الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقود المستجدة
ضوابطها ونماذج منها
إعداد
الدكتور نزيه كماد حماد
أستاذ الشريعة الإسلامية بكندا
بسم الله الرحمن الرحيم
العقود المستجدة
ضوابطها ونماذج منها
(1)
العقود التي يدخل في تكييفها أكثر من عقد
تعريف العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة:
هي أن يتراضى الطرفان على إبرام اتفاقية تشتمل على عقدين أو أكثر - كالبيع، والإجارة، والقرض، والزواج، والشركة، والصرف، والمضاربة
…
إلخ - على سبيل الجمع أو التقابل، بحيث تعتبر سائر موجبات تلك العقود المجتمعة أو المتقابلة، وجميع الحقوق والالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة بمثابة آثار العقد الواحد.
ومن أمثلة ذلك:
- اجتماع القرض مع الشركة، أو المضاربة، أو النكاح.
- اجتماع القرض مع البيع، أو الإجارة أو السلم أو الصرف.
- اجتماع الشركة مع الكفالة والوكالة.
- اجتماع البيع مع إجارة الأعيان أو إجارة الأعمال أو كليهما.
- اجتماع البيع مع الصرف.
تحرير المقصود من منع صفقتين في صفقة وبيعتين في بيعة، واقتران العقود بالشروط بأنواعها:
(أ) البيعتان في بيعة:
روى الترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة ومالك في الموطأ بلاغًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيعتين في بيعة)) . (1) أي في صفقة واحدة وعقد واحد. (2) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، وفي رواية أخرى لأبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) . (3)
وقد اتفق الفقهاء على عدم مشروعية البيعتين في بيعة عمومًا، ولكنهم اختلفوا في تفسير محل النهي، أي تفصيل الصور التي ينطلق عليها هذا الاسم من التي لا ينطلق عليها، وذلك على تفاسير:
أحدها: أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم نقدًا أو بعشرين نسيئة إلى سنة، فيقبل المشتري من غير أن يعيق بأي الثمنين اشترى، هكذا فسره مالك وأبو حنيفة والثوري وإسحاق والشافعي - في أحد قوليه - وغيرهم. (4)
قال ابن رشد: (وعلة امتناع هذا الوجه عند الشافعي وأبي حنيفة من جهة جهل الثمن، فهو عندهما من بيوع الغرر التي نهي عنها، وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا، لإمكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولًا إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل، ثم بدله، ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو نسيئة ومتفاضلا) . (5)
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: " والعلة في تحريمه عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين ". (6) وقال في السيل الجرار: " ووجه كون ذلك لا يحل ما يستلزمه من عدم استقرار البيع، والتردد بين الطرفين ". (7)
(1) قال القاضي ابن العربي: وهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، (القبس شرح الموطأ: 2/ 842) ؛ وانظر الموطأ: 2/ 663؛ سنن النسائي: 7/ 295؛ سنن الترمذي مع عارضة الأحوذي: 5/ 239؛ مختصر سنن أبي داود، للمنذري: 5/ 98؛ شرح السنة، للبغوي: 8/ 142؛ نيل الأوطار للشوكاني: 5/ 152
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 2/ 323
(3)
مختصر سنن أبي داود، للمنذري: 5/ 97
(4)
شرح السنة، للبغوي: 8/ 143؛ عارضة الأحوذي: 5/ 240؛ المغني، لابن قدامة: 6/ 333؛ نيل الأوطار: 5/ 152؛ معالم السنن، للخطابي: 5/ 98؛ مرقاة المفاتيح: 2/ 323؛ المنتقى للباجي: 5/ 39؛ المدونة: 9/ 191.
(5)
بداية المجتهد: 2/ 154؛ وانظر معالم السنن: 5/ 98؛ المهذب، للشيرازي: 1/ 266
(6)
نيل الأوطار: 5/ 153
(7)
السيل الجرار، للشوكاني: 3/ 58
ولا خلاف بين أهل العلم في حظر هذه المعاقدة إذا كان البيع واجبًا، أي قد لزم المشتري بأحد الثمنين على الإبهام، وافترقا على ذلك، لكن إذا افترقا على إحدى البيعتين: النقد أو النسيئة، فهو صحيح مشروع. (1) أما إذا لم يكن البيع لازما في أحد الثمنين، وافترقا على أنهما بالخيار، أو على أن أحدهما بالخيار، فقد أجازه الإمام مالك، وجعله من باب الخيار، لأنه إذا كان كذلك لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر. (2)
هذا، وقد انتقد الإمام ابن القيم هذا التفسير للبيعتين في بيعة، ووصفه بالضعف، وذلك لعدم دخول الربا في هذه الصورة - مع أن الرواية الأخرى للحديث نصت صراحة على دخوله ((من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا)) - ولأنه ليس فيها بيعتان، وإنما هي بيعة واحدة بأحد الثمنين. (3)
وقال أيضًا: " أَبْعَدَ كل البعد من حَمَلَ الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة، فليس ههنا ربًا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار، ولا شيء من المفاسد، فإنه خيره بين أي الثمنين شاء، وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام ". (4)
والثاني: أن يقول: بعني سلعتك هذه بدينار نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل كذا، ويفترقان على أنه قد لزمه البيع بأحد الثمنين من غير تعيين، وهذا التفسير للإمام مالك في الموطأ (5)
(1) معالم السنن: 5/ 98؛ شرح السنة: 8/ 143؛المغني: 6/ 333؛ عارضة الأحوذي: 5 / 240
(2)
بداية المجتهد: 2/ 154؛ المنتقى 5/ 39، 40؛الزرقاني على الموطأ: 3/ 312؛ التفريع، لابن الجلاب: 2/ 166
(3)
تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 106
(4)
إعلام الموقعين: 3/ 162
(5)
الموطأ مع المنتقى: 5/ 40؛ الزرقاني على الموطأ: 3/ 312
وعلة النهي عن هذه الصورة كما قال القاضي ابن العربي: " دخول الغرر في البيع باتفاق، إذ لا يدري البائع الثمن الذي انعقد عليه البيع: دينارًا معجلًا أم شاة موصوفة مؤجلة ". (1)
والثالث: أن يقول الرجل لآخر: بعتك بستاني هذا بكذا على إن تبيعني دارك بكذا، أي فإذا وجب لك عندي، وجب لي عندك، وهو تفسيرالحنابلة والحنفية والشافعي في قول آخر له. (2)
وعلة امتناع هذه الصورة كما قال الترمذي: التفارق عن بيع بثمن مجهول، إذ لا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته. (3) أي أن الثمن في كل من البيعتين مجهول، لأنه لو أفرد كل مبيع في عقد بيع مستقل، لم يتفقا في ثمنه على ما اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد. (4)
قال الخطابي: " الوجه الثاني أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرين دينارًا على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضًا فاسد، لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارًا، وشرط عليه أن يبيعه جارية بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه، وإذا لم يلزمه سقط بعض الثمن، وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولًا ". (5)
وقال الشوكاني: علة تحريمًا بيعتين في بيعة في هذه الصورة التعليق بالشرط المستقبل (6)
غير أن فقهاء المالكية - وكذا ابن تيمية الحنابلة - لم يسلموا بصحة هذا التفسير للبيعتين في بيعة، ولا بتحريم الصورة التي ذكرها أربابه. (7)
قال القاضي ابن العربي: " إذا قال له: أبيعك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف، فهذا جائز ولا دخل فيه ولو باعه عبده على أن يبيعه المشتري عبدًا آخر بثمنه. قال أبو حنيفة: لايجوز ولا شيء أجوز منه، فإنه حصل من إحدى الجهتين عبد، والجهة الأخرى عبد آخر معلوم، وهذا مما لا دخل فيه ". (8)
(1) عارضة الأحوذي: 5/ 240
(2)
المغني: 6/ 332؛ الأم: 3/ 67؛ معالم السنن: 5/ 98؛ نيل الأوطار: 5/ 152؛ المبسوط: 13/ 16؛ شرح السنة: 8/ 143؛ عارضة الأحوذي: 5/ 239، 240؛ الروضة الندية: 2/ 105
(3)
سنن الترمذي مع عارضة الأحوذي: 5/ 239
(4)
بداية المجتهد: 2/ 153
(5)
معالم السنن: 5/ 98
(6)
نيل الأوطار: 5/ 153
(7)
انظر المغني، لابن قدامة: 6/ 333
(8)
عارضة الأحوذي: 5/ 241
وجاء في المدونة: " قلت: أرأيت ان اشتريت عبدًا من رجل بعشرة دنانير على أن أبيعه عبدي بعشرة دنانير؟ قال: قال مالك: ذلك جائز ". (1)" قلت: فلو بعته عبدي بعشرة دنانير على أن يبيعني عبده بعشرين دينارًا؟ قال: قال مالك: لا بأس بذلك، إنما هو عبد بعبد وزيادة عشرة دراهم ". (2)
وقال ابن تيمية: " وقول القائل: بعتك ثوبي بمائة على أن تبيعني ثوبك بمائة، إن أرادا أن يبيع كل واحد منهما ثوبه، انعقد بهذا الكلام، فهذا نظير نكاح الشغار! ولكن ما الدليل على فساد هذا ، وهو كما لو قال: أجرتك داري بمائة على أن تصير دارك مؤجرة لي بمائة؟ فعوض كل من الإجارتين مائة واستئجار الأخرى، كما أنه في البيع عوض كل منهما مائة وبيع الآخر، وتحريم هذا نحتاج فيه إلى نص أو إجماع ليصح القياس عليه ". (3)
أما إذا باعه شيئين بثمن واحد، كدار وثوب، أو عبد وثوب، فهذا جائز في قول جماهير أهل العلم من الشافعية والمالكية والحنابلة، وليس من باب البيعتين في البيعة الواحدة، وإنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم. (4)
والرابع: أن يبيع الرجل من الرجل سلعتين بثمنين مختلفين، على أنه قد لزمته إحدى البيعتين، فلينظر أيها يلتزم، وقد نسبه القاضي ابن العربي للمالكية. (5)
(1) المدونة: 9/ 126.
