف في ذلك، وبناء على هذا الاختلاف اختلفوا في ذكاة المجنون والسكران والصبي، فأجازها الشافعية (1) وأجاز الحنفية تذكية السكران والصبي إن ميزا، ومثلهما المعتوه حال تمييزه، دون ذكاة المجنون ومن لا يميز من السكارى والصبيان والمعتوهين (2) ،ومنع الحنابلة والمالكية ذكاتهم لكنهم قيدوا ذلك بعدم العقل (3) ، وهو قريب مما قاله الحنفية، ومنعت الظاهرية ذكاتهم مطلقا (4) ، وهو الذي ذهب إليه بعض أصحابنا (5) ، وأجاز بعضهم ذكاة الصبي بشرط التمييز والاختتان، وأكثرهم على منع أكل ذبيحة السكران والمجنون وإباحة أكل ذبيحة الصبيان بشرط التمييز وحده (6)
ومنشأ الخلاف هل النية شرط في صحة الذكاة؟ وذلك مبني على اختلافهم فيها هل هي من العبادات أو لا؟ وقد سبق ما يدل على أنها من العبادات، فالنية لا بد منها فيها، ومن أجل ذلك اتفق علماؤنا على منع ذبيحة السكران والمجنون، واختلفوا في إباحة ذبيحة الصبيان، وأكثرهم على إباحتها، لأنهم وإن لم يكلفوا بالعبادات إلا أنها تصح منهم، ولذلك جاء في السنة ما يدل على صحة إمامتهم في الصلاة كما في قصة عمرو بن سلمة الذي أم قومه وهو صبي، لكونه أكثرهم قرآنا، وكان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)
ولئن جازت إمامته في الصلاة وهي أهم ركن عملي من أركان الإسلام فكيف لا تجوز ذبيحته؟ واستدل ابن حزم في منع ذبيحته وذبيحة السكران والمجنون بأنهم لا يشملهم خطاب الله تعالى بقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، وبأن الصبي لا يجوز إنكاحه لوليته ولا نكاحه ولا بيعه ولا ابياعه ولا توكيله، وأنه لا تلزمه صلاة ولا صوم ولا حج (8) وفي هذا الاستدلال نظر لا يتسع له المقام.
(1) المجموع:9/9
(2)
البحر الرائق: 8/ 194؛ بدائع الصنائع: 6/ 2775، 2776
(3)
المغني: 11/ 56؛ والذخيرة: 4/ 122
(4)
ابن حزم، المحلى: 7/ 457
(5)
بيان الشرع: 27/ 23، 24
(6)
شرح النيل: 4/ 488
(7)
رواه أبو داود السجستاني في سننه في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، بعدة طرق، الأحاديث برقم (585) و (586) و (587) .
(8)
المحلى:7/ 457
2-
المرتد: منع أصحابنا والجمهور أكل ذبيحته، لأنه لا يُقَر على ردته ولو كانت إلى اليهودية أو النصرانية، وأجازها إسحاق وكرهها الثوري (1) .
3-
الأعجم: اختلفوا في ذبيحته، فأجازها الجمهور إن فهمت إشارته، وعليه علماء المذهب عندنا بشرط أن يكون عارفا لربه، وذهبت طائفة من علمائنا إلى عدم الجواز لعدم تمكنه من ذكر اسم الله على ذبيحته (2) ، وفي شرح النيل قول ثالث وهو كراهة أكل ذبيحته، والصحيح أنها مباحة لأنه مطالب بأن يذكر الله بقلبه كما يفعل في صلاته، وليست التذكية بأبلغ من الصلاة.
4-
المحارب من أهل الكتاب: ذهب الجمهور إلى صحة تذكيته وهو قول بعض أصحابنا، وذهب أكثرهم إلى المنع من أكل ما ذكاه، كما لا تنكح نساؤهم المحاربات (3)، ويؤيد قول الجمهور ما رواه الشيخان عن عبد الله بن مغفل قال:((دلي جراب من شحم من قصر خيبر، فدنوت لآخذه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم إلي)) . فإن ابتسامته صلى الله عليه وسلم دليل إقراره على ذلك مع أن القوم كانوا محاربين.
5-
من تنصر أو تهود من العرب: كبني تغلب وبهراء وتنوخ، اختلف في ذبائحهم فأباحها الجمهور، ومنعها عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو رأي للإمام الشافعي، واقتصر عليه وأيده النووي في المجموع (4) والقولان في المذهب عندنا (5) ، وقيد الإمام اطفيش شارح النيل جوازها بشرط أن يقرأوا الإنجيل، ليكونوا على علم بأحكام الحلال والحرام، ويتقيدوا في ذكاتهم بما هو مشروع عندهم، إلا أنه نص على أنه لا يشترط أن يقرأه كله وإنما يكفي لذلك بعضه (6) ، وجاء نحو هذا في بيان الشرع (7)
(1) بداية المجتهد: 1/ 450
(2)
بيان الشرع: 27/ 27، 28
(3)
شرح النيل: 495/4
(4)
المجموع: 9/ 94
(5)
شرح النيل: 496/4
(6)
شرح النيل: 496/4
(7)
بيان الشرع: 27/ 26
ورد ابن رشد الخلاف في ذلك إلى الاختلاف في تناول اسم الذين أوتوا الكتاب للعرب المتنصرين والمتهودين كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنو إسرائيل والروم (1)، والتحقيق أنه: يصدق عليهم جميعا لأن الروم أيضا لم يكونوا من الذين أوتوا الكتاب عندما أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام، بل كانوا من الذين يحاربون الكتاب وأهله إلى أن تنصر قسطنطين ملكهم وتابعه على ذلك الشعب الرومي، وقد خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أهل الكتاب عندما بعث إلى ملكهم هرقل كتابا منه ضمَّنه قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64](2)
6-
أن يعتدي على ما لا يملك: كالسارق والغاصب، اختلفوا في حلية ما ذكاه، فالجمهور على أنه حلال، وعزاه النووي إلى الزهري ويحيى ابن سعيد الأنصاري وربيعة ومالك وأبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي (3) ، وذهبت الظاهرية إلى حرمته، ونسبه ابن حزم إلى طاووس وعكرمة وإسحاق ابن راهويه (4) ، ونسب إليهم النووي القول بالكراهة، ولعلها كراهة تحريم كما هو معهود في عبارات السلف، ونسب ابن رشد التحريم إلى داود وإسحاق، وفي المذهب عندنا في ذلك ثلاثة أقوال: المنع وعليه الأكثر، والإباحة مطلقا، والإباحة بشرط أن يكون الغاصب أو السارق سمع منه ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة أو أخبر به ثقة (5) .
(1) بداية المجتهد: 1/ 450
(2)
رواه البخاري كتاب الإيمان، في باب بدء الوحي، الحديث السادس
(3)
المجموع: 9/ 78
(4)
المحلى:7 / 415
(5)
شرح النيل: 4/ 491؛ وبيان الشرع: 27/ 47- 60؛ وجامع أبي الحسن: 3/ 210؛والإيضاح: 2/ 454؟ وجامع ابن بركة: 1/ 118، 119
واستدل ابن حزم لمنع ذلك بثلاثة أدلة:
أولها: أن الله تعالى حرم أكل لحم الحيوان إلا بعد تذكيته، إذ قال عز وجل بعد تعداد المحرمات:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وحرم الاعتداء في الأموال بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) (1) ، ولا يشك مسلم أن المسروق والمغصوب إن ذبح أو نحر لا يكون ذبحه ونحره حقا، وإنما هو باطل، والباطل لا يتوصل به إلى حل ما حرم، على أن الذكاة المشروعة حق مأمور به طاعة لله، والاعتداء على مال الغير معصية لأمره تعالى والمعصية لا تنوب عن الطاعة، ولئن كانت الفروج المحرمة لا تحل إلا بالعقد المأمور به لا بالعقد المحرم، فكيف يباح الحيوان المحرم بالفعل المحرم؟ وما الفرق بين تصيد المُحْرِم للصيد المُحَرَّم، وبين ذبح المتعدي لما حرم عليه ذبحه؟ ثانيها: ما أخرجه مسلم في صحيحه من طريق رافع بن خديج رضي الله عنه قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنما وإبلا فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُكفئن ثم عدل عشرا من الغنم بجزور)) (2) ، ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر بإكفاء ما في القدور لوكان حلال الأكل لأنه نهى عن إضاعة المال، وإنما يدل ذلك يقيناً أنه حرام محض، وأن ذبحه ونحره تعد يوجب الضمان ولا يبيح الأكل لأنها غنائم لم تقسم.
ثالثها: ما أخرجه أبو داود من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، فأصابوا غنما فانتهبوها فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال ((إن النهبة ليست بأحل من الميتة، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة)) ، شك أبو الأحوص - رواية عن عاصم- في أيتهما قال عليه السلام، ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بمنع أولئك من أكل اللحم وإنما أفسده إذ خلطه بالتراب حتى لا ينتفع به آكل، ولو من ملاك الغنم أنفسهم (3)
(1) رواه أحمد بن حنبل في مسنده؛ راجع الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل، كتاب السيرة النبوية، باب ما جاء في بعض خطبه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، رقم الحديث (469) ؛ الفتح: 21 / 218
(2)
رواه مسلم في كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما انهر الدم
(3)
المحلى: 4/ 415، 416- بتصرف-؛ وانظر في هذا جامع ابن بركة: 1/ 118، 119
وهذه الأدلة في غاية القوة والوضوح ويتبين لنا منها رجحان القول بعدم حل ذبيحة المعتدي على غيره، على أن القائلين بخلافه لم نجد منهم دفعا لهذه الأدلة ولا استدلالا بحجة، ما عدا أن الأصل في ذبيحة المسلم الحل، غير أن ابن حزم ذكر أن بعضهم موه بخبر روي أيضا عن طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فاستقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم أيديهم فأكلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)) فأرسلت المرأة: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أطعميه الأسارى)) . (1)
وأجاب ابن حزم عنه بالعديد من الأجوبة لا يخلو بعضها من نظر (2) ،وإنما أقواها أن تلك الشاة لم تؤخذ تعديا وإنما أخذت بوجه تعارف الناس على مثله عادة لا سيما الجيران، وقد كانت مضمونة على المرأة بثمنها كما دلت على ذلك الرواية من قول المرأة:"ابعث إلي بثمنها".
(1) رواه أبو داود السجستاني في سننه في كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات، رقم الحديث (3332)
(2)
المحلى: 415/4، 416
7-
الأقلف من الرجال: ذهب جمهور علماء الأمة إلى حل ذبيحته، وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى منع أكلها، وهو إحدى الروايتين عن الحسن البصري (1) ، وهو قول أصحابنا الإباضية باتفاق (2) ، إلا أنهم استثنوا من امتنع من الختان لعذر شرعي، كما استثنوا من هذا الشرط أهل الكتاب فلم يروا بأسًا بذبيحتهم وإن لم يختنوا، وقيد بعضهم الاستثناء بالنصارى وحدهم، لأن الختان مشروع عند اليهود كالمسلمين (3)
8-
ما حرمه الله تعالى على أهل الكتاب أو حرموه على أنفسهم وقد ذكوه:
هل يحل للمسلم أكله أو لا؟ قيل بالمنع منه مطلقا، وهو معزو إلى ابن القاسم من المالكية، وقيل بالإباحة، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي واختاره من أصحابه أبو حامد وأبو الخطاب، وهو مذهب ابن وهب وابن عبد الحكم من أصحاب مالك، وقيل بمنع ما حرمه الله عليهم لا ما حرموه على أنفسهم، رواه أحمد عن مالك، ووصفه بأنه مذهب دقيق، وبه قال أشهب، وقيل: بالكراهة دون التحريم، وهو معزو إلى بعض المالكية (4) .
ولعلماء مذهبنا في ذلك ثلاثة أقوال: المنع، والإباحة، والتفريق بين ما حرم عليهم أو حرموه بأنفسهم (5) ؛ ورجح الإمام اطفيش (6) في (هيميان الزاد) الإباحة (7) ، وهو القول الصحيح سواء فيما حرم عليهم أو فيما حرموه على أنفسهم، أما ما حرم عليهم فإن ذلك كان شرعا موقوتا عقوبة لهم على سوء صنيعهم، وقد نسخ ذلك بشريعتنا، والكل متعبد بها، وأما ما حرموه على أنفسهم فذلك أبعد من أن يؤخذ به، لأنه مجرد افتراء ما أنزل الله به من سلطان.
