المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد العاشر

- ‌بحثأحكام الذبائح واللحوم المستوردةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادسماحة الشيخ أحمد بن أحمد الخليلي

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية للذكاةإعدادأ. د إبراهيم فاضل الدبو

- ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌‌‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد الهواري

- ‌المفطراتإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌مفطرات الصائمفي ضوء المستجدات الطبيةإعداد الدكتور محمد جبر الألفي

- ‌ضابط المفطراتفي مجال التداويالأكل والشربإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌المفطراتإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌المفطراتفي مجال التداويإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌التداوي والمفطراتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌المفطراتفي ضوء الطب الحديثإعدادالدكتور محمد هيثم الخياط

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادالدكتور نزيه كماد حماد

- ‌العقود المستجدةضوابطها ونماذج منهاإعدادد. محمد بن علي القري

- ‌الاستنساخ البشريإعدادالشيخ محمد المختار السلامي مفتى الجمهورية التونسية

- ‌نظرة في الاستنساخ وحكمه الشرعيإعدادآية الله محمد علي التسخيري

- ‌الاستنساخ البشريبين الإقدام والإحجامإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌الاستنساختقنية، فوائد، ومخاطرإعدادد. صالح عبد العزيز الكريم

الفصل: ‌الذبائحوالطرق الشرعية في إنجاز الذكاةإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

‌الذبائح

والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة

إعداد

الدكتور محمد سليمان الأشقر

أستاذ الشريعة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدا رسول الله إلى الناس أجمعين، ختم الله به الرسالات، وجعله رحمة للعالمين، وصلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحبه الهداة المهديين، وسلم تسليماً كثيرا.

إن الكلام في الذبائح وطرق الذبح مما يهم كل مسلم التعرف عليه وعلى الطرق الشرعية فيه، حيث إنه من الوسائل التي يتحقق بها للمسلم طيب المطعم وحله، والله تعالى أرسل رسوله يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث، فما حرمه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا شك عند المسلم أنه خبيث، وإن لم ير فيه ضررا ظاهرا، وما أحله فهو الطيب.

والله تعالى أمرنا أن نستحل ما أحله لنا، وأن نحرم ما حرمه علينا، قال الله تعالى:{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ، وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 118-119] ، وهذا تنبيه على قبح فعل من يسارع إلى تحريم ما أحله الله بناء على هوى أو جهل، وقال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]

ص: 264

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم)) ، فقرن صلى الله عليه وسلم التزام الإنسان بأحكام الشريعة في الذبائح بالصلاة واستقبال القبلة في تحديد هوية المسلم، لأن هذه الأمور الثلاثة تجمع المسلمين على أمور ظاهرة، فالذبح الشرعي شعيرة من شعائر الدين، يجب أن تقام ويعتنى بها كل الاعتناء (1)

وليس معنى قولنا: "إن الذبح شعيرة" أنه عبادة يتعبد الله تعالى بها في كل حال، كما قاله ابن القيم ومن تابعه (2) ، لأنه إنما يكون عبادة إن ذبح لوجه الله تعالى ابتغاء مرضاته، كالأضحية، والعقيقة، والقربان، والهدي، ونحو ذلك، أما إن ذبح لمجرد اللحم، سواء للأكل أو الإطعام أو البيع، فليس عبادة على الإطلاق.

ولكن مرادنا بالقول إنه من شعائر الدين أن إجراء عملية الذبح طبقا للقواعد والضوابط التي حددها الكتاب والسنة أمر مطلوب من المسلم مراعاته، واعتقاد أنه من الأمور التي يكون الالتزام بها ورعايتها من شأن المؤمن القوي الإيمان، ونحن ناظرون في هذا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم)) .

ومن هنا ينبغي أن يشكر اهتمام مجمع الفقه بهذه القضايا وحشده لها، فإن كل ذلك من تعظيم شعائر الله وتكريم شرائعه.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

(1) وانظر المودودي: ذبائح أهل الكتاب، ص 6؛ وكتاب بحوث مقارنة للدكتور فتحي الدريني: 2/ 360

(2)

إعلام الموقعين: 2/ 173، 174؛ حكم اللحوم المستوردة للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، ص 11

ص: 265

تعريف التذكية:

التذكية ذبح الحيوان أو نحره أو عقره بكيفية أو أوضاع معينة بينتها الشريعة، بحيث يكون لحمه حلالا للمسلم. وهي تكون بطريقتين:

الأولى: الذبح أو النحر، وذلك في الحيوان الذي يتمكن منه، كالإبل والبقر والغنم.

الثانية: ضربه بمحدد من سهم أو رمح في أي موضع من بدنه، بحيث يخرج منه الدم، وذلك في الصيد ونحوه، لأنه لا يتمكن منه إلا بذلك، فإن صاده فأدركه حيا وتمكن من تذكيته بالذبح لم يبح إلا بأن يذبحه.

حكمة مشروعية التذكية:

إنه باستقراء دلالة النصوص الشرعية في الكتاب والسنة يمكن أن يفهم أن التذكية شرعت لأمرين:

الأول: إخراج ما في بدن الحيوان من الدم، وذلك لأن الدم في المفهوم الشرعي مادة خبيثة، وقد جعل الله تعالى الدم أحد المحرمات القطعية الأربع التي كرر ذكرها مقترنة في آيات كثيرة وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، فلا يجوز تناول الدم أصلا، ويجب إخراجه من الحيوان بالذبح، ليطيب اللحم ويخلص من هذه المادة الخبيثة (1) ، ولكن لما كان تتبع ما يبقى من اللحم في العروق عسيرا اقتصر التحريم على الدم المسفوح، أما الدم الذي يجمد في العروق فلم يحرم، بل تشمله رخصة الله تعالى تيسيرا على المؤمنين.

(1) انظر فتح القدير: 9/ 486؛ والذخيرة للقرافي: 4/ 133

ص: 266

وقد يدعي البعض أن خبث الدم مجرد دعوى لا حجة لها.

ولكن نعرف أن الدم يجري في البدن يغذيه، ثم تصب فيه الخلايا التالفة والسموم والجراثيم، فيحملها في جريانه، ويمر بها على الكليتين لتصفيته هناك منها، وإخراجها بشكل السائل المعروف بالبول، الذي هو من أخبث الخبائث، واجتمعت على إثبات خبثه بدهيات العادات، ومقررات الشرائع، وكرهته واستخبثته الفطر السليمة، لما جعل الله تعالى فيه من الروائح المنفرة لكي يتجنبه من يعلم ضرره ومن لا يعلمه.

فالدم الذي يحتوي مما على هذا البول حرمته الشريعة، لكمالها، ولم تنص على تحريم البول، لأن البول يتجنب بالفطرة، أما الدم فلا تستدعي الفطرة تجنبه، ولذلك جعلت الشريعة إخراجه من الحيوانات بالتذكية شرطا لحل لحمها، تقليلا للأضرار، وإصلاحا للأبدان، وحملا للمؤمنين على أكمل مناهج الحياة.

الثاني: أن الذبح هو أيسر الوسائل المتاحة للإنسان عادة لإخراج الدم الخبيث من الحيوان الذي يعد لحمه للأكل، فهو أيسر ما يمكن للحيوان وأقل لتألمه، لسرعة خروج الدم من الودجين، وإنهاره بقوة شديدة، وهذا يؤدى إلى إزهاق نفسه، وتخليص لحمه من دمائه، في مدة قليلة جدا بسرعة لا تحصل بجرحه في أي مكان آخر من بدنه.

ص: 267

ويمكن أن نقارن ذلك بما فطر الله عليه بعض السباع من الأسود والنمور وغيرها إذا تمكنت من الفريسة، فإن الله تعالى قد ألهمها أن تقصد إلى مقدم عنق الفريسة، فتنهشه في نفس الموضع الذي شرع لنا الذبح فيه، والذي يبدو من حكمة كونه أخف على الحيوان المصيد، وإن كان الحيوان الصائد إنما يقصد إلى شرب الدم، فالشرع إذن موافق للحكمة في الخلق، وتبارك الله جل جلاله، الذي له الخلق والأمر، وهو الحكيم العليم الرؤوف الرحيم.

وقد يقال: إن هذه الحكمة منتقضة بالصيد، فإن الصيد لا يشترط فيه قطع الودجين ولا النحر، ومع ذلك فهو حلال مذكى شرعا، مع أنه لا يخرج من دمه إلا الشيء اليسير، ويبقى الجزء الأكبر من دمائه محتقنا في عروقه، وهو مع ذلك حلال لا شبهة فيه.