(2)
المدونة: 9/ 126
(3)
نظرية العقد لابن تيمية، ص 189
(4)
معالم السنن: 5/ 98؛ شرح السنة: 8/ 143؛ الروضة الندية: 2/ 105؛ المغني: 6/ 335؛ الفروق، للقرافي: 3/ 142؛ الموافقات، للشاطبي: 3/ 201
(5)
القبس شرح الموطأ للقاضي ابن العربي: 2/ 842
وقال الباجي: " قال الفقهاء في معنى بيعتين في بيعة: أن يتناول عقد البيع بيعتين على أن لا تتم منهما إلا واحدة مع لزوم العقد، مثل أن يتبايعا هذا الثوب بدينار، وهذا الآخر بدينارين على أن يختار المشتري أحدهما، أي ذلك شاء، وقد لزمهما ذلك أو لزم أحدهما، فهذا يوصف بأنه بيعتان، لأنه قد عقد بيعة في الثوب الذي بالدينارين وبيعة أخرى في الثوب الذي بالدينار، ولم تجمعهما صفقة لأنه لا يتم البيع فيهما، ويوصف بأنه بيعيتين في بيعة؛ لأنه إحدى البيعتين. فمثل هذا لا يجوز، سواء كان ذلك بنقد واحد أو بنقدين، خلافًا لعبد العزيز بن أبي سلمة في تجويزه ذلك بالنقد الواحد ". (1)
وعلة حظر تلك الصورة عند المالكية سد الذريعة الموجبة للربا، حيث إنه يقدر على المشتري أنه قد أخذ الثوب بالدينار، ثم تركه وأخذ الثوب الآخر ودفع دينارين، فصار إلى أن باع ثوبًا ودينارًا بثوب ودينارين، وذلك لا يجوز على أصل مالك. (2)
والخامس: أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالَّة، وهي نفس بيع العينة، وهو تفسير ابن تيمية وابن القيم للبيعتين في بيعة. (3)
(1) المنتقى: 5/ 36
(2)
انظر الغرر وأثره في العقود، للدكتور محمد الصديق الضرير، ص 87؛ بداية المجتهد: 2/ 154
(3)
مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، ص 327، تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 100 إعلام الموقعين: 3/ 161، 162
قال ابن القيم: " وهذا هو معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فله أوكسهما أو الربا)) ، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما ".
فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر فقد أخذ الربا، ومما يشهد لهذا التفسير ما روى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم:((نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع)) ، فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلًا منهما يؤول إلى الربا، لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا ". (1)
والسادس: أن يقول رجل لآخر: اشتر لي، أو اشتر السلعة الفلانية نقدًا بكذا، أو بما اشتريتها به، وبعها مني بكذا إلى أجل، وذلك داخل تحت بيع ما ليس عندك. (2)
قال القاضي ابن العربي: " ولا يمكن تفسيره به على التصريح إلا إذا شارطه عليه والتزم له ما يشتري، وأما إذا فاوضه فيه وأوعده عليه، فليس يكون ذلك حرامًا محضًا، ولكنه من باب شبهة الحرام والذريعة إليه، وقد بوب مالك النهي عن بيعتين في بيعة، ثم أدخل فيه بيع ما ليس عندك للمعنى الذي أشرنا إليه ". (3)
والسابع: أن يقول له: بعتك هذا بعشرة دنانير على أن تعطيني بها صرفها كذا دراهم، فقال أكثر الفقهاء، الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور: هذا من باب بيعتين في بيعة (4)
(1) تهذيب مختصر سنن أبي داود: 5/ 106
(2)
المنتقى، للباجي: 5/ 40؛ عارضة الأحوذي: 5/ 240
(3)
عارضة الأحوذي: 5/ 240
(4)
عارضة الأحوذي: 5/ 240؛ المغني: 6/ 332
وقد حكى القاضي ابن العربي هذا التفسير للبيعتين في بيعة، ونسبه إلى من ذكرنا من أهل العلم، ثم عقب على ذلك بأن البيع بهذه الصورة جائز عند الإمام مالك، فقال:" فجوزه مالك تعويلًا على ما يؤول إليه الكلام، والشافعي والفقهاء أصحابه نظروا إلى أنه باعه وصرفه، ولم يكن ذلك، إنما ذكر دينارًا، ثم ذكر الدراهم، فانتفى الذهب، ورجع الأمر إلى الفضة، كما لو قال: أبيعك عبدي بعبدك على أن تعطيني في عبدك دارًا، فهذا كمن اشترى داره بعبده، وذلك جائز ". (1)
وجاء في المدونة: " قلت: أرأيت إن باع سلعة بعشرة دنانير إلى أجل على أن يأخذ بها مائة درهم، أيكون هذا البيع فاسدًا أم لا؟ قال: لا يكون فاسدًا، ولابأس بهذا عند مالك، قلت: لم؟ قال: لأن اللفظ ههنا لا ينظر إليه؛ لأن فعلهما يؤوب إلى صلاح وأمر جائز، قلت: وكيف يؤوب إلى صلاح، وهو إنما شرط الثمن عشرة دنانير يأخذ بها مائة درهم؟ قال: لأنه لا يأخذ دنانير أبدًا، إنما يأخذ دراهم، فقوله عشرة دنانير لغو ". (2)
ثم إن أشهب من المالكية يرى جواز جمع البيع مع الصرف في عقدة واحدة مطلقا (3)
والثامن: هو أن يسلفه دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر، فإذا حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك عليَّ إلى شهرين بقفيزين. فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأن البيع الثاني قد دخل على الأول، فيرد إليه أوكسهما، وهو الأول، كذا في شرح السنن، لابن رسلان. (4)
(1) عارضة الأحوذي: 5/ 241
(2)
المدونة: 9/ 127
(3)
البهجة شرح التحفة، للتسولي: 2/ 9؛ ميارة على التحفة: 1/ 283
(4)
نيل الأوطار: 5/ 152
التفسير المختار:
يلاحظ على هذه التفسيرات المختلفة للبيعتين في بيعة التي صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها أن بعضها مما اتفق على منعه الفقهاء، وإن كان بينهم بعض التباين في التفصيلات، وبعضها الآخر مما اختلفت فيه أنظارهم واجتهاداتهم، وبالنظر والتأمل في أقاويل أهل العلم السالفة، وما عرضوا من أدلة وحجج على تفسيرهم لمحل النهي في الحديث، يترجح عندي أن المراد بالبيعتين في بيعة:
1 -
أن يتضمن العقد الواحد بيعتين، على أن تتتم إحداهما قبل تفرق العاقدين، ولكن دون تعيينها، كما في: بعتك هذه السلعة بألف درهم نقدًا أو بألفين إلى أجل كذا، أو: بعتكها بألف درهم نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل كذا، ويتفرق العاقدان على لزوم إحداهما من غير تحديدها، وذلك للغرر الناشئ عن الجهل بمقدار الثمن.
2 -
أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة إلى سنة على أن يشتريها منه بثمانين حالة ، حيث إن الجمع بين البيعتين في هذه الصورة يؤول إلى الربا، فهما في الظاهر بيعتان، وفي الحقيقة ربًا.
أما بقية التفسيرات، فمنها ما ينضوي تحت نصوص شرعية أخرى كالنهي عن بيع ما ليس عندك، أو ربا الجاهلية، وإدراجه تحت البيعتين في بيعة بعيد، ومنها ما الحظر فيه محل خلاف أهل العلم، ولا يترجح عندي فيها جانب الحرمة على الحل.
(ب) الصفقتان في صفقة:
روى أحمد والبزار والطبراني عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) . قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات. (1)
* وقد فسر راوي الحديث سماك الصفقتين في صفقة بأن يبيع الرجل البيع، فيقول: هو بنساء بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وبكذا. (2) أي ويفترقان على ذلك، وقد وافق سماك على هذا التفسير أحمد والشافعي وأبو عبيد القاسم بن سلام (3)، وقال الشوكاني: إن معنى الصفقتين في صفقة بيعتان في بيعة. (4)
وأساس ذلك أن الصفقة لغة اسم المرة من الصفق، وهو الضرب باليد على يد أخرى، أو على يد شخص آخر عند البيع، وقد كان عادة العرب إذا وجب البيع ضرب أحد المتبايعين يده على يد صاحبه (5) ثم استعملت الصفقة بمعنى عقد البيع نفسه (6) أي إذا كان لازمًا لا خيار فيه.
ومنه قول عمر رضي الله عنه: " إن البيع صفقة أو خيار "، قال النسفي:
" أي بيع تام لازم، أو بيع فيه خيار ". (7) وقال السرخسي: " الصفقة هي اللازمة النافذة، يقال: هذه صفقة لم يشهدها خاطب، إذا أنفذ أمر دون رأي رجل ". (8)
* وذكر الإمام ابن القيم أن تفسير الصفقتين في صفقة مطابق للبيعتين في بيعة، وهو أن يبيعه السلعة بمائة إلى سنة على أن يشتريها منه بثمانين حالة، ثم قال:" فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة وبيع واحد، هو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى ابي الأكثر كان قد أخذ الربا ". (9) ويؤيد هذا التفسير رواية ابن حبان للحديث موقوفًا " الصفقة في الصفقتين ربا ". (10)
* وذهب الكمال بن الهمام إلى أن الصفقتين في صفقة أعم مطلقًا من البيعتين في بيعة، لخصوص في نوع من الصفقات، وهو البيع ، وذلك كما لو باع عبدًا على أن يستخدمه البائع شهرًا أو دارًا على أن يسكنها كذلك، لأنه لو كانت الخدمة والسكن يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، فيتناول كلًّا من الاعتبارين المذكورين (11)
والخلاصة: أن الفقهاء مختلفون في المراد بالصفقتين في صفقة، هل هو نفس البيعتين في بيعة، أم بينهما عموم وخصوص مطلق؟ فذهب أكثرهم إلى أنهما مترادفتان، وذهب الحنفية إلى أنّ الأولى أعم مطلقًا، فتشمل اجتماع السلف مع البيع، والإجارة مع البيع، والإعارة مع البيع، وغير ذلك. وسنأتي على تفصيل ذلك عند كلامنا على حكم اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد.