(1) المجموع: 9/ 78؛ وانظر فتح الباري: 9/ 637
(2)
الإيضاح: 2/ 454؛ وشرح النيل: 4/ 489، 490؛ بيان الشرع: 27/ 27
(3)
بيان الشرع: 27/ 40، 41
(4)
بداية المجتهد: 1/ 451، 452؛ المغني: 11/ 58؛ تفسير القرطبي: 7/ 126، 127
(5)
بيان الشرع: 27/ 39-42؛ شرح النيل: 4/ 495
(6)
هو قطب الأئمة العلامة محمد بن يوسف بن عيسى اطفيش، ولد في بني يسجن بوادي ميزاب بالجزائر سنة 1236 هـ، كان حافظا ذكيا بزغ في كل العلوم الإسلامية، وألف في جلها، بلغت مؤلفاته أكثر من ثلاثمائة مؤلف، وكان من رجال الإصلاح الإسلامي الحديث، توفي رحمه الله سنة 1332 هـ؛ أنظر شرح النيل، ط مكتبة الإرشاد- جدة، السعودية
(7)
هيميان الزاد: 5/ 325
وحجة المانعين أن الله أباح طعامهم وذلك ليس من طعامهم، وتدخل في الإباحة على القول الراجح الشحوم ولو كانت حراما عليهم بدليل حديث عبد الله بن مغفل عندما دنا من أخذ جراب الشحم من قصر خيبر، فابتسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم إقرارا له، وهو قول جمهور العلماء، بل قيل إنه لم يخالف في الشحوم إلا مالك وأصحابه، وهم فيها مختلفون، منهم قال بكراهتها ومنهم من قال بتحريمها ومنهم من قال بإباحتها، ورد ابن رشد الخلاف في ذلك إلى الخلاف في تبعُّض التذكية؛ بحيث يسري حكمها على بعض الحيوان (1) دون بعض، وهو مأخذ بعيد جدا، وهو خاص بالشحوم، أما ما عداها وهو كل ذي ظفر فالخلاف فيه مبني على الاختلاف في اشتراط اعتقاد المذكي تحليل الحيوان بتذكيته، فمن اشترطه لم يبحه لأنهم يعتقدون أن التذكية تحللها، ومن لم يشترطه تمسك بعموم الآية المحللة (2)
(1) بداية المجتهد: 1/ 451، 452
(2)
بداية المجتهد: 1/ 451، 452
المبحث الثالث: فيما يذكى به:
ينبغي للإنسان أن يحرص على الرفق بالحيوان حسب وسعه في تذكيته، فيختار له الآلة الأنسب التي تؤدي إلى الغرض مع تخفيف الألم عن المذكى بقدر المستطاع، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) (1) ، وعلى هذا الأساس يكون اختيار آلة التذكية، وقد وسع الله تعالى لعباده المجال في ذلك ليختاروا بأنفسهم ما يرونه أنسب، كما يدل عليه حديث رافع بن خديج رضي الله عنه عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى، فنذبح بالقصب؟ فقال صلى الله عليه وسلم:((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر وسأحدثكم عنه، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)) (2) ، فالحديث أطلق جواز التذكية بكل ما أنهر الدم، إلا أنه استثنى شيئين دل تعليله استثناء أحدهما على استثناء ثالث لهما عندما قال: أما السن فعظم، وهو دليل على عدم جواز الذكاة بالعظام كالأسنان والأظفار، ومع هذا النص الشريف لا أجد داعيا إلى مناقشة ما اختلف فيه الفقهاء من التذكية ببعض الآلات، وبحث اختلافهم في التذكية ببعض ما استثني، وفيما إذا انفصل الظفر والسن، فإن ذلك كله لا يعدو أن يكون اشتغالًا بالإطالة فيما لا جدوى من ورائه، فإن الحديث واضح صريح، إذ أطلق الإباحة في استعمال كل ما يؤدي إلى هذه الغاية ما عدا تلك المستثنيات، ولم يقيد استثناءها بكونها غير منفصلة، وإنما يرجع إلى أهل الخبرة في معرفة الآلات التي يمكن بها قضاء هذا الوطر مع مراعاة الرفق بالحيوان، وإذ جاء نهر الله بطل نهر معقل.
(1) رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح وتحديد الشفرة؛ ورواه أيضا غيره من أهل السنن.
(2)
رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد.
المبحث الرابع: في النية والتسمية:
اتضح مما سبق أن التذكية من القربات إلى الله عز وجل، والقربات لا بد لها من نية؛ للحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما الأعمال بالنيات)) (1) فلذلك كانت النية شرطا في صحة الذكاة، كما نص عليه العلامة الشماخي (2) في الإيضاح (3) ، والإمام الثميني في النيل وشارحه العلامة اطفيش في شرحه (4) ، والإمام ابن العربي في أحكام القرآن (5) ، ويفهم من كلامه أنها مشروطة عند الشافعية؛ إذ ألزم إمام الحرمين باشتراطه لها كون الذكاة قربة.
ونسب ذلك ابن رشد إلى المذهب- أي مذهب المالكية- وقال:
"ولا أذكر فيها خارج المذهب في هذا الوقت خلافا"(6) ، وهو الذي يقتضيه كلام العلامة الكاساني الحنفي، حيث قال في شرائط التسمية المبيحة للذبيحة:"ومنها أن يريد بها التسمية على الذبيحة، فإن من أراد بها التسمية لافتتاح العمل لا يحل، لأن الله سبحانه وتعالى أمر بذكر اسم الله تعالى عليه في الآيات الكريمة، ولا يكون ذكر اسم الله عليه إلا ويكون يراد بها التسمية على الذبيحة- إلى أن قال: "وكذا لو سبح أو هلل أو كبر ولم يرد به التسمية على الذبيحة، وإنما أراد به وصفه بالوحدانية والتنزه عن الحدوث لا غير لا يحل لما قلنا" (7) ، فإن اشتراط القصد في هذا الكلام صريح، وهو عين النية المطلوبة، ويقرب منه ما قاله العلامة السرخسي: "وإنما يتميز الذكر على الذبح وغيره بقصد منه التسمية فإذا لم يقصد التسمية لا يحل ". (8)
(1) رواه الإمام الربيع بن حبيب في مسنده الجامع الصحيح في باب (1) ، في النية، تحت حديث رقم (1) ؛ ورواه غيره الكثُر في الحديث
(2)
هو العلامة الإمام أبو ساكن عامر بن علي بن عامر الشماخي، من علماء القرن السابع الهجري، ولد في جبل نفوسة بليبيا، بلغ من العلم شأوًا كبيرا، حتى أصبحت كتبه كالإيضاح مقدما على غيره عند الإباضية، عرف بإنشاء المدارس العلمية، تخرج على يديه فحول العلماء منهم: أبو القاسم- صاحب (الجواهر المنتقاة) - انظر كتاب الإيضاح
(3)
الإيضاح: 2/ 442
(4)
انظر شرح النيل: 4/ 469، 477، 478
(5)
أحكام القرآن: 2/ 750
(6)
بداية المجتهد: 1/ 449
(7)
بدائع الصنائع: 6/ 2783
(8)
المبسوط: 12/ 4
وأما ذكر اسم الله عند التذكية فلا خلاف في مشروعيته بين الأمة، وحكى الإجماع على ذلك النووي في شرحه على صحيح مسلم (1) ، والحافظ ابن حجر في فتح الباري (2)، إلا أنهم اختلفوا في كونه شرطا لصحة التذكية وما يترتب عليها من حل لحم الحيوان على أقوال:
أولها: أن ذكر الله شرط لصحة التذكية، فمن تركه عمدا أو نسيانا في ذبح أو نحر أو صيد لم يكن فعله ذكاة شرعية، وحرم بذلك لحم المذبوح أو المنحور أو الصيد، وعزا القرطبي هذا القول إلى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وابن ربيعة ونافع وعبد الله بن زيد الخطمي وابن سيرين وأبي ثور وداود بن علي وأحمد في رواية (3) ، وعزاه أبو محمد الحسن البسيوي (4) إلى ابن عباس، رضي الله عنهما، وذكر أبو حيان (5) أنه رواية عنه، واقتصر عليه ابن حزم وانتصر له وعزاه إلى جماعة منهم عبد الله بن يزيد، ووصفه بأنه صحيح الصحبة، وإلى الشعبي (6)، وقال ابن قدامة في المغني (7) : أنه تحقيق المذهب- أي مذهب الحنابلة-، وعزاه في بيان الشرع (8) إلى الإمام الربيع بن حبيب (9) ، وعزاه الكاساني (10) والفخر الرازي (11) إلى الإمام مالك، وذكر الشوكاني (12) أنه مروي عنه، وحكاه قولًا له ابن كثير (13) وذكر أنه اختاره من متأخري الشافعية أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي، وعليه العمل عند أكثر علمائنا (14) .
(1) شرح النووي على صحيح مسلم: 13/ 73
(2)
فتح الباري: 9/ 601
(3)
تفسير القرطبي: 7/ 75
(4)
جامع أبي الحسن البسيوي: 3/ 208، الإمام أبو الحسن البسيوي: هو العلامة المحقق الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن علي البسياني، ولد في بسيا بولاية بهلا بالمنطقة الداخلة بسلطنة عمان، وهو من علماء القرن الرابع، تلقى العلم في بداية حياته عن أبيه، ثم تتلمذ على العالم الفقيه المحقق ابن بركة، ومن أشهر مؤلفاته جامع أبي الحسن، وهو مؤلف عظيم وشامل لعلم الشريعة، ومن أحسن المؤلفات جمعا وتحقيقًا، واختصره في كتاب (مختصر البسيوي) ،انظر كتاب (جامع أبي الحسن البسيوي) وكتاب (مختصر البسيوي) .
(5)
البحر المحيط: 4/ 212
(6)
المحلى:7 / 412- 414
(7)
المغني: 11 / 3
(8)
بيان الشرع: 27/ 11
(9)
هو الإمام المحدث الحافظ أبو عمرو الربيع بن حبيب الفراهيدي، من غطفان بأرض الباطنة من سلطنة عمان، أخص تلامذة الإمام أبي عبيدة، وتحمل من بعده إمامة المذهب الإباضي، أدرك الإمام جابر بن زيد وهو شاب، صنف مسندا في الحديث الشريف، انظر شرح الجامع الصحيح
(10)
بدائع الصنائع: 6/ 2778
(11)
التفسير الكبير: 13/ 164
(12)
نيل الأوطار: 9/ 10- 11
(13)
تفسير القرآن العظيم: 2/ 169
(14)
انظر بيان الشرع: 27/ 6- 9؛وجامع أبي الحسن: 3/ 208
ثانيها: أن ذكر الله شرط لصحة التذكية، ولكن يسقط اشتراطه في حال النسيان، فيحل أكل المذكى دونه، أما في حالة العمد فلا تصح دونه التذكية، ولا يحل مع تركه المذبوح، وبه قال إسحاق وروي عن أحمد بن حنبل، وقاله في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، واختاره النحاس (1) ، وبه قال الناصر والقاسمية (2) ، وعزاه في بيان الشرع (3) إلى الإمام أفلح (4) بن عبد الوهاب، وحكى أنه نسبه إلى الإمام أبي الشعثاء جابر بن زيد، واعتمده الإمام اطفيش في الهيميان (5) ، ويجنح إليه كلامه في التيسير (6) ، ونسبه ابن كثير (7) إلى جماعة منهم الإمام علي وابن عباس، رضي الله عنهم من الصحابة، وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس والحسن البصري وأبو مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وذكر ابن قدامة أن حنبل نسبه إلى أبيه الإمام أحمد إلا أنه نسب إلى الخلال أنه قال: سها حنبل في نقله، فإن في أول مسألته: إذا نسي فقتل لم يأكل (8)
(1) تفسير القرطبي: 7/ 75، وانظر البحر المحيط لأبي حيان: 4/ 212، وأحكام القران لابن العربي: 2/ 749، وبداية المجتهد: 1/ 448، والمنتقى للباجي: 3/ 104؛ والاختيار: 5/ 159، والبحر الرائق: 1/ 191، وبدائع الصنائع: 6/ 2778
(2)
نيل الأوطار: 9/ 10
(3)
بيان الشرع: 27/ 11
(4)
هو الإمام أفلح بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن الرستمي، ثالث أئمة الدولة الرستمية بتيهرت، كان شجاعا مقداما، وكانت أيام إمامته أيام عدل وإنصاف واستقرار، دامت إمامته رحمه الله ستين عاما، انظر طبقات المشايخ بالمغرب
(5)
هيميان الزاد: 6/ 240
(6)
تيسير التفسير: 3/ 437، 438
(7)
تفسير القرآن العظيم: 2/ 170
(8)
المغني: 3/11
ثالثها: إن التسمية ليست بشرط رأسا، فيحل أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا كان الترك أو نسيانا، وهو مذهب الشافعي وأصحابه (1) ، ونسبه القرطبي إلى الحسن، وذكر أنه مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاووس وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة، ثم قال:"وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا". (2) ، وأضاف أبو حيان (3) إلى هؤلاء ربيعة والأصم، وما ذكره الإمام اطفيش في تفسيره يوحي بأنه يجنح إليه، وذلك أنه قال:"أما موحد ذكى بلا ذكر لاسم الله ساهيا أو عامدا فلا بأس بذكاته ". (4)، إلا أنه قال بعد ذكره لبعض الروايات التي عول عليها أصحاب هذا القول:"وذلك محمول عندنا على من لم يذكر اسم الله نسيانا"(5) ، ويفهم من كلام الإيضاح والنيل وشرحه أن الأقوال الثلاثة في المذهب (6) ، وذكر الحافظ ابن حجر أن للشافعية في العمد ثلاثة أوجه؛ وهي أنه يكره، وخلاف الأولى، ويأثم بالترك ولا يحرم الأكل (7) .
(1) المجموع: 9/ 102؛ وشرح صحيح مسلم للنووي: 13/ 73.
(2)
الجامع لأحكام القرآن: 7/ 75
(3)
البحر المحيط: 4/ 212
(4)
تيسير التفسير: 437/3
(5)
تيسير التفسير: 437/3
(6)
انظر الإيضاح للشماخي: 2/ 443؛ والنيل وشرحه: 4/ 170، 171
(7)
فتح الباري: 9/ 651
رابعها: إن ترك التسمية عمدا كره أكلها، قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علماء المالكية (1) .
خامسها: تؤكل ذبيحة من تركها ولو عمدا إن لم يكن مستخفا بها، قاله أشهب والطبري (2) ، ولست أرى فارقاً بين هذا القول والقول الثالث إلا أن يكون لفظيا، فإنه ليس من شأن المسلم ولو فاسقا أن يستخف باسم الله تعالى، ومن فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وصار في عداد المرتدين.
