الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفطرات
في مجال التداوي
إعداد
الدكتور محمد علي البار
المستشار بمركز الملك فهد للبحوث الطبية
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
تعريف الصوم وتعريفات الجوف
تثور مشكلات جمة في مفطرات الصوم في مجال التداوي. ويقع العامة في حرج عندما تتضارب الفتاوى وتتناقض
…
وقد أحسن مجمع الفقه الإسلامي صنعًا بإدراج هذه القضية للبحث في دورته التاسعة (الموضوع الثامن) .
ويبدو - والله أعلم - أن سبب التباين في فتاوى العلماء الأجلاء هو اختلافهم في بعض التعريفات، ومن أهمها تعريف الجوف، مع غموض بعض الإجراءات الطبية وعدم وضوحها في أذهان بعض العلماء الأجلاء، وعدم معرفة مدى تأثيرها في موضوع الصوم.
لهذا كله لا بد أولًا من مناقشة هذه التعريفات قبل الخوض في مفردات هذه القضية.
تعريف الصوم: الصوم لغة هو الإمساك والكف عن الشيء يقال:
صام عن الكلام، أي أمسك عنه قال تعالى أخبارا عن مريم:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي صمتًا وإمساكًا عن الكلام. وتقول العرب: صام النهار إذا وقف سير الشمس وسط النهار عند الظهيرة. وقال الشاعر يصف الخيل:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي خيل ساكنة صامتة (خيل صيام) وأخرى تصهل وتتحرك، وكأنها من شدة حركة فمها تعلك اللجم.
والصوم شرعًا: هو الامتناع الفعلي عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس من أهله بنية
…
وأهله هو المسلم العاقل غير الحائض أو النفساء. والنية: هي عزم القلب على إيجاد الفعل جزمًا دون تردد، لتمييز العادة عن العبادة.
قال تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . [البقرة: 187]
فهذه الأشياء الثلاثة (الأكل والشرب والجماع) هي التي منع منها الصائم من الفجر إلى غروب الشمس
…
ففي الحديث الصحيح: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي)) (1)
(1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
تعريف الجوف لغة (1)
يطلق الجوف في اللغة على كل شيء مجوف، وجوف الإنسان بطنه. والأجوفان: البطن والفرج، والجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. وفي الحديث الشريف ((في الجائفة ثلث الدية)) . أجافه الطعنة وبها: أصاب بها جوفه.
والجوف من كل شيء باطنه الذي يقبل الشغل والفراغ ، والجمع أجواف ، وجوف الليل ثلثه الأخير، وفي الحديث:((أي الليل أسمع؛ قال: جوف الليل الأخير)) . وجوف الأرض: باطنها وما اتسع من الأرض وانخفض فصار كالجوف. وجوف الوادي بطنه، والجوف: المطمئن من الأرض، والجوف: اسم لناحية بعمان واليمن والسعودية.
(والجوف) السعة. والجوف: الأسد العظيم الجوف. والجوفاء من الدلاء: الواسعة، ومن القنا والشجر الفارغة. وجوائف النفس ما تقعر من الجوف في مقار الروح. ومجوف (كمخوف) العظيم الجوف. ومن الدواب الذي يصعد البلق (البياض) منه حتى يبلغ البطن. المجوف أيضا من لا قلب له. والجوفي نوع من السمك. وتجوف الشيء دخل جوفه. واستجاف المكان وجده أجوفًا. واجتافه وتجوفه: دخل جوفه.
والجوف الخلاء، وهو مصدر من باب تعب، فهو أجوف، والاسم الجوف. هذا أصله ثم استعمل فيما يقبل الشغل والفراغ، فقيل: جوف الدار لباطنها. وجوَّفته تجويفًا: جعلت له جوفًا. وقيل للجراحة: الجائفة، إذا وصلت الجوف، فلو وصلت إلى جوف العظم لم تكن جائفة لأن العظم لا يعد مجوفًا.
وجَافَهَ الصيد: أي أدخل السهم في جوفه، ولم يظهر من الجانب الآخر. وجَافَهَ الدواء أدخله جوفه.
والجائفة: العيب العظيم، وهي أيضًا الطعنة التي تبلغ الجوف أو التي تخالط الجوف أو التي تنفذ.
(1) القاموس المحيط، للفيروزآبادي: 3/ 129؛ والصحاح للجوهري: 4/ 1339؛المصباح المنير للفيومي؛ القاموس الفقهي؛ كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوني؛ والمعجم الوسيط، للدكاترة إبراهيم أنيس وعبد الحليم منتصر وعطية الصوالحي ومحمد خلف الله (الطبعة الثانية) .
وعند المالكية: الجائفة هي التي تصل إلى الجوف وتختص بالبطن والظهر، وهي ما أفضى إلى الجوف ولو بمغرز إبرة.
وعند الأحناف: هي التي بلغت الجوف أو نفذته
…
وهي ما بين اللبة (أسفل العنق وأول الصدر) والعانة. ولا تكون الجائفة في العنق والحلق والفخذ والرجل. وهي تختص بجوف البطن أو جوف الرأس.
وعند الشافعية: الجائفة جرح ينفذ لجوف باطن محيل للغذاء أو الدواء (أي الجهاز الهضمي) أو طريق للمحيل كبطن وصدر وثغرة نحر، وجنبين.
وعند الحنابلة والزيدية: الجائفة ما وصل إلى جوف العضو، وظهر وصدر، وورك وعنق وساق وعضد، مما له جوف.
ولا يحدد الظاهرية والجعفرية والإباضية الجوف إلا بالبطن.
والجوف هو من ثغر النحر إلى المثانة. وفي الحديث الشريف ((لا تنسوا الجوف وما وعى)) أي ما يدخل إليه من الطعام والشراب ويجمع فيه. ا. هـ (1)
وجاء في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوني: " الجوف لغة التقعير. ويطلق في الطب - في زمنه آنذاك - على شيئين: (أحدهما) : وهو الجوف الأعلى، ويحتوي على آلات التنفس وهو الصدر. و (الثاني) : الجوف الأسفل، وهو الحاوي لآلات الغذاء، وقد فصل بينهما بالحجاب الموارب - يسمى الآن الحجاب الحاجز - صيانة لأعضاء التنفس خصوصًا القلب - القلب ليس من أعضاء التنفس - عن مضارات الأبخرة والأدخنة التي لا يخلو عنها طبخ الغذاء. كذا في (بحر الجواهر) ، أي كتاب (بحر الجواهر) وهو كلام غير صحيح، وغير مقبول في الطب الحديث.
(1) القاموس الفقهي (باختصار وتصرف)
والأجوف عند الصرفيين: لفظ عينه حرف علة، ويسمى معتل العين، كقول وبيع، وباع.
وعند الأطباء: هو اسم عرق نبت من محدب الكبد لجذب الغذاء منه إلى الأعضاء، وإنما سمي به لأن تجويفه أعظم من باقي العروق. وهما أجوفان: الأجوف الصاعد والأجوف النازل، وكل منهما متشعب بشعب مختلفة.
قلت: هذا الكلام غير دقيق، فهناك وريدان:(أحدهما) يعرف باسم الوريد الأجوف السفلي، ويأتي بالدم من البطن بما فيها الكبد، ومن الطرفين السفليين، ويدخل إلى القلب بعد أن يخترق الحجاب الحاجز، ويصل مباشرة إلى الأذين الأيمن ويصب فيه. و (الثاني) هو الوريد الأجوف العلوي وهو يجمع الدم من الرأس والدماغ والطرفين العلويين والصدر، ويصب كذلك في الأذين الأيمن من القلب.
ثم قال التهانوني: " والأجوفان: البطن والفرج، والعصبان المجوفان الكائنان في العينين، وليس في البدن غيرهما عصب مجؤف ثابت من الدماغ ".
قلت: وهذا أيضًا كلام خطأ، إذ أن عصب الإبصار غير مجوف.
ويستمر التهانوني في تعريفاته فيقول: " وقد يطلق الأجوف على معاء مخصوص كما قرر في علم التشريح " وهو كلام غير دقيق. فكل الأمعاء مجوفة، ولعله يقصد المعي الصائم، لأنه خالي من الطعام معظم الوقت، ولذا قيل له " الصائم ".