والجواب أن أكل الصيد رخصة أتت على خلاف ما تقتضيه العزيمة، وقد رخص فيه لعامة المسلمين، والأصل فيه أهل البوادي ونحوهم الذين تعز عندهم أحيانا اللحوم، فاكتفي منهم بما يسفكه السهم أو الكلب من دم الحيوان المصيد، ولا يحل لو قتله بثقله، ثم إن أدركه الصياد حيا وتمكن منه وجب عليه أن يذكيه بالذبح وإلا لم يحل.

ص: 268

ما لا يحتاج إلى تذكية:

ليس كل حيوان بحاجة إلى التذكية ليحل، بل الذي لا يحل إلا بالتذكية هو الحيوانات الثديية البرية، وأما الحيوانات الآتي ذكرها فتحل بدون تذكية:

ا-الحيوانات المائية: التي لا تعيش إلا في ماء البحار أو الأنهار أو نحوها، فليست بحاجة إلى تذكية، لقول الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في البحر ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) ، وقال أيضا:((أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد)) .

2-

الحيوانات البرمائية: وهي التي تعيش في البحر وتعيش في البر أيضا، كالسلحفاة البحرية، فقد قيل فيها إنها أيضا من الحيوانات البحرية، ولذا لا تحتاج إلى تذكية.

وفي قول آخر للفقهاء أن جانب كونها تعيش في البر يرجح على معيشتها في البحر، كالقاعدة في الأطعمة والانكحة إذا اجتمع فيها ما يقتضي الحل وما يقتضي التحريم، وعلى هذا فما كان من الحيوانات البرمائية ذا دم سائل لابد من ذبحه، وما لم يكن له دم سائل كالسرطان، يحل بدون ذبح.

ص: 269

وفي رأينا أن الحكم للأغلب، فما كانت عامة معيشته في البحر، ولكن يخرج إلى البر قليلا، كالسلحفاة البحرية التي لا تخرج إلى البر إلا لتبيض وتدفن بيضها في رمل الشاطئ، ثم تعود إلى البحر فورا، فهذه حكمها حكم حيوان البح تحل بدون ذكاة، وما كان عامة حياته في البر، ولكن لو وجد حواليه ماء فإنه يدخل فيه ويمكنه العيش فيه مدة، كالحيات والسلاحف البرية، فهذا لا يحل إلا بذبحه، وهذا عند من أجاز أكل الحيات (1)، ثم وجدت في فتح الباري أن عطاء رجح ما رجحناه حيث قال: حيثما كان أكثر فهو صيد (2) .

ونقل القرافي في الذخيرة عن المدونة: لا يحتاج فرس البحر إلى ذكاة، وإن كان له رعي في البر، ولابد من ذكاة طير الماء (3)

3-

الحيوانات التي ليس لها نفس سائلة (أي دم سائل) لا تحتاج إلى تذكية، سواء عاشت في البحر كالسرطان، أو في البر كالجراد.

هذا وسوف نجعل الكلام في شؤون الذكاة في أربعة فصول:

الأول: في شرط الذكاة، والأوضاع الشرعية المعتبرة فيها.

الثاني: في النظر في الطرق التي تتبع في المسالخ العصرية لإزهاق أرواح الحيوانات.

الثالث: في العمل في حالة الجهل بتحقيق شروط الذكاة في اللحم المقدم للطعام.

الرابع: في مشكلات اللحوم المستوردة.

(1) المغني:606/8

(2)

فتح الباري: 9/ 616

(3)

الذخيرة للقرافي: 4/ 126

ص: 270

الفصل الأولى

شروط التذكية الشرعية

تمثل شروط التذكية الشرعية الأوضاع التي أوجب الشرع مراعاتها ليكون أكل المذبوح حلالا.

ويلاحظ كثرة هذه الشروط، لكن بعضها إجماعي وبعضها خلافي، ومن أداه اجتهاده إلى مشروعيته فلابد له ولمن قلده من مراعاته، ومن لا فلا، غير أن الشارع الحكيم استثنى حالة الاضطرار، قال الله تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقال بعد أن ذكر المحرمات من الأطعمة:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] ، ومن هنا أخذت القاعدة المعروفة (الضرورات تبيح المحظورات) بقيودها المعروفة، فلا نطيل بها.

ويمكن ترتيب هذه الشروط كما يلي:

أولا: شروط في الإنسان الذابح.

ثانيا: شروط في الحيوان المذبوح.

ثالثا: شروط في الآلة التي يجري بها الذبح.

رابعا: شرط النية والقصد.

خامسا: شرط تسمية الله على الذبيحة.

سادسا: شرط عدم تسمية غير الله تعالى.

سابعا: شرط ألا يكون مما ذبح على النصب.

ثامنا: شروط في موضع ما يقطع من الحيوان بالذبح.

ص: 271

أولا: الشروط في الذابح:

ا- يشترط في الذابح أن يكون عاقلا بالغا، رجلا كان أو امرأة أو طفلا مميزا، ليصح القصد والنية، وهذا عند الجمهور، ولم يشترط الشافعي أن يكون الذابح مميزا أو عاقلا، فتحل عنده ذبيحة السكران والمجنون وغير المميز، من حيث إنه لا يعتبر القصد والنية كما يأتي النقل عنه (1)

2-

ويشترط أن يكون الذابح مسلما أو كتابيا، والمراد بالكتابيين:

اليهود أهل التوراة، والنصارى أهل الإنجيل، وإباحة ذبائح أهل الكتاب مسألة إجماعية، وإن اختلف العلماء في بعض التفصيلات كما يأتي، ودليل إباحة ذبائحهم قول الله تبارك وتعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، ووجه الدلالة أن طعامهم الذي أحله الله يشتمل في الغالب على لحم ما ذبحوه ودهنه، وأيضا فإن ما استنبتوه من الفواكه والثمار والحبوب، أو اشتروه وطبخوه، أو صنعوه، لا إشكال فيه حتى ينص على إباحته. وإنما الذي يشك فيه الذبائح خاصة. ومن هنا فسر ابن عباس طعامهم في الآية بما ذبحوه، فقد ورد عنه أنه قال "طعامهم ذبائحهم "(2) ، وفي حديث قصة خيبر، ورد حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، قال:((دلي بجراب شحم يوم خيبر، فنزلت لآخذه، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك)) (3) .

وإنما جازت ذبيحة الكتابي وإن كان كافرًا لأنه كالمسلم من حيث إن أصل دينه التوحيد (4)

(1) الأم: 2/ 264

(2)

المغني: 8/ 567

(3)

الحديث أخرجه الشيخان

(4)

شرح فتح القدير: 9/ 571

ص: 272

ذبائح سائر الكفار:

مفهوم هذا الشرط المتقدم أن المجوس والمشركين وسائر الكفرة وعباد الأصنام من البوذيين والهندوس وغيرهم لا تحل للمسلم ذبائحهم، وكذلك الملحدون والدهريون الذين لا يؤمنون بالله تعالى، ويعتقدون أن الكون وجد صدفة، وأن الحياة مجرد مادة تتفاعل، وتتوالد الأشياء بحسب الطبيعة المجردة، دون أن يكون لها فاعل مختار مدبر، كما هو مذهب الشيوعيين.

وتحريم ذبائح غير المسلمين وأهل الكتاب أمر مجمع عليه، قال الإمام أحمد:"لا أعلم أحدا قال بخلافه "، إلا أنه روي عن أبي ثور أنه أباح ذبائح المجوس؛ من أجل أنه ورد الحديث النبوي:" سنوا بهم سنة أهل الكتاب ". وهذا خطأ من أبي ثور رحمه الله في الاستدلال، فإن هذا وارد في أخذ الجزية من المجوس، وإقرارهم أهل ذمة في البلاد الإسلامية، لا في أكل ذبائحهم أو التزوج بنسائهم، فإن الحديث وارد في هذا الشيء خاصة، كما هو معلوم في قصة ورود الحديث.

لو كان الحديث المذكور واردا مورد العموم- حسبما ادعاه أبو ثور - لكان التزوج بنساء المجوس حلالا للمسلم، وهو أمر ظاهر البطلان.

ووجه الاختصاص، والله أعلم، أن كون المجوس لهم شبهة كتاب شبهة تقتضي حقن دمائهم، وتقتضي في نفس الوقت تحريم نسائهم وذبائحهم (1) .