سادسها: ما ذهب إليه ابن العربي وتابعه عليه القرطبي وهو أن تارك التسمية لا يخلو من ثلاثة أحوال: "أحدها أن يترك التسمية إذا أضجع الذبيحة لأنه يقول: قلبي مملوء من أسماء الله وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر ذلك بلساني، فلذلك يجزيه لأنه قد ذكر الله وعظمه، وإن قال: ليس هذا موضع التسمية صريحا فإنها ليست بقربة فهذا يجزيه لكونه على مذهب يصح اعتقاده اجتهادا للمجتهد فيه وتقليدا لمن قلده، وإن قال: لا أسمي وأي قدر للتسمية؛ فهذا متهاون كافر فاسق لا تؤكل ذبيحته "(3)، ثم قال ابن العربي:"إنما يتصور الخلاف في المسألة على الصورتين الأوليين، فأما على الصورة الثالثة فلا تشخيص لها". (4)
(1) ابن العربي، أحكام القران: 2/ 749
(2)
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 7/ 75
(3)
ابن العربي، أحكام القران: 2/ 751؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 7/ 76
(4)
ابن العربي، أحكام القران: 2/ 751؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 7/ 76.
بحث أدلة هذه الأقوال وتمحيصها:
استدل أصحاب القول الأول بكثير من الأدلة من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] ، فإنه دال بمنطوقه على إباحة أكل ما ذكر عليه اسم الله، ودال بمفهومه على المنع مما لم يذكر اسمه، وقوله سبحانه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، وهو دال بمنطوقه على المنع من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وبمفهومه على إباحة أكل ما ذكر اسمه عليه، فمنطوق كل واحدة من الآيتين يعضد مفهوم الأخرى، وقوله:{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] ، وهو زجر عن الامتناع عن أكل ما ذكر اسمه تعالى عليه.
وتعتضد دلالة هذه الآيات بدلالة الآيات الأخرى التي تدل على الأمر بذكر اسم الله حال التذكية، وعلى أن ذكر اسمه تعالى مطلب يرتبط بما أنعم به على عباده من بهيمة الأنعام، وهي قوله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]، وقوله:{فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله عزوجل:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وقوله:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] .
قال الإمام المودودي: " فهذا الاستعمال المتعاقب المتسلسل لاصطلاح التسمية في هذه الآيات دليل واضح على أن الذبح والتسمية كلمتان لا تدلان إلا على معنى بعينه في نظر القرآن، فلا نكاد نتصور ذبيحة مشروعة بدون أن يذكر عليها اسم الله ". (1)
وأما السنة فمنها حديث عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((أمرَّ الدم بما شئت، واذكر اسم الله عليه)) (2)، ومن روايته أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)) (3)، وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:((ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل)) (4) ومنها حديث أبي ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك فذكرت اسم الله عليه فكل)) (5)، ومنها حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)) (6) ، إلى غير ذلك من الروايات.
(1) أبو الأعلى المودودي، ذبائح أهل الكتاب، ص 16
(2)
رواه أبو داود في سننه في كتاب الأضاحي، باب في الذبيحة بالمروة، رقم الحديث (2884) ، ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الذبائح، باب (5) ما يذكى به، رقم الحديث (3177)
(3)
رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة؛ ورواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب ما جاء في الصيد، بلفظ: " إذا أرسلت كلابك المعلمة
…
"
(4)
رواه أبو داود في سننه في الصيد، باب في الصيد، رقم الحديث (2851)
(5)
رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب صيد القوس؛ ورواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة
(6)
سبق تخريجه
ووجه الاستدلال بهذه الروايات أنها جميعا تنوط إباحة الأكل بذكر اسم الله عند الذبح أو الصيد، وهذا يعني أن الإباحة معلقة على حصول هذا الشرط، وبانعدام الشرط ينعدم المشروط فلا إباحة بدونه، قال الحافظ ابن حجر:"المعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصف، ويتأكد القول بالوجوب بأن الأصل تحريم الميتة، وما أذن فيه منها تراعى صفته، فالمسمى عليها وافق الوصف وغير المسمى باق على أصل التحريم "(1) .
وأجيب عن الاستدلال بالآيات بأن أقواها دلالة على الغرض هو قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، وهو محمول على المنع من أكل ما أهل به لغير الله أو الميتة، أمّا حمله على أن المراد به ما أهل به لغير الله فدليله قوله تعالى إثره:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، وجاء بيان الفسق في قوله:{أو فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، واعترض بأن قوله تعالى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، سيق مساق التأكيد لهذا الحكم والتغليظ على من خالفه، والضمير راجع فيه إلى الأكل المفهوم من قوله:{وَلَا تَأْكُلُوا} ، مثله في ذلك مثل قوله عز وجل:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، فإن ضمير الفصل فيه عائد إلى العدل المفهوم من قوله:{اعْدِلُواْ} ولا اعتراض على هذا بما قاله بعضهم من أن الضمير عائد إلى عدم الذكر المفهوم من قوله: {لَمْ يُذْكَرِ} لأن الكلام سيق من أجل النهي عن الأكل، ومخالفة النهي الإلهي فسق.
(1) فتح الباري: 9/ 651.
ورد عليه بأن ذلك لا يتم إلا مع جعل الواو عاطفة مع أن حملها على العطف هنا غير جائز، لعدم اتحاد الجملتين المعطوفة والمعطوف عليها، فالمعطوفة خبرية والمعطوف عليها إنشائية، ولا يجوز عطف الخبر على الإنشاء ولا العكس، وإذا تعذر العطف فلا محمل للواو إلا على الحال، ومن شأن الحال أن تفيد تقييد الحكم الذي تليه، وهذا يعني أن النهي مقيد بحال كون المنهي عن أكله فسقا، وهو ما أهل به لغير الله كما تقدم، ورد بأن حمل الواو هنا على أنها واو الحال يقتضي أن ما يعطف على الجملة التي دخلت عليها له أيضا حكم الحال، فإن العطف يقتضي اشتراك الجمل المتعاطفة في أحكامها، وقد وليت هذه الجملة جملتان في قوله عزوجل:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، وأي مكان للحال في هاتين الجملتين؟ على أن الجملة الحالية لا تكون إلا عارية من التأكيد لاستغنائها عنه، وماذا بعد التأكيد بـ إن واللام في قوله {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ولو أريد بها الحال لكانت: وهو فسق (1)
(1) انظر في مجموع ما قيل هنا: الفخر الرازي، التفسير الكبير: 13/ 168، 169؛ وتفسير ابن كثير: 2/ 196؛والألوسي، روح المعاني: 8/ 15، 16
وأما حمله على أنه في الميتة فمعوله على ما أخرجه أبو داود والطبري والبزار عن طريق ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: نأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله؟ فنزلت {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، وهذا يعني أن الآية إنما نزلت في تحريم الميتة، فلا يحمل على حكمها غيرها.
وأما الأحاديث التي ناطت الأكل من الصيد وغيره بذكر اسم الله عليه فهي محمولة على الندب (1) ، وأما القول الثاني- وهو قول من فرق بين حالتي العمد والنسيان- فإن أصحابه استندوا في تشددهم حالة العمد إلى ما استند إليه أصحاب القول الأول، واستدلوا على عذر الناس بقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، مع ما علم من أنه لا يفسق غير العامد، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (2) ، وبما أخرجه البيهقي من طريق ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل)) (3)، وبما رواه ابن عدي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اسم الله على كل مسلم)) (4) .
(1) النووي، شرح مسلم: 12/ 74
(2)
رواه ابن ماجه في سننه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، رقم الحديث (2045)
(3)
رواه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصيد والذبائح، باب من ترك التسمية وهو ممن تحل ذبيحته، بطرق مختلفة، وفي ألفاظها بعض الاختلاف.
(4)
انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 2/ 170؛ وابن العربي، أحكام القرآن: 2/ 750؛ والالوسي، روح المعاني: 8/ 15؛ واطفيش، تيسير التفسير: 3/ 438؛ وشرح النيل: 4/ 475؛والباجي، المنتقى: 3/ 105؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 6/ 2780؛ ابن مودود الموصلي، الاختيار لتعليل المختار: 5/ 15؛ابن رشد، بداية المجتهد: 1/ 448، 449؛أبو فارس، أحكام الذبائح في الإسلام، ص 47، العبادي، الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 30.
وأما القول الثالث- وهو قول من أباح ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا كان ذلك أو نسيانا- فقد استدل أصحابه بالقرآن والسنة؛ أما القرآن فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، قال الدكتور أبو فارس:"وجه الاستدلال في هذه الآية أن الله عز وجل ذكر المحرمات ولم يذكر فيها متروك التسمية"(1)، وقوله سبحانه:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] ، ووجه استدلالهم به هو نفس ما ذكر من قبل (2)، وقوله عز من قائل:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، قال الدكتور أبو فارس:"وجه الاستدلال أن الله عز وجل أباح ذبائح أهل الكتاب، ولم يشترط التسمية منهم على ذبائحهم حتى تؤكل "(3) .
(1) أبو فارس، أحكام الذبائح في الإسلام، ص 49
(2)
الكاساني، بدائع الصنائع: 6/ 2778؛ والعبادي، الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 31، 32
(3)
أحكام الذبائح في الإسلام، ص 49.
وأما السنة فقد استدلوا منها بما أخرجه البخاري والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ((سموا أنتم عليه وكلوه)) (1)، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. ووجه استدلالهم ما قاله المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية على الذبيحة لا تجب، إذ لو كانت واجبة لاشترطت على كل حال، وقد أجمعوا على أن التسمية على الأكل ليست فرضا، فلما نابت عن التسمية على الذبح دل أنها سنة، لأن السنة لا تنوب عن الفرض (2) .
وبما رواه أبو داود عن الصلت السدوسي مولى سويد بن ميمون
- وهو أحد التابعين- قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: ((ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله)) (3)، قال ابن كثير: هذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: "إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله "(4) .
(1) رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم؛ ورواه الدارقطني في كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك، ورقم الحديث في هذا الباب (99)
(2)
فتح الباري: 9/ 635
(3)
تفسير ابن كثير: 2/ 169
(4)
تفسير ابن كثير: 2/ 169
وهذه الأدلة كلها لا تقاوم أدلة من خالفهم ولا تدانيها، فأما ما استدلوا به من آيتي المائدة والأنعام فهو استدلال أوهن من أن يرقى إلى مراتب الأدلة الشرعية وأضعف من أن يحتاج إلى رد، فإن ذكر حكم من الأحكام في أعيان يتعلق بها لا يكون بحال دليلا على عدم تعلقه بغيرها حتى يرد به الدليل الدال على ذلك وإن كان نصا فيه.
ولو كان الأمر كما قالوا لما كان وجه لتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لعدم ذكره في الآيات التي تحدثت عن المحرمات من النساء في سورتهن، وخصوصاً مع ما وليها من قوله عز وجل:{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وهذا يعني إبطال مدلول حديث "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"(1) ، مع أن الإجماع منعقد على الأخذ به، وكذلك يترتب عليه أن لا يحرم بالرضاع إلا الأمهات والأخوات فقط، لأنهن وحدهن المنصوص عليهن بالتحريم في سورة النساء، وهو أيضاً يقتضي إسقاط الاستدلال بالأحاديث الدالة على أن كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع؛ مع انعقاد الإجماع على الأخذ بها، ويستلزم أيضا رد كل ما جاءت به الأحاديث من تحريم الحمر الأهلية، وتحريم ذوات الناب من السباع والمخالب من الطير لعدم ذكرها في آيتي المائدة والأنعام ونظائرهما.
(1) رواه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، من طريق أبي هريرة، بطرق عدة وألفاظ مختلفة؛ ورواه الإمام الربيع بن حبيب في مسنده الجامع الصحيح، في كتاب النكاح، باب (25) ما يجوز من النكاح وما لا يجوز، رقم الحديث (517)، بلفظ:"ألا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها"؛ ورواه كذلك البخاري بهذا اللفظ في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها.
بل يترتب عليه أيضا عدم الأخذ بما في آية المائدة من الزيادة التي لم تذكر في آية الأنعام، وهي تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، ويؤدي إلى الاسترسال في نقض كثير من الأدلة، وإنكار الكثير من الأحكام، كالرجم لعدم ذكره في سورة النور، وحرمة قذف المحصنين كقذف المحصنات ووجوب الحد عليهم، لأن ما في تلك السورة اقتصر على ذكر المحصنات وحدهن.
هذا مع أن الأدلة التي عول عليها القائلون بحرمة ما لم يذكر اسم الله عليه لا تحوم حولها ريبة ولا يدانيها لبس، فهي آيات محكمات واضحات وأحاديث صحيحة صريحة، وقد أجاد الإمام المودودي عندما قال بعد ذكر طائفة منها:" إنه لا يبقى أي مجال للشك بعد هذه الأحكام الواضحة الصريحة لله ورسوله في أن التسمية شرط لا بد من تحققه لحل الذبيحة، وإن كل حيوان يموت أو يقتل بدون أن يذكر اسم الله عليه هو حرام لا يحل أكله، ويا ليت شعري أي نوع من النصوص يجب أن يتوفر لثبوت حكم من الشريعة إذا كان هو لا يثبت بمثل هذه الآيات الواضحة والأحاديث الصريحة". (1)
وأما قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، فهو لم يتعرض للتسمية سلباً ولا إيجاباً، فكيف ترد به النصوص الصريحة الدالة على اشتراطها؟ ودعوى أن أهل الكتاب لا يذكرون اسم الله على الذبح فارغة من كل دليل، لأنهم وإن شابوا اعتقادهم بوجود الله بما تراكم عليه من الضلالات التي حجبت نوره عن بصائرهم إلا أنهم لا ينكرون أنه خالق الوجود وباعث الرسل ومنزل الكتاب، فذكره معهود في أديانهم وشرائعهم، وما أبيحت ذبائحهم دون ذبائح المشركين إلا من أجل ما بقي عندهم من تعاليم الكتب التي بين أيديهم.