_________
الجوف في جسم الإنسان (في الطب الحديث) :
في جسم الإنسان تجاويف عدة، فهي لا تقتصر على التجويف البطني الذي يطلق عليه في العادة لفظ الجوف، فهناك التجويف الصدري، وهو مغطى بالغشاء البلوري ويحوي الرئتين، ولكل رئة غشاء بلوري، وهو غشاء مصلي رقيق محيط بالرئة، وآخر متصل بالقفص الصدري. كما أن في التجويف الصدري: القلب، ويقع في وسط التجويف مائلًا قليلًا إلى جهة اليسار. والقلب مغطى بغشاء يسمى التامور والغشاء الخارجي منه غليظ سميك، أما الداخلي المحيط بعضلة القلب فهو رقيق.
وفي القلب ذاته أربعة تجاويف فهناك الأذينان (الأيمن والأيسر) في أعلى القلب، وفي كل واحد منهما يتجمع فيه الدم، كما أن البطينان (الأيمن والأيسر) وهما أكبر وأغلظ من الأذينان، ومن الأيمن يضخ الدم إلى الرئة، ومن الأيسر يضخ الدم إلى كافة أجزاء الجسم. وقد كان القدماء يعتقدون أن الروح (الحيواني) تتولد في البطن الأيسر من القلب، إلى أن جاء ابن النفيس القرشي وشرح الحيوان والإنسان، وقال: أن الدم يذهب من البطن الأيسر إلى الرئتين، ثم يعود منها بعد أن يخالطه الروح (الهواء) ويتصفى فيعود إلى البطن الأيسر الذي يضخ الدم إلى كافة أجزاء الجسم عبر الشريان الأورطي (الأبهر) . وقد سبق بذلك وليام هارفي بأربعة قرون في وصف الدورة الدموية
…
وللأسف فإن الغرب يرجع الفضل في هذا إلى وليام هارفي ويتناسى ابن النفيس.
وفي عظام الوجه تجاويف عدة تعرف بالجيوب الأنفية، وهي ترخم الصوت وتخفف من وزن الرأس، ولها إفرازات هي التي تصل إلى البلعوم
الأنفي nasopharynx ومنه إلى البلعوم الفموي Oropharynx المعروف بالحلق. وهذه الإفرازات هي التي كان القدماء يظنونها تأتي من الدماغ ويقولون: أن البلغم (أي أن هذه الإفرازات) مادة باردة تنزل من الدماغ. وهناك نوع آخر من البلغم يصعد من الشعيبات (القصبات) الرئوية ويصل إلى الحلق. وهي إفرازات مخاطية تدفعها شعيرات دقيقة في القصبات الرئوية إلى أعلى، لكي تطرد المواد الغريبة مثل ذرات الغبار والدخان والميكروبات حتى لا تصل إلى الحويصلات الهوائية (alveoli) والتي يطلق عليها أيضًا الأسناخ الرئوية.
وقد تحدث الفقهاء عن هذا البلغم الذي قد يكون ثخينًا فيسمى النخامة. وسواء كان هذا البلغم نازلًا من الجيوب الأنفية (كان القدماء يعتقدون أنها من الدماغ) أو صاعدًا من القصيبات الرئوية، فإن بصقه لا يؤثر على الصيام
…
واختلف الفقهاء في بلعه بعد وصوله إلى الحلق؛ فمنهم من قال بأن ذلك يسبب الإفطار ويفسد الصيام ويوجب القضاء، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من فصل: فإن كان البلغم قد وصل إلى الفم وبلعه متعمدًا فيفطر، وإلا فهو معذور.
والريق وهو إفرازات الغدد اللعابية الموجودة على (الفكين الأعلى والأسفل) لا يسبب بلعه الإفطار إلا إذا تجمع في الفم، وأمكن الإنسان بصقه وتعمد بلعه، وهو أيضًا محل خلاف بين الفقهاء.
وفي الجمجمة تجويف يشغله الدماغ وأغشية الدماغ (السحايا) والسائل المخ - شوكي (Cereboro spinal fluid) ويتولد هذا السائل في البطنين الجانبيين (الوحشيين) من الدماغ، ثم يسيل هذا السائل إلى البطن الثالث من الدماغ أو منه إلى البطن الرابع، ثم يخرج عبر فتحة بعد البطن الرابع من الدماغ ليصل إلى أغشية الدماغ الخارجية، فيسير بين الأم الجافة Dura mater وهي الغشاء الغليظ الخارجي للدماغ، والأم الحنون pia mater وهي الغشاء الرقيق الملتصق بالدماغ. وتبدأ من هناك عملية امتصاصه، ليذهب إلى الأوردة والجيوب الوريدية الموجودة في القحفة والجمجمة، كما يسير هذا السائل في الغشاء المحيط بالنخاع الشوكي (الحبل الشوكي) spinal cord ووظيفته حماية الدماغ والنخاع الشوكي من الهزات والارتطامات والصدمات.
ويفرز الدماغ 500 مليلتر (نصف لتر) يوميًا من هذا السائل، ويتم امتصاصه كذلك يوميًا، وفي أي لحظة من اللحظات يوجد 150 مليلتر من هذا السائل الهام جدا في الحفاظ على سلامة الدماغ والنخاع الشوكي، وهو كما أسلفنا محيط بالدماغ، حتى أن الدماغ ليطفو فيه.
ولا يصل شيء من هذا السائل إلى الأنف إلا في حالة كسر في قاع الجمجمة، وهي حالة خطيرة قد تستدعي تدخلًا جراحيًا
…
وليس البلغم الموجود في الأنف أو البلعوم الأنفي من الدماغ كما كان يعتقده القدماء.
ولكن هل إذا حدث كسر في قاع الجمجمة ووصل هذا السائل إلى الأنف ومنه إلى البلعوم الأنفي والحلق؛ يفطر الإنسان إذا كان صائما؟ قضية تحتاج إلى بحث وإلى إعادة السؤال عما هو المقصود بالجوف وما هو المقصود بالصيام. وستأتي مناقشة ذلك فيما بعد.
وليس لبطون الدماغ ولا للسائل المخ - شوكي أي علاقة بالجهاز الهضمي، وبالتالي فإن كل ما ذكره الفقهاء من أن ذلك سبب للإفطار لا أساس له من الصحة، فالمأمومة ومداواتها وبطون الدماغ كلها بعيدة كل البعد عن الجوف المقصود في الصيام.
وهناك تجاويف كثيرة في الإنسان، ومنها تجويف الفرج (القبل) المعروف طبيًّا باسم المهبل vagina. وهو في الواقع ليس تجويفًا؛ لأن الجدارين (الأمامي والخلفي) ينطبقان على بعضهما، ولا يوجد فراغ ولا تجويف، ولكن هذين الجدارين مرنان جدا فيتسعان عند الجماع والإيلاج بحيث يتقبل إدخال الذكر، كما أنه يتسع لخروج الجنين عند الولادة ونزول الدم عند الحيض أو النفاس.
وفي الرحم تجويف صغير جدًّا لا يتسع في المرأة الخروص التي لم تحمل وتلد إلا لمليلترين فقط، ولكنه يزيد زيادة مهولة في أثناء الحمل ليحمل الجنين والأغشية المخاطية المحيطة به والسائل الأمينوسي (الرهل) الذي يصل إلى ألف مليلتر، كما أن وزن الجنين قبيل الولادة يصل إلى ثلاثة كيلو جرامات أو أكثر، وبالتالي فإن سعة الرحم بما يحمله من جنين وأغشية وسائل الرهل تصل إلى قرابة خمسة آلاف مليلتر (خمسة لترات) .
والبطن كلها تعتبر جوفًا في اللغة العربية كما أسلفنا في التعريف اللغوي، وهي مغطاة من الداخل بالغشاء البيريتوني، وهو غشاء مصلي رقيق له جدار ثخين نسبيًا متصل بجدار البطن وآخر رقيق يحيط بأحشاء (المعدة والأمعاء والكبد والطحال ويغطي السطح الخارجي للبنكرياس وتقع الكلى خلفه) . وهو غشاء معقد التركيب وله ثرب كبير greater omentum. وثرب صغير.LESSER omentum ويقع الكبير على المعدة من الأمام ومن أسفل، بينما يقع الصغير خلفها.
_________
وتجويف البطن (1) هو الجزء الذي ينحصر بين عضلة الحجاب الحاجز من أعلى، وبين الحاجب الحوضي من أسفل، ويحده من الخلف العمود الفقري والعضلات المحيطة به وما يسمى بجدار البطن الأمامية والشراشيف وهي نهايات الأضلاع وغضاريفها.
وينقسم تجويف البطن إلى جزئين رئيسين هما: تجويف البطن الحقيقي وهو الجزء الأكبر، ويقع أعلى الجزء السفلي المعروف بتجويف الحوض. والثاني هو تجويف الحوض.