ولذا فالقاعدة أن من حل لنا التزوج من نسائهم حل لنا أكل ذبائحهم، ومن هنا قرنت الآية المتقدمة بين هذين النوعين من أفعال المكلفين، أعني قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]

وقد جادل في تحريم ذبائح الكفار من سوى أهل الكتاب بعض المعاصرين، بدعوى أن القول بذلك لا دليل له من كتاب أو من سنة.

ولا نشتغل بالرد عليهم، لظهور فساد قولهم ومخالفته للإجماع (2)

(1) المغني: 8/ 571؛ وشرح فتح القدير: 9/488؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 99؛ والكافي لابن عبد البر: 1/ 429

(2)

انظر موسوعة الإجماع: 2/ 912 و 948. ووجدنا عند الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في مجموع رسائله: 3/ 408 نقلاً عن فتاوى ابن تيمية: 21/ 576، قال الناقل: إنه يحقق صحة ما قاله من إباحة ذبائح الكفار والمشركين أن ابن تيمية قال ما يلي: "النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذبح للأصنام، أما ما ذبحه قومه في دوره (كذا) لم يكن يجتنبه ". ويغلب على ظني أن في هذا النقل تحريفا، وليس أصل فتاوى ابن تيمية الآن عندي لأتحقق من ذلك. وفي مجموعة الرسائل المذكورة في: 3/ 416 نسبة القول بذلك إلى ابن العربي، ومحمد رشيد رضا، ومحمد بخيت المطيعي، والقرضاوي.

ص: 273

ذبائح أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم:

ما ذبح لكنائس النصارى واليهود ومعابدهم، وما يذبح في مناسباتهم الدينية، إن ذبحه مسلم وسمى الله على الذبيحة فهو حلال، وكذا ما ذبحه يهودي أو نصراني وسمى الله، بدليل الآية المتقدمة {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فهذا النوع هو من طعامهم، وروي أن بعض الصحابة أكلوه، منهم العرباض بن سارية، وأبو أمامة الباهلي، وأبو مسلم الخولاني، وأبو الدرداء، رضي الله عنهم، وصرح بإباحته الإمام أحمد حين سئل:"ما يقرب لآلهتهم ويذبحه رجل مسلم؛ قال: لا بأس به " أي لأنه يذكر اسم الله وحده، وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة: ما ذبحه الكتابي لعيده أو نجم أو صنم أو نبي فسماه على ذبيحته حرم، لقول الله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} وإن سمي الله تعالى وحده حل، لقول الله تعالى:{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118]

وفي قوله هذا نظر، فإنه إن قصد الذبح للأصنام أو لشيء يعبد من دون لله فلا يشك في تحريمه، أما الذبح لأعيادهم فينبغي القول بأنه مع الحل يكره، من أجل القصد القلبي عند الذابح أنه يريد أن يذبح في تلك المناسبة التي لا يعترف بها الشرع الإسلامي.

وهذا الحكم ينطبق على ما ذبحه مسلم أو يهودي أو نصراني بالنيابة عن مجوسي أو كافر، إذا ذبحه لمعابدهم وأعيادهم الدينية: إن سمي الله وحده حل مع الكراهة، وإن سمي غيره تعالى حرم (1) ، وإن ذبحه لما يعبد من دون الله فهو حرام.

واختار ابن تيمية أن ما ذبحه الكتابي لعيده حرام علينا (2) .

(1) المغني: 8/ 569؛ واقتضاء الصراط المستقيم، ص 261

(2)

الاختيارات، ص 324

ص: 274

ما ذبحه أهل الكتاب مما هو عندهم حرام وعندنا حلال:

اليهودي يحرم عليه في دينه ما ذكره الله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أو الْحَوَايَا أو مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] وحرمت عليهم الإبل أيضا، ويذكر في كتابهم تحريم كل ما لم يكن مشقوق الأصابع كالنعام والبط، وكل ذلك حلال لنا. فلو ذبحوا إبلا أو بطا أو نعاما فهل يكون لنا حلالا؟

اختلف في أكل ذلك للمسلم، على قولين:

ا- أنه حرام، وهو قول الإمام مالك وبعض الحنابلة، لقول الله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] قالوا: وليس هذا من طعامهم لأنه عليهم حرام.

2-

أنه حلال، لأنه من لحم حيوان لم يحرم علينا، واستكمل شروط الذبح فيكون حلالا، وهو قول الشافعي، وإليه يذهب الحنابلة، واستدلوا أيضا بما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، أنه قال:((دلي جراب من شحم يوم خيبر، فنزوت لآخذه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم إلي)) قالوا: والمراد بطعامهم في الآية ذبائحهم (1) ، لأن من الشحوم ما هو محرم عليهم كما نص على ذلك القرآن، قالوا: فلما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مغفل بترك تناول الشحم المذكور، دل على عدم تحريمه؛ إذ لا يقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على محرم.

وهذا القول الثاني عندي أصح، لأن العبرة بما في شريعتنا، لا بما في شريعتهم.

وأيضا يذكر عنهم أن لهم في الذبح طرائق معينة، ما ذبح ولم يستكمل تلك الشروط لا يأكلونه، وهم يسمونها طريفا، على أنهم- كما سمعنا- يربون البط ونحوه، ويبيعون لحومها وأكبادها لمن حولهم من مسلمين ونصارى ويصدرونه إلى الخارج.

وهذا النوع- وهو ما لم يذكر في شرعنا تحريمه عليهم، لكن هم يقولون إنه محرم عليهم- يصرح المالكية بأنه مكروه وليس محرماً (2) .

(1) المغني: 8/ 582؛والشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 2/ 101؛ والأم للشافعي: 2/ 264

(2)

الشرح الكبير: 2/ 101

ص: 275

ثانيا: الشروط في المذبوح:

إن الذكاة لا تعمل في جميع الحيوانات الثديية والطيور، بل الحيوانات بالنسبة إلى هذا الأمر على ثلاثة أنواع:

ا- ما لا تعمل فيه الذكاة اتفاقا، وهو الخنزير، فلا يحل أكله ولا يطهر بالتذكية، بل يبقى نجسا، والكلب مثل الخنزير عند الجمهور.

2-

ما تعمل فيه الذكاة مطلقا وهو الإبل والبقر والغنم وسائر الحيوانات البرية والطيور التي ليس فيها سبب من أسباب التحريم.

3-

ما تعمل الذكاة فيه بتطهير لحمه وجلده وسائر أجزائه، لكن يبقى محرما أكله، كالحمير والبغال وسائر الحيوانات الثديية المحرمة والطيور المحرمة ما عدا الخنزير (1)، وقيل: والكلب.

هذا ويشترط أن يدرك الذابح المذبوح وفيه حياة مستقرة: فلا تحصل التذكية بذبح ما هو ميت فعلا.

وكذا لا تحصل بذبح ما فيه حياة غير مستقرة، كالشاة المريضة التي أشرفت على الموت ولم يعلم أن موتها كان بسبب الذبح أو بسبب المرض، وكذا لو كانت الشاة قد جرحت أو سقطت من علو أو نطحتها شاة أخرى، أو افترسها سبع، فأخذت منه فذبحت، ولم يعلم أنه كان فيها قبل الذبح حياة مستقرة.

(1) انظر مثلا: الذخيرة للقرافي: 4/ 123، 125 حيث ذكر نحر الفيل من أجل الانتفاع بعظمه وجلده

ص: 276

ودليل هذا كله قول الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] راجع إلى المنخنقة وما بعدها ومعناه: أن ما أمكنت تذكيته قبل أن يموت فهو حلال، فإن كانت فيها قبل الذبح حياة مستقرة حلت بالذبح.

ويمكن أن يستدل على أنه هل كان فيها قبل الذبح حياة مستقرة أم لا:

بما يصدر عنها عند الذبح؛ فإن حركت يدا أو رجلا أو ذنبا ونهر الدم منها عند الذبح، فهي حلال، وإن لم يصدر عنها شيء مما يصدر عن الحي فهي ميتة، لأنها تكون قد ماتت بالمرض أو الخنق أو نحوه لا بالذبح.