(1) أبو الأعلى المودودي، ذبائح أهل الكتاب، ص 17.
قال الحافظ ابن كثير: "لا يلزم من إباحة طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وهم متعبدون بذلك، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم، لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم "(1)
وأما حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، فقد أجيب عن استدلالهم بأن دلالته على منع ما لم يذكر اسم الله عليه أقوى وأوضح، فإن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا اللحم لم يكن الباعث على سؤالهم إلا ما استقر في أذهانهم وتعورف فيما بينهم من أن التذكية تتوقف على ذكر اسم الله، وبدونه لا يكون مُذَكّى حلالا، وإنما كانت المبادرة إلى سؤالهم هذا بسبب ما اختلج في نفوسهم من الشك في حصول هذا الشرط من الأعراب الذين أسلموا من جديد، وقد أجابهم النبى صلى الله عليه وسلم بما يقطع دابر الشك ويجتث جذور الوسوسة، ومفاد جوابه أن أعمال المسلمين -ولو دخلوا في هذا الدين من عهد قريب -محمولة على أنها وفق شريعته، فلا داعي إلى الارتياب فيها والتوقف عن الاعتداد بها، وهو معنى أمره صلى الله عليه وسلم لهم أن يسموا ويأكلوا (2)، قال الحافظ ابن حجر:"ويستفاد منه أنه ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية"(3)، وقال الإمام المودودي:"ومن الظاهر كذلك أن اللحم الذي يوجد في أسواق المسلمين في القرى والمدن أنى لكل واحد منا أن يمعن في التحقيق ويتبين عنه بكل دقة واستبصار أنه ذبح من الحيوان الحلال، وأنه قد روعي في ذبحه كل ما لتذكيته من الشروط، وأنه قد ذبحه رجل قديم العهد بالإسلام، وأن هذا الذابح كان عارفاً بقواعد الشريعة للذبح؟ ومتى كلفتنا الشريعة بمثل هذا التحقيق؟ "(4)
(1) تفسير القرآن العظيم: 2/ 19، 20
(2)
انظر ابن عبد البر، الاستذكار: 15/ 213؛ ابن حجر، فتح الباري: 9/ 635؛ أبو الأعلى المودودي، ذبائح أهل الكتاب، ص 19
(3)
فتح الباري: 9/ 635
(4)
ذبائح أهل الكتاب، ص 20
وأما حديث الصلت السدوسي فلا حجة فيه لأنه مرسل، ولا يمكن أن يعتضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس - وإن قال به ابن كثير - لأنه أيضا ليس بحجة فإنه موقوف عليه، والحجة إنما هي في المرفوع.
وأما القول الرابع- وهو أن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه مكروه -
فيبدو أن من قاله حمل النهي في القرآن والسنة على الكراهة دون التحريم وهو بعيد، فإن الأصل في النهي أن يكون للتحريم، ولا يحمل على غيره إلا بدليل، ولا دليل على ذلك بل الدليل على خلافه، كيف وقد اقترن في النص القرآني بوصف المنهي عنه أنه فسق؟
وقد سبق أن القول الخامس لا يعدو أن يكون الخلاف بينه وبين القول الثالث لفظيا، ويتبعه في الاستدلال والإيراد.
وأما القول السادس الذي ذهب إليه ابن العربي وتابعه عليه القرطبي - وهو الذي يفصل أحكام المسألة بحسب اختلاف صورها، فيذهب إلى الإباحة فيما إذا كان الترك من أجل اكتفاء الذابح باسم الله الذي يملأ جوانح قلبه وإن لم يقض ذكره على لسانه، أو من أجل أنه يرى التسمية لا تتناسب مع فعله لأنه ليس بقربة وهي أولى بها القرب، ويذهب إلى المنع إن كان الترك بباعث الاستخفاف باسم الله تعالى- فإنا نرى أن نعرض هذا القول على كلام ابن العربي نفسه، فالصورة الأولى- وهي ما إذا كان ترك التسمية من أجل ما في القلب من أسماء الله- قد تعرض لها ابن العربي نفسه عندما قال:"فإن قيل: المراد بذكر اسم الله بالقلب لأن الذكر يضاد النسيان، ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البراء بن عازب وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ((اسم الله على قلب كل مسلم سمي أو لم يسم)) ، ولهذا تجزئه الذبيحة إن نسي التسمية تعويلا على ما في قلبه من اسم الله سبحانه".
"قلنا الذكر يكون باللسان ويكون بالقلب والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكر الله في الألسنة واستمر ذلك في الشريعة، حتى قيل لمالك: هل يسمي الله إذا توضأ؟ فقال: أيريد أن يذبح؟ إشارة إلى أن موضع التسمية وموضوعها إنما هو في الذبائح لا في الطهارة، وأما الحديث الذي تعلقوا به في قوله: "اسم الله على قلب كل مؤمن " فحديث ضعيف لا تلتفتوا إليه"(1) .
هذا نص كلامه وهو صريح في أن الذكر المطلوب الذي يتوقف عليه حل الأكل لابد من أن يكون باللسان، ولا يكتفى بما في القلب وحده، وهذا هو الذي يتفق مع نسق التشريع وتقتضيه سنن التعبد، فإن الله تعالى يصف القرآن بقوله:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] ، وقد فرض على عباده أن يقرؤوه بألسنتهم في صلواتهم، ولا يكتفى من أحد إن قال: إن القرآن الكريم كله في قرار نفسي وملء ذاكرتي، فلا داعي إلى أن أقرأ شيئا منه في صلاتي. ولا تكون صلاته بذلك صحيحة بالإجماع.
(1) أحكام القرآن: 2/ 750
وأما الصورة الثانية التي أسقط فيها اشتراط الذكر لحل المذبوح وهي أن يقول الذابح: إن الذبح ليس قربة فلا داعي إلى ذكر اسم الله عليه، فنعرضها أيضا على كلامه بنفسه، فقد قال بعد ذكره لأدلة وجوب التسمية: "وهذه أدلة ظاهرة غالبة عالية وذلك من أظهر الأدلة وأعجب لرأس المحققين إمام الحرمين يقول في معارضته هذا: وذكر الله إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة، قلنا: هذا فاسد من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعارض القرآن والسنة كما قلنا.
الثاني: أن ذكر الله مشروع في كل حركة وسكنة حتى في خطبة النكاح، وإنما تختلف درجاته بالوجوب والاستحباب.
الثالث: أن الذبيحة قربة بدليل افتقارها إلى النية عندنا وعندك، وقد قال الله تعالى:{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} ". [الحج: 37](1)
ولئن كان مأخذ الذابح التارك لاسم الله هنا نظرة يعارضها القرآن والسنة- وهما أصلا التشريع- كما يفيده كلام ابن العربي بل ويعارضها الأصل الثالث وهو الإجماع، كما سبق نقله عن الإمامين النووي والحافظ ابن حجر، فما هو الأولى؟ هل هو ترك ما دلت عليه أصول الشريعة، والأخذ بما أفرزته أوهام البشر، وإقرار أخطائهم المعارضة لما دلت عليه الدلائل القطعية؟ أو أن الأولى أن يقتفى نهج الشريعة المتمثل في الكتاب والسنة والإجماع، وترد إليها أخطاء الناس فتحكم فيها؟ مع أن الله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
(1) أحكام القرآن، لابن العربي: 2/ 749- 750
الرأي المختار:
إن الذي استقر في ذهني- بعد استعراض هذه الأقوال وأدلتها وما يتوجه إلى كل منها من إيراد ودفع- أن من تجرد في هذه المسألة من جميع العوامل النفسية، وأسلس القيادة للدليل وحده لا يرتاب في أن القول الأول هو أصح هذه الأقوال وأعدلها وأبينها حجة وأوضحها محجة، ولو لم يكن عليه من دليل إلا قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] لكن، كيف والأدلة تكتنفه من كل جانب.
أما ما تشبث به معارضوه من أن الآية مقيدة بجملة حالية وهي قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، فيجري حكمها في قيدها، ويحمل على ما أهل به لغير الله، لأنه المنصوص عليه أنه فسق في العديد من الآيات؛ فهو تشبث بما لا طائل تحته، لأنه مبني على أن جملة " وإنه لفسق " حال؛ وهو متعذر لأمرين: تأكيدها بأن واللام، والعطف عليها بما يتعذر حمله على الحال في قوله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، فإن كل ذي ذوق ليدرك أنه لا معنى لتقييد النهي بحال وحي الشياطين إلى أوليائهم بمجادلة المؤمنين في هذا الحكم، والعطف بين الجمل يفيد اشتراكها في حكمها، فإن كانت الجملة المعطوف عليها حالا فلابد أن تكون المعطوفة مثلها وتفيد ما تفيده من التقييد، على أن ما ذكروه أمر لا يلتفت إليه الذهن بنفسه عند تلاوة هذه الآية- كما يقول الإمام المودودي-:"إلا إن وطد الإنسان نفسه مقدما على استحلال ذبيحة لم يذكر عليها اسم الله، فإنه عندئذ يتكلف خلع هذا المعنى على الآية". (1)
(1) ذبائح أهل الكتاب، ص 22
ولم يكن منشأ هذا التأويل البعيد إلا ما فهموه من منع العطف بين جملتين لم تتفقا في الخبرية والإنشائية، وهو أساس متداع فإنه- وإن قال جماعة من النحويين بالمنع من هذا العطف- منقوض بالشواهد الكثيرة التي تفيد الجواز، وإن تأول المانعون بعضها فإن غالبها يستعصي على التأويل، منها قوله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 125] ، فإنَّ "اتخذوا" إنشاء معطوف على "جعلنا"، وهو خبر وعطف عليه خبر آخر وهو "عهدنا"، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] ، وهو كما يظهر للجميع تضمن إنشائين وخبرين، فقد عطفت جملة {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 125] وهي خبر ،على جملة {وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} وهي إنشاء، ثم عطف عليها جملة {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 125] وهي إنشاء، ثم جملة {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 125] وهي خبر؛ ومثله قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، فإن اختلاف الجملتين في ذلك واضح، وبهذا الذي قلناه قال جماعة من محققي النحويين، فقد ذكر الحافظ ابن حجر بأن سيبويه ومن تبعه من المحققين يجيزون ذلك ولهم شواهد كثيرة (1) ، ونسب الإمام محمد الطاهر بن عاشور القول بالجواز إلى المحققين (2) ، وممن قال به الإمام المفسر النحوي أبو حيان (3)
وحمل عليه عطف قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] على قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، واستشهد له بقول امرئ القيس:
وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
وقول الشاعر:
تناغي غزالا عند باب ابن عمر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
(1) فتح الباري: 9/ 624
(2)
التحرير والتنوير: 8/ 41
(3)
البحر المحيط: 1/ 111
وعزا ابن هشام في المغني (1) والسيوطي في الهمع (2) إجازته إلى الصفار تلميذ ابن عصفور وجماعة، وإن الصفار استدل له بقول الشاعر:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم وأكرومة الحيين خلو كما هيا
وأما دعوى أن الآية في الميتة تعويلا على حديث ابن عباس فهي مبنية على الأخذ بخصوص السبب وإلغاء ما يدل عليه عموم اللفظ من شمول الحكم لما هو خارج سببه، وهي مخالفة صريحة لما استقر عليه جمهور الأصوليين والفقهاء من أنه لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ، وفي هذا ما يكفي لدحض هذه الدعوى فضلا عن كون الرواية نفسها غير صحيحة، وذلك من وجوه:
أحدها: أن اليهود لا تستحل الميتة حتى تجادل فيها.
الثاني: أن الآية في سورة الأنعام وهي مكية، والمجادلة بين المسلمين واليهود إنما كانت بالمدينة بعد الهجرة.
الثالث: أن روايات أخرى دلت على أن الذين جادلوا من غير اليهود، فقد أخرج الطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لما نزلت {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، أرسلت فارس إلى قريش إن خاصموا محمدا وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك فهو حلال وما ذبح الله عز وجل بشمشير من ذهب فهو حرام؟ فنزلت الآية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] وهذه الرواية تدل على أن ما نزل بسبب المجادلة هو آخر الآية، وأن أولها المفيد للمنع نزل قبلها، على أن هذه القصة نفسها بعيدة أيضا، فإن القرآن الكريم إبان نزوله بمكة المكرمة لم يكن صيته يصل إلى بلاد فارس حتى يزعجهم فيكتبوا إلى قريش بهذه المجادلة. وروى الترمذي بلفظ "أتى أناس " ولم يذكر أنهم من اليهود، وكذلك رواه ابن جرير من طرق عن ابن عباس من غير ذكر لليهود، وما من شك أن مع مثل هذا الاضطراب تكون الرواية واهية الحجة.