ويحتوي تجويف البطن على أعضاء مختلفة من الجهاز الهضمي والجهاز البولي وأوعية دموية وغدد صماء وغير صماء وأعصاب وغدد لمفاوية وطحال. وتعتبر الكبد والبنكرياس من امتدادات الجهاز الهضمي، حيث تنمو من الأنبوب (القناة) الهضمي في الجنين.
ويحتوي تجويف الحوض على أجزاء من الجهاز البولي (المثانة، نهاية الحالبين، الإحليل) والبروستاتة (الموثة) بالنسبة للرجل والجهاز التناسلي (تقع الخصيتين خارج البدن في كيس الصفن، لعدم تحملها حرارة الجسم، وتهاجر من البطن في الجنين وتخرج عبر قناة خاصة في الشهر السابع من الحمل) ، بالإضافة إلى المستقيم والقولون السيني والغدد اللمفاوية وأوعيتها، والأوعية الدموية والأعصاب. ويغطي معظم التجويف البطني غشاء مصلي يعرف باسم البريتون pertonium وهو عبارة عن كيس مصلي مقفل من كل نواحيه، ويتوسط بين جدار البطن الأمامية وأحشاء تجويف البطن. ويتكون البريتون من طبقتين (إحداهما) خارجية تبطن جدار البطن الأمامي (والثاني) داخلية غائرة تلتصق بمختلف الأحشاء viscera ولذا فهي تعرف بالطبقة الحشوية visceral layer. وهي تحيط بالأحشاء إما إحاطة تامة مع مساريقا mesentry أو جزئية حسب مقتضيات الحال لكل عضو.
ويعتبر كثير من الفقهاء (الجائفة) وهي الطعنة التي تصل إلى الجوف (التجويف البريتوني) مسببة للإفطار ومفسدة للصيام.
(1) د. شفيق عبد الملك: مبادئ علم التشريح ووظائف الأعضاء، ص 227 وما بعدها.
_________
الجهاز الهضمي:
والجهاز الهضمي من أوله إلى آخره أنبوب مجوف إلا أنه يضيق في مواضع مثل المريء، ويتسع في مواضع مثل المعدة
…
وهو على الحقيقة الجوف المقصود في الصيام، إذ هو موضع الطعام والشراب وكل ما يدخل إلى الجهاز الهضمي متجاوزًا الفم والبلعوم يكون سببًا للإفطار ومفسدًا للصيام وذلك في نهار رمضان (أو نهار الصيام إذا كان من غير رمضان) ولا بد أن يكون الشخص عامدًا فالناسي ليس مفطرًا، وإنما أطعمه الله وسقاه كما جاء في الحديث الشريف (1) ولا يشترط أن يكون ما دخل الجوف (المقصود الجهاز الهضمي) طعامًا أو شرابًا فقط، وإنما يدخل في ذلك الدواء بل والدخان.
وهناك خلاف بين الفقهاء حول الدخان (المقصود أي دخان) ولا بد من إدخاله عمدًا وتجاوزه الفم إلى البلعوم (الحلق) وقد يصل إلى الحلق (المقصود البلعوم) عن طريق الأنف بواسطة صلة البلعوم الأنفي بالبلعوم
…
فكل ما دخل إلى الأنف من السوائل وغيرها ووصل إلى الحلق (البلعوم) وابتلعه الإنسان يعتبر مفسدا للصيام عند جمهور الفقهاء.
ومن المعلوم أن هناك قناة ما بين العين والأنف، فإذا وضع الإنسان قطرة في عينه فإنها تصل إلى الأنف، ومن الأنف قد تصل إلى البلعوم، ولذا اعتبرها كثير من الفقهاء مسببة للإفطار ومفسدة للصيام.
وهناك فتحة في الأذن الوسطى وتتصل بقناة أستاكيوس التي تصل إلى البلعوم وتعرف بالقناة البلعومية السمعية، ولكن الأذن الخارجية (وتشمل الصيوان وقناة السمع الخارجية) تفصلها عن الأذن الوسطى الطبلة وهي غشاء جلدي. ولهذا فإن إفرازات الأذن الخارجية أو وضع قطرات من الدواء أو الماء أو أي سائل في الأذن الخارجية لا تصل إلى الأذن الوسطى، وبالتالي لا تصل إلى القناة السمعية البلعومية (قناة أستاكيوس) إلا إذا كانت طبلة الأذن مخروقة.
وفي الحالات العادية فإن وضع عود في الأذن أو وضع قطرة دواء في الأذن أو نقطة من ماء فإنها لا تصل إلى الأذن الوسطى، وبالتالي لا تصل إلى البلعوم إلا عن طريق المسام الموجودة في الطبلة، وبما أن الطبلة تشبه الجلد فتأخذ حكمه
…
ولا يوجد من يقول: أن وضع الماء على الجلد يسبب الإفطار.
ولهذا من يقول من الفقهاء بأن إدخال عود أو وضع قطرة من الدواء في الأذن (والطبلة غير مخروقة) مفسد للصيام لا حجة له في ذلك. أما إذا كانت الطبلة مخروقة وبالتالي يمكن وصول قطرات إلى البلعوم، فإن هناك وجه لهذا القول، وإن كان ما يصل إلى البلعوم منها ضئيل جدًّا، وربما كان أقل مما يصل إلى البلعوم بعد المضمضة بغير مبالغة.
(1) عن أبي هريرة يرفعه: (من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه الجماعة. وفي رواية الدارقطني: (إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه) .
_________
البلعوم (1) هو جزء القناة الهضمية الذي يلي تجويف الفم، وهو عبارة عن قناة عضلية (تجويف) غشائية مخاطية، يبلغ طولها 14 سنتمترا، تمتد أمام الفقرات العنقية الست العليا، وتنشأ أكثر عضلاتها من قاعدة الجمجمة.
وينقسم تجويف البلعوم إلى ثلاثة أجزاء:
(الأول) الجزء العلوي خلف تجويف الأنف، ويعرف بالبلعوم الأنفي Nasopharyax وهو الذي تصل إليه إفرازات الأنف والجيوب الأنفية، وما يوضع في الأنف من دواء أو بخاخ أو دخان، كما يصل إليه عن طريق الأنف إفرازات الدموع من العين والأدوية التي توضع في العين. وتقع فيه فتحتا الأنف الخلفيتين وفتحتا القناة البلعومية.
(الثاني) الجزء المتوسط، وهو خلف الفم مباشرة، ويعرف بالبلعوم الفمي Oropharynx وعن طريقه يتم ازدراد الغذاء والشراب والدواء وكل ما يدخل الفم ويتم بلعه. وفي هذا الجزء تقع اللهاة واللوزتان الحنكيتان، تتوسط اللهاة بين البلعوم الأنفي والبلعوم الفمي.
(الثالث) الجزء السفلي، ويعرف باسم البلعوم الحنجري، ويقع خلف الحنجرة وفيه تقع فتحتها، والحبال الصوتية الحقيقية والكاذبة. ويغطيه لسان المزمار عند البلع حتى لا ينساب الطعام والشراب إلى الحنجرة فيحدث الشرق والغصة.
(2)
البلع هو عبارة عن مرور الطعام الممضوغ (أو الشراب) من الفم إلى البلعوم ثم إلى المريء. وتقسم هذه العملية إلى ثلاثة أدوار:
(الأول) وهو مرحلة إرادية وفيها يتم مرور البلعة من برزخ الحلق بواسطة انقباض عضلات الشفتين وعضلات الوجنتين، خصوصًا العضلة البوقية، وانقباض عضلات اللسان في جزئها الأمامي مقابل سقف الحنك، وكذلك انقباض عضلات المضغ التي تعمل على ضم الفكين العلوي والسفلي.
(1) د. شفيق عبد الملك: مبادىء علم التشريح ووظائف الأعضاء. الطبعة السابعة 1972 (الناشر المؤلف) القاهرة، ص 225- 226 و 271 (باختصار وتصرف) .
(2)
البلع (الازدراد) د. شفيق عبد الملك: مبادىء علم التشريح ووظائف الأعضاء، ص ا 27 (بتصرف) .
_________
(الثاني) وهو مرحلة غير إرادية، وتشمل مرور البلعة في البلعوم إلى المريء. وهو دور سريع جدًا، وفي أثنائه ترفع اللهاة لتكون بمثابة حاجز بين البلعوم الفمي والبلعوم الأنفي، وتنقبض عضلات مدخل الحنجرة حتى لا يدخل شيء من الطعام أو الشراب إلى الحنجرة ، وإذا حدث ذلك فهو الغصة أو الشرقة.