وقال المالكية: إن الفعل الذي وقع بها من التردي أو النطح أو أكل السبع إن كان قد أنفذ مقاتلها، كما لو كان السبع قد أخرج أمعاءها وفصلها عنها، أو كانت قد ضربت فانقطع نخاع ظهرها، أو كانت قد طعنت في قلبها، أو قطع السبع موضع الذكاة منها، فلا تحل بالذبح ولو تحركت ونهر الدم، وعبارتهم:(لا تعمل فيها الذكاة) ، وفي غير هذه الحالة وافقوا غيرهم على ما تقدم.

والقول الأول أصح، لأنه ظاهر قوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] قال ابن عباس في تفسيرها: "فما أدركته من هذا يتحرك له ذنب أو تطرف له عين فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال " أخرجه البيهقي (1)

(1) فتح الباري: 9/ 599

ص: 277

ثالثا: الشروط في آلة الذبح:

لا يشترط في آلة الذبح أن تكون من حديد أو أي مادة معينة، بل يجوز الذبح بأي محدد، ولو كان من نحاس أو ألمنيوم أو خشب أو قصب، والحديد أفضلها، ويستثنى الأسنان والأظفار؛ ودليل ذلك حديث رافع بن خديج في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له:((يا رسول الله ،إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر، وسأنبئكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)) .

فكأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن مشابهة الحبشة في طريقة ذبحهم بأظفارهم وأسنانهم،- أي في ذلك العصر- لما في ذلك من مشابهة فعل الوحوش الضارية (1) .

ولذا ذهب أبو حنيفة - وهو قول للمالكية اقتصر عليه ابن عبد البر -إلى أن الذي يحرم من ذلك أن يذبح الإنسان الحيوان بنهش عنقه بأسنانه أو بأظفاره وهي قائمة، أما لو ذبحه بسن أو ظفر منزوع من حيوان فلا يحرم، لعدم الفارق بينه وبين سائر المحددات، ولكن يكره فيه من الشدة على الحيوان المذبوح بهما.

(1) لم ينتبه الأكثرون لهذا المعنى، بل عللوا بما ليس علة، فقال القرافي: الظفر يخنق ولا يذبح، أو يكون ذكر الحبشة تنبيها.

ص: 278

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الذبح بالسن أو الظفر لا يجوز، ولو كانا منزوعين (1)

وواضح أن قول أبي حنيفة ومالك أولى بالصحة، لأنه لو كان التحريم لمجرد كون آلة الذبح من مدى الحبشة لوجب تجنب كل نوع من أنواع المدى استعملوه ولو كان من حديد، وهو ما لم يذهب إليه عالم.

وأما سائر العظام فإن كانت محددة جاز الذبح بها عند جمهور العلماء، ولعل السر ما ذكره ابن حجر في الفتح أن جملة " أما السن فعظم

إلخ " زيادة من الراوي مدرجة وليست من أصل الحديث (2) وقال ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : "العلة في النهي عن الذبح بالعظم تنزيهه عن التنجس بالدم، لأنه زاد الجن، كما نهي عن الاستنجاء به، فعلى هذا واضح عدم حرمة المذبوح به"

(1) المغني: 8/ 574؛ واقتضاء الصراط المستقيم، ص 113؛ وشرح فتح القدير: 9/ 496؛والدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 107؛ والذخيرة للقرافي: 4/ 131؛ والكافي: 1/ 429

(2)

فتح الباري: 9/ 672

ص: 279

رابعا: شرط النية والقصد:

قال المالكية: المراد بالنية أن يكون قصده عند الذبح أو النحر التذكية، أو ينوي ذبحها أو نحرها لتحل، أما إن كان قصده بما فعله مجرد إزهاق روح الحيوان، أو مجرد جرحه فمات، فإنه لا يحل بذلك، كما لو صال عليه حيوان فضربه أو قطع عنقه لمجرد اتقاء شره، دون أن يقصد التذكية، فلا يحل بذلك، لأن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1)

وينكر الإمام الشافعي ذلك، ويقول ما نصه:"لو أن رجلا أخطأ بشاة له فذبحها لا يريد ذكاتها، أو أخذها بالليل فحز حلقها حتى أتى على ذكاتها، وهو يراها خشبة لينة أو غيرها، ما بلغ علمي أن يكون هذا محرما عليه "، ثم أطال القول في صور (متفاحشة) تلزم من اشترط النية، ثم قال:"النية أولى أن لا تكون في الذبائح والصيد تعمل شيئا، والله أعلم ".

على أن الشافعية لا يخالفون في أنه لابد للتذكية من فعل فاعل، فلو وقعت الشاة على سيف أو سكين فقطع مذبحها لم تحل (2)

والراجح أن قصد التذكية معتبر ولابد منه.

(1) الشرح الكبير للدردير؛ وحاشية الدسوقي: 2/ 106، 107

(2)

الأم: 2/ 260؛ والقليوبي وشرح المنهاج للمحلي الشافعي: 4/ 240، 245

ص: 280

خامسا: شرط التسمية على الذبيحة:

التسمية على الذبيحة أن يذكر الذابح اسم الله تعالى، بأن يقول:(باسم الله)، أو يقول:(باسم الله والله أكبر) وهو الأفضل، وقد ورد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم"ذبح في العيد كبشين، فسمى وكبر)) (1) وقد أمر الله تعالى بذلك في نحر البدن في الحج فقال. {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وأمر بذلك فيما يؤكل من اللحوم فقال: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] ومن أوضح ما يستدل به على أن ذلك شرط في الحل قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]

ومن هنا ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الذابح إذا ترك ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة متعمدا لم يحل للمسلم أكل لحمها، وإن ترك التسمية وهو ساه أو ناس وهو ممن شأنه أن يسمي الله تعالى، لكنه نسي، فإنها يجوز أكلها، وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) وحملوا الآية المتقدمة {وَلَا تَأْكُلُواْ} على التارك المتعمد. وإلى هذا ذهب الإمامان أبو حنيفة ومالك، وهو المشهور عن الإمام أحمد.

(1) ونقله صاحب (الكافي) عن بعض أهل المدينة.

ص: 281

وذهب الشافعية، وروي مثله عن الإمام أحمد، ونقله الدسوقي عن ابن رشد، وقاله الخطابي أيضا في (معالم السنن) في شرحه لحديث:"سموا الله عليه أنتم وكلوه "، قالوا: إن من ترك التسمية متعمدا فذبيحته حلال أيضا، وإنما التسمية مستحبة فقط، قالوا:"لأن اسم الله على كل مسلم "، وذكروا ما رواه الإمام الدارقطني عن ابن عباس قال:"إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فيأكل، فإن المسلم فيه من اسم الله " قال: وأما قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فهذه نزلت في أكل أعراب الجاهلية للميتة. روى أبو داود وغيره بسنده عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} قال ابن عباس: يقولون: "ما ذبحه الله- أي الميتة-فلا تأكلونه، وما ذبحتموه أنتم فتأكلونه!! "، وروي من طرق أخرى عن ابن عباس.

قال ابن رشد: "معنى التسمية هنا قصد التذكية: أي لا تأكلوا الميتة التي لم تقصد ذكاتها، قال: ومثله رمي الجمار: قال الله فيه {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] كنى بالذكر عن رمي الجمار، للمصاحبة بينهما" ا. هـ. وذكر ابن كثير أن هناك قولا ثالثا منسوبا إلى الإمام مالك، وهو رواية عن أحمد، أن متروك التسمية لا يحل، سواء تركت عمدا أو نسيانا، لظاهر الآية، وذهب إلى هذا القول أيضا داود الظاهري وأبو ثور، وذهب إليه أيضا الشيخ أبو الأعلى المودودي، وقال: إنه مروي عن ابن عمر ونافع مولاه ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي.

ص: 282

ويتأيد هذا القول بحديث الصحيحين عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)) ، وحديث الصحيحين أيضا عن عدي بن حاتم، وقريب منه عن أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصيد:((إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله تعالى عليه فكل ما أمسك عليك)) . فشرَطَ التسمية (1)

وأرجح الأقوال أن ما تركت التسمية عليه عمدا لا يؤكل، وأن ما تركت التسمية عليه سهوا ونسيانا يؤكل، عملا بظاهر الآية والأحاديث الدالة عليه، وضعف الأدلة التي اعتمد عليها الشافعية.

وقد عني ابن كثير شيخ التفسير بالأحاديث الواردة في هذه المسألة، فجمعها في رسالة ذكر فيها مذاهب الأئمة، ومآخذهم، وأدلتهم، ووجوه الدلالات، والمناقضات والمعارضات.