(1) ابن هشام، مغني اللبيب: 2/ 488
(2)
السيوطي، همع الهوامع شرح جمع الجوامع: 2/ 140
وأما ما عول عليه أصحاب القول الثاني- وهم الذين فرقوا بين حالتي العمد والنسيان- في إسقاط حكم المنع عما إذا كان ترك الذكر نسيانا من الاستدلال بحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " وبأن الناسي لا يفسق حتى يقال {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فمدفوع بأن الآية ما جاءت بصيغة النهي عن الذبح بدون ذكر اسم الله، بل جاءت بصيغة النهي عن الأكل مما لم يذكر عليه اسم الله، فإن استيقن أحد أن لحما ما ذبح ولم يذكر عليه اسم الله عمدا أو نسياناً فأقدم على أكله فإنما يقدم على مخالفة نهي عن عمد فيصدق عليه أنه مرتكب لمنهي عنه؛ نعم لو وجد هذا اللحم بيَدِ من تجوز ذبيحته شرعا ولم يكن يعلم أن ذابحه لم يذكر اسم الله عليه فلن يكون عليه حرج إن أكله استصحابًا لأصل الحل فيه، ولا يصدق عليه في هذه الحالة أنه مرتكب لمنهي عنه.
ومن أمعن نظره في هذه الآيات وغيرها وفي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا جانبًا منها لم يخف عليه أن ذكر اسم الله شرط لصحة الذكاة التي يترتب عليها حل اللحم، والشرط لا يسقطه النسيان لأنه يلزم من عدمه العدم، فهو من خطاب الوضع الذي لا يلتفت فيه إلى عمد أو خطأ أو ذكر أو نسيان، أرأيتم الصلاة وشروطها كالطهارة؟ فإنه لو نسي أحد شيئا منها وصلى لم تكن صلاته صحيحة، اللهم إلا إن استمر على نسيانه فإن الناسي معذور، لكنه لو قام إلى صلاته وهو متلبس بحدث أصغر أو أكبر فتذكر قبل دخوله فيها لم يكن له أن يدخل وهو بتلك الحالة، أو بعد الدخول لم يكن له أن يستمر على صلاته، فإن خالف كان مؤاخذا بعمده لأنه مضيع لفرضه.
وليس اشتراط التسمية عند التذكية إلا لحكمة بالغة يجب أن لا تعزب عن المسلم، فإن الحيوان المذكى كائن ذو روح يحب الحياة والراحة ويكره الموت والألم بطبعه، والإقدام على ذبحه إزهاق لروحه وتنغيص لراحته وتفويت لحياته وماله فيها من متع، فلو لم يأذن به الله خالقه ومالكه لكان عدوانا وأي عدوان، إلا أن الله سبحانه الذي له الخلق والأمر، والذي جعل الإنسان خليفة في الأرض وسخر له ما سخر من منافعها ومنافع ما فيها أباح له هذا التصرف فأصبح أمرا مشروعا عندنا يأتيه من بابه ويقدم عليه بإذن من ربه، وليس هذا الذكر المشروع إلا إعلانا منه بأنه ما كان صنيعه هذا اتباعا لهواه وعدوانا على ما خلق الله سبحانه وإنما هو استجابة لداعي الله تعالى الذي يحثه على الانتفاع بالطيبات ويمنعه من تحريمه على نفسه، فالذكر إذن هو الذي يضفي على عمله هذا صفة الشرعية ويصبغه بصبغة التعبد وينأى به عن تبعات الظلم والتعدي ويرفعه إلى درجات القربات، وحسبكم أن الذبح قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والقبلة عندما قال:((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم)) (1) فلا غرو مع ذلك كله أن أغلظ القرآن حكم ترك التسمية على هذا الأمر التعبدي، فزجر عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلى حد إعلان أنه فسق، لأنه بلا ريب خروج عن طاعة من له الطاعة، والفسق أصلا هو الخروج.
(1) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة.
أما استدلال الذين فرقوا بين حكم العمد والنسيان بحديث ابن عباس رضي الله عنهما "المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي الله حين يذبح، فليذكر اسم الله وليأكله " فجوابه ما قاله الحافظ ابن كثير من أن رفع هذا الحديث خطأ أخطأ فيه مغفل بن عبيد الله الجزري، فقد أخرجه سعيد بن منصور من رواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن عكرمة عن ابن عباس من قوله (1) ولئن ثبت أنه من قول ابن عباس فهو موقوف، والحجة إنما هي في المرفوع دونه، وأما حمل النهي في الآية الكريمة على الكراهة فهو كحمل أحاديث اشتراط التسمية لجواز الأكل على الاستحباب والندب، كل منهما مخالف للأصل بلا دليل، فإن الأصل في النهي التحريم، وفي الأمر الوجوب، إلا مع قيام دلالة مقبولة شرعا على صرفهما عن أصلهما، والأدلة هنا كلها شاهدة على بقاء الأصل كما هو فلا مفر من الأخذ به.
هذا وقد ذكر الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أنه ذهب بعض العلماء إلى أن ذكر اسم الله لابد منه ولكنه ليس من اللازم أن يكون ذلك عند الذبح بل يجزئ عنه أن يذكره عند الأكل، فإنه إذا سمي عند الأكل على ما يأكله لم يكن آكلًا ما لم يذكر اسم الله عليه (2) ، وذكر استدلال أصحاب هذا القول بحديث عائشة، رضي الله عنها، ((أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللحم الذي يأتيهم ولا يدرون أذكر اسم الله عليه أم لا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسموا الله هم ويأكلوا.)) وقد سبق بيان المحمل الصحيح لهذا الحديث فلا داعي إلى إعادة القول فيه، ولم يبين الشيخ القرضاوي أحدا من هؤلاء العلماء الذين ذهبوا هذا المذهب.
(1) ابن كثير، تفسير القران العظيم: 2/ 73
(2)
الحلال والحرام في الإسلام، ص 53
وقد كان استقر في نفسي منذ عقود من السنين أن هذا هو رأي الإمام ابن عبد البر، وذلك بسبب قراءتي لما نقله عنه الإمام القرطبي في تفسيره، إلا أني بعد إطلاعي على نص ما قاله ابن عبد البر في الاستذكار والمقارنة بينه وبين ما نقله عنه القرطبي اتضح لي أن القرطبي لم ينقل عبارته كاملة وإنما اقتضبها، فلذلك يتوهم من اطلع على النقل أن ابن عبد البر يرى حمل مشروعية التسمية في الآية على حالة الأكل دون الذبح مع أن عبارة ابن عبد البر صريحة بخلاف ذلك، ومما جاء في كلامه:"إنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليعلمهم أن المسلم لا يظن به ترك التسمية على ذبيحته، ولا يظن به إلا الخير، وأمره محمول على ذلك ما خفي أمره حتى يستبين فيه غيره "(1) ، وهذا هو الذي نقله أيضا الحافظ ابن حجر عنه في الفتح (2)، وقد اتضح من هذا التأويل الصحيح للحديث أن التسمية المطلوبة فيه عند الأكل غير التسمية المطلوبة عند التذكية بقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ونحوه، وهو مما يتبادر للذهن من أول لحظة، فإنه من المعلوم أن قوله:{لَا تَأْكُلُواْ} [الأنعام: 121] نهي، والنهي حكمه مستقبلي إذ" لا" الناهية تخلص المضارع للاستقبال، وقوله:{لَمْ يُذْكَرِ} [الأنعام: 121] نفي للذكر فيما مضى فإن المضارع تنصرف دلالته إلى الماضي عندما تدخل عليه "لم " الجازمة، ومثله قوله تعالى:{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] فإنه أمر بالأكل ودلالة الأمر مستقبلية، وقوله:{ذُكِرَ اسْمُ اللهِ} [الأنعام: 118] دال على أن الذكر واقع بالمأمور بأكله قبل حالة الأكل، ولا حالة أنسب بذلك من حالة التذكية، وقد نص عليها القرآن في قوله عز وجل:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ، ونصت عليها الأحاديث التي ناطت إباحة الأكل بوقوع التسمية عند الذبح والصيد.
***
(1) الاستذكار: 15/ 214
(2)
فتح الباري: 9/ 636
خاتمة في الفرق بين التذكية الشرعية والطرق الحديثة في إزهاق الروح
إن المقارنة بين هذه التذكية المشروعة وبين ما يجرى في بلاد الغرب أو الشرق من إزهاق روح الحيوان بالطرق القديمة أو الحديثة متعذرة لبعد ما بينهما، فإن الحق والباطل لا يلزان في قرن، وشتان بين ما كان تعبدا ربانيا وما كان عادة بشرية مستمدة من إيحاءات نفوس شيطانية وأفكار مأفونة وفطر منحرفة عن سواء السبيل، على أن تلك الطرق التي يتبعونها في ذلك لا تزال امتدادا للتقاليد الوثنية التي كانت متبعة في عهود الرومان قبل اعتناق الإمبراطور قسطنطين للنصرانية (1)
ولئن كانت تطورت شكلياً بتطور وسائلها الحديثة فإن آثارها واحدة، فقد كانوا يستخدمون البلطة والمطرقة والمرزبة لتهشيم رأس الحيوان قبل ذبحه، وكثيرا ما يؤدي بها ذلك إلى الموت من غير ذبح، كما كانوا يستخدمون المنفاخ الآلي بعد خرق حائط صدر الحيوان بين الضلعين الرابع والخامس إلى أن يختنق الحيوان بضغط الهواء على الرئتين؛ ولم يتركوا هذه الطرق إلا إلى مثيلاتها كاستعمال مسدس الطلقة المسترجعة وذلك بتوجيه طلقة إلى جمجمة الحيوان ونسيج مخه من أجل تدويخه، وهو مما قد يؤدي إلى موت الحيوان قبل الذبح، وقد لا يصلون بذلك إلى غرضهم من إفقاد الحيوان إحساسه فيستعينون بإدخال سلك فولاذي عدة مرات في الثقب الذي أحدثه المسدس في الجمجمة؛ أو استخدام التدويخ الكهربائي الذي شاع في دول متعددة ونص عليه القانون البريطاني في عام 1958 م، أو التخدير بثاني أكسيد الكربون، وهي طريقة تعود أولى تجاربها إلى عام 1904 م؛ إلا أن إدخالها في عالم صناعة اللحوم تمت في عام1950م، في أحد مصانع اللحوم المحلية بأمريكا، ثم انتقلت إلى الدانمارك، ثم شملت معظم الدول الأوروبية.
(1) العبادي، الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 64؛ محمد بن عبد الغفار الشريف، الأطعمة المستوردة، ص 64
وهذه الطرق كلها بعيدة عن الذكاة الشرعية وما فيها من خصائص الرحمة والرفق والشعور بالمسؤولية أمام الله ولا حاجة بنا في هذه العجالة إلى بحث ما في استخدام الطرق القديمة من مضار وإنما يكفينا أن نلم إلمامة خاطفة بالطرق المستحدثة.
فأولاها: وهي طريقة استخدام مسدس الطلقة المسترجعة، فتنتج عنها حالة باللحم تسمى بالتبقع الدموي، وهي نقط نزيفية أو بقع أو خطوط في أجزاء مختلفة من أعضاء الذبيحة.
أما الطريقة الثانية: وهي التدويخ الكهربائي، فإن عدم الدقة والإتقان في استخدامها يؤدي إلى نتيجة سلبية حتما، فعندما ينخفض التيار يشل الحيوان شللا تاما مع بقاء وعيه، وتسمى هذه بالصدمة الضائعة، وعندما يزداد- التيار- يصاب الحيوان بالسكتة القلبية القاتلة، وقد عدل عن استخدام هذه الطريقة في الطيور والدواجن منذ عام1970 بإمرارها في حمام مائي مكهرب ليجتمع لها الغرق والصعق؛ على أن التدويخ الكهربائي في جميع أحواله يؤدي إلى إسراع التعفن في اللحم.
قال الدكتور عبد الله عبد الرحيم العبادي: إن دارسي علم وظائف الأعضاء "الفسيولوجي " يقدرون أن الذبح يحدث صدمة نزيفية بها يجتذب كل الدم السائل إلى دورة الدم ويهرب من خلال العروق المقطوعة، بينما يحدث العكس عندما تدوخ الحيوانات أولا، فالتدويخ بالإضافة إلى كونه مؤلما فهو طريقة أقل كفاية من النزيف (الإدماء) ، ففي التدويخ لا يمكن إدماء الحيوان إذا لم يوضع تحت التحكم، وفي ذلك الحين يمكن أن يكون الحيوان ميتا (توقف قلبه بسبب الصدمة) ولا يكون جدوى من نزيف حينئذ؛ والتدويخ قد يكون أكثر رفقا من طرق القتل الجماعي التي وجدت في الماضي في الغرب، لكنه ليس أكثر رفقا من الذبح، ففي الذبح ينتج نزيف شديد مع أول قطع، وفائدته أن الحيوان ينزف منذ أول قطع حتى يتوقف قلبه، وبالتدويخ يطول وقت النزيف وأحيانا عدم وجود وقت للنزيف، فإن التدويخ قبل النزيف له عيب هو أن يحدث صدمة عصبية، وهي حالة يغادر فيها الدم الدورة (1)
(1) الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 66
وقال أيضًا: والحقيقة التي لا يمكن إنكارها والتي نخرج بها من تاريخ المدوخات الآلية هي أنه بعد أكثر من نصف قرن من التجارب لا يوجد مدوخ واحد استخدامه مأمون (1)
وأما الطريقة الثالثة: وهي التخدير بثاني أكسيد الكربون، فمن أشهر عيوبها أنها تؤدي إلى سرعة فساد اللحم، كما قد تؤدي إلى اختناق الحيوان وموته لعدم التحكم في كمية الغاز.
هذا ومن المعلوم أن الذبح بالآلات الكهربائية يفتقد فيه عنصر التعبد اللازم في الذكاة الشرعية؛ لأنه يؤدي إلى حصد ما لا يحصر من الحيوانات بطريقة آلية من غير أن يكون لأحد توجه بالقصد إلى تذكية شيء منها بعينه، وقد عرفنا مما تقدم أن الذكاة الشرعية تتوقف على النية.