(1) نيل الأوطار: 5/ 152؛ مجمع الزوائد: 4/ 84؛ مسند أحمد: 1/ 198؛ فتح القدير: 6/ 81
(2)
تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 106؛ نيل الأوطار: 5/ 152
(3)
فتح القدير: 6/ 81؛ السيل الجرار: 3/ 61
(4)
نيل الأوطار: 5/ 153؛السيل الجرار: 3/ 61
(5)
المصباح المنير: 1/ 455؛ المغرب: 1/ 476
(6)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 2/ 323
(7)
طلبة الطلبة، ص 65، 128.
(8)
المبسوط: 16/ 2
(9)
تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/106
(10)
انظر فتح القدير: 6/ 81
(11)
فتح القدير: 6/ 80، 81
(ج) البيع والشرط:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
وهذا الحديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال كثير من أهل العلم كالإمام أحمد والقاضي ابن العربي وابن قدامة وابن تيمية وغيرهم. (1) ولا يصح الاحتجاج به لمعارضته للأحاديث الصحيحة والإجماع.
قال ابن تيمية: " يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه. وأجمع الفقهاء المعروفون - من غير خلاف أعلمه عن غيرهم - أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبًا أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح ". (2)
وجاء في أعلام الموقعين: (حديث النهي عن بيع وشرط لا يعلم له إسناد يصح، وهو مخالف للسنة الصحيحة والقياس، وقد انعقد الإجماع على خلافه. أما مخالفته للسنة الصحيحة، فإن جابر أباع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)) ، فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع. وقال:((من باع ثمرة قد أُبِّرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)) ، فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، وأما مخالفته للإجماع، فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد، فهذا بيع وشرط متفق عليه) . (3)
(1) عارضة الأحوذي: 5/ 250؛ المغني: 6/ 166؛ الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 5/ 145، وقد جاء فيه:" قولهم: نهى عن بيع وشرط. فإن هذا حديث باطل، وليس في شيء من كتب المسلمين، وانما يروى في حكايات منقطعة ".
(2)
القواعد النورانية الفقهية، ص 188
(3)
إعلام الموقعين عن رب العالمين: 2/ 328
(د) اقتران العقود بالشروط:
لقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة تثبت للعقود المسماة التي أقرها الشرع آثارًا وأحكامًا والتزامات تربط الطرفين في كل عقد بحسب موضوعه. فعقد النكاح مثلًا يترتب عليه جل الاستمتاع بين الزوجين، ووجوب متابعة المرأة للرجل، ووجوب النفقة للمرأة على الرجل، وثبوت النسب، وحقوق الحضانة، وحرمة المصاهرة، والإرث بين الزوجين، ثم بينهما وبين الأولاد. وكذلك عقد البيع والإجارة والرهن والكفالة وغيرها، كل منها قد ثبتت في الشرع له أحكام، منها ما بينه الكتاب والسنة القولية أو العملية مباشرة، ومنها ما أضافه الاجتهاد استنباطًا.
أما سلطة العاقدين على تعديل تلك الآثار للعقود، إما بالنقص منها، وإما بإضافة التزامات على أحد الطرفين لا يستلزمها أصل العقد، وذلك بشروط يشترطانها في التعاقد، ومدى هذه السلطة، فقد اختلفت في ذلك اجتهادات الفقهاء وأنظارهم.
1-
فذهب الحنفية إلى أن الأصل الشرعي في حرية الشروط العقدية هو التقييد، وذلك لأن لكل عقد في الشريعة أحكامًا أساسية تسمى (مقتضى العقد) نص عليها الكتاب أو السنة، أو استنبطها الاجتهاد وأثبتها حفظًا للتوازن بين العاقدين في الحقوق، فليس للعاقدين أن يشترطا من الشروط ما يخالف هذا المقتضى، فإن اشترطا شرطًا مخالفًا له فسد العقد في الجملة.
وقد اعتبر الفقه الحنفي كل شرط متضمن لمنفعة زائدة على أصل
العقد مخالفًا ومفسدًا للمعاوضة المالية، كما لو اشترط في أصل البيع حمل المبيع إلى بيت المشتري على حساب البائع، أو إقراض أحد المتبايعين للآخر قرضًا ونحو ذلك. أما إذا كان ذلك الشرط في غير عقود المعاوضات المالية كالزواج، فيلغو الشرط ويصح العقد. ولكنه استثنى من المنع في عقود المبادلات المالية ثلاثة أنواع من الشروط، فاعتبرها صحيحة لازمة، وهي:
أ) الشرط الذي ورد الشرع بجوازه، كاشتراط تأجيل ثمن المبيع، واشتراط الخيار لأحد المتبايعين.
ب) الشرط الذي يلائم العقد، كاشتراط البائع على المشتري تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل، لأنه توثيق له.
جـ) الشرط الذي يجري به العرف المعتبر شرعًا، حيث إن العرف يصحح الشروط التي تعتبر في الأصل مفسدة للعقد. (1)
2 -
واتجه الشافعية وأكثر المالكية إلى نحو ما ذهب الحنفية من لزوم التمسك بمقتضيات العقود إجمالًا، وعدا جواز اشتراط ما يخالفها، ولكنهم اختلفوا معهم في التفصيلات، نظرًا لتشعب أنظارهم واجتهاداتهم فيما هو مقتضى كل عقد، وفيما هو مخالف له من الشروط، ودرجة المخالفة، ومدى إخلالها بما يلزم مراعاته في العقود. (2)
قال البغوي: " وجملة ذلك أن كل شرط هو من مقتضى البيع أو من مصلحة البيع فهو جائز، أما مقتضاه: فهو مثل أن يبيعه عبدًا على أن يحسن إليه، أو دارًا على أن يسكنها إن شاء أو يسكنها غيره، وأما مصلحة العقد: فمثل أن يبيع بثمن ضرب له أجلًا معلوما، أو شرط أن يرهن بالثمن داره، أو يقيم فلانًا كفيلًا بالثمن.
(1) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا: 1/ 468 - 479 بتصرف؛ القواعد النورانية الفقهية، لابن تيمية، ص 184 وما بعدها؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 126 وما بعدها
(2)
انظر المدخل الفقهي للزرقا: 1/ 476؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 127، 128؛ المجموع: 9/ 363 وما بعدها
فأما ما لا يقتضيه مطلق البيع من الشروط، ولا هو من مصلحة البيع، فإنه يفسد البيع إلا شرط العتق، وذلك مثل أن يشتري سلعة على أن يحملها البائع إلى بيته، أو ثوبًا على أن يخيطه، أو دابة على أن يسلمها في بلد كذا أو في وقت كذا، أو على أن لا خسارة عليه في ثمن المبيع، فالعقد فاسد، لأنه شرط يصير به الثمن مجهولًا، وكذلك لو باع داره وشرط فيه رضا الجيران أو رضا فلان، ففاسد لما فيه من الغرر، لأنه لا يدري هل يرضى فلان أو لا، وكذا لو باعه على أن البائع متى رد الثمن عاد المبيع إليه أو يرده المشتري إليه، ففاسد. وكذلك لو باعه على أن لا يبيعه المشتري، أو على أن يبيعه، أو على أن يهبه، فلا يصح، لأنه حجر عليه فيما هو مقصود الملك من إطلاق التصرف ". (1)
وجاء في (الأشباه والنظائر)، لابن السبكي:" تنبيه: قد يتردد في أن الشيء مقتضى العقد أو لا، فيورث ذلك ترددًا في أنه شرطه هل يبطل أو لا؟ "(2)
(1) شرح السنة للبغوي: 8/ 147، 148
(2)
الأشباه والنظائر، لابن السبكي: 1/ 274
وقال في (بداية المجتهد) : " وأما مالك؛ فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معًا، وشروط تجوز هي والبيع معًا، وشروط تبطل ويثبت البيع ، وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا، وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما تتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع، وهما الربا والغرر، وإلى ما قلته، وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرًا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطًا أبطل الشرط وأجاز البيع. ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب، إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها، والجمع عندهم أحسن من الترجيح. وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة ". (1)
3-
ويتجه الفقه الحنبلي إلى أن الأصل الشرعي بمقتضى دلائل نصوص الشريعة هو حرية العقود أنواعًا وشروطًا، ووجوب الوفاء بكل ما يلتزمه المتعاقدان ويشترطانه، ما لم يكن هناك نص أو قياس يمنع من عقد معين أو شرط محدد، فعندئذ يمتنع بخصوصه على خلاف القاعدة، ويعتبر الاتفاق عليه باطلًا، كالتعاقد على الربا أو القمار أو الغرر ونحو ذلك. ومستندهم على ذلك عموم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم)) (2) وقد استفيد القيد الاستثنائي المانع من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) . (3) والمراد به ما أحل حرامًا أو حرم حلالًا.