ملاحظة: في الكتب المذهبية الشافعية وكثير من كتب الفقه المقارن: ينسب إلى الإمام الشافعي أن قوله في هذه المسألة إباحة ذبيحة تارك التسمية متعمدا، كما نقلناه عنهم آنفًا، لكن الذي وجدته في كتاب (الأم) له يدل صراحة على أن قوله غير ذلك، وأن المتذكر عنده لابد له من التسمية، وذلك حيث يقول في أول كتاب الصيد والذبائح من الأم ما نصه:"إذا أرسل المسلم كلبه المعلم أحببت له أن يسمي، وإن لم يسم ناسيا فقتل أكل، لأنه إذا كان قتله كالذكاة، فهو لو نسي في الذبيحة أكل، لأن المسلم يذبح على اسم الله عز وجل وإن نسي ".

وعلى هذا فإن تحقيق مذهب الشافعية في هذه المسألة بحاجة إلى بحث.

(1) المغني، لابن قدامة: 8/ 565 تفسير أبي كثير عند الآية من سورة الأنعام؛ الأم للشافعي: 248/2؛ والقليوبي وعميرة: 4/ 263؛ وشرح فتح القدير: 9/ 489؛ والاختيار لتعليل المختار: 5/ 9؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 156، والكافي لابن عبد البر: 1/ 428؛ وفتح الباري: 9/ 624؛ وذبائح أهل الكتاب للمودودي، ص 18-24

ص: 283

سادسا: شرط أن لا يذكر عند التسمية غير الله تعالى، وأن لا يقصد الذبح لغير الله:

لا تحل الذبيحة إن ذكر اسم غير الله تعالى استقلالا، كأن قال: باسم الشمس، أو القمر، أو النبي، أو الولي الفلاني، أو ملك أو جني أو غير ذلك، فإن فعل لم تحل، وكذا لو ذكر اسم الله واسم غيره معًا، كأن قال باسم الله واسم محمد رسول الله، وذلك لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] والإهلال رفع الصوت بذكر اسم المذبوح له، ولقول الله تعالى:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} [الزمر: 3]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لعن الله من ذبح لغير الله)) (1) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "جردوا التسمية".

ولا يمنع ذلك من أن يقول بعد التسمية: "اللهم تقبل مني، أو من فلان "، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذبح كبش:((اللهم هذا عن محمد وأهل بيته)) ، وقال بعد ذبح الآخر:((اللهم هذا عن أمة محمد ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ)) (2) .

وقال مالك: لا يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مع التسمية على الذبيحة، والشافعي قال: يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مع التسمية على الذبيحة (3) .

إما إن لم يذكر اسم غير الله، ولكن قصد الذبح له، فقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد فيها روايتين أشهرهما التحريم، وبه أخذ ابن تيمية، وقال: هما سواء، وأطال في الاستدلال لذلك، ولعله المدلول الصريح لحديث:((لعن الله من ذبح لغير الله)) ؛ لأن اللام التعليل الدالة على النية والقصد.

(1) حديث (لعن الله من ذبح لغير الله) أخرجه مسلم وأحمد والنسائي، من رواية علي رضي الله عنه.

(2)

شرح فتح القدير: 9/ 492؛والاختيار: 5 / 10

(3)

الأم: 2/ 263

ص: 284

وفرق المالكية بين أمرين، فقالوا: إنْ قصد جعل الذبيحة قربانا لعيسى أو الصنم أو الصليب لم تؤكل، وإن ذبحها للحم لكن ذكر عيسى لينتفع عيسى عليه السلام بثوابها جاز أكلها مع الكراهة، كما لو ذبح مسلم لولي من الأولياء قاصدا إهداء الثواب إليه، وفي كلام المالكية هنا اختلاف واضطراب (1)

على أنه لا ينبغي إقرار ما يفعله بعض المسلمين من الذبح (لولي) من الأولياء، لأن كثيرا من العامة لا يفرقون بين الذبح تقربا إلى الولي لينتفع بقدرات الولي على النفع أو الضرر وإعطاء المال والولد، أو ليقربه الولي إلى الله زلفى، وهو من الشرك الذي نص عليه القرآن العظيم، وبين الذبح له بنية إهداء الثواب إليه، بل هو يذبح للولي لينفعه الولي، على طريقة أهل الجاهلية في الذبح لأصنامهم.

أهل الكتاب هل يشترط في ذبائحهم ما يشترط في ذبائح المسلمين؟

الأصل في ذبائح أهل الكتاب أن يعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في ذبائح المسلمين، لكن وقع الخلاف بين الفقهاء في مسائل تتعلق بذلك، منها:

- التسمية: فإن سموا الله تعالى ولم يسموا غيره فالذبح صحيح.

وإن لم يسموا الله تعالى؛ فإن كانوا ممن يسمي الله، ولكن الذابح نسي جاز، كما تقدم في حق المسلمين، وإن سموا غير الله على الذبيح، ففي المسألة ثلاثة أقوال:

(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 101، 102؛والذخيرة: 4/ 135؛ واقتضاء الصراط المستقيم، ص 251-258

ص: 285

الأول: أنها محرمة كما لو تعمد المسلم ترك التسمية، أو ذكر عليها اسم غير الله، وهذا قول الحنفية والشافعية والحنابلة، أخذا بدلالة الآية:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3]

الثاني: أنها حلال، وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول، استدلالا بقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، قالوا: أباح الله تعالى لنا طعامهم وهو يعلم ما يقولون. (1)

الثالث: وهو للمالكية، أن التسمية لا تشترط من الكتابي، لكن إن سمي غير الله حرمت (2)

وواضح أن منشأ الخلاف تعارض العمومين: عموم آية {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} وعموم آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]

وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية قول التحريم، لأن عموم آية {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة: 3] محفوظ لم يخص منه شيء (3) بخلاف الآية الأخرى، وهو الصحيح، لأن ما ذكر عليه اسم غير الله تعالى داخل في الآية قطعاً، ولا فرق بين من ذبح باسم هبل أو اسم الزهرة، وبين من ذبح باسم المسيح.

(1) المغني

(2)

الشرح الكبير، للدردير، بهامش حاشية الدسوقي: 2/ 102

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم.

ص: 286

حكم ذبيحة النصراني أو اليهودي إن جهل أنه سمي أو لم يسم:

ما جهل من ذبائح اليهود والنصارى أنه سمي عليه أم لم يسم، ذهب بعض العلماء، ومنهم الزهري، إلى أنه حلال، قال الزهري:"إن سمعته يهل لغير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله وهم على كفرهم ". (1) ومن قال إنه لا تعتبر التسمية من الكتابي أصلا ولو علم ذلك، وهم المالكية، فالمجهول أنهم سموا عليه أم لم يسموا أولى بالإباحة، وكذلك من قال إن التسمية ليست شرطا في حق المسلم كالشافعية، فكذلك الكتابي عندهم.

وهذا هو المرجح عندي، كما يأتي في حق المسلمين أن الله تعالى لم يكلفنا الاطلاع والتحقق من وجود التسمية فعلا، ولو كلفنا ذلك لكان تكليفًا فيه كل الحرج والعنت، ولما حل لإنسان أن يأكل لحمًا لم يسمع ذابحه وهو يقول:(باسم الله والله أكبر) . وإنما يكتفي في ذلك بالأمر الظاهر.

على أن هذه المسألة في هذا العصر لا تأثير لها بالنسبة إلى المستورد من اللحوم من بلاد أهل الكتاب، فإن النصارى الآن لا يذكرون الله ولا المسيح ولا غيره على الذبائح، بل يذبحون للحم فقط، فالتسمية أمر بعيد عن أذهانهم كل البعد.

(1) اقتضاء الصراط المستقيم.

ص: 287

سابعا: شرط أن لا يكون مما ذبح على النصب:

حرم الله تعالى لحم {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، والنصب: مفرد جمعه أنصاب، وقيل: النصب جمع نصيبة، وفسرها صاحب القاموس بأنها حجارة كانت تنصب حول الكعبة يذبح عليها، وقال صاحب اللسان: هو كل ما نصب فعبد من دون الله تعالى. وهذا صحيح، فقد كان بعض العرب إذا لم يجد صنما يعبده نصب حجرا فعبده، والحمد لله الذي أنقذ العرب من هذا ببعثه محمدًا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه جميعا.