وإذا كانت البلعة كبيرة وحدث خلل في عملية البلع لأي سبب فإن هذه البلعة قد تسد مجرى الهواء في الحنجرة، وإذا لم يتم إخراجها بسرعة وذلك بالضغط على البطن بقوة، وعادة ما يأتي المسعف من الخلف، ويضع يده حول البطن ويضغط بسرعة وبقوة حتى يرتفع الحجاب الحاجز ويزداد الضغط حتى يتم إخراج البلعة (قد تكون قطعة معدنية أو غيرها) فإذا تعذر ذلك توجب إيجاد فتحة في القصبة الهوائية tracnea، حتى يتم التنفس عبرها وفي تلك الأثناء أو بعد إيجاد الفتحة في القصبة الهوائية يتم إخراج البلعة التي سدت الحنجرة. وقد تحدث وفيات بسبب خطأ في عملية البلع في هذه المرحلة عند عدم وجود مسعفين وأطباء.
(الثالث) وهو دور غير إرادي أيضًا، وتنزح فيه البلعة من البلعوم إلى المريء، ومن المريء إلى المعدة بواسطة حركات المريء الدودية. وتمر البلعة من المريء إلى المعدة عبر الفتحة الفؤادية، والتي تتحكم فيها لا إراديًّا العضلة العاصرة الفؤادية.
ويتفق جمهور الفقهاء، على أن وصول الطعام أو الشراب أو الدواء أو الدخان أو غيرها إلى البلعوم ومنه إلى المريء مفسد للصيام إذا كان الفعل لذلك متعمدًا.
بل إذا تجمع الريق (Saliva) في الفم وبلعه الإنسان متعمدا يعتبر قد أفسد صومه (وهو رأي كثير من الفقهاء) ، كذلك إذا صعد من المريء سائل (أو من المعدة) وهو القيء، فإذا كانت عملية القيء متعمدة فقد أفطر من استقاء، وأما من ذرعه القيء فليتم صومه؛ للحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة:((من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض)) (1) وحديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر (2)
ومن ذرعه القيء أو تجمع في فمه إفرازات صاعدة من المعدة أو المريء water brash أو من الجهاز التنفسي (من القصبات الهوائية أو من الأنف) ثم بلعها متعمدًا فقد أفطر وفسد صومه.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة أن من غلبه القيء ولم يرجع منه شيء
لحلقه، وبالتالي لم يبتلعه مرة أخرى: لا شيء عليه، وصيامه صحيح
…
أما من تعمد القيء (أي استقاء) فإنه يفطر ويفسد صومه وعليه القضاء. وكذلك من ذرعه القيء ولكنه ابتلع شيئًا من المادة التي وصلت إلى فمه، فإنه بذلك يفسد صومه وعليه القضاء. وفي هذه النقطة الأخيرة خلاف بين الفقهاء ليس ها هنا محل تفصيله.
المثانة: عبارة عن عضو عضلي أجوف، وهي كيس لخزن البول الذي تفرزه الكليتان وينزل منهما عبر الحالبين، وتقع المثانة في الحوض الحقيقي خلف الارتفاق العاني، بحيث تكون قمتها إلى أعلى وأمام، بينما تكون قاعدتها من الخلف وعنق المثانة أسفلها وتتصل بالقناة البولية.
وإذا امتلأت المثانة أخذت شكلًا كرويًّا، وقد ترتفع من الحوض حتى تصل إلى تجويف البطن فيمكن آنذاك فحصها من البطن، واستخراج البول منها مباشرة عن طريق إبرة أو قسطرة عبر جدار البطن.
وتتصل المثانة من أسفل بقناة مجرى البول التي تعرف بالإحليل Urethera وهي تتحكم في التبول بواسطة عضلات عاصرة. والعضلة العاصرة المثانية غير إرادية، ولكن تأتي بعدها عضلة عاصرة إرادية.
(1) رواه الدارمي وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني. واختلف فيه أهل الحديث، وضعفه أكثرهم. انظر كتاب فقه الصيام، للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، ص 76 -77
(2)
رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي والطبراني. وقد اختلف في إسناده أيضًا. ولا يدل على أن القيء مفطر بذاته (انظر كتاب فقه الصيام، للقرضاوي) .
ويصل البول إلى المثانة من الحالبين بمعدل مليلتر واحد في الدقيقة، فتختزنه المثانة حتى تمتلئ فيزداد الضغط لدرجة ينبه معها الأعصاب الحسية الموجودة بغشائها المخاطي الذي يبطنها، فتنقبض عضلات جدرانها وتنبسط عاصرتها فيخرج البول توًا.
ولا شك أن المثانة جوف، وقد اختلف الفقهاء في إدخال مسبار أو دواء عبر الإحليل إلى المثانة؛ فاعتبره الشافعية سببًا للإفطار ومفسدًا للصيام، ولم يعتبره غيرهم. وستأتي منا قشة الأقوال المختلفة في ذلك. والأوعية الدموية واللمفاوية: كلها مجوفة، ويجري فيها الدم أو اللمف
…
واختلف الفقهاء في الحجامة والفصد؛ فقال بعضهم: إنها مفسدة للصيام لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) . ومال آخرون إلى أن الحجامة ليست سببا للإفطار وإفساد الصيام، لأنه احتجم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صائم.
وأما إدخال الدواء إلى الأوعية الدموية فقد أفتى معظم العلماء في العصر الحديث بأنه ليس سببًا للإفطار وإفساد الصيام، ومن باب أولى الزرق (الحقن) في العضل وتحت الجلد.
وأما إدخال المحاليل والسوائل (مثل محلول الملح ومحلول الغلوكوز - وهو نوع من السكر - والمغذيات الأخرى) فقد كرهها الفقهاء المعاصرون، ورأى كثير منهم أنها تفسد الصيام.
في هذه الجولة والإطلالة السريعة تعرفنا على الجوف في اللغة وعند الأطباء وعند الفقهاء. وفي الفصل التالي سنناقش أقوال الفقهاء في مفسدات الصوم وبالذات ما يسمى المفطرات في مجال التداوي، ونحاول أن نطبق هذه التعريفات على أحكام الفقهاء، وهل تنطبق هذه التعريفات على أحكام الفقهاء أو تختلف؟ وما هو مدى انطباقها أو افتراقها عن ذلك؟ ليمكن الحكم على هذه المواد؛ هل هي مسببة للإفطار مفسدة للصيام أم لا؟
والله يهدي للصواب ولقول الرشاد، عليه نتوكل وبه نستعين.
* * * *
الفصل الثاني
مناقشة المفطرات في مجال التداوي
ضابط المفطرات مما يصل إلى الجوف
الصوم شرعًا أو الامتناع الفعلي عن شهوتي البطن والفرج وحرمان النفس من شهواتها والامتناع عن النساء في النهار من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. قال تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] وفي الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلى، ويدع الشراب من أجلي، ويدع زوجته من أجلي)) . ولم يرد في موضوع الصيام أي ذكر للجوف في القرآن الكريم أو السنة المطهرة
، وقد ناقشنا بتفصيل واف في الفصل الأول تعريفات الجوف في اللغة وعند الفقهاء وعند الأطباء القدماء وعند الأطباء المحدثين.
وبما أن الصيام إنما هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، فإنه يتبين ذلك أن المقصود هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، وعليه فإن الجوف لا يعدو الجهاز الهضمي متى تجاوز الفم ووصل إلى البلعوم (يسميه الفقهاء الحلق) ، وبالتالي فإن وصول الطعام أو الشراب عمدًا إلى البلعوم ومنه إلى المريء فالمعدة سبب مجمع عليه في إفساد الصيام وتسبب الفطر إذا كان ذلك في النهار من الفجر إلى غروب الشمس، ويتفق جمهور الفقهاء على أن تعاطي الدواء أو أي شيء آخر عن طريق الفم متى وصل إلى البلعوم ومن ثم إلى المريء والمعدة عمدًا في النهار يؤدي إلى إفطار الصائم وإفساد صومه.
يقول فضيلة الشيخ القرضاوي (1) : " وحقيقة الصيام المتفق عليها هي حرمان النفس من شهواتها، ومعاناة الجوع والعطش، والامتناع عن النساء تقربًا إلى الله تعالى، وهذا ما بينه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ".
فلم يجئ فيهما منع الصائم من شيء إلا من الأكل والشرب والمباشرة، وكذلك الرفث والصخب والجهل والسب والكذب والزور وسائر المعاصي.
" أي أن الصائم يمنع مما يتنافى مع المعنى المادي للصيام، وهو الأكل والشرب والجماع، وهو الذي نتحدث عنه الآن، ومما يتنافى مع المعنى الأدبي له، وهو الجهل والزور وسائر المعاصي والآثام ". ثم استدل على ذلك بالآية الشريفة والحديث النبوي الكريم المذكورين آنفًا.