(1) بداية المجتهد: 2/ 160
(2)
رواه أبو داود وابن حبان وابن الجارود والدارقطني والبيهقي والحاكم، وهو حديث صحيح، (إرواء الغليل: 5/ 142)
(3)
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ، (انظر صحيح البخاري: 3/ 199؛ صحيح مسلم: 2/ 1141؛ سنن أبي داود: 2/ 346؛ عارضة الأحوذي: 8/ 280؛ سنن النسائي: 7/ 268؛ الموطأ: 2/ 780)
وعلى ذلك فإن الفقه الحنبلي - في الجملة - لم يعتبر للعقود مقتضيات ضيقة بحدود ثابتة تتحكم في إرادة المتعاقدين، بل إن الشارع قد فوض إلى إرادة المتعاقدين تحديد هذه المقتضيات في نطاق حقوقهما في كل ما لا يصادم نصًّا من نصوص الشريعة ولا ينقض أصلًا من أصولها، وفقهاء الحنابلة لا يعتبرون - كغيرهم - أن كل مصلحة يشترطها أحد العاقدين لنفسه مما لا يوجبه العقد بذاته تكون منافية لمقتضاه، بل يعتبرون مصلحة العاقد من مصلحة العقد نفسه ما دامت مشروعة، أي غير محظورة شرعًا. (1)
(1) انظر المدخل الفقهي، للزرقا: 1/ 479 - 499؛ إعلام الموقعين: 3/ 381؛ القواعد النورانية الفقهية، ص 188؛ السيل الجرار: 3/ 59
جاء في مجموع فتاوى ابن تيمية: " الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياسًا عند من يقول به وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعًا من الصحة، ولا تعارض ذلك بكونه شرطًا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص، وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا تجده عند غيره من الأئمة، فقال بذلك وبما في معناه قياسًا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أويضعف دلالته، وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس.. " (1) والذي انتهى إليه الإمام ابن القيم - من أجلة محققي الحنابلة - في المسألة قوله:" الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح ". (2) وقال: " فكل ما لم يبين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تحريمه من العقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله سبحانه قد فصل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلابد أن يكون تحريمه مفصلًا، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه ". (3)
ثم قال: " والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء، فإنهم يلغون شروطًا لم يلغها الشارع، ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله، فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل، فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط يخالف حكم الله فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم "(4)" وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع التي بعث الله بها رسوله: إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل، كائنًا ما كان. والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه، وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط، فهو لازم بالشرط. ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الصحابة، ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية، فإنها لا تهدم قاعدة من قواعد الشرع ". (5)
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 132، 133؛ القواعد النورانية الفقهية، لابن تيمية، ص 188
(2)
إعلام الموقعين: 1/ 344
(3)
إعلام الموقعين: 1/ 383
(4)
إعلام الموقعين: 3/ 401
(5)
إعلام الموقعين: 3/ 402
القول المختار:
والذي يترجح عندي الأخذ به والتعويل عليه مما سبق بيانه من أقاويل أهل العلم هو ما اتجه إليه ابن تيمية وابن القيم من أن الأصل في الشروط العقدية الجواز والصحة إلا ما أبطله الشرع أو نهى عنه، فكل شرط لا يخالف نصًّا أو قياسًا صحيحًا فهو صحيح معتبر، وكل ما خالف نصا أو عارض قياسًا صحيحًا فهو غير سائغ شرعًا، والله أعلم.
حكم العقود المجتمعة وأثر المواعدة السابقة عليها:
(أ) حكم العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة:
أجمع الفقهاء على حرمة اجتماع القررض مع البيع في صفقة واحدة (1) لما روى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده ومالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وسلف، قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2)
قال البغوي: " وذلك مثل أن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقرضني عشرة دراهم، فهذا فاسد، لأنه جعل العشرة ورفق القرض ثمنًا للثوب، فإذا بطل الشرط سقط بعض الثمن، فيكون ما بقي من المبيع بمقابلة الباقي مجهولًا ". (3)
وقال القاضي ابن العربي: " وأما بيع وسلف، فإنما نهي عنه لتضادِّ الهدفين، فإن البيع مبني على المشاحة والمغابنة، والسلف مبني على المعروف والمكارمة، وكل عقدين يتضادان وصفًا لا يجوز أن يجتمعا شرعًا، فاتخذوا هذا أصلًا "(4)
وقال ابن القيم: " وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربا في السلف بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع ". (5) وقال أيضًا: " وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك ". (6)
(1) بداية المجتهد: 2/ 162؛ المغني: 6/ 334؛ المبسوط: 14/ 40؛ فتح القدير: 6/ 80؛ القبس شرح الموطأ: 2/ 843؛ الروضة الندية: 2/ 104
(2)
الموطأ: 2/ 657؛ مختصر سنن أبي داود، للمنذري؛ ومعالم السنن، للخطابي: 5/ 144؛ مرقاة المفاتيح: 2/ 323؛ عارضة الأحوذي: 5/ 241؛ نيل الأوطار: 5/ 179؛ الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 4/ 39
(3)
شرح السنة: 8/ 145؛وانظر فتح العزيز: 9/ 383، 384
(4)
القبس: 2/ 798
(5)
إغاثة اللهفان: 1/ 363
(6)
تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 149
ولا خلاف بين الفقهاء في أن الحكم بحرمة ذلك وفساده منسحب على الجمع بين القرض والسلم، وبين القرض والصرف، وبين القرض والإجارة، لأنها كلها بيوع. وأما الجمع بين ما سوى ذلك من العقود فهو محل نظر الفقهاء، وقد اختلفت اجتهاداتهم فيه، وتباينت تفصيلاتهم وآراؤهم في كثير من صوره وضوابطه، وذلك على النحو التالي:
1 -
فقال الحنفية: لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرًا أو دارأ على أن يسكنها كذلك، أو على أن يقرضه المشتري درهمًا، أو على أن يهدي له هدية، فالبيع بهذه الشروط كلها فاسد؛ لأنها شروط لا يقتضيها العقد، وفيها منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف، ولأنه لو كان الخدمة والسكن يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، فيتناول كلا من الاعتبارين المذكورين (1)
أما لو قال: بعتك هذه الدار بألف على أن يقرضني فلان الأجنبي عشرة دراهم، فقبل المشتري ذلك البيع، صح؛ لأن الإقراض لا يلزم الأجنبي (2)
ولو دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفها قرضًا عليه، ويعمل في النصف الآخر بشركته، فإنه يجوز ذلك. (3) وذلك يعني مشروعية الجمع بين القرض والشركة عندهم.
كذلك أجاز الحنفية شركة المفاوضة على أساس تضمنها الوكالة والكفالة (4)
(1) المبسوط: 13/ 16؛ فتح القدير: 6/ 80
(2)
فتح القدير: 6/ 81؛ العناية على الهداية: 6/ 80
(3)
المبسوط: 12/ 64، وانظر المبسوط أيضًا: 30/ 238
(4)
المبسوط: 11/ 177
2 -
وجاء المالكية في المسألة بفقه نفيس، فقال القاضي ابن العربي:" يتركب على حديث النهي عن بيع وسلف أصل بديع من أصول المالكية، وهو أن كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز اجتماعهما، أصله البيع والسلف، فركبه عليه في جميع مسائل الفقه، ومنه البيع والنكاح، وذلك أن البيع مبني على المغابنة والمكايسة، خارج عن باب العرف (1) والعبادات، والسلف مكارمة وقربة، ومن هذا الباب الجمع بين العقد الواجب والجائز (2) ومثله بيع وجعالة، ويزيده على ذلك أن أحد العوضين في الجعالة مجهول، ولا يجوز أن يكون معلومًا، فإنه إن كان معلوما خرج عن باب الجعل، والتحق بباب الإجارة، وأمثال ذلك لا تحصى "(3)
وجاء في (الفروق) للقرافي: " الفرق السادس والخمسون والمائة بين قاعدة ما يجوز اجتماعه مع البيع وقاعدة ما لا يجوز اجتماعه معه: اعلم أن الفقهاء جمعوا أسماء العقود التي لا يجوز اجتماعها مع البيع في قولك " جص مشنق "، فالجيم للجعالة والصاد للصرف، والميم للمساقاة، والشين للشركة، والنون للنكاح، والقاف للقراض.
والسر في الفرق أن العقود أسباب، لاشتمالها على تحصيل حكمتها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين، فكل عقدين بينهما تضاد لا يجمعهما عقد واحد، فلذلك اختصت العقود التي يجوز اجتماعها مع البيع كالإجارة، بخلاف الجعالة للزوم الجهالة في عمل الجعالة، وذلك ينافي البيع، والإجارة مبنية على نفي الغرر والجهالة، وذلك موافق للبيع.
ولا يجتمع النكاح والبيع لتضادهما في المكايسة في العوض والمعوض، بالمسامحة في النكاح والمشاحة في البيع، فحصل التضاد. والصرف مبني على التشديد وامتناع الخيار والتأخير وأمور كثيرة لا تشترط في البيع، فضاد البيع الصرف، والمساقاة والقراض فيهما الغرر والجهالة كالجعالة وذلك مضاد للبيع. والشركة فيها صرف أحد النقدين بالآخر من غير قبض، فهو صرف غير ناجز، وفي الشركة مخالفة للأصول، والبيع على وفق الأصول، فهما متضادان. وما لا تضاد فيه يجوز جمعا مع البيع، فهذا وجه الفرق " (4)
وجاء في (تهذيب الفروق والقواعد السنية) : " وأما نحو الإجارة والهبة مما يماثل البيع في الأحكام والشروط ولا يضاده، فإنه يجوز اجتماعه مع البيع، كما يجوز اجتماع أحدهما مع الآخر في عقد واحد لعدم التنافي ". (5)
(1) أي المعروف
(2)
أي غير اللازم
(3)
القبس شرح الموطأ: 2/ 843
(4)
الفروق: 3/ 142
(5)
تهذيب الفروق: 3/ 178
وقال ابن رشد الحفيد: " واختلفوا إذا اقترن بالمهر بيع، مثل أن تدفع إليه عبدًا، ويدفع ألف درهم عن الصداق وعن ثمن العبد، ولا يسمى الثمن من الصداق، فمنعه مالك وابن قاسم، وبه قال أبو ثور، وأجازه أشهب، وهو قول أبي حنيفة، وفرق عبد الله فقال: إن كان الباقي بعد البيع ربع دينار فصاعدًا بأمر لا يشك فيه جاز ، واختلف فيه قول الشافعي، فمرة قال: ذلك جائز، ومرة قال: فيه مهر المثل، وسبب اختلافهم: هل النكاح في ذلك شبيه بالبيع أم ليس بشبيه؟ فمن شبهه في ذلك بالبيع منعه، ومن جوز في النكاح من الجهل ما لا يجوز في البيع قال: يجوز ". (1)
وذكر ميارة في شرحه على التحفة أنه كما لا يجتمع البيع مع واحد من العقود السبعة: القرض والشركة والصرف والجعل والنكاح والمساقاة والقراض، فكذلك لا يجتمع اثنان منها في عقد واحد، لافتراق أحكامها. (2) واستثنى القاضي عبد الوهاب من منع اجتماع الصرف مع البيع ما إذا كان البيع يسيرًا وجاء على وجه التبع، فقال:" ولا يجوز أن ينضم إلى الصرف عقد بيع إلا أن يكون يسيرًا على وجه التبع؛ لأن الصرف ضيق بابه وغلظ فيه واختص بأحكام لا توجد في غيره، فإذا انضم إليه غيره، احتيج إلى اعتباره به، وذلك غير جائز. فإن كان يسيرًا جاز؛ لأن الضرورة تدعو إليه، مثل أن يصرف دينارًا بعشرة دراهم، فيعجز الدرهم أو النصف، فيدفع إليه عرضًا بقيمته، أو يزيد الدينار والدرهم وكسره غير جائز، فهنا يجوز للضرورة، لأنه يعلم أن البيع غير مقصود ". (3)
(1) بداية المجتهد: 2/ 28
(2)
ميارة على التحفة: 1/ 283؛ وانظر البهجة: 2/ 9، 10
(3)
المعونة، للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1027
وللشاطبي في الموافقات كلام نفيس حول هذه القضية، جاء فيه: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف؛ لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة، وباب السلف يقتضي المكارمة والسماح والإحسان، فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع، فخرج السلف عن أصله
…
ولأجل هذا منع مالك مِن جَمْع عقود بعضها إلى بعض، وإن كان في بعضها خلاف، فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام، اعتبارًا بمعنى الانفراد حالة الاجتماع، فمنع من اجتماع الصرف والبيع، والنكاح والبيع، والقراض والبيع، والمساقاة والبيع، والشركة والبيع، والجعل والبيع - والإجارة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع - ومنع من اجتماع الجزاف والمكيل، واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع.
وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام المختلفة في العقد الواحد، فالصرف
مبني على غاية التضييق، حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس، والتقابض الذي لا تردد فيه ولا تأخير ولا بقاء علقة، وليس البيع كذلك، والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة، ولذلك سمى الله الصداق نحلة، وهي العطية لا في مقابلة عوض، وأجيز فيه نكاح التفويض، بخلاف البيع، والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة، إذ هما مستثنيان من أصل ممنوع، وهو الإجارة المجهولة، فصارا كالرخصة، بخلاف البيع، فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل وغير ذلك، فأحكامه تنافي أحكامهما، والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين، والبيع يضاد ذلك.
والجُعل مبني على الجهالة بالعمل، وعلى أن العامل بالخيار، والبيع يأبى هذين، واعتبار الكيل في المكيل قَصْد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل، والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبيع، للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم. والإجارة عقد على منافع لم توجد، فهو على أصل الجهالة، وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة، والبيع ليس كذلك. وقد اختلفوا أيضًا في عقد على بت في سلعة وخيار في أخرى، والمنع بناء على تضاد البت والخيار ". (1)
(1) الموافقات، للشاطبي: 3/ 193، 195، 196، 198 - 03 2 (بتصرف)
3 -
ونص الشافعية على أنه إذا جمع في التعاقد بين بيع وإجارة، أو بيع وسلم، أو إجارة وسلم، أو صرف وغيره، أو جمع في العقد بين مبيعين مختلفي الحكم كثوبين شُرِط الخيار في أحدهما دون الآخر، فأصح القولين في المذهب صحة العقد فيهما، ويسقط العوض عليهما بالقيمة، لأنه ليس في ذلك أكثر من اختلاف حكم العقدين، وهذا لا يمنع صحة العقد، كما لو جمع في البيع بين ما فيه شفعة وبين ما لا شفعة فيه.
قالوا: وصورة البيع والإجارة: بعتك عبدي وأجرتك داري سنة بألف، وصورة البيع والسلم: بعتك ثوبي ومائة صاع حنطة سَلَمًا بدينار، وصورة الإجارة والسَّلَم: أجرتك داري سنة وبعت مائة صاع حنطة سلمًا بمائة درهم.
ومثل ذلك ما لو جمع بيعًا ونكاحًا، فقال: زوجتك جاريتي هذه وبعتك عبدي هذا بمائة، وهو ممن تحل له الأمة، أو قال: زوجتك بنتي وبعتك عبدها، وهي في حجره، أو رشيدة وكلته في بيعه، صح النكاح بلا خلاف في المذهب، وصح البيع والصداق في أصح القولين، ويوزع المسمى على قيمة المبيع ومهرالمثل. (1)
(1) المجموع شرح المهذب: 9/ 388
4 -
وفرق الحنابلة في المذهب بين نوعين من الجمع:
(أحدهما) الجمع بين عقدين مختلفي الحكم بعوضين متميزين، مثل: بعتك داري هذه بكذا على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا بكذا، أو على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي، ونحو ذلك، فهذا كله باطل لا يصح؛ لأنه من بيعتين في بيعة، أو صفقتين في صفقة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
(والثاني) الجمع بين عقدين لشيئين مختلفي القيمة بعوض واحد، كالصرف وبيع ما يجوز التفرق فيه قبل القبض، والبيع والنكاح، والبيع والإجارة، نحو أن يقول: بعتك هذا الدينار وهذا الثوب بعشرين درهمًا، أو: بعتك هذا الدار وأجرتك الأخرى بألف، أو باعه سيفًا محلى بالذهب بفضة، أو: زوجتك ابنتي وبعتك عبدها بألف، صح العقد فيهما، لأنهما عينان يجوز أخذ العوض عن كل واحدة منهما منفردة، فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعين. (1)
وقد جاء في إعلام الموقعين: " لا محذور في الجمع بين عقدين، كل منهما جائز بمفرده، كما لو باعه سلعة وأجره داره شهرًا بمائة درهم ". (2)
ثم إن الحنابلة قاسوا على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلفٍ الجمع بين البيع (ومثله الصرف والسلم والإجارة باعتبارها بيوعا) وبين أي تبرع مثل الهبة والعارية والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة، فمنعوا من ذلك كله، قال ابن تيمية:" فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة، لا تبرعًا مطلقًا، فيصير جزءًا من العوض، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض، فقد جمعا بين أمرين متباينين ". (3)
وعندي أن منع الجمع بين البيع وأي تبرع قياسًا على حظر الجمع نصًّا بين البيع والسلف فيه نظر؛ لأن الهبة المقارِنة للبيع إنما هي مجرد تسمية، فإذا قال شخص لآخر: بعني دارك بمائة على أن تهبني ثوبك، ففعل، فالدار والثوب مبيعان معًا بمائة. وإذا قال شخص لآخر: أبيعك داري بمائة على أن تهبني ثوبك، فالدار مبيعة بالمائة والثوب معًا، والتسمية لا أثر لها ،فليتأمل (4)
(1) المغني، لابن قدامة: 6/ 332، 333؛ وانظر الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص 122، 155
(2)
إعلام الموقعين: 3/ 354
(3)
الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 4/ 39؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 62؛ القواعد النورانية الفقهية، لابن تيمية، ص 142
(4)
انظر تهذيب الفروق والقواعد السنية: 3/ 179
الرأي المختار:
بالنظر في آراء الفقهاء وتفصيلاتهم وأدلتهم في القضية، يترجح عندي:
(أ) حظر الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما توسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور، وإن كان كل واحد منهما جائزًا بمفرده، وذلك لأنه قد نشأ في الجمع بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي الشرعي. ومن أمثلة ذلك: الجمع بين البيع والقرض، فإن من أقرض رجلًا ألف درهم، وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف، لم يرض بالإقراض إلا بالثمن الزائد للسلعة، والمشتري كذلك لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها، فلا هذا باع بيعًا بألف، ولا هذا أقرض قرضًا محضًا، بل الحقيقة أنه أعطاه الألف والسلعة التي تساوي خمسمائة بألفين. (1)
ومن أمثلته أيضًا: أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة على أن يشتريها منه بثمانين حالَّة، حيث إن الجمع بين العقدين ههنا (العينة) يؤول إلى الربا، فهما في الظاهر بيعتان، وفي الحقيقة ربًا، إذ السلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل؛ لأن المصالح التي شرع البيع من أجلها لم يوجد منها في هذه المعاقدة شيء. (2)
وأساس ذلك كما قال الإمام الشاطبي: إن الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا تكون في حالة الانفراد فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، وكل واحد منهما لو انفرد لجاز، ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح، مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وقال:((إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)) ، فدل ذلك على أن للجمع حكمًا ليس للانفراد، فكان الاجتماع مؤثرًا، وهو دليل، وكان تأثيره في قطع الأرحام هو رفع حل الاجتماع ، وذلك يقتضي أن يكون للاجتماع في بعض الأحوال تأثير ليس للانفراد، وأن يكون للانفراد حكم ليس للاجتماع، وللاجتماع حكم ليس للانفراد. (3)
(1) انظر الموافقات، للشاطبي: 3/ 196، مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 62، القواعد النورانية الفقهية ص 142، الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 4/ 39
(2)
مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، ص 327؛ تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم: 5/ 100، 106؛ إعلام الموقعين: 3/ 161، 162؛ الموافقات: 4/ 199
(3)
الموافقات: 3/ 192
(ب) كل عقدين يتضادان وصفًا ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز الجمع بينهما شرعًا، وذلك لأن العقود أسباب، وإنما تفضي إلى تحصيل حكمها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين، ثم نظرًا لما يترتب على الجمع بينهما من الجهالة أو الغرر اللذين يفضيان إلى الخصومة والمنازعة، وانتفاء ذلك مطلوب شرعًا في كل معاقدة.