فلو تصور أن يقع هذا في العصر الحاضر من بعض القبائل الضاربة في التوحش والجهالة، أو التي تزعم التمدن والرقي والعراقة، كان حراما ولم يحل لمسلم أن يأكل منه.

على أن الملاحظ أن فقهاء الشريعة لم يعرضوا في كتبهم الفقهية الشاملة لهذا النوع من الذبائح، ولعلهم رأوه داخلا فيما ذكره الله تعالى في أول الآية نفسها، وهو ما أهل به لغير الله. وقد نقل القرطبي عن جابر بن زيد أبي الشعثاء تلميذ ابن عباس أنه قال:"ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد"، وقال ابن عطية المفسر:"ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله "(1)

إلا أننا نرى أن إفراد الله تعالى لهذا النوع عنوانا خاصا يقتضينا أن نفرده أيضا من أجل لفت أنظار المؤمنين إليه.

وعلى هذا لا يحل للمسلم أن يقصد حجراً معينا، أو كومة أحجار، أو قبرا، أو شيئا مبنيا، أو علم دولة، أو صورة ملك أو شيخ، فيذبح عليه من أجل أن فيه نفعًا، أو أنه يرى فيه نفعا، أو يخشى منه ضررا، أو يذبح عنده تعظيما لصاحبه أو تقربًا إليه.

والذبح عند القبور جعله ابن تيمية شبيها بما كان يفعله أهل الجاهلية، كانوا إذا مر أحدهم بقبر من يعظمه عقر ناقته عنده، وقد أخرج أحمد وأبو داود حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:((لا عقر في الإسلام)) ، قال عبد الرزاق:"كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقال: كره أحمد أكل لحمه ". (2)

(1) تفسير القرطبي: 6/ 57

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم، ص 381

ص: 288

هل يشترط أن لا يذبح الحيوان في مكان يعبد فيه غير الله تعالى:

هذا نوع ورد التنبيه إليه في بعض الأحاديث النبوية، وله شبه بما تقدم. ومرادنا حديث أخرجه أبو داود عن ثابت بن الضحاك: أن رجلا قال: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا، قال:((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا، ((قال فأوف بنذرك)) ، وأخرجه أبو داود من رواية ميمونة بنت كردم، وفيه أن أباها كردما هو السائل صاحب الواقعة، وأنه نذر أن يذبح غنما، وأخرج قريبا منه ابن أبي شيبة ومسدد.

قال ابن تيمية: هذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم وأوثانهم معصية، لما في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا وفاء لنذر في معصية الله)) (1) .

إلا أننا نقول: إن في رواية الحديث عند مسدد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسائل: الصنم؟ الوثن؟ ، قال السائل: لا، قال: فأوف بنذرك، فدلت هذه الرواية على أن المسؤول عنه الذبح لصنم أو وثن، لا الذبح في مكان فيه، أو كان فيه صنم أو وثن، وإنما قلنا هذا ليستقيم فهم الحديث مع القواعد المعلومة من سائر الأحاديث.

ومما يؤكد صحة هذا أن بوانة مذكورة في كتب الأصنام، وأنه كان فيها في الجاهلية صنم يقال له (صنم بوانة) وورد ذكره عند ابن كثير في تاريخه (2) من رواية ابن سعد بسنده، ولذلك نرى أن هذه الرواية أرجح، وأن المنع كان لمن أراد أن يذبح للوثن، لا لمن يذبح بمكان كان فيه صنم.

على أننا مع ذلك نرى أن الذبح في مثل ذلك المكان ينبغي أن يكون مكروها فقط، أو محرما من باب سد الذرائع فقط، وذلك حيث يخشى إعادة شرائع الكفر والوثنية وشعائرهما، والله أعلم.

(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 187-189

(2)

البداية والنهاية: 2/ 240

ص: 289

ثامنا: الشروط في موضع ما يقطع من الحيوان بالذبح:

التذكية تكون بقطع مقدم عنق الحيوان بمحدد، فإن كان في أعلى العنق فهو الذبح، وإن كان بطعنه في الوهدة التي في أسفل العنق فهو النحر. والنحر يكون للإبل، فهو فيها أفضل، والذبح لغيرها من بقر أو غنم أو أرنب أو طير أو غير ذلك.

ويجوز الذبح أيضا في وسط الحلق: نص عليه الحنفية، كما في شرح فتح القدير، لابن الهمام، حيث قال: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذكاة بين اللبة واللحيين)) .

وقد أوجب المالكية في الإبل ونحوها النحر، وفي الغنم الذبح، إلا

في حال الذكاة الاضطرارية، وأجازوا الأمرين في البقر.

ولا تصلح التذكية في غير مقدم العنق، فلو طعن في الصدر أو الفخذ

أو أي جزء من الحيوان فمات من ذلك لم يؤكل ويكون ميتة.

قال ابن قدامة: "الذبح أو النحر في الحلق أو اللبة، ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع ". واستدل بقول الإمام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:"النحر في الحلق واللبة لمن قدر"، قال ابن قدامة:"نرى أن الذكاة قد اختصت بهذا المحل لأنه مجمع العروق، فتنفسح بالذبح فيه الدماء السيالة، ويسرع زهوق النفس، فيكون أخف على الحيوان المذبوح وأطيب للحم ".

على أنه روي ما يخالف ذلك، وهو ما أخرجه الخمسة عن أبي العشراء عن أبيه عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه سئل:((أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؛ فقال: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك)) ، إلا أن سند هذا الحديث غير صحيح؟ لأن أبا العشراء أعرابي مجهول، قاله ابن حجر في تقريب التهذيب، وقاله قبله الإمام أحمد، كما في المغني، ومن قواه حمله على الذكاة الاضطرارية كما ذكره أبو داود في (السنن) .

ص: 290

والحد الأعلى لما يجوز الذبح فيه من العنق هو ما تحت الجوزة المسماة (الغلصمة) وهي العقدة التي يجتمع فيها الحلقوم والبلعوم، فإن القطع يكون تحتها بحيث تبقى مع الرأس، فلو ذبح من فوقها لم تؤكل الذبيحة وقيل تؤكل (1) .

ويستثنى من قضية اشتراط قطع مقدم العنق في التذكية أمران:

الأول: الصيد بالجوارح، من طير أو كلاب، أو غيرها، أو بالآلات الحادة كالسهام والحراب، لقوله تعالى {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] لأن من الجوارح ما تتعمد قطع مقدم عنق الصيد، ومنها ما تقتل بغير ذلك، والسهام ونحوها لا تصيب ذلك الموضع، ومع ذلك أحل الله ما صيد بهذه الطرق.

الثاني: ما يسمى التذكية الاضطرارية، وهي تكون في حال الاضطرار فقط، أي فيما ندَّ من الحيوان فلم يقدر عليه إلا برميه، ولا بد من ذكر الله عند الرمي، وكذا لو وقع بعير أو ثور في بئر وخيف موته، ولم يتمكن من ذبحه أو نحره، فيكفي طعنه في أي مكان من جسده مع ذكر اسم الله عند الطعن.

وهي رخصة شرعية أبيحت للاضطرار، لئلا يفقد المالك مالا محترما أن يضيع فلا ينتفع به.

ومن هذا الباب ذكر الحنفية أنه لو صال عليه ثور أو نحوه، ولم يمكنه دفعه، فطعنه بعد أن سمي ونوى، فهي تذكية شرعية.

(1) المغني: 8/ 575؛والشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 2/ 99، 107

ص: 291

والقول بجواز التذكية الاضطرارية على الوجه المبين هو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، ويخالف فيه المالكية، ويرون أن ما كان كذلك فذكاته بالذبح فقط إن كان مما يذبح، وبالنحر فقط إن كان مما ينحر، وعليه لو طعنه في فخذه أو ظهره فمات من ذلك فهو ميتة.

ولا يخفى أن مذهب الجمهور أصح وأولى بالاتباع، ثم قد قال صاحب المغني من الحنابلة:"إن كان رأس الحيوان المتردي في الماء، فلا تبيحه التذكية الاضطرارية، لأن الماء يعين على قتله "(1)

ما يجب قطعه من الحيوان بالذبح أو النحر:

أكمل ما يكون الذبح بقطع أربعة أشياء: الودجين والمريء والحلق.