هذا ويتميز الذبح في الإسلام بالعديد من المزايا:
ا- أنه طريقة لإدماء الحيوان، فهو أقل ألماً وأشبه بإدماء المتبرع بالدم، بعكس غيره فإن الحيوان يدمى حتى الموت.
2-
أنه يؤدي إلى سرعة موت الحيوان ويعجل بإخراج روحه نتيجة النزيف الشديد الناتج عن فري الأوداج.
3-
أنه أشبه بالتخدير، أي حالة إفقاد الشعور بالألم، بخلاف التدويخ- إفقاد الوعي بضربة أو صدمة- وهو الشكل البدائي الذي تخلى عنه الإنسان منذ سنين.
4-
أنه طريقة صحية إنسانية تمدنا بلحم خال من الدم، فهو صحي ولذيذ (2) .
(1) الذبائح في الشريعة الإسلامية، ص 66
(2)
يراجع في هذا بتوسع ما كتبه د. العبادي في كتابه (الذبائح في الشريعة الإسلامية)، ص 64- 70؛ وما كتبه موثقًا بالصور الأستاذ محمد بن عبد الغفار الشريف في رسالته (الأطعمة المستوردة: طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها) ، ص 64- 76
المحور الثاني
حكم ما جهل إسلام ذابحه مما حل أكل لحمه
لا يخلو المجتمع الذي تجهل فيه هوية ذابح اللحم، إما أن يكون مجتمعاً إسلاميا أو كتابيا أو يكون مجتمعا آخر كالمجتمعات الإلحادية والوثنية، فإن كان من النوع الأخير فالتحريم فيه ظاهر؛ لأنه مجتمع ليس له دين تستباح به ذبيحته، وإن وجد في أوساطه مسلم أو كتابي فهو كالشاذ الذي لا يعتد به ما لم يتيقن أنه هو الذي تولى التذكية.
وإن كان مجتمعا إسلامياً فإن الأصل فيما يوجد بينه الحل ما لم يشتبه في حرمته، والأصل في ذلك ما أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ((سموا وكلوا)) ، وقد سبق نقل ما قاله الحافظ ابن حجر أنه يستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة (1) وإليه يومئ كلام الحافظ ابن عبد البر، وقد تقدم ونص عليه كثيرون ومنهم الإمام المودودي الذي سبق نقل كلامه.
(1) فتح الباري: 9/ 635
ومثله حكم المجتمع الكتابي الذي لم ينغمس في الإباحية والإلحاد، كما يدل عليه حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عند الشيخين قال:((دلي جراب من شحم من قصر خيبر فدنوت لآخذه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم إلي)) فإنه بالقطع لم يكن معلوماً عين من ذبحه، ولكن بما أنه بين اليهود الكتابيين عد في حكم ما ذبحه أهل الكتاب، وفي هذا تيسير للناس إذ الحكم إنما هو للأكثر الغالب؛ ولكن الإمام النووى نص على خلافه، حيث قال:"لو وجدنا شاة مذبوحة ولم ندر من ذبحها، فإن كان في بلد فيه من لا تحل ذكاته كالمجوس، لم تحل سواء تمحضوا أو كانوا مختلطين بالمسلمين؛ للشك في الذكاة المبيحة والأصل التحريم، وإن لم يكن فيه أحد منهم حلت "(1) .
ويستفاد منه أن وجود واحد من هذا الصنف في مجتمع أغلبه مسلمون أوكتابيون كاف في تحريم ما لم يعرف ذابحه، ولا يخفى ما فيه من التشديد، وهو يؤدي إلى حرج عظيم، وإن كان مبنيا على الأصل وهو حرمة اللحوم ما لم تثبت تذكيتها ،إلا أن هذا الأصل مدفوع بأصل آخر، وهو أن ما وجد في بلاد الإسلام محمول على موافقة الشريعة الإسلامية.
على أن الأخذ بما ذهب إليه النووي يؤدي إلى تحريم أن يتزوج أحد في بلد له فيها محارم مجهولة بالنسب أو الصهر أو الرضاع، ما لم يتيقن أن التي تزوجها ليست من محارمه، فإن الأبضاع الأصل فيها الحرمة ما لم يثبت حلها؛ إلا أننا نجد من العلماء من نص على أن جهل النسب لا يؤدي إلى حرمة الزواج ما لم يتبين موجبها، (2) وهو الأيسر والأرفق بالناس.
(1) المجموع: 9/ 80؛ وما يقرب منه ما في حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل: 3/ 9، 10، ط دار الفكر، إلا أنه حمل ذلك على الورع
(2)
السالمي، مشارق الأنوار، ص 120- 121
المحور الثالث:
حكم اللحوم المستوردة
لا يخلو اللحم المستورد إما أن يستورد من بلاد الإسلام أو غيرها، فإن كان استيراده من بلاد الإسلام، فلا شبهة في حله لأن الأصل فيما كان عند المسلم الحل، وأعمالهم محمولة على موافقة الشريعة إلا إن ثبت خلافها، وهذا هو عين ما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها السالف الذكر في ذبائح الأعراب، وإن كان استيراده من غير بلاد الإسلام فإن كان من بلاد غير كتابية كبلدان الهندوس والملاحدة وسائر الوثنيين؛ فلا خلاف في أن حكمه الحرمة، لأنه معدود في ذبائحهم المحرمة فهو ميتة قطعا، وإن كان من بلاد كتابية وعرف أن الذبح من قبل أهل الكتاب أنفسهم مع محافظتهم على طرق الذكاة الشرعية، وكان من لحوم البهائم المحللة فهو أيضا حلال، لأنه داخل في طعام أهل الكتاب الذي أحله الله لنا.
أما إن كان القطر الذي استورد منه اللحم يرفع شعار الانتساب إلى أهل الكتاب من أجل مصلحة سياسية، أو أغراض دنيوية مع انغماسه في الإباحية والإلحاد بسبب تلاشي العقيدة الدينية في نفوس أبنائه، كما هو الشأن في بلاد الغرب اليوم؛ فالواجب تمحيص مسألة اللحوم المستوردة منه والوقوف عندها طويلا من أجل استظهار الحق، ويزيد ذلك تأكيدا ما عرف عنهم من أنهم يتبعون في الذبائح طرقا غير مشروعة في الدين، بل هي أقرب إلى أن تكون قتلًا للحيوان.
وإذا جئنا إلى ما قاله العلماء المعاصرون نجدهم في ذلك مختلفين إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: اتجاه من أباح أكل هذه اللحوم على علاتها نظرا إلى ما يوجد في تلك الأقطار التي تستورد منها من الكنائس التي هي رمز التدين عندهم وما فيها من الرهبان والقسيسين وسائر طبقات رجال الدين الذين ترجع إليهم قضايا الدين في تلك الشعوب مع الاستناد إلى عموم قول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، وممن نحا هذا المنحى الإمام محمد عبده في الفتوى الترنسفاليه التي أحدثت ضجة كبرى في مصر وغيرها، وتابعه على ذلك تلميذه العلامة السيد محمد رشيد رضا في تفسير المنار وفي فتاواه، ووافقهما جماعة من أهل العلم منهم: العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ الإمام إبراهيم بن عمر بيوض في بعض فتاواه، والشيخ العلامة عبد الرحمن بن عمر بكلي (1) ، وبه كان يفتي شيخنا إبراهيم بن سعيد العبري، وبه أخذ الدكتور يوسف القرضاوي (2)، واستأنس جماعة من هؤلاء بقول ابن العربي:"ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل يؤكل معه أو تؤخذ طعامًا منه؟ فقلت: تؤكل؟ لأنها طعامه وطعام أحباره، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه، ولقد قال علماؤنا أنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكًا في الصلح، فيحل لنا وطؤهن، فكيف لا تحل ذبائحهن، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة"(3)
(1) انظر تفسير المنار: 6/ 199- 219؛ وفتاوى الإمام الشيخ بيوض، ص 567- 569؛ وفتاوى البكري: 1/ 78- 89، 108، 109؛ وفصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ص 8، 9، وما بعد ذلك إلى صفحة 29؛ ورسالة الأطعمة المستوردة طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها، للأستاذ محمد بن عبد الغفار الشريف، ص 98
(2)
الحلال والحرام في الإسلام، ص 54-58
(3)
أحكام القرآن: 2/ 556؛ وانظر تفسير المنار: 6/ 203، 204؛ وفصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب، ص 90 والحلال والحرام في الإسلام، ص 56
الاتجاه الثاني: اتجاه من أباحها مع مراعاة الضوابط الشرعية التي تحل بها الذبيحة، منها أن يكون الذابح يهوديا أو نصرانياً وأن يكون ذبحه إياها في رقبتها أو نحرا في لبتها حال كونها حية، وأن يذكر اسم الله عليها على رأي من يشترط في صحة الذكاة، وأن لا يذكر عليها غير اسمه تعالى، وأن لا تكون موقوذة بإطلاق مسدس عليها أو تسليط تيار كهربائي إلى أن تموت، وهو الذي نصت عليه الفتوى رقم (1216) الصادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الرياض بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 20/ 3/ 1396 هـ، ومثله جاء في الفتوى رقم 56/ 82 الصادرة عن لجنة الفتوى في وزارة الأوقاف الكويتية بتاريخ 17 جمادى الآخرة 1402 هـ، وهو قول جماعة من العلماء (1)
الاتجاه الثالث: اتجاه من تشدد في هذه اللحوم وعدها في حكم الميتة المحرمة بالنص، وأفتى بحرمة الاتجار فيها كحرمة أكلها، وهو قول طائفة كبيرة من أهل العلم منهم الإمام المودودي (2) ، والعلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد (3) ، وعزي إلى كل من الشيخ محمد الخضر حسين الذي كان شيخًا للأزهر، والشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد، والدكتور عبد الله عزام، والشيخ صالح علي العود، والشيخ عبد الله علي الغضية، والشيخ عبد اللطيف مشتهري، والدكتور محمد حميد الله، والدكتور عمر الأشقر، والدكتور محمد بن عبد الكريم، وهو الذي اعتمده المجلس الأعلى العالمي للمساجد في مكة المكرمة في دورته الرابعة (4)، وهو الذي جزم به شيخنا العلامة أبو إسحاق اطفيش في تعليقه على جوهر النظام (5) ؛ وقد استند هؤلاء إلى أمور:
(1) انظر في ذلك الأطعمة المستوردة- طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها، للأستاذ محمد بن عبد الغفار الشريف، ص 79، 80
(2)
تراجع في ذلك رسالته القيمة (ذبائح أهل الكتاب)
(3)
حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب وغيرهم، ص 53
(4)
تراجع في ذلك رسالة الأطعمة المستوردة- طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها، للأستاذ محمد بن عبد الغفار الشريف، ص 83
(5)
جوهر النظام: 2/ 174، 175
أ- أن معظم شعوب هذه الدول قد تخلت في العصر الحديث عن الدين، ولم يبق له عندهم أي سلطان على حياة الناس العقدية والعملية، وإنما بقيت المحافظة على الكنائس في تلك الدول مظهرا لا أثر له في الفكر ولا في السلوك، ولم تعد الكنائس قادرة على مواجهة التيار الإلحادي الهادر، الذي يأتي على كل أثر من آثار التدين، وقد يكون استبقاء هذه الكنائس لأغراض سياسية، فإنها من وسائل نفوذهم في الشعوب التي يسعون إلى غزوها بأفكارهم وتخديرها بمكرهم.
وهذا هو الذي سجله الكتاب الأوروبيون بأقلامهم؛ ودونكم شهادة شاهد من أنفسهم، يقول الأستاذ (جود) - الذي كان رئيس قسم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن -:"سألت عشرين طالبا وتلميذة كلهم في أوائل العقد الثاني من أعمارهم: كم منهم مسيحي بأي معنى من معاني الكلمة؟ فلم يجب بنعم إلا ثلاثة فقط، وقال سبعة منهم: إنهم لم يفكروا في هذه المسألة أبدا، أما العشرة الباقية فقد صرحوا أنهم معادون للمسيحية. ويضيف إلى ذلك الأستاذ جود قوله: أنا أرى أن هذه النسبة بين من يؤمن بالمسيحية ويدين بها، وبين من لا يؤمن في هذه البلاد ليست شاذة ولا غريبة، نعم إذا وجه هذا السؤال إلى مثل هذه الجماعة قبل خمسين سنة أو عشرين كانت الأجوبة مختلفة". (1) ، هذه شهادة من أحد أبناء جلدتهم، وهو غير خارج عن ملتهم ولا مفارق لهم في بيئتهم، وقد قرر في كلامه أن هذه الأجوبة من أولئك التلاميذ إنما كانت ناشئة من حال مجتمعهم، ولم تكن مجرد تصرف صبياني، كيف وهو يقول بأن هذه النسبة في تلك البلاد ليس شاذة ولا غريبة.