(1) القرضاوي: فقه الصيام، دار الصحوة ودار الوفاء، القا هرة 1411 هـ/ 1991 م، ص 73
وقد رجح فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله مذهب ابن حزم (1) وترجيح الإمام ابن تيمية في تضييق المفطرات في الأكل والشرب والجماع وقال: " أما تحريم الكتاب للأكل والشرب فمسلم، ولكن من الذي يقول: أن من ابتلع حصاة، أو حبة خردل، أو ما بين أسنانه، أو نخامة، أو بلغم، أو اكتحل فأحس طعم الكحل في حلقه، أو استعمل الحقنة في دبره
…
إلخ، أن هذا يدخل في عموم الأكل والشرب المحرم على الصائم؟ وهذا ما لا دليل عليه ".
ومما لا شك فيه أن تعاطي الدواء (وهو ليس طعامًا ولا شرابا) عن طريق الفم وابتلاعه يؤدي قطعًا إلى إفطار الصائم ، ثم أن دخول الدواء أو غيره من الفم أو الأنف إلى البلعوم يؤدي إلى وصولى هذه المادة (العين) إلى المريء ثم المعدة ، ولا شك أن وصول أي مادة إلى المعدة في أثناء الصيام عمدا تكون سببًا لإفطار الصائم؛ لأن الجوف كما أوضحناه ليس إلا الجهاز الهضمي على الحقيقة.
(1) يرى فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أن الحجامة لا تفسد الصيام بينما يرى ابن حزم ذلك. وكذلك يرى ابن حزم أن ابتلاع ما بين الأسنان يؤدي إلى الإفطار إذا كان عامدًا، بينما لا يرى ذلك فضيلة الشيخ القرضاوي، ويرى ابن حزم أن الإنزال بالمباشرة للزوجة أو الأمة دون الجماع لا يفسد الصيام، ويأخذ الشيخ القرضاوي برأي الجمهور في هذه المسألة، وهو أن الإنزال يفسد الصيام. ولم يجزم الشيخ القرضاوي بأن المعصية مثل الغيبة سبب للإفطار مثلما فعل ابن حزم. والجمهور على أن المعاصي تذهب بأجر الصيام فقط.
وقد خالف ابن حزم والإمام ابن تيمية جمهور الفقهاء في موضوع وصول الدواء إلى الجوف (الجهاز الهضمي) واعتبروا أن الحقنة الشرجية والدخان - لم يكن في زمانهم دخان التمباك المعروف اليوم، والذي يتعاطى على هيئة سجائر أو شيشة أو غيرها- ليس من المفطرات.
وإليك نص ما جاء في (المحلى) لابن حزم حول هذه النقطة وغيرها من النقاط المتعلقة بها:
مذهب ابن حزم:
قال ابن حزم في المحلى (1) " ولا ينقض الصوم حجامة ولا احتلام ولا استمناء ولا مباشرة الرجل امرأته أو أمته المباحة له فيما دون الفرج، تعمد الإمناء أم لم يمن، أمذى أم لم يمذ، ولا قبلة كذلك فيهما، ولا قيء غالب، ولا قلس خارج من الحلق ما لم يتعمد رده بعد حصوله في فمه وقدرته على رميه، ولا دم خارج من الأسنان أو الجوف ما لم يتعمد بلعه، ولا حقنة -المقصود الشرجية -، ولا سعوط ولا تقطير في أذن، أو في إحليل أو في أنف، ولا استنشاق، وإن بلغ الحلق، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد، ولا كحل وإن بلغ إلى الحلق نهارًا أو ليلًا، بعقاقير أو بغيرها، ولا غبار طحن أو غربلة دقيق، أو حناء، أو غير ذلك، أو عطر، أو حنظل، أو أي شيء كان، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة، ولا من رفع رأسه فوقع في حلقه نقطة ماء بغير تعمد لذلك منه، ولا مضغ زفت ولا مصطكى أو علك.
ولا من تعمد أن يصبح جنبًا ما لم يترك الصلاة، ولا من تسحر أو وطئ وهو يظن أنه ليل فإذا بالفجر قد طلع، ولا من أفطر بأكل أو وطئ، ويظن أن الشمس قد غربت فإذا بها لم تغرب، ولا من أكل أو شرب أو وطئ ناسيًا أنه صائم، وكذلك من عصى ناسيًا لصومه، ولا سواك برطب أو يابس، ولا مضغ الطعام أو ذوقه، ما لم يتعمد بلعه، ولا مداواة جائفة أو مأمومة بما يؤكل أو يشرب أو بغير ذلك، ولا طعام وجد بين الأسنان أي وقت من النهار وجد، إذا رمى، ولا من أكره على ما ينقض الصوم، ولا دخول حمام، ولا تغطيس في ماء، ولا دهن شارب ".
أما الحجامة قال أبو محمد (وهو ابن حزم) : " صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق ثوبان، وشداد بن أوس، ومعقل بن سنان وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم أنه قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ، فوجب الأخذ به إلا أن يصح نسخه ".
ويرى ابن حزم أن المعصية تسبب الإفطار وتفسد الصيام، بينما يرى أصحاب المذاهب الإسلامية وجمهور الفقهاء أن المعصية لا تفسد الصيام ولا تسبب الإفطار، وإن كانت تذهب بأجر الصيام كله.
وخالف ابن حزم الفقهاء في الاستمناء ومباشرة الرجل امرأته أو أمته المباحة له فيما دون الفرج ولو تعمد الإمناء، فهو يرى أن ذلك كله لا ينقض الصوم ولا يفسده، والفقهاء مجمعون على أن تعمد الإمناء بالمباشرة دون الفرج سبب لإفساد الصيام، وخالف الفقهاء في الاستنشاق وإن بلغ الحلق (البلعوم) متعمدا، كما خالفهم في مواضع كثيرة في باب مفسدات الصوم وغيرها من أبواب الفقه.
(1) ابن حزم: المحلى (دار الفكر الحديث) بيروت، 6/ 203و 204، المسألة رقم 753
ترجيح ابن تيمية رحمه الله:
تقترب آراء ابن تيمية فيما يسبب إفساد الصوم مع آراء ابن حزم في نقاط كثيرة، رغم اختلاف منهجيهما اختلافًا كبيرًا ، ولا يرى ابن تيمية أن المعصية سبب لإفساد الصيام، وهو في ذلك مع الجمهور. ولكنه لا يرى أن الحقنة (الشرجية) ، وما يقطر في الإحليل، والكحل ومداواة المأمومة والجائفة؛ سبب لإفطار من يفعل ذلك عمدًا في نهار رمضان
…
كما لا يرى وصول الدخان إلى الحلق سببًا للإفطار.
وإليك نص ما قاله في الفتاوى (1)
" وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع إلا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع إلا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك، والأظهر أنه لا يُفطَّر بشيء من ذلك.
فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلًا؛ علم أنه لم يذكر شيئا من ذلك
…
".
" والذين قالوا أن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به:((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)) . قالوا: فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله (2) ، وعلى القياس كل ما وصل جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه
…
".
" وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا، ولا بد أن تنقله الأمة، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله، ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلمَّا لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطيبه وتبخيره وادهانه، وكذلك اكتحاله ".
" وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم إما في الجهاد أو في غيره مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا ".
(1) فتاوي ابن تيمية: 5/ 233 وما بعدها، طبعة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله.
(2)
في المبالغة في الاستنشاق لا يصل الماء إلى الدماغ إنما يصل إلى البلعوم الأنفي، ومنه يتسرب إلى البلعوم والمريء والمعدة، وهذا هو سبب منعه أي الوصول إلى المعدة والجهاز الهضمي لا الوصول إلى الدماغ كما قرر الفقهاء في ذلك الزمان، بناء على معلوماتهم الطبية الخاطئة.
وأوضح الإمام ابن تيمية أن ليس في الأدلة أن ما كان واصلًا إلى الدماغ أو البدن أو ما كان داخلًا من منفذ (غير الفم والحلق) أو واصلًا إلى الجوف (بسبب طعنة أو جرح) ونحو ذلك من المعاني يسبب الإفطار ويفسد الصيام، إذ لا دليل عليه من الكتاب أو السنة أو قياس صحيح ، واعتبر من قال أن الحقنة (الشرجية) ، والتقطير في الإحليل، ومداواة الجائفة والمأمومة، واستخدام الكحل وقطرة العين، وشم الدخان (1) واستنشاقه، ومثله البخور والطيب وغيره، وأمثال ذلك أنها كلها مسببة للإفطار مفسدة للصيام؛ قول بدون علم ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز.
" ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك (دليل القياس لديهم) مناط الحكم فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحًا، أو دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول ، وهذا اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولًا بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها
…
".
" ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة المأمومة والجائفة، فإن الكحل لا يغذي البتة ولا يدخل أحد كحلًا إلى جوفه لا من أنفه ولا من فمه ، وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئًا من المسهلات، أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة ".
" والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة (والمقصود بهذه المداواة من موضع الجرح، لا أنه يبلغ ذلك بواسطة الفم وإلا كان سببًا واضحًا للإفطار) لا يشبه ما يصل إليها من غذائه. والله سبحانه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الصوم جنة)) ، وقال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم)) . فالصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوّي، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري منه الشيطان إنما يتولد من الغذاء لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولأن ما يداوي نجه المأمومة والجائفة وهو متولد عما استنشق من الماء لأن الماء مما يتولد منه الدم، فكان المنع منه تمام الصوم ". (2)
(1) لم يكن دخان السجائر والشيشة والأرجيلة وما شابه ذلك معروفا في زمن ابن تيمية.
(2)
يتولد الدم في الجنين في الكبد وفي نخاع العظام. وفي المولود يتولد في نخاع العظام كلها، وبعد النمو يتولد الدم في نخاع العظام المفلطحة لا الطويلة، ويكون التولد في مشاش العظم وما يعرف بالنخاع الأحمر. ويتم تولد الدم حتى في فترة الصيام؛ لأن في الجسم مخازن للحديد وغيره من المواد المطلوبة لتكوين الدم ، ولا علاقة مباشرة بالصوم الشرعي وتكوين الدم.
ويطيل ابن تيمية رحمه الله، القول في أن الأكل والشرب تطبخه المعدة ويستحيل دمًا، وهو قول ليس صحيحًا، فالغذاء والماء لا يتحولان إلى دم كما كان القدماء يعتقدون مباشرة في المعدة أو في الكبد، وإنما يتم صنع الدم في مواضعه من نقي العظام (في الصغير في العظام جميعها وفي البالغ في العظام المفلطحة والقصيرة) ، ولا يعتمد صنعها على الصوم فإن الصائم يصنع في نقي عظامه مثله مثل المفطر
…
ولا يؤثر ذلك إلا إذا امتنع عن الطعام فترة طويلة من الزمن، وهي أيام وأسابيع متوالية متواصلة الصيام، بدون أكل على الإطلاق لا ليلًا ولا نهارًا، وهو مخالف للصيام المأمور به.
ويحدث نقص في صنع الدم من العظام لأسباب كثيرة منها نقص الحديد ونقص فيتامين ب 12 ونقص فيتامين حامض الفوليك
…
وهذا قد يحدث لغير الصائم
…
بل لا علاقة لهذا النص بالصيام الشرعي حيث يأكل الإنسان ويشرب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر
…
وما ذكره القدماء في هذا الصدد غير صحيح، وأوضح الطب الحديث بطلانه.
ولتوضيح آراء المذاهب الفقهية في مفطرات الصوم سننقل باختصار وتصرف عن مصادرها الهامة مثل كتاب (المغني) لابن قدامة (ومعه الشرح الكبير) فهو يذكر أقوال المذاهب الأخرى في المسألة ويذكر أدلتها.
وجاء في المغني، لابن قد امة (1) :" والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وروي معنى ذلك عن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء وعوام أهل العلم ". وتحت باب ما يفسد الصوم قال: " ومن أكل أو شرب أو احتجم أو استعط أو أدخل إلى جوفه شيئًا من أي موضع كان، أو قبل فأمنى أو أمدى أو كرر النظر فأنزل، أي ذلك فعل عامدًا وهو ذاكر لصومه فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صومًا واجبًا ". (2)
وفيما ذكره اتفاق بين العلماء على بعضها، وخلاف شديد على بعضها الآخر. وذكر ابن قدامة الاتفاق والخلاف فقال:
" في هذه المسألة فصول (أحدها) : أنه يفطر بالأكل والشرب بالإجماع وبدلالة الكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} مدَّ الأكل والشرب إلى تبين الفجر، ثم أمر بالصيام عنهما. وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) . وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به، فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب. وحكي عن ابن طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم ويقول: ليس بطعام ولا شراب. ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب، فما عداهما فيبقى على أصل الإباحة. ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم، فيدخل فيه محل النزاع. ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة، فلا يعد خلافًا ".
ثم تحدث عن الحجامة والخلاف حولها كما ذكر الأحاديث فيها.
وانتهى إلى أن الحجامة تسبب إفطار الحاجم والمحجوم، لقوله صلى الله عليه وسلم:((أفطر الحاجم والمحجوم)) .
ثم ذكر الجوف فقال ما نصه: " يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره، وكان مما يمكن التحرز منه، سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور (3) واللدود (4) أو من الأنف كالسعوط (5) أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة (المقصود الشرجية) ، أو ما يصل من مداواة الجائفة (6) إلى جوفه، أو من دواء المأمومة (7) إلى دماغه، فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل.
(1) المغني، لابن قدامة المقدسي، ومثله في الشرح الكبير: 3/ 3
(2)
المغني: 3/ 35
(3)
الوجور: ما يسقاه المريض من الدواء من وسط الفم.
(4)
اللدود: ما يسقاه الإنسان من الدواء من أحد جانبي الفم، أخذ من لديدي الوادي وهما جنباه. وقال الأصمعي:" اللدود ما سقي الإنسان في أحد شقي الفم ". وفي البخاري ومسلم عن عائشة قالت: (لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
) الحديث.
(5)
ما يتعاطاه الإنسان من الدواء أوغيره بواسطة الأنف.
(6)
الجائفة: الطعنة أو الجرح الذي وصل إلى جوف البطن، وهو المعروف بالغشاء البريتوني.
(7)
المأمومة: الإصابة أو الطعنة أو الجرح الذي يصل إلى أم الرأس وهي خريطة الدماغ، والمعروفة في الطب الحديث بالأم الجافة Dura mater وتجاوزتها إلى الأم الحنون من أغشية الدماغ.
وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه. وبهذا كله قال الشافعي. وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقه، ولا إذا داوى المأمومة والجائفة. واختلف عنه في الحقنة (الشرجية) . واحتج بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء، أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف. ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره فيفطره، كالواصل إلى الحلق. والدماغ جوف والواصل إليه يغذيه، فيفطره كجوف البدن ". (1)
ثم ذكر ابن قدامة الكحل فقال: " فآما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطر وإلا لم يفطر
…
". وبنحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك، وعن أبي ليلى وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم، ولأن العين ليست منفذًا فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه ، ولنا أنه وصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه، فأفطر به كما لو أوصله من أنفه. وما رووه لم يصح، قال الترمذي: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الكحل للصائم شيء ".
" وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن ذلك يشق عليه فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق، فإن جمعه ثم ابتلعه قصدًا لم يفطره ، وفيه وجه آخر أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه، أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق، والأول أصح. فإن خرج ريقه إلى ثوبه أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه أو ابتلع ريق غيره أفطر ".
وهكذا قال أيضًا في النخامة والقلس والقيء إذا ازدرده أفطر وإن كان يسيرًا.
" وإن قطر في إحليله دهنًا لم يفطر، سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل ".
وإذا قبل فأمنى أو أمذى فلا يخلو المقبل من ثلاثة أحوال: (أحدها) أن لا ينزل فلا يفسد صومه بذلك. و (الثاني) أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه ولأنه أنزل مباشرة، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج. و (الثالث) أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر، وروي ذلك عن الحسن والشعبي والأوزاعي، لأنه خارج لا يوجب الغسل فأشبه البول ".
ثم قال: " إن المفسد للصوم من هذا كله ما كان عن عمد وقصد، فأما ما كان منه عن غير عمد وقصد الغبار الذي يدخل الحلق من الطريق ونخل الدقيق، والذبابة التي تدخل حلقه، أو يُرش عليه الماء فيدخل مسامعه أو أنفه أو حلقه، أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه، أو يسبق إلى حلقه من ماء المضمضة، أو يصب في حلقه أو أنفه شيء كرهًا، أو تداوى مأمومته أو جائفته بغير اختياره أو يحجم كرهًا، أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل أو ما أشبه هذا لا يفسد صومه لا نعلم فيه خلافًا ".