(1) فتح القدير: 9/ 486، 497، 498؛ والمغني: 8/ 567؛ والكافي في فقه المالكية:1/ 428؛ والذخيرة، للقرافي: 4/ 134 والأم، للشافعي: 2/ 257، 260؛ والقليوبي على شرح المنهاج: 2/ 242

ص: 292

وقد اختلف العلماء في أقل ما يجزئ قطعه من ذلك، على أقوال:

ا- أنه يجزئ قطع الحلقوم والمريء، ولو لم يقطع الودجين، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، لأن الحياة لا تبقى مع هذا القطع، قال الشافعي - كما في الفتح-: "ولا يشترط قطع الودجين لأنهما قد يسلان من الإنسان وغيره ويعيش، والمريء والحلقوم إذا قطعا لم يعش طرفة عين (1)

2-

أنه يجب قطع الأربعة، وهو قول أبي يوسف.

3-

أنه يجب قطع الحلقوم- وهو مجرى النفس- والودجين، هكذا في كتب المالكية، والنقل عنهم في كتب غير المالكية مضطرب.

4-

أنه يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين، وهو قول أبي حنيفة، واحتج له بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أفر الأوداج بما شئت)) (2) قالوا: و (الأوداج) جمع وأقله ثلاثة، لكن قال صاحب العناية: الأوداج لا تشمل الحلقوم أصلا، وهو الصواب.

5-

أنه يجزئ قطع الودجين، وهما عرقا الدم المحيطان بالحلقوم، اللذان يجري فيهما الدم المغذي للرأس والدماغ، ولا يشترط قطع الحلق والمريء، وهو قول سفيان الثوري، وقال البخاري: قال عطاء: الذبح قطع الأوداج (3) وروى مالك في الموطأ بلاغا عن ابن عباس قال: ما أفرى الأوداج ذكي به، ورواه الشافعي في (الأم)(4) .

(1) انظر نص الشافعي بكامله في الأم: 2/ 259؛ وفي فتح الباري

(2)

حديث " أفر الأوداج بما شئت"أورده صاحب الهداية من الحنفية، ولم يذكر من أخرجه

(3)

المغني: 8/ 567؛ والأم: 2/ 259؛ وشرح المنهاج بحاشية القليوبي: 4/ 242؛ والذخيرة للقرافي: 4/ 133، 134؛ وفتح الباري: 9/ 640- 642؛ وشرح فتح القدير: 9/ 493، 494

(4)

الأم للشافعي: 2/ 255؛ وتنوير الحوالك

ص: 293

وعندي أن الصواب هو هذا الوجه الخامس، لأنه الذي يخرج به الدم، ويمتنع وصوله إلى الدماغ، فيموت الدماغ ثم سائر البدن، أما القول بأن قطع الحلقوم والمريء يجزئ، أو أنه لابد منه، فهو بعيد عندي عن الصواب، لأن قطع الحلقوم وهو مدخل الهواء، وقطع المريء وهو مدخل الطعام؛ لا تنتهي به الحياة، بل يعيش الحيوان بعده مدة تطول أو تقصر، بل قد يعيش الإنسان سنين وحلقه مقطوع ومريئه مقطوع، وقد عرف ذلك في علم الطب قطعًا، والأطباء يعرفون ذلك، وهذا إن جرى مقاومة الإنتان، وجرت تغذية المريض من خلال فتحة المريء، أو من فتحة في جدار المعدة.

أما القول بأن حياة الإنسان والحيوان تستمر بعد سل الودجين- كما قال الإمام الشافعي، ونقلناه عنه فيما تقدم- فهو قول لا تسنده المعلومات الطبية بوجه من الوجوه، وكذلك ما قاله كثير من الفقهاء الذين اشترطوا قطع الحلقوم من أن الحياة لا تبقى بعده لحظة لانقطاع النفس فهو مجرد خيال.

وعلى هذا فينبغي انتهاء الخلاف الفقهي حول هذه المسألة، بل تكون العبرة في صحة الذبح بقطع الودجين فقط، ولا يجوز الاكتفاء بقطع المريء والحلق، وأيضا لا حاجة إلى قطعهما مع قطع الودجين.

غير أنه في التطبيق العملي عادة ينقطع الحلقوم بقطع الودجين، لشدة التقارب والالتصاق بينه وبين الودجين، وكونه واقعا بينهما متقدما عليهما إلى الأمام، فلا يمكن قطعهما في الأحوال العادية إلا بقطعه، وهذا وجه اشتراط المالكية قطعه، كما صرحوا به.

ص: 294

رأي الشيخ محمد رشيد رضا:

ذهب الشيخ محمد رشيد رضا إلى رأي غريب عن العلم الإسلامي الشرعي كل الغرابة، فهو يرى أن كل وسيلة يمكن بها إزهاق روح الحيوان بيسر وسهولة تكفي في إحلال لحمه للمسلم، ونحن ننقل نصه ليتم تصور مراده بوضوح، قال عفا الله عنه: "لما كانت التذكية المعتادة في الغالب لصغار الحيوانات المقدور عليها هي الذبح كثر التعبير به، فجعله الفقهاء هو الأصل، وظنوا أنه مقصود بالذات لمعنى فيه، فعلل بعضهم مشروعية الذبح بأنه يخرج الدم من البدن الذي يضر بقاؤه فيه؛ لما فيه من الرطوبات والفضلات، ولهذا اشترطوا قطع الحلقوم والودجين والمريء على خلاف بينهم في تلك الشروط، وإن هذا لتحكم في الطب والشرع بغير بينة، ولو كان الأمر كما قالوا لما أحل الصيد الذي يأتي به الجارح ميتا.

والصواب أن الذبح كان ولا يزال أسهل أنواع التذكية على أكثر الناس، فلذلك اختاروه، وأقرهم الشارع عليه، لأنه ليس فيه من تعذيب الحيوان ما في غيره من أنواع القتل، كما أقرهم على صيد الجوارح والسهم والمعراض ونحو ذلك، وإني لأعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لو اطلع على طريقة للتذكية أسهل على الحيوان ولا ضرر فيها كالتذكية الكهربائية- إن صح هذا الوصف فيها- لفضلها على الذبح، لأن قاعدة شريعته أنه لا يحرم على الناس إلا ما فيه ضرر لأنفسهم أو غيرهم من الأحياء، ومنه تعذيب الحيوان بالوقذ وغيره ". (1)

وهذا الرأي من الشيخ محمد رشيد رضا لا نقول فيه إلا أنه (زلة من زلات العلماء) ولكل جواد كبوة، ولن نتوقف عنده لنرد عليه، إذ يمكن لكل طالب علم أن يرد عليه بالنصوص الواضحة من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم وكل ما يمت إلى الإسلام بصلة.

ونقول: غفر الله للشيخ رشيد ورحمه، فقد جاهد في سبيل نشر دعوة الإسلام، واستنفد عمره في ذلك بما يغطي هذه الزلة ويفيض عنها أضعافًا مضاعفة، ولا نعلم أحدا من معاصريه ولا من بعدهم قبلها منه، والحمد لله فإن الحق أبلج.

(1) تفسير المنار: 6/ 120- نقلا عن كتاب (حكم اللحوم المستوردة) للدكتور محمد أبو فارس، ص (35، 36، 50)

ص: 295

التوقف في الذبح عند حد العظم:

يحسن من الذابح أن لا يتجاوز في الذبح قطع الودجين، فإن تجاوز حتى شرع في العظم، أو دخل بالسكين حتى قطع (النخاع) وهو الحبل العصبي الذي في داخل الفقرات، والممتد من الدماغ حتى العصعص، وتتفرع منه أعصاب الحس إلى سائر البدن؛ كره له ذلك، ولم تحرم الذبيحة.

ووجه ما قلناه أمور:

ا- عدم الحاجة إليه، ففيه إيلام بلا فائدة، كما قاله الحنفية في الذبح من القفا، كما يأتي.

2-

أنه مخالف للصفة الواردة في الذبح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

3-

أنه ورد النهي عنه من بعض الصحابة، روى البخاري قال:"قال ابن جريج، عن عطاء: الذبح قطع الأوداج. قلت: فيخلف الأوداج حتى يقطع النخاع؟ قال: لا إخال. وأخبرني نافع أن ابن عمر نهى عن النخع، يقول: يقطع ما دون العظم، ثم يدع حتى يموت "(1)

4-

من حيث المعنى: فإنه إذا ترك النخاع سليما فإن التواصل بين الدماغ والقلب يبقى مستمرا، وهذا في تقديري يعطي الفرصة لاستمرار حركة القلب بإشارة الدماغ عبر النخاع، فيستمر ضخه للدم، فيخرج منهرا شخبا من الودجين المقطوعين، وذلك يؤدي إلى تفريغ جميع عروق البدن من الدم بأسرع ما يمكن، وتنتهي حياة الذبيحة في دقيقة أو أقل، أما إن قطع النخاع فذلك يضعف تدفق الدم أو يوقفه، لأنه يوقف الدورة الدموية كما تذكره بعض الكتابات في هذا الموضوع، وبذلك لا يخرج من دم الذبيحة إلا نسبة ضئيلة، لكن إثبات هذا أو نفيه يتوقف على قول أهل الخبرة.