(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للأستاذ أبي الحسن الندوي، ص 200- 201، نقلا عن الأستاذ جود في كتابه Guide to modern wickedness (p 114-115)
وهاكم شهادة عادلة من رجل نشأ في هذه البيئة المتعفنة ثم هداه الله للإسلام، وهو الأستاذ (محمد أسد) الألماني الذي يقول:"لا شك أنه لا يزال في الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب ديني، ويبذلون جهدهم في تطبيق عقائدهم بروح حضارتهم، ولكنهم شواذ؛ إن الرجل العادي في أوروبا ديمقراطيا كان أو فاشيا، رأسماليا كان أو اشتراكيا، عاملا باليد أو رجلا فكريا؛ إنما يعرف ديناً واحدا، وهو عبادة الرقي المادي والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة غير أن يجعلها الإنسان أسهل، وبالتعبير الدارج: حرة مطلقة من قيود الطبيعة؛ أما كنائس هذا الدين فهي: المصانع الضخمة، ودور السينما، والمختبرات الكيماوية، ودور الرقص، ومراكز توليد الكهرباء؛ وأما كهنتها فهم: رؤساء الصيارف، والمهندسون، والممثلات، وكواكب السينما، وأقطاب التجارة والصناعة، والطيارون والمبرزون الذين يضربون رقماً قياسياً". (1) .
وفي هذا يقول المفكر الإسلامي الكبير الشيخ أبو الحسن الندوي: "وعلى كل حال فقد وقع المحذور وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم، وكان ذلك تدريجيا وكان أولا ببطء وعلى مهل، ولكن بقوة وعزيمة، فقام علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون في الكون نظرًا مؤسسًا على أنه لا خالق ولا مدبر ولا آمر، وليس هناك قوة وراء الطبيعة والمادة تتصرف في هذا العالم وتحكم عليه وتدبر شؤونه، وصاروا يفسرون هذا العالم الطبيعي ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي بحت، وسموا هذا نظرا علميًا مجردا، وسموا كل بحث وفكر يعتقد بوجود آلة ويؤمن به طريقا تقليديًا لا يقوم عندهم على أساس العلم والحكمة، واستهزؤوا به واتخذوه سِخريا، ثم انتهى بهم طريقهم الذي اختاروه وبحثهم ونظرهم إلى أنهم جحدوا كل شيء وراء الحركة والمادة، وأبوا الإيمان بكل ما يأتي تحت الحس والاختبار ولا يدخل تحت الوزن والعد والمساحة، فأصبح بحكم الطبيعة وبطريق اللزوم الإيمان بالله وبما وراء الطبيعة من قبيل المفروضات التي لا يؤيدها العقل ولا يشهد بها العلم ".
(1) المرجع السابق نقلا عن Islam At Cross Roades ، P 50 fifth Edition
ثم يقول: "إنهم لم يجحدوا بالله إلى زمن طويل، ولم يجحدوا به كلهم، ولكن منهج التفكير الذي اختاروه والموقف الذي اتخذوه في البحث والنظر لم يكن ليتفق والدين الذي يقوم على الإيمان بالغيب وأساسه الوحي والنبوة ودعوته ولهجه بالحياة الآخروية، ولا شيء من ذلك يدخل تحت الحس والاختبار ويصدقه الوزن والعد والمساحة، فلم يزالوا يزدادون كل يوم شكًّا في العقائد الدينية، ولكن رجال النهضة الأوروبية ظلوا قرونا يجمعون بين النظر المادي الجاحد والحياة المادية والطقوس الدينية المسيحية بالتقليد أو بتأثير المحيط الذي لايزال في العالم النصراني أو بمصالح خلقية واجتماعية كانت تقتضي البقاء ولو بالاسم على نظام ديني يؤلف بين أفراد الأمة ويحفظها من الفوضى، حتى افتضحوا في الأخير وصعب الجمع بينهما بسرعة سير الحضارة المادية وتخلف الدين والتقاليد وعجزها عن مسايرتها وما في الجمع بينهما من متاعب وضياع للوقت، وتكلفهم لما هم في غنى عنه، فطرحوا الحشمة ورموا برقع النفاق، ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوروبا ينفخون صور المادية وينفثون بأقلامهم سمومها في عقل الجمهور وقلبه، ويفسرون الأخلاق تفسيرا ماديًا، تارة ينشرون الفلسفة النفعية، وطورًا فلسفة اللذة الأبيقورية (1)
(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص196، 197؛ ويراجع بتوسع المرجع نفسه، ص 194-212
ومع هذا الطغيان المادي لا يمكن أن تبقى القيم الدينية عند جمهور الشعوب، ولئن كان هناك من يتردد بينهم على الكنائس، فإن ذلك لم يكن بباعث من عقيدة، وإنما هو لأغراض نفعية، على أن هؤلاء يتناقصون باستمرار، فقد كان عدد المحافظين على صلاتهم الأسبوعية في فرنسا عام 1967 م يبلغ 21 % من مجموع الشعب الفرنسي، وبلغت هذه النسبة بعد عشر سنوات 19 %، وقد حمل هذا الوضع بعضهم على وصف البلاد الغربية بأنها مرحلة ما بعد النصرانية (1) .
ب- أن ذبائح الغربيين اليوم لا تخرج عن كونها موقوذة أو منخنقة، وقد نص على تحريمها في القرآن، وذلك أنه تواتر اليوم أن هذه الدول تقتل إما بواسطة الصعق الكهربائي أو بالمسدس أو بالبلطة أو بالغازات، وهذا ما نقله الثقات الذين زاروا مسالخ هذه الدول، ورأوا بأم أعينهم ما تقشعر منه الجلود من ارتكاب المخالفات التي لا يقرها الدين في إزهاق روح الحيوان (2) .
(1) محمد بن عبد الغفار الشريف- الأطعمة المستوردة (طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها) ، نقلا عن مجلة المعرفة التونسية، العدد 3، سنة 1979 م
(2)
انظر رقم 3 في التعليقات على رسالة الأطعمة المستوردة (طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها) ، ص 81
ج- أنه ثبت بالعيان تزوير الشهادات التي تلصق بغلف هذه اللحوم من أجل خداع الناس بأنها مذكاة على الطريقة الإسلامية، فقد جاء في رسالة موجهة من رئيس بلدية دولة الكويت الشقيقة إلى وزير الأوقاف الكويتي بتاريخ 24 محرم 1399 هـ ما نصه:"نود إفادتكم أن مسؤولين من المسلخ المركزي قاموا بزيارة إلى كل من بلغاريا ورومانيا، وزاروا المسالخ في هذين البلدين للتحري عن مدى التزامها بطريقة الذبح، خاصة وأن المستوردين يقدمون شهادات من مفتي المسلمين تفيد بأن الذبح تم بحسب الشريعة الإسلامية، وعاد الوفد المذكور باقتناع تام، وهو أن الذبح يتم بطريقة لا تتمشى مع الشريعة الإسلامية، وأن الشهادات ما هي إلا شكلية". (1)
وكثير من الناس اشتروا دجاجًا كتب على غلافه مذبوح على الطريقة الإسلامية، وإذا به لا أثر به للذبح قط، وإنما هو مخنوق ولم يقطع جلده، فضلا عما يجب قطعه في الذبح، وقد جاء أحد هؤلاء إلي، وأراني الدجاجة وغلافها والشهادة المطبوعة عليه.
(1) انظر رقم 3 في التعليقات على رسالة الأطعمة المستوردة (طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها) ، ص82
د- أن الأغنام والأبقار تذبح في بلاد الغرب مع الخنازير، فتختلط لحومها، والخلطة في مثل هذه الحالة تؤدي إلى الحرمة، لتعذر التمييز معها بين الحلال والحرام.
هـ- أنه ثبت في تعاملهم الغش، فقد نقل عدد من الناس أنهم رأوا أسماكًا معلبة مكتوبا عليها (ذبح على الطريقة الإسلامية)(1) على أن هذا الغش قد يكون حتى من المستوردين في بلاد الإسلام، فقد قال الدكتور عبد الله عزام: في عمان اكتشفت أمانة العاصمة قبل سنوات عند شركة ملصقات كثيرة مكتوب عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية) حتى تلصقها على علب اللحوم فور وصولها، ولقد جاء إلى وزارة الأوقاف الأردنية- وأنا فيها- علبة لحم مكتوب عليها (مذبوح على الطريقة الإسلامية لحم بقر صاف 100 %) ، وفي الجهة المقابلة باللغة الألمانية أنها تحتوي على نسبة من شحم الخنزير. (2)
(1) انظر رقم 3 في التعليقات على رسالة الأطعمة المستوردة (طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها) ، نقلا عن الاعتصام، محرم 1401 هـ؛ والمجتمع، العدد 542
(2)
انظر رقم 3 في التعليقات على رسالة الأطعمة المستوردة (طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها) ، ص 82 نقلاً عن مجلة المجتمع العدد 542
وبعد هذه الجولة بين منحنيات هذه الحقائق لا يبقى ريب لمرتاب أن القول الثالث هو أقوم قيلًا وأصح دليلا، على أن القول الثاني يعود إليه- كما ذكر الأستاذ الشريف في رسالته- لانعدام تلك الضوابط التي وضعها أصحاب هذا القول في اللحوم المستوردة من بلاد الغرب، وعليه فالخلاف بين القولين لا يعدو أن يكون لفظيا، وإنما الخلاف بينهما وبين القول الأول الذي يبيح هذه اللحوم من غير مراعاة شيء من تلك الضوابط، ويستند إلى عموم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وهو استدلال في منتهى البعد، وذلك يتضح بالنظر إلى هذه الأمور:
أولها: أنه لا يكفي في إعطاء أحد حكم أهل الكتاب إلا إن كان على عقيدة تقوم على الإيمان بكتابه، وأنى ذلك في أمة فقد سوادها الأعظم هذا الإيمان، واستولى عليها الإلحاد وتفشت فيها الإباحية- كما تقدم- ولا يغني عنهم انتسابهم إلى أصول تؤمن بالكتاب شيئا، فإن الرجل الذي كان نفسه على الإسلام وولد من أبوين مسلمين مؤمنين قانتين إن ارتد عن إسلامه - والعياذ بالله- لم يغن عنه كل ذلك شيئا، ولم يعط أحكام المسلمين في إباحة أكل ذبيحته ولا غيرها، وما الفارق في ذلك بين المسلم والكتابي؟
ثانيها: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] جاء إثر تحريم طائفة من الحيوان منها المنخنقة والموقوذة، فكيف يمكن أن يكون دليلا على إباحة المخنوق والموقوذ إن كانا على يد كتابي، مع أنهما حرام بالقطع إن كان الواقذ أو الخانق مسلما؟ وهو مما يترتب عليه كون الكتابي أكرم على الله من المسلم، لأنه أباح على يديه ما لم يبحه على يدي المسلم، ويأبى الله ذلك، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ثالثها: أن يلزم هؤلاء أن يحلوا بهذا لحم الخنزير إن كان على مائدة كتابي لأنه من طعامهم الذي استحلوه بهوى أنفسهم كما استحلوا المنخنقة والموقوذة وغيرهما، ولا فرق بين الصورتين، فإن تحريم المنخنقة والموقوذة جاء في نسق واحد مع تحريم الخنزير ومع تحريم الميتة والدم.
رابعها: أن الآية الكريمة مصدرة بإباحة الطيبات، ولا يقول عاقل أتاه الله رشدا: إن المنخنقة والموقوذة وغيرهما مما حرمه الله عليه تعد من جنس الطيبات، وهل يطيبها أن يكون الواقذ أو الخانق من جنس الكفار الذين رفضوا الاستجابة لدعوة كتابهم إلى الإيمان بخاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل؛ وهذه مغالطة للحقيقة ليس أبعد منها مغالطة، فكيف يكون الشيء الواحد خبيثا إن كان على يد المسلم وطيبا إن كان على يد غيره؟
وقد استدل بعض أصحاب هذا القول لما ذهبوا إليه بحديث عائشة رضي الله عنها في ذبائح الأعراب، وهو استدلال منتقض من أساسه، فإن أولئك الأعراب ما كانوا على ملة غير الإسلام، ولا ثبت أنهم يرتكبون مخالفات للشريعة في ذبحهم، وإنما وقع في نفوس بعض الناس شكٌّ في تسميتهم على الذبح لحداثة عهدهم بالكفر، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيدهم أن أعمال المسلم- وإن كان جديد عهد بالإسلام- محمولة على موافقة الحق ما لم يثبت خلافه له.
وأما ما استأنسوا به من كلام ابن العربي الذي يبيح أكل الدجاجة التي يفتل عنقها النصراني؛ فهو مدفوع بما نص عليه ابن العربي نفسه قبله بسطور معدودة، وهو قوله:"فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؛ فالجواب أن هذه ميتة وهي حرام بالنص وإن أكلوها فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم، وهو حرام علينا". (1)
فيا ترى هل نترك من كلامه ما وافق الدليل القرآني إلى ما خالفه؟ على أن أي أحد وإن بلغ ذرى المراتب في العلم والفضل لا يحتكم إلى كلامه مع قيام الدليل الشرعي، بل يحكم الشرع في كلامه لقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]
(1) أحكام القران: 2/ 555
أما محاولة الجمع بين الكلامين بحمل المنع على غير ما يعتقدونه ذكاة عندهم، والإباحة على ما اعتقدوه تذكية، فهي محاولة فاشلة؛ لأن الصورة واحدة، وهم هم أنفسهم، مع أنه يفيد كلامه أن ذلك يحرم علينا وإن كانوا هم في اعتقادهم له مستحلين، بدليل تمثيله بالخنزير، وقوله بأنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا.
على أنا لا نسلم أن الخنزير حلال لهم، فإنهم لم يأكلوه استنادا إلى نص كتاب على حله، ولكن بفتوى من أفتاهم بذلك من رهبانهم، ومثله الميتة- ومنها المنخنقة والموقوذة- إذ النصارى لم يبح لهم إلا ما أباحته التوراة إلا ما كان تحريمه في التوراة وقتيا عقوبة لليهود على سوء صنيعهم وشططهم في العناد ومكابرة الحق.