ثم قال: " إنه متى أفطر بشيء من ذلك (أي مما تقدم ذكره) فعليه القضاء لا نعلم في ذلك خلافًا؛ لأن الصوم كان ثابتًا في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأدائه ولم يؤده، فبقي ما كان عليه، ولا كفارة في شيء مما ذكرناه في ظاهر المذهب. وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وابن سيرين وحماد والشافعي. وعن أحمد أن الكفارة تجب على من أنزل بلمس أو قبلة أو تكرار نظر لأنه إنزال عن مباشرة، أشبه الإنزال بالجماع ".
ومن استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه.
ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر. ومن نوى الإفطار فقد أفطر. اهـ.
(1) المغني، لابن قدامة: 3/ 37 - 64 وليس الدماغ داخلًا في تعريف الجوف كما أسلفنا في الفصل الأول، وبالتالي فإن ما وصل إلى الدماغ لا يعتبر مفسدًا للصوم.
وقد بحث فضيلة الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) بتفصيل واف أقوال الأئمة الأربعة فيما يفسد الصوم وما لا يفسده (1) وما يوجب القضاء بدون كفارة، وما يوجب الكفارة والقضاء ، وفي نهاية بحثه الطويل قال:" وخلاصة أقوال المذاهب في أهم المواضع السابقة: أن الجماع في نهار رمضان موجب للقضاء والكفارة والإمساك بقية النهار، وكذلك الأكل والشرب عمدًا عند الحنفية والمالكية خلافًا لغيرهم قياسًا على الجماع، بجامع انتهاك حرمة الشهر ".
" ويفطر الصائم بالاتفاق بالقيء عمدًا أو بتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمدًا، سواء أكان مغذيًا أم غير مغذ، ولا يفطر بالفصد اتفاقًا كما لا يفطر بالأكل والشرب ونحوه ناسيًا، ويفطر عند المالكية، ولا يفطر بالأكل مكرهًا عند الشافعية والحنابلة، ويفطر عند المالكية والحنفية. ولا يفطر عند الحنابلة بغلبة ماء المضمضة ويفطر بها عند المالكية، أما عند الشافعية فيفطر في حالة المبالغة أو العبث والتبرد أو الزيادة على ثلاث.
ولا يفطر بالاكتحال عند الشافعية والحنفية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة إن وجد طعم الكحل في الحلق. ولا يفطر عند الجمهور بالحقنة في الإحليل، ويفطر بها عند الشافعية. ولا يفطر عند الجمهور بنبش الأذن بعود أو إدخاله فيها، ويفطر به عند الشافعية.
ولا يفطر بالحجامة عند الجمهور وإنما تكره، ويفطر بها عند الحنابلة. ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج. أما في حال تكرار النظر فلا يفطر به عند الحنابلة، ويفطر به عند المالكية أو بالتفكير عند الاستدامة أو الاعتياد.
وتتداخل الكفارة فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة عند الشافعية والحنابلة والمالكية (الجمهور) ". اهـ
* * *
(1) د. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته: 2/ 651-678
الفصل الثالث
مناقشة المفطرات في مجال التداوي ضابط
المفطرات مما يصل إلى الجوف
بما أن الصيام إنما هو الإمساك من الطعام والشراب والجماع، فإنه يتبين من ذلك أن المقصود هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، وعليه فإن الجوف لا يعدو الجهاز الهضمي متى تجاوز الفم ووصل إلى البلعوم (يسميه الفقهاء الحلق) ، وبالتالي فإن وصول الطعام والشراب عمدًا إلى البلعوم، ومنه إلى المريء فالمعدة؛ سبب مجمع عليه في إفساد الصيام وتسبب الفطر، إذا كان ذلك في النهار من الفجر إلى غروب الشمس، ويتفق جمهور الفقهاء على أن تعاطي الدواء أو أي شيء آخر عن طريق الفم متى وصل إلى البلعوم ومن ثَم إلى المريء فالمعدة، عمدًا في نهار الصيام؛ يؤدي إلى إفطار الصائم وإفساد صومه.
ويمكننا أن نقسم قائمة المفطرات في مجال التداوي إلى الأقسام التالية:
(1)
ما يدخل الجسم عن طريق الجهاز التنفسي: مثل البخاخ للربو وما يستنشق من الأدوية وتدخين السجائر والشيشة والنشوق (السعوط) وهذه كلها إما سوائل وفيها مواد عالقة، وتدخل إلى الفم أو الأنف وتستنشق ومنها إلى البلعوم (الفمي أو الأنفي) ومن البلعوم إلى المريء فالمعدة. كما يذهب جزء آخر من البلعوم الفموي إلى البلعوم الحنجري، ومنه إلى الرغامى فالشعب الهوائية فالرئتين
…
وقد أسلفنا القول في أن هذه المواد تدخل إلى الجوف الذي حددناه بالجهاز الهضمي ، ولا شك أن من تعمد إدخال هذه المواد إلى فمه أو أنفه ومنها إلى بلعومه ومعدته يكون مفسدًا لصومه متى فعل ذلك في نهار الصيام.
وأما الأوكسجين الذي يعطى لبعض المرضى فهو هواء وليس فيه مواد عالقة لا مغذية ولا غيرها، ويذهب أغلبه إلى الجهاز التنفسي، وتنفس الهواء - كما هو معلوم - ضروري لحياة الإنسان، ولم يقل أحد قط أن استنشاق الهواء مفطر للصيام.
وأما التخدير الكلي فإنه غازات مستنشقة مثل الإيثر وغيره، وعادة ما يبدأ التخدير الكلي بحقنة في الوريد من عقار الباربيتورات السريع المفعول جدًّا، فينام الإنسان في ثوان معدودة، ثم يتم إدخال أنبوب مباشر إلى القصبة الهوائية عبر الأنف فلا يدخل إلى المريء أو المعدة منه شيء.. ويتم إجراء التنفس بواسطة الآلة، وبواسطتها أيضًا يتم إدخال الغازات المؤدية إلى فقدان الوعي فقدانًا تامًا
…
وهذه كلها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي (الجوف كما حددناه) وبالتالي ليست مفسدة للصيام.
ويبقى في الموضوع مدة الإغماء وفقدان الوعي، وهي في ذاتها قد تكون مسببة للإفطار، ثم يبقى بعدها موضوع إعطاء المريض السوائل (المغذية) بواسطة الزرق في الوريد، وهي كما يرى كثير من الفقهاء مسببة للإفطار، وإن كانت لا تصل إلى الجهاز الهضمي.
(2)
ما يدخل الجسم عبر الفم والحلق: ومن ذلك الغرغرة وبخاخ تعطير الفم وهذه تشبه المضمضة، فإن بالغ الشخص أو زاد عن الثلاث (عند الشافعية) ووصل الماء إلى الجوف (الحلق والبلعوم والمريء والمعدة) فإنها لا شك تسبب الإفطار. وكذلك السؤال عن قلع السن في نهار رمضان ويستخدم الطبيب البنج (التخدير) الموضعي، فإن كان التخدير بحقنة (إبرة) موضعية فلا بأس، وإن كان بواسطة بخاخ عاد الحكم إلى ما سبق أن ذكرناه من وصول مواده إلى الحلق والبلعوم والمريء والمعدة
…
ثم أن الدم أو الإفرازات التي تتجمع في الفم في عملية قلع السن أو أي عملية أخرى في الفم أن ابتلعها المريض عامدًا أفطر، وإن انسابت دون إرادته فلا شيء عليه لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:((من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) وفي رواية الدارقطني: ((إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا، فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه)) .
(3)
ما يدخل إلى الدبر: وهو الحقنة الشرجية ومنظار الشرج وإصبع الطبيب، والفرزجات (اللبوس) ، والدبر متصل بالمستقيم، والمستقيم متصل بالقولون وهو المعي الغليظ. يبدأ بالقولون السيني sigmoid Colon ثم القولون النازل Descending Colon ثم القولون المعترض Transverse colon ثم القولون الصاعد Ascending colon ثم الأعور، ومنه إلى الأمعاء الدقيقة. ويمكن امتصاص الدواء أو السوائل منها، وهي جزء من تعريفنا للجوف وهو الجهاز الهضمي، وعليه فيبدو - والله أعلم - أنها سبب لإفساد الصيام وإفطار المريض.