(1) فتح الباري: 9/ 640

ص: 296

سلخ الحيوان أو تقطيعه قبل أن تزهق روحه:

يجب على الذابح أن يتمهل على الذبيحة، ولا يعجل بسلخها أوكسر عظم فيها، أو قطع عضو منها، ما لم تسكن حركتها تماما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى أن تفرس الذبيحة حتى تموت)) وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا تعجلوا الأنفس أن تزهق)) (1)

شريطة الشيطان أو ذبيحة الشيطان:

مقتضى ما تقدم من اشتراط قطع الودجين في الذكاة أنه لو قطع الذابح الجلد من مقدم العنق ولم يقطع الودجين، كما يقع من بعض من لا يحسنون الذبح، أو ممن استعمل آلة كالة (غير حادة) فلم يتمكن من قطع الودجين، ثم ترك الذبيحة حتى تموت من ذلك، فإنها لا تحل، وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة مرفوعا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان "، وفي رواية:

"عن ذبيحة الشيطان "(2) وفي سنن أبي داود: هي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت.

قطع رأس الذبيحة هل يكون ذبحا شرعيا؟

قطع عنق شاة أو بطة بضربه بسيف أو سكين فأطار رأسها بنية التذكية، فقد أفتى الإمام أحمد أنها تذكية صحيحة، ونقل مثل ذلك عن أبي حنيفة والشعبي والثوري، واستدل لذلك بأن عليا رضي الله عنه سئل عن ذلك فقال:"تلك ذكاة وَحْيَة"، أي سريعة، وأجازه ابن عمر وعمران بن حصين وأنس، كما في المغني وفتح الباري (3) .

(1) رواه الدارقطني

(2)

أخرجه أبو داود: 3/ 18؛وأحمد: 1/ 292

(3)

انظر فتح الباري: 9/ 641؛ والمغني: 8/ 578

ص: 297

ذبح الحيوان من قفاه:

لو ذبح الحيوان من قفاه، فإن لم يصل إلى الودجين وماتت الذبيحة من ذلك لم تحل. وإن أسرع في القطع حتى وصل إلى الودجين، فقطعهما وبالحيوان حياة مستقرة، فهي مثل ما ذكرناه في قطع الرأس.. ويصرح الحنفية بكراهة الذبح من القفا، لأن فيه زيادة إيلام (1) ومذهب المالكية أن ما كان ذبحه كذلك لا يؤكل، ذكره في الكافي (2)

النحر في الإبل والذبح في الغنم والبقر:

الوضع الأمثل هو ذبح الحيوان من الغنم والبقر وغيرهما- ما عدا الإبل- من مقدم العنق من أعلاه، وهو الموافق لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، والأفضل في الإبل النحر، وهو الطعن بحربة في الوهدة التي في أصل العنق (3) لقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: نحر بدنه ، وفي حديث الأضحية:((ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين ذبحهما بيده)) والأحاديث في ذلك كثيرة.

ولو ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح، فالجمهور على جوازه، وكرهه الإمام مالك، كما في المغني، وفي فتح الباري (4) : منعه ابن القاسم. وبهذا أخذ خليل في مختصره وشارحوه، حتى قال الدردير:"إن نحر الغنم أو الطير ولو سهوا لم يؤكل، لكن صرح ابن عبد البر في الكافي أنه لا يؤكل كراهة لا تحريما". (5)

وقد صرح الحنفية بأن كل ما بين اللبة واللحيين موضع للذبح المشروع، وصرح به الشافعي في (الأم)(6)

(1) المغني: 8/ 578، 579

(2)

الكافي، ص 428؛ والأم: 2/ 262؛ وشرح المنهاج، ص 243

(3)

وليس صحيحا ما قاله القرافي في الذخيرة من أن اللبة وسط الصدر، وأن نحر الإبل يكون بطعنها في جوفها. فهو إما خطأ أو قصور في العبارة

(4)

فتح الباري: 9/ 641؛ والمغني: 8/ 577

(5)

الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 2/ 157؛ والكافي: 1/ 427

(6)

فتح القدير: 9/ 486؛والأم: 2/ 263

ص: 298

المبادئ العامة التي قصدتها الشريعة الإسلامية في الذكاة:

نستطيع أن نلخص المبادئ الأساسية التي راعتها الشريعة الإسلامية في مجال إزهاق روح الحيوان من أجل اتخاذه طعاما للآدميين، وذلك باستعراض ما وردت النصوص الشرعية، في الكتاب والسنة فيما يتعلق بذلك، مما أوردناه في هذا البحث، ومن التوجهات الفقهية لدى علمائنا، وهي كما يلي:

المبدأ الأول: أن الحيوانات البرية لا يحل أن تكون طعاما إلا بتذكية صحيحة، إلا في حال الاضطرار، وهو الجوع الشديد الذي لا يجد معه الإنسان طعاما حلالا، فيجوز له إذا خاف الهلاك أن يأكل الميتة أو غيرها من المحرمات بالقدر الذي يندفع به الضرر.

المبدأ الثاني: إخراج دم الذبيحة هدف أساسي من أهداف الذكاة، من أجل تطييب اللحم وإخراج الدم الخبيث، وكلما كان ما أخرج من دم الذبيحة أكثر فهو أفضل.

المبدأ الثالث: إراحة الحيوان عند الذكاة هدف مقصود، وهو من الإحسان الذي يحبه الله تعالى، وهذا ما لم يتعارض مع المبدأين السابقين، فكل ما فيه زيادة إيلام للحيوان مما يمكن الاستغناء عنه في الذكاة فإنه يكون مكروها شرعا.

المبدأ الرابع: أن إجراءات التذكية نوع من الشعائر الدينية الإسلامية يجب مراعاتها.

المبدأ الخامس: تعظيم الله تعالى بالذبح مع وجوب الحذر من تحول الذبح إلى وسيلة لعبادة غير الله تعالى.

المبدأ السادس: أن لا تستعمل أي طريقة للاقتدار على الحيوان وتسكينه وشل مقاومته يمكن أن يكون بها الحيوان عند ذبحه قد فارق الحياة أو فقد الحياة المستقرة.

ص: 299

الطريقة المثالية للذبح في الشريعة الإسلامية:

الطريقة المثالية للذبح هي المشتملة على سنن الذبح وآدابه، وتتلخص فيما يلي:

1-

تقدم الذبيحة إلى الذبح برفق، ولا يجرها برجلها إلى المذبح، ولا يقل الذابح: إنها ستفارقها الروح بعد قليل فما جدوى الرفق؟.

2-

أن يحضر السكين قبل أن يضجع الذبيحة، وينبغي أن تكون حادة، وأن تكون طويلة، ليكون إجهازها على الذبيحة أسرع، وإن احتاجت إلى شحذ فليشحذها قبل أن يضجع الذبيحة، ودليل هاتين السنتين ما رواه مسلم في كتاب الصيد من صحيحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) . و ((رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يضجع شاة وهو يحد شفرته، فقال: أردت أن تميتها موتات، هلا حددتها قبل أن تضجعها)) .

3-

لا يستعمل الصعق ونحوه، ويمكن استعمال التخدير، ويأتي الكلام في هذا بالتفصيل لاحقا.

4-

أن يضجع ذبيحته إن كانت شاة أو بقرة أو نحوها، على جنبها الأيسر، ليتمكن من ذبحها بيمينه، أما الإبل فيندب تذكيتها وهي قائمة، لقول الله تعالى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [لحج: 36] وجبت: أي وقعت، ويكون وجهها متجها إلى القبلة، ثم يضع قدمه اليمنى على صفحة عنقها ليتمكن منها، ويمسك رأسها بيده، ولا بأس أن يستعين بمن يساعده على تسكين حركتها، ثم يوضح موضع الذبح بإزاحة ما