هذا، وقد تبين لنا مما سبق بيانه في القضية أن أنظار الفقهاء واجتهاداتهم متباينة ومختلفة فيما يصدق عليه التنافي والتضاد من العقود المجتمعة، وإن كانوا متفقين في الجملة على أصل حظر الجمع بين كل عقدين متضادين وصفًا وحكمًا
…
مما يوجب على فقهاء العصر الفهم العميق والنظر الفسيح والاجتهاد الدقيق في سائر العقود المجتمعة التي يجري فيها التعامل أو يحتاج إليه في هذا العصر.. ذلك للتأكد من انطباق هذا الأصل عليها أو عدمه قبل الإفتاء فيها بالجواز أو المنع شرعًا، والله تعالى أعلم.
أثر المواعدة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة:
تعتبر المواعدة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة - في النظر الفقهي - مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لتلك العقود في سلك واحد وشطرًا منها من حيث الحكم التكليفي والآثار المترتبة عليها. وهذا الأصل الفقهي الكفي مستنبط من:
1 -
اشتراط الفقهاء المجيزين لـ (ضع وتعجل) - أي الاتفاق بين الدائن والمدين على تعجيل المدين دينه مقابل حط جزء منه عنه - لحل وصحة هذه المعاقدة أن تقع بدون مواطأة (أي مفاهمة) سابقة بين الطرفين وقت ثبوت الحق في الذمة، وإلا اعتبر صلح الحطيطة هذا حيلة ربوية غير مشروعة، وذلك اعتبارًا لقيام الارتباط بين المواطأة السابقة والمعاقدة اللاحقة بالوضع والتعجيل.
2 -
من نصوص بعض الفقهاء على إناطة حرمة بيع العينة بالتواطؤ على البيعتين مسبقًا، وفي ذلك يقول ابن تيمية:(مسألة العينة: وهي أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يشتريها منه بثمن حال أقل منه، فهذا مع التواطؤ يبطل البيعتين، لأنهما حيلة) . (1) وقال ابن القيم: " وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض صحيح في تملك الثمن وتمليك السلعة، ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النَّساء، ولا غرض له في الثمن ولا في المثمن ولا في السلعة، وإنما غرضهما الربا ". (2)
3 -
النصوص الفقهية التي أناطت حظر نكاح التحليل بالاشتراط أو المفاهمة السابقة عليه، فإن تم ذلك بدون أي اشتراط أو مواطأة سابقة لم يكن فيه بأس. (3)
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 30
(2)
إعلام الموقعين: 3/ 250
(3)
المبسوط للسرخسي: 30/ 28
4 -
تقييد بعض محققي الفقهاء العمل بمقتضى حديث " بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا ". بأن يقع ذلك بدون مواطأة سابقة (1) قال ابن القيم: " يوضحه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) ، وهذا يقتضي بيعًا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك، فقد اتفقا على العقدين معًا، فلا يكون الثاني عقدًا مستقلًا مبتدأ، بل هو من تتمة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهر الحديث أنه أمر بعقدين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه ". (2)
5 -
نص كثير من الفقهاء على التسوية بين الشروط المشروطة في صلب العقد والشروط المتفق عليها قبل العقد، ولو لم يصرح بها في حال التعاقد، ما دام العقد قد اعتمد عليها، اعتبارا للشرط الملحوظ كالشرط الملفوظ في الحكم. (3) وقد حكى العلامة ابن القيم عن جمهور أهل العلم أنه لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن، إذ مفسدة الشرط المتقدم لم تزل بتقدمه وإسلافه، ومفسدته مقارنًا كمفسدته متقدما ولا فرق. (4)
بناء على ما تقدم، فإنه يترجح عندي القول بأن المواعدة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة تعتبر ملحقة بالاتفاقية المبرمة عليها أو جزء منها، كما أنه يعد في حكم المواطأة اللفظية المواطأة العرفية (5) وينبني على هذا الأساس أن الاتفاقية على العقود المجتمعة مضافًا إليها التفاهم المسبق وما في حكمه من المواطأة العرفية إذا ترتب على ما اجتمع فيها من عقود ووعود وشروط أمر محظور كالربا والجهالة الفاحشة والغرر، أو كانت متناقضة متنافرة في أوصافها أو أحكامها فإنها تعد محظورة شرعًا، ولو أن كل عقد أو وعد أو شرط فيها مشروع بمفرده، إذ قد دل الاستقراء من الشرع على أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا تكون في حالة الانفراد، مما يجعل للانفراد حكمًا ليس للاجتماع، وللاجتماع حكمًا ليس للانفراد (6) والله تعالى أعلم.
(1) انظر إعلام الموقعين: 3/ 240، 242، 243
(2)
إعلام الموقعين: 3/ 238
(3)
المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقا: 1/ 487
(4)
إعلام الموقعين: 3/ 145، ملاحظة: وللحنفية في المسألة خلاف معروف، مفاده أن المواضعة وكذا المواعدة المتقدمة على العقد لا عبرة فيهما، ولا يلتحقان بأصل العقد، وأن الشرط المتقدم لا تأثير له على العقد، ولا يعتبر كالمقارن، (انظر جامع الفصولين: 2/ 237)
(5)
إعلام الموقعين: 3/ 241، 242
(6)
انظر الموافقات، للشاطبي: 3/ 161، 162
(2)
أنموذج للتطبيقات المعاصرة في العقود المركبة
عقود التوريد:
عقد التوريد هو عقد بين جهتين، تلتزم فيه إحداهما بتوريد أصناف (سلع - مواد) محددة الأوصاف والمقادير، في تواريخ معينة، مقابل ثمن محدد، يدفع منجمًا على أقساط (1)
والذي يبدو لي أن عقد التوريد ليس من قبيل العقود المركبة (2) - كما جاء في الخطة التي وضعها المجمع الموقر لهذا الموضوع - وإنما هو أشبه ببيع السلم أو عقد الاستصناع، الذي يتفق فيه العاقدان على تأجيل البدلين: المبيع والثمن، إلى آجال معلومة.
وعلى ذلك فيجب أن يحدد في عقود التوريد مقدار المبيع وأوصافه، وآجال التسليم، وأن يكون المعقود عليه مقدور التسليم عند حلول أجله.
غير أن في عقود التوريد - أن جرى تكييفها الفقهي سلمًا - إشكالًا من ناحية أخرى، وهي أن كلا البدلين (المبيع والثمن) مؤجلان، مما يجعلها داخلة تحت بيع الكالئ بالكالئ، وهو ممنوع شرعًا في قول سائر أهل العلم، ولكن يستثنى من ذلك الحظر ما إذا كانت هناك حاجة عامة أو خاصة إليه، إذ الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة، عامة كانت أم خاصة كما جاء في القواعد الفقهية، ولا يبعد أن يقال في هذا المقام بتحقق تلك الحاجة إلى عقود التوريد، وعلى ذلك يكون الغرر فيها مغتفرًا، وتعتبر سائغة في النظر الفقهي. (3)
(1) انظر مناقصات العقود الإدارية، ورقة عمل مقدمة إلى الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي، ص 29، 51
(2)
حتى ولو كان عقد التوريد واردًا على عدد من السلع أو المواد، إذ المعقود عليه في هذه الحالة يعتبر بمثابة مبيع واحد، وإن اختلفت مكوناته أو أجزاؤه، بثمن واحد. وقد سبق أن بينا قول جماهير الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة بجواز بيع شيئين أو أكثر بثمن واحد وأنه لا حرج شرعًا في إبرام صفقة واحدة جمعت بين شيئين بثمن معلوم.
(3)
انظر بيع الكالئ بالكالئ، للدكتور نزيه حماد، ص 28 - 29
أما إذا جرى تكييفها الفقهي على أنها من قبيل الاستصناع، لكون السلعة أو السلع أو المواد التي يجري توريدها من المنتجات الصناعية للمورد مثلًا، فالأمر أيسر، إذ أجاز الحنفية في الاستصناع - إلى جانب تأجيل المبيع - عدم تعجيل الثمن، وكذا تأجيله إلى أجل معلوم، وقد اعتمد ذلك المجمع الموقر في قراره رقم 67/ 3/ 7 في دورته السابعة بجدة (ذو القعدة 1412 هـ/ مايو 992 م) حيث جاء فيه:
*يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
أ- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
ب - أن يحدد فيه الأجل.
*يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله أو تقسيطه إلى أقساط معلومة الآجال محددة.
وعلى ذلك فلا يكون هناك حرج شرعًا في إبرام عقود التوريد التي تكيف فقهيًّا على أنها من قبيل الاستصناع، وإن اتفق فيها على تأخير البدلين.
(3)
أنموذج للتطبيقات المعاصرة للعقود المجتمعة
المشاركة المتناقصة:
تعتبر المشاركة المتناقصة لونًا من الأساليب الجديدة التي استحدثتها المصارف الإسلامية لاستثمار أموالها، ولحلولها محل البنوك التقليدية في تلبية حاجات العملاء التمويلية بمنأى عن القروض الربوية ، حيث يقدم المصرف الإسلامي جزءا من رأس المال المطلوب للمشروع بصفته مشاركًا للعميل الذي يقدم الجزء الباقي من رأس مال المشروع، ويتفق المصرف مع ذلك الشريك على طريقة معينة لبيع حصته في المشروع تدريجيًّا إليه.
ويتمتع المصرف في هذا الأسلوب بكامل حقوق الشريك العادي في الشركات المسماة، وعليه جميع التزاماته وتبعاته وضماناته، غير أنه لا يقصد - كما هو مفهوم منذ بداية المراوضة والمواعدة ثم الاتفاقية مع العميل - البقاء والاستمرار في الشركة، ولهذا فهو يعطي الحق للشريك (العميل) في أن يحل محله في ملكية العقار أو المشروع، ويعرض موافقته على التنزل عن حصته الشائعة في أعيان الشركة وموجوداتها دفعة واحدة أوعلى دفعات، حسبما تقتضي الشروط المتفق عليها. (1)
هذا، وتوجد صور وتطبيقات متعددة للشركة المتناقصة في الواقع العملي، ولعل أكثرها انتشارا تلك التي يتم بموجبها اتفاق الطرفين على تنزُّل المصرف عن حصته تدريجيًّا للشريك (العميل) مقابل سداده ثمنها دوريًّا (من العائد الذي يؤول إليه، أو من أية موارد خارجية أخرى) وذلك خلال فترة مناسبة يُتَّفَق عليها، وعند انتهاء عملية السداد يتم انتقال ملكية حصة البنك بالكلية إلى ذلك العميل (الشريك) .