على أنه لو ادعى أحبارهم ورهبانهم حل ذلك لهم لم يصدقوا فيه، كما قال الإمام الرهوني:"كيف يقبل قولهم بعد إخبار الله تعالى عنهم بأنهم حرفوا وبدلوا حسبما أفصحت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتواترة- إلى أن قال- على تسليم تصديقهم تسليما جدليا فلا وجه في تصديقهم أن المنخنقة والمسلولة العنق والموقوذة المضروبة في الرأس بشاطور مثلا حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فرق به- يعني أبا عبد الله الحفار المنتصر لرأي ابن العربي - من أن الله قد كذبهم في الميتة والخنزير دون المضروبة بشاطور مثلا، وما ذكر معه لا يصح؛ لأنه إن عنى أن الله كذبهم في إخبارهم بحليتها فليس في القرآن ولا الأحاديث شيء من ذلك، وإن عنى أن الله كذبهم بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فهذه مصادرة لأن الله قد كذبهم فيما زعم أنهم يصدقون فيه؛ لأنها إما منخنقة أو موقوذة، وقد ذكر الله حرمة كل واحدة منهما في الآية نفسها بقوله عز من قائل: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] ، وقد قال ابن العربي نفسه في الأحكام ما نصه: "وأما قوله والمنخنقة فهي التي تختنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل " (1)
(1) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل: 3/ 12- 13؛ وانظر كلام ابن العربي في المنخنقة في أحكام القران: 2/ 538
هذا وأما استدلال ابن العربي لحلية طعام الكتابي مطلقاً بأنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح فيحل لنا وطؤهن، فكيف لا تحل ذبائحهم، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة، فهو غير مسلم إن كان ذبحهم خنقا أو وقذا؛ لمجيء النص القطعي بحرمة الموقوذة، والمنخنقة فهو قياس في مقابلة النص، على أنه يترتب على قوله أن تباح بسبب ذلك ذبائح المشركين، فإن ماذكروه من حكم الأولاد والنساء لا ينحصر في أهل الكتاب دونهم. وللعلامة الرهوني في رد احتجاج ابن العربي هذا بحث موسع اكتفينا عنه بما ذكرناه، فليرجع إليه من شاء الإطلاع والاستفادة (1) . هذا وللأمانة العلمية لابد من ذكر أن من مشايخنا الذين يجنحون إلى القول بإباحة اللحوم المستوردة من بلاد الغرب من كان يتشدد أحيانا في ذلك في بعض فتاواه، وهو الإمام إبراهيم بن عمر بيوض، فقد جاء في بعض ما أفتى به تقييد هذه الإباحة بكون الذابح من اليهود أصحاب التوراة أو النصارى أصحاب الإنجيل، ويكون الذبح على الطريقة المشروعة عندهم بحسب شريعتهم، وقال في الذبح بواسطة الكهرباء:"إن كانت هي تسليط التيار الكهربائي على الحيوان المراد ذبحه حتى يموت بتأثير التيار، فإن هذا قتل لا ذبح ولا نحر ولا ذكاة، فلا يحل به الحيوان المقتول ". وقال في التخدير: "إن كان قاتلا مميتا فإنه حرام قطعا تحرم به الذبيحة؛ إذ لا يجوز استعمال أي شيء لإزهاق روح الذبيحة أو للتعجيل به غير الذبح الأصلي المشروع أو النحر الأصلي المشروع، كذلك فيما ينحر نحرا كالإبل، ثم تترك الذبيحة على حالها حتى تبرد وتسكن حركتها فيشرع في سلخها (2) .
(1) حاشية الرهوني المذكورة أنفا: 3/ 14- 15
(2)
انظر فتاوى الإمام الشيخ بيوض، ص 569- 571
وما من ريب أننا نتفق مع القائلين بالإباحة عندما نوقن أن القائم بالذبح من الذين يستمسكون بما عندهم من علم الكتاب ولا يتجاوزون فيه الحدود التي رسمها لهم كتابهم في التذكية، وكان الحيوان المذبوح من جنس ما يباح في الإسلام، مع علمنا اليقيني أن أحكام التذكية لا تختلف فيما بيننا وبينهم، بدليل أن اليهود لا تختلف طرق التذكية عندهم عما هو عندنا، والنصارى متعبدون بإتباع شريعة التوراة كاليهود، إلا في جزئيات قليلة نسخت فيما أنزله الله على عيسى عليه السلام، وهي التي يشير إليها ما يحكيه الله سبحانه وتعالى عنه من قوله:{وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] ، ويعني بذلك ما كان تحريمه موقوتا عقوبة لليهود على ركوبهم متن العناد في مواجهة دعوات أنبيائهم وإصرارهم على الظلم الذي نهوا عنه، ولا تدخل في ذلك المنخنقة ولا الموقوذة.
ومن أجل التزام اليهود بالطريقة الصحيحة في التذكية إلى وقتنا هذا؛ رأينا بعض مشايخنا يوصون التلاميذ الوافدين إلى بلاد الغرب إن لم يجدوا جزارين مسلمين أن لا يشتروا اللحم إلا من الجزارين اليهود، ومن الذين كانوا يحرصون على ذلك شيخنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم اطفيش، وقد عمل بذلك نفسه عندما دفعته الظروف إلى السفر إلى نيويورك في عام 1380 هـ، وكتب بذلك رسالة إلى أحد أصدقائه جاء فيها:"منذ حللت بنيويورك كنت آكل السمك وخليطا من الخضر وزيت الزيتون لغاية أربعين يوما، حتى عرفت في المآدب الرسمية بأنني لا آكل إلا السمك، فكانت تلك الأوانس يبادرن إلي بالسمك والسلاطة الخضراء، أنا وسيف الإسلام اليمني دون غيرنا، حتى وجدت مطعما باكستانيا لمسلم اسمه الحاج علي بهجت، وحيث إن القاديانيين يوجدون كثيرا في تلك النواحي خشيت أن يكون منهم، فاستوثقت أنه حنفي المذهب، وأنه يطبخ بلحم الكشير، وأنت تعلم أن ذبيحة الكتابي متى كانت ذكاة شرعية ذكر اسم الله عليها حل لنا أكلها، وهذه حال اليهود المتدينين، ومع الأسف أقول: إنهم لا يزالون على عهدهم هذا أكثر من المسلمين بهذه الربوع- إلى أن قال- ولقد امتاز الإسرائيليون بأمريكا دون سواهم بالانفراد بالذبيحة، وأما النصارى فبالآلة كما عندكم في الحراش، وذلك ميتة قطعا- وهكذا إلى أن قال- على أنني لما استوثقت من الباكستاني أنه يطبخ اللحم الكشير، وهو عندهم الشرعي صرت آكل أحيانا عنده، ولم أضطر والحمد لله إلى زعم أن الضرورات تبيح المحظورات، ولا الأخذ بعموم الآية لأن دعوى العموم باطلة، والحمد لله ". (1)
(1) الشيخ إبراهيم اطفيش في جهاده الإسلامي للدكتور محمد ناصر، ص 193- 194
خاتمة في نتائج البحث
بعد هذه الجولة والتنزه في واحات العلم وتفيئ ظلالها الوارفة واقتطاف ثمارها اليانعة والرشف من أنهارها المطردة نقدم بإيجاز أهم نتائجها:
ا- إن كان الحيوان المذكى مقدورا عليه فذكاته إما أن تكون نحرا في اللبة أو ذبحًا في الحلق، والأول في طويل الرقبة كالإبل، والثاني في قصيرها كالغنم، ويجوز في البقر الأمران باتفاق.
2-
الذبح المجمع على أجزائه هو قطع الحلقوم والمريء والودجين من قبل مقدمة العنق، وفيما عداه خلاف.
3-
يجزئ الذبح عن النحر والعكس في قول الجمهور، وقيل بعدم الأجزاء، لتعين كل واحد منهما بموضعه.
4-
التذكية أمر تعبدي، فلا يجزئ عنها غير ما أذن به الشارع، وإن ذهب إلى خلاف ذلك بعض المعاصرين.
5-
اختلف في بعض التجاوزات في الذبح هل تؤثر شيئا على حكم الذبيحة أو لا؟ منها خروج الغلصمة إلى جهة البدن، وذلك بعدم وقوع الذبح عليها في منتصفها، ومنها قطع جميع الرأس والنخاع، والذبح من القفا، والتراخي اليسير في الذبح
…
كما هو مفصل في البحث.
6-
تذكية غير المقدور عليه سواء ما كان أصله وحشيا أو ما كان أهليا فَنَدَّ أن يرمى بما ينهر الدم كالسهم، أو يصطاد بالجوارح كالكلاب، مع النية والقسمية على قول الأكثر، فإن أدرك حيا ذكي ذكاة المقدور عليه، وألا كان ذلك تذكية له، ولا خلاف في ذلك فيما كان أصله وحشيا، وإنما الخلاف فيما كان أهليا فند، وألحق الجمهور بالنَّادِّ ما وقع في بئر أو نحوها فتعذر التوصل إلى تذكيته بالذبح أو النحر.
7-
يشترط في المذكي أن يكون مسلما أو كتابيا، ولا تجوز ذكاة سواهما من المشركين والملاحدة، واختلف في بعض الشروط كالعقل والبلوغ وعدم محاربة الإسلام.
8-
المرتد لا تحل ذبيحته عند الجمهور وإن ارتد إلى النصرانية أو اليهودية.
9-
من تهود أو تنصر من العرب حكمه كسائر أهل الكتاب عند الجمهور، ورأى بعض أهل العلم خلاف ذلك.
10-
تباح ذبيحة الأعجم عند أكثر العلماء إن فهمت إشارته، وذهب آخرون إلى خلاف ذلك.
11-
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذبيحة المعتدي كالسارق والغاصب لا تحرم، وذهب آخرون إلى حرمتها، وهو الراجح بالأدلة.
12-
اختلف فيما حرم على أهل الكتاب أو حرموه على أنفسهم، هل يباح للمسلم إن هم قاموا بالتذكية؟ والصحيح الإباحة.
13-
تجوز التذكية بكل ما أنهر الدم ما عدا السن والظفر والعظم.
14-
اختلف فيما لم يذكر اسم الله عليه عمدا أو نسيانا هل يحل أكله أو لا؟ والصحيح المنع.
15-
الذبح بالطرق الحديثة أو القديمة المخالفة لطريقة الذكاة الشرعية تعد قتلا للحيوان، فلا يحل بها أكله، مع الفارق البين بين الذكاة الشرعية وبينها من حيث إراحة الحيوان وطيب لحمه.
16-
ما جهل ذابحه في المجتمعات الإسلامية أو الكتابية المحافظة حلال أكله، وأما في سائر المجتمعات فلا يحل.
17-
اللحوم المستوردة من بلاد الإسلام حلال أكلها ما لم يتبين ما يوجب حرمتها، وكذلك ما استورد من أهل الكتاب الملتزمين بالذكاة الشرعية، مع ضمان كونها من جنس ما يجوز أكل لحمه، وما استورد من بلاد المشركين والملاحدة فلا يحل، واختلف العلماء المعاصرون في جواز أكل ما يستورد الآن من بلاد الغرب، والصحيح المنع إلا إن ثبت بما لا يدع مجالا للريب أنه مذكى ذكاة شرعية ممن تجوز ذكاته شرعا، وأنه من جنس الحلال الطيب، ولا عبرة بما يلصق به من شهادات أنه ذبح على الطريقة الإسلامية.
هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحمد بن حمد الخليلي
المراجع
ا- أحكام الذبائح في الإسلام، د. محمد عبد القادر أبو فارس، مكتبة المنار- الزرقاء، الأردن.
2-
أحكام القرآن، أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، مكتبة دار المعرفة- بيروت، لبنان.
3-
الاختيار لتعليل المختار، على الله بن محمود بن الودود الموصلي الحنفي، دار الدعوة.
4-
الأطعمة المستوردة، طبيعتها- حكمها- حل مشكلاتها، محمد بن عبد الغفار الشريف، ط 1403 هـ، دار الدعوة- الكويت.
5-
الإيضاح، عامر بن علي الشماخي، ط 1394 هـ/ 1974 م، دار الفكر.
6-
البحر الرائق، زين الدين بن نجيم الحنفي، دار المعرفة- بيروت، لبنان.
7-
البحر المحيط، ابن حيان.
8-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، الناشر: زكريا علي يوسف- مصر.
9-
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي.
10-
بيان الشرع، محمد بن إبراهيم الكندي، ط 1408 هـ/ 1988 م. وزارة التراث القومي والثقافة- مسقط، عمان.
11-
تاج العروس، للزبيدي.
12-
التحرير والتنوير، ابن عاشور.
13-
تفسير القران الحكيم (المنار) ، محمد رشيد رضا، دار المعرفة- بيروت، لبنان.
14-
تفسير القران العظيم، ابن كثير.
15-
التفسير الكبير.
16-
التلخيص، ابن حجر.
17-
تيسير التفسير، محمد بن يوسف اطفيش، وزارة التراث القومي
والثقافة- مسقط، عمان.
18-
جامع ابن بركة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن بركة البهلوي، وزارة التراث القومي والثقافة- مسقط، عمان.
19-
جامع أبي الحسن.
20-
جامع البيان في تفسير القران، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار المعرفة- بيروت، لبنان.
21-
الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب بن عمر الفراهيدي، مكتبة الاستقامة- روي، عمان.
22-
الجامع للأحكام، للقرطبي.
23-
جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، أبو محمد عبد الله بن حميد السالمي، ط 1410 هـ/ 1989 م، دار الفاروق- بيروت، لبنان.