(4)
ما يدخل عن طريق الجهاز التناسلي للمرأة: وفيه المهبل Vagina وهو الذي يطلق عليه الفرج والقبل، وقد أسلفنا القول إنه ليس بالتجويف على الحقيقة، بل الجداران الأمامي والخلفي ملتصقان، ولكنهما مرنان فيسمحان بدخول الذكر أو نزول الجنين أو الدم أو إدخال منظار أو إصبع أو فرزجة، ويمكن امتصاص الدواء من المهبل، وتستخدم بعض الأدوية لهذا الغرض بواسطة الفرزجات (اللبوس، التحاميل) أو بواسطة ما يسمى دوش مهبلي (غسيل المهبل)
…
إلخ، ولولا أن المهبل هو مكان الجماع وإدخال الحشفة فيه مسبب للإفطار بالجماع (إذا كان ذلك عمدًا في نهار الصيام) ، فإنه من اليسير القول بأن المهبل ليس الجوف المراد في موضوع الصيام، ولا علاقة له بالجهاز الهضمي.
أما إدخال المنظار أو اللولب إلى الرحم فإنه لا يعد جوفًا وليس محل للجماع، إذ القضيب لا يدخل الرحم على الإطلاق، وإنما يبقى في المهبل فقط والرحم بعيد عنه ، ولا شك إذن أن ذلك ليس من الجوف المقصود به الصيام وهو بعيد كل البعد عنه، فلا يكون إذن سببًا للإفطار وإفساد الصيام.
(5)
ما يدخل إلى الجهاز البولي: وهو إدخال دواء أو قسطرة في الإحليل - مجرى البول في الذكر أو الأنثى - وإيصاله إلى المثانة، فذلك كله ليس جوفًا بالمعنى الذي حددناه في موضوع الصيام، ولا علاقة له بالجهاز الهضمي الذي حددنا به الجوف المقصود بالصيام، وكذلك لا علاقة له بالمهبل إذ فتحة مجرى البول في المرأة بعيدة عن فتحة المهبل، وبالتالي فإن إدخال قسطرة أو منظار إلى الجهاز البولي أو إدخال سائل أو دواء أو غيره إلى المثانة لا يعتبر مفسدًا للصيام (خلافًا للشافعية الذين يرون أن إدخال الدهن أو الدواء أو السائل إلى الإحليل ومنه إلى المثانة مفسدا للصيام) .
(6)
ما يصل عبر الأذن: أوضحنا فيما سبق أن لا صلة مباشرة بين الأذن الخارجية وبين البلعوم (الحلق) وبالتالي فإن نبش الأذن أو إدخال عود فيها أو وضع دواء سائل أو ماء أو غيره لا يصل إلى البلعوم طالما أن الطبلة سليمة ، والطبلة مثل الجلد تمامًا في تركيبها، وتشربها الدواء أو السائل مثل تشرب الجلد، وتدخل في حكمه، لذا فإن ما يوضع في الأذن ليس سببًا للإفطار، ولا يصل إلى الجوف (المقصود الجهاز الهضمي) .
أما إذا كانت الطبلة مخروقة فإن السوائل قد يصل منها شيء يسير إلى الأذن الوسطى، ومنها عبر القناة السمعية البلعومية (قناة إستاكيوس) إلى البلعوم الأنفي كما قد مر معنا، ومن البلعوم الأنفي إلى البلعوم الفموي، ومنه إلى المريء فالمعدة ، وإن كانت الكمية التي يمكن أن تصل عبر هذا الطريق ضئيلة جدا، فإن ذلك قد يكون سببًا للإفطار وإفساد الصوم.
(7)
تنظير البطن: من الجدار الخارجي للبطن عبر جهاز التنظير، ويتم ذلك لإجراء التشخيص للأمراض وإجراء العمليات الجراحية، ولسحب البيضات في عملية التلقيح الصناعي (طفل الأنبوب) ، وغيرها من الأغراض، وهذه كلها لا تعتبر الجوف الذي حددناه بالجهاز الهضمي، أما المناظير المختصة بالجهاز الهضمي، سواء كانت من أعلى (أي الفم وتصل إلى المعدة) أو من أسفل (أي من الدبر وتصل إلى الأمعاء) فإنها كلها مواد تدخل إلى الجوف، وإن كانت لا علاقة لها بالغذاء، وفي معظم الأحوال تقتصر على التشخيص فقط، ونادرًا ما يتم عبرها حقن دواء للدوالي أو غيرها.
وعليه فإن حكمها سيأخذ حكم ما تم إدخاله عبر الفم أو عبر الشرج (الدبر) وفي ظني أنها سبب للإفطار، والله أعلم.
(8)
أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء: الباطنة مثل الكبد أو الرئة أو الكلى أو أخذ شيء من السائل الموجود في الغشاء البلوري المحيط بالرئة أو الغشاء البريتوني المحيط بأحشاء البطن في حالة الاستسقاء، أو السائل الموجود حول الجنين وهو السائل الأمينوسي (الرهل) فكلها كما يبدو لا علاقة لها بالجهاز الهضمي الذي قلنا إنه المقصود بالجوف في حالة الصيام. وبالتالي فإنها لا تكون في حد ذاتها سببًا في الإفطار ولا مفسدة للصوم.
(9)
إجراء غسيل الكلى البريتوني: وفي هذه الحالة يتم إدخال لترات من السوائل إلى الغشاء البريتوني، وإبقائها فترة ثم سحبها مرة أخرى، ثم إعادة العملية ذاتها مرات عديدة ، وفي هذه الحالة يتم تبادل المواد الموجودة في الدم عبر البريتون، ويبدو لي - والله أعلم - أن هذا كله لا علاقة له بالجهاز الهضمي، وبالتالي ليس سببًا لإفساد الصوم.
(10)
ما قد يصل إلى الجسم عبر الجلد: مثل الأدهان والمروخات والطلاءات، ويتم امتصاصها عبر الجلد، كما انتشر في الآونة الأخيرة وضع الدواء على لصقة توضع على الجلد ويتشربها الجلد وتمتص منه. وكذلك الحقن (الزرق) في الجلد وتحت الجلد وفي العضلات، وسواء كانت للعلاج أو التشخيص أو الوقاية مثل التطعيم ضد الأمراض المعدية أو التخدير الموضعي فإنها كلها ليست سببًا للإفطار وإفساد الصيام، لأنها لا علاقة لها بالجهاز الهضمي.
وأما إعطاء الإبر (الزرق، الحقن) تحت الجلد بمادة تعرف باسم الأبومورفين أو غيرها لإحداث القيء (في حالات التسمم) فإنها ربما دخلت في موضوع القيء عمدًا (الاستقاء) وهو كما مر معنا سبب للإفطار لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه، ومن استقاء فليقض)) . (1)
(11)
ما قد يصل إلى الجسم عبر الأوعية الدموية مثل الأوردة
والشرايين: ومثالها الزرق (الحقن) الوريدية، وسواء كانت عقاقير للتداوي أو للتشخيص بمواد ملونة، كما يمكن إدخال قسطرة (أنبوب دقيق) عبر الأوردة أو عبر الشرايين، وتصل إلى القلب مباشرة لتصوير شرايين القلب أو مداواتها.
ويمكن نقل الدم أو مشتقاته عبر الأوردة كما يمكن سحبه منها، ويمكن إجراء الغسيل الكلوي الدموي (الإنفاذ الدموي) عبر أوردة متصلة بشريان.
ويمكن كذلك إعطاء سوائل مغذية بواسطة الحقن (الزرق) بالوريد، حيث تسرب هذه المحاليل.
وكل هذه الوسائل أفتى كثير من أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء بعدم كونها سببًا للإفطار، ما عدا المغذيات التي أفتى أغلبهم بأنها سبب للإفطار.
وهذه الأوردة والشرايين رغم أنها مجوفة إلا أنها لا تدخل في تعريف الجوف المخصوص والمقصود بالصيام، وهو الجهاز الهضمي.
(1) رواه الدارمي وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني.
(12)
سحب الدم والحجامة والفصد: ذكر أكثر العلماء القدماء والمحدثين بأن ذلك كله لا يسبب الإفطار، وأن في الحجامة كلام مختلف فيه بناء على قوله صلى الله عليه وسلم:((أفطر الحاجم والمحجوم)) وهل هذا الحديث منسوخ أو ناسخ لحديث أنه احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم؟. وقد كره العلماء الحجامة والفصد في نهار رمضان، لأنها تضعف الجسم
…
أما سحب كمية قليلة من الدم لفحصه فلا يؤثر.
أرجو أن أكون قد استوفيت الرد على النقاط المذكورة في رسالة الأمانة العامة للمجمع الفقهي الموقر حول المفطرات في مجال التداوي من الناحية الطبية مع بعض الإشارات من الناحية الفقهية المتعلقة بها.
فإن أصبت فبفضل من الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان. وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه من خطأ عمد أو سهو.. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 286]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد علي البار