أما عن مجالات تطبيق المشاركة المتناقصة، فإنها تصلح أسلوبًا لتمويل المنشآت الصناعية والمزارع والمستشفيات، وكل ما من شأنه أن يكون مشروعًا منتجًا للدخل المنتظم، كما أنها تصلح طريقة للتمويل العقاري في البيوت السكنية وغيرها كبديل عن القروض الربوية والرهون المرتبطة بها.
أما عن مزاياها، فإنها بالنسبة للمصرف: تحقق له أرباحًا دورية على مدار السنة، وبالنسبة للشريك: تشجعه على الاستثمار الحلال والتملك المشروع، وتحقق طموحاته المتمثلة في انفراده بتملك العقار أو المنشأة أو المشروع على المدى المتوسط، وذلك بتخارج المصرف تدريجيًّا من الشركة.
(1) انظر أدوات الاستثمار الإسلامية، لعز الدين محمد خوجة، ص 105- 106
أما عن أحكامها، فبالإضافة إلى تعلق جميع الأحكام العامة المتعلقة بالشركات في الفقه الإسلامي بالشركة المتناقصة، فإنه يلزم فيها مراعاة الأمور التالية:
1-
يشترط في المشاركة المتناقصة أن لا تكون حيلة للإقراض بفائدة، ولذلك فلابد من وجود الإرادة الحقيقية للمشاركة، وأن يتحمل جميع الشركاء الخسارة مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد خلال فترة المشاركة.
2 -
يشترط فيها أن يمتلك المصرف حصته في المشروع أو العقار، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة ومتابعة الأداء.
3 -
يجوز للبنك أن يقدم وعدًا لشريكه بأن يبيع له حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملًّا مستقلًا لا صلة له بعقد الشركة (1)
(1) انظر أدوات الاستثمار الإسلامية، لعز الدين خوجة، ص 110 - 111
هذا، وقد بحث المؤتمرون في مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي موضوع المشاركات المتناقصة وانتهوا إلى أن هذا الأسلوب يمكن أن يكون على إحدى الصور التالية:
الصورة الأولى:
يتفق البنك مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشرطها.. وقد رأى المؤتمر أن يكون بيع حصص البنك إلى المتعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل، بحيث يكون له الحق في بيعها للبنك أو لغيره، وكذلك الأمر بالنسبة للبنك بأن تكون له حرية بيع حصصه للمتعامل شريكه أو لغيره.
الصورة الثانية:
يتفق البنك مع متعامله على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق البنك مع الشريك الآخر لحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلًا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه، ليكون ذلك الجزء مخصص لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
الصورة الثالثة:
يحدد نصيب كل من البنك وشريكه في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلًا) ، ويحصل كل من الشريكين (البنك والشريك) على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار.. وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للبنك عددًا معينًا كل سنة، بحيث تكون الأسهم الموجودة في حيازة البنك متناقصة، إلى أن يتم تمليك شريك البنك الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر.
رأينا في المسألة:
* لقد اتضح لنا مما سبق أن المشاركة المتناقصة هي اتفاقية تتركب من عقدين رئيسيين: (أولهما) إحداث شركة المِلك بين الطرفين بشراء المشروع أو العقار محلها بمالهما. (والآخر) بيع الممول حصته في المال المشترك تدريجيًّا إلى شريكه، حتى يخلص للعميل (الشريك) ملكية جميعه، وأنه قد يتخلل هذين العقدين إجارة الممول حصته في المِلك المشترك للعميل، أو إجارة المِلْك المشترك بكامله لشخص ثالث، بحيث يأخذ كل واحد من الشريكين مقابل حصته في الملك من بدل الإجارة.. أو عقد تشغيل أو استثمار المشروع المشترك لحسابهما، بحيث يقسم عائد الأرباح بينهما على وفق ما يشترطانه، وتكون الخسارة بينهما - أن وجدت - بنسبة حصصهما فيما اشتركا في ملكيته.
* وتجري المراوضة والتفاهم المسبق عادة على كل هذه الأمور ونحوها مما يقصد أنه قبل إبرام الاتفاقية، ثم يقع الاتفاق على الأساس التالي:
1-
الاشتراك في شراء مشروع أو عقار ذي ريع أو غير ذلك.
2 -
يتواعد الطرفان على الاشتراك في تأجير ما اشتريا لطرف ثالث، بحيث يستحق كل واحد منهما ما يقابل حصته من بدل الإجارة، أو تأجير الممول حصته للعميل (الشريك) ببدل معلوم.
3 -
يتواعد الطرفان على أن يقوم العميل (الشريك) بشراء حصة شريكه الممول تدريجيًّا بما قام عليه من الثمن وفق جدول زمني يتفقان عليه. وكلما زادت حصة العميل في المشروع أو العقار نقصت حصة الممول، ونقص معها نسبة نصيبه في بدل الإجارة إلى أن يتم تخارج الممول وحلول العميل محله بالكامل في ذلك الملك المشترك.
* وهذه المواعدات التي تسبق عقد شراء المشروع أو العقار محل المشاركة تعتبر ملزمة، بناء على ما ذهب إليه الإمام السبكي من الشافعية من أن إنجاز الوعد واجب شرعًا، وهو وجه في مذهب أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق، وهو محكي عن ابن شبرمة، وقال القاضي ابن العربي:" وأجلُّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز ". (1)
*ثم بعد شراء محل المشاركة المتناقصة يشترك الطرفان في تأجيره أو تشغيله أو استثماره لحسابهما أو غير ذلك بمعاقدة جديدة يبرمانها، كما تبرم بينهما عقود بيع متوالية لحصص الممول، بحيث يشتريها العميل في الآجال المتفاهم عليها مسبقًا، حتى يتم انتقال ملكية محل المشاركة من الممول إلى العميل بكاملها ، وبذلك تتم العقود المتعددة كلها، متعاقبة مستقلة، بحيث يكون كل واحد منها منفصلًا عن الآخر في زمانه وميقاته، وفي إنشائه وتنفيذه.
*وإننا لو نظرنا إلى كل عقد بمفرده مما تراوضا وتواعدا على إنشائه لاحقًا، الواحد تلو الآخر، لم يظهر لنا في واحد منها مانع شرعى، كما أنه لا يبدو في اجتماعها في اتفاقية واحدة على النحو الذي عرضناه حرج شرعًا، وذلك لعدم إفضاء اجتماعها إلى التناقض والتضاد في الصفات والأحكام، أو إلى الربا أو الغرر أو غير ذلك من المحظورات التي تترتب على اجتماع وتركُّب بعض المعاقدات من عقود متعددة، كل واحد منها صحيح مشروع بمفرده، كما هو الحال في العِينَة واجتماع البيع والسلف وغير ذلك من الذرائع الربوية مما سلف بيانه عند الكلام عن اجتماع العقود في اتفاقية واحدة.
والله تعالى أعلم.
* * *
(1) انظر أحكام القرآن، لابن العربي: 4/ 1800؛ الأذكار، للنووي مع الفتوحات الربانية: 6/ 260؛ فتح الباري: 5/ 290؛ المبدع شرح المقنع: 9/ 345؛ المحلى، لابن حزم: 8/ 28؛ طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي: 10/ 232؛ الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، للبعلي، ص 331؛ حاشية ابن الشاط على الفروق، للقرافي: 4/ 24
الخاتمة
لقد تبين لنا بعد دراسة مسائل هذا البحث وقضاياه ما يلي:
1 -
أن المراد بالعقود المجتمعة في اتفاقية واحدة: أن يتراضى الطرفان على إبرام اتفاقية تشتمل على عقدين أو أكثر - على سبيل الجمع أو التقابل - بحيث تعتبر سائر موجبات تلك العقود المجتمعة أو المتقابلة، وجميع الحقوق والالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة، بمثابة آثار العقد الواحد.
2 -
لقد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، فاتفق الفقهاء على خظرها في الجملة، لكنهم اختلفوا في تفسير محل النهي على أقوال كثيرة، والذي ترجح عندي أن المراد بالبيعتين في بيعة:
أ - أن يتضمن العقد الواحد بيعتين، على أن تتم إحداهما قبل تفرق العاقدين، ولكن دون تعيينها، كما في: بعتك هذه السلعة بألف درهم نقدًا أو بألفين نسيئة، ويتفرق العاقدان على لزوم إحداهما من غير تحديدها، وعلة النهي ههنا الغرر الناشى عن الجهل بمقدار الثمن.
ب - أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة إلى سنة على أن يشتريها منه بثمانين حالَّة، وعلة النهي ههنا أن الجمع بين البيعتين يؤول إلى الربا.
أما بقية التفسيرات، فمنها ما ينضوي تحت نصوص شرعية أخرى، كالنهي عن بيع ما ليس عندك، أو ربا النسيئة، وإدراجه تحت البيعتين في بيعةٍ بعيد متكلف.. ومنها ما الحظر فيه محل خلاف أهل العلم، ولم يترجح عندي فيها جانب الحظر على الإباحة.
3 -
كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، والمراد بهما عند جماهير الفقهاء نفس معنى البيعتين في بيعة، وخالفهم في ذلك الحنفية حيث رأوا أن الأولى أعمُّ مطلقًا، فتشمل مدلول البيعتين في بيعة، وكذا اجتماع السلف مع البيع، والإجارة مع البيع، والإعارة مع البيع وغير ذلك.
4 -
أما ما ذكر في بعض مدونات الفقه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط،
فإن هذا الحديث غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يصح الاحتجاج به لمعارضته للأحاديث الصحيحة والإجماع.
5 -
أما عن حكم اقتران العقود بالشروط (بأنواعها) ، فقد اختلف
الفقهاء في ذلك اختلافا كثيرًا، والذي يظهر لي رجحانه في المسألة هو ما اتجه إليه ابن تيمية وابن القيم من أن الأصل في الشروط العقدية الجواز والصحة إلا ما أبطله الشرع أو نهى عنه، وعلى ذلك: فكل شرط لا يخالف نصًّا أو قياسًا صحيحًا فهو جائز مشروع، وما خالف نصًّا أو عارض قياسًا صحيحًا، فهو غير سائغ شرعًا.
6 -
كذلك تباينت أنظار الفقهاء واجتهاداتهم في حكم العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة، والذي يظهر لي رجحانه في القضية:
أ) حظر الجمع بين كل عقدين يترتب على الجمع بينهما توسل بما هو مشروع إلى ما هو ممنوع، وإن كان كل واحد منهما جائزا بمفرده، مثل بيع العينة، والجمع بين القرض والبيع في صفقة واحدة.
ب) كل عقدين يتضاذان وصفًا، ويتناقضان حكمًا، فإنه لا يجوز
الجمع بينهما في اتفاقية واحدة، وذلك لأن العقود أسباب، وإنما تفضي إلى تحصيل حكمها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين.
7 -
تعتبر المراوضة السابقة والمواعدة المتقدمة على العقود المجتمعة مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لتلك العقود في سلك واحد وشطرًا منها من حيث الحكم التكليفي والآثار المترتبة عليها.
8 -
أما عقد التوريد، فهو عقد بين جهتين، تلتزم فيه إحداهما بتوريد أصناف (سلع، مواد) محددة الأوصاف والمقادير، في تواريخ معينة، مقابل ثمن محدد تدفعه الجهة الثانية منجمًا على أقساط.
وهو جائز في النظر الفقهي رغم اشتماله على بيع الكالئ بالكالئ، لأنه إما أن يكون من قبيل الاستصناع، وذلك مغتفر فيه على الراجح من أقوال أهل العلم، وإما أن يكون من قبيل السلم، وذلك مغتفر فيه لداعي الحاجة العامة أو الخاصة، وهي متحققة فيه.
9 -
تعتبر المشاركة المتناقصة أحد الأساليب الجديدة التي استحدثتها بعض المصارف الإسلامية، حيث يقدم المصرف جزءًا من رأس المال المطلوب للمشروع أو من ثمن العقار بصفته مشاركا للعميل الذي يقدم الجزء الباقي، ويتفق المصرف مع ذلك العميل (الشريك) على طريقة معينة لبيع حصته تدريجيًّا إليه.
ويجب لصحة هذه المشاركة أن لا تكون حيلة للإقراض بفائدة،
ولذلك فلابد من وجود الإرادة الحقيقية للمشاركة، وأن يتحمل المتشاركان الخسارة مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد خلال فترة المشاركة
…
وأن يمتلك المصرف حصته من المشروع أو العقار، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف.
ويحق للمصرف بعد اشتراكه مع العميل في شراء العقار أو المشروع (محل الشركة) الاشتراك في تأجيره أو تشغيله أو استثماره لحسابهما، أو غير ذلك مما يتراضيان عليه بعقد جديد مستقل ومنفصل عن العقد الذي حدثت بسببه شركة الملك بينهما، ولهما إبرام عقود بيع متوالية بينهما لحصص المصرف (الممول) بحيث يشتريها العميل (الشريك) في الآجال المتواعد عليها مسبقًا، وبذلك تتم العقود المتعددة مستقلة، منفردة، متتابعة، حتى يتم انتقال ملكية المصرف بكاملها تدريجيًّا إلى العميل (الشريك) .
* * *
مخطط البحث
1 -
المراد بالعقود المجتمعة في اتفاقية واحدة: أن يتراضى الطرفان على إبرام اتفاقية تشتمل على عقدين أو أكثر، على سبيل الجمع أو التقابل، بحيث تعتبر سائر موجبات تلك العقود المجموعة، وجميع الالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة بمثابة آثار العقد الواحد.
2 -
وتعتبر المراوضة السابقة والمواعدة المتقدمة على العقود المجتمعة مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لتلك المعاقدات في سلك واحد وشطرًا منها، من حيث الحكم التكليفي والآثار المترتبة عليها، وذلك سدًّا لذريعة التوسل بما هو مشروع إلى ما هو ممنوع بواسطتها.
3 -
الأصل في العقود المجتمعة في اتفاقية واحدة الجواز والصحة إذا كان كل عقد منها بمفرده سائغا شرعًا، وذلك بشرطين:
أحدهما: أن لا يترتب على اجتماع عقدين فأكثر معنى جديد دل
النص أو القياس الصحيح على حظره، كما في بيع العِينة واجتماع البيع والسلف.. ونظرًا لثبوت حرمة ذلك نصًّا، ولأن الاستقراء من الشرع دل على أن للجمع في بعض الأحيان حكما ليس للانفراد، للانفراد حكما ليس للاجتماع.
والثاني: أن لا يكون العقدان المجتمعان في اتفاقية واحدة متضادين
وضعًا أو متناقضين حكمًا؛ لأن العقود أسباب شرعية، وإنما تفضي إلى تحصيل أحكامها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين.. ثم نظرًا لما قد يترتب على الجمع بينهما عندئذ من الجهالة الفاحشة أو الغرر.
4 -
لقد صح عن النبي أنه نهى عن بيعتين في بيعة، وعن صفقتين
في صفقة، ومعناهما واحد في قول جمهور الفقهاء، وهو:
أ - أن يتضمن العقد الواحد بيعتين، على أن تتم إحداهما قبل تفرق العاقدين، ولكن دون تعيينها، كما في هذه السلعة بألف درهم نقدًا أو بألفين نسيئة، ويتفرق العاقدان على لزوم إحداهما من غير تحديدها، وعلة الحظر في هذه الصورة: الغرر الناشئ عن الجهل بمقدار الثمن عند التفرق.
ب - أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة إلى سنة، على أن يشتريها منه بثمانين حالّة، وعلة النهي في هذه الصورة: أن الجمع بين البيعتين فيها ذريعة إلى الربا، وهو من العِينة المحظورة نصًّا.
5 -
الأصل في الشروط المقترنة بالعقود الجواز والصحة إلا ما أبطلها الشرع أو نهى عنه، وعلى ذلك: فكل شرط لا يخالف نصًّا صريحًا أو قياسًا صحيحًا فهو صحيح مشروع، وما خالف نصًّا صريحًا أو عارض قياسًا صحيحًا فهو غير سائغ شرعًا، وأساس ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام:((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) ، المراد به الشرط الذي يناقض حكم الله تعالى ويخالف شرعه.
6 -
عقد التوريد: هو عقد يبرم بين جهتين، تلتزم فيه إحداهما بتوريد أصناف (سلع، مواد) محددة الأوصاف والمقادير، في تواريخ معينة إلى الجهة الثانية مقابل ثمن محدد يدفع منجما على أقساط.
وهو جائز في النظر الفقهي، وإن قيل فيه إنه مندرج تحت بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه، وذلك لأن تكييفه الفقهي إما أن يكون استصناعًا - وتأجيل البدلين مغتفر فيه استثناء على الراجح من أقاويل العلماء - وإما أن يكون سلمًا، وذلك مغتفر فيه أيضًا على سبيل الاستثناء لداعي الحاجة العامة أو الخاصة، وهي متحققة فيه.
7 -
المشاركة المتناقصة: هي عبارة عن اتفاقية بين طرفين، أحدهما المصرف، والثاني العميل، يتم بموجبها إنشاء شركة ملك بينهما، وذلك بشرائهما مشروعًا أو عقارًا أو غير ذلك، بحيث يدفع كل طرف منهما جزءًا من رأس ماله (ثمنه) ، ويتفق الطرفان على طريقة معينة لبيع المصرف حصته تدريجيا لشريكه (العميل) بما قامت عليه من الثمن.
ويحق للطرفين بعد اشتراكهما في شراء (محل الشركة) الاشتراك في تأجيره أو تشغيله أو استثماره أو غير ذلك مما يتراضيان عليه، عن طريق عقد جديد مستقل ومنفصل عن العقد الذي حدثت بسببه شركة الملك بينهما، على أن يكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه، والخسارة بنسبة حصة كل منهما في رأس المال.
كما أن لهما إبرام عقود بيع متوالية بينهما لحصص المصرف، بحيث يشتريها العميل (الشريك) في الآجال المتواعد عليها مقدمًا، وبذلك تتم العقود المتعددة المركبة، مستقلًا بعضها عن بعض، متتابعة في مواعيدها، إلى أن يتم انتقال كامل ملكية المصرف تدريجيًّا إلى العميل.
وهذه المشاركة المتناقصة سائغة في النظر الفقهي بشرط أن لا تكون
حيلة للإقراض بفائدة، ولذلك فلا بد من تحقق المشاركة الفعلية وآثارها، بأن يتحمل الطرفان تبعة الخسارة مقابل استحقاقهما للأرباح والعوائد خلال فترة المشاركة، وأن يمتلك المصرف حصته من المشروع أو العقار (محل المشاركة) ، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وأن تتم تلك العقود المتعاقبة بناء على المواعدة المتقدمة التي تعتبر ملزمة - بناء على اجتهاد جماعة من الفقهاء - مستقلة، منفصلًا كل واحد منها عن غيره في زمانه وميعاده، وفي إنشائه وتنفيذه.
وإنما حكم بجواز المشاركة المتناقصة بالشروط المنوه بها؛ لأن كل
عقد منها بمفرده جائز شرعًا، كما أنه لا يترتب على اجتماعها وتركيبها بالصورة المشروحة أي محظور شرعي من ربا أو ذريعة إليه أو غرر أو جهالة فاحشة أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.
الدكتور نزيه كمال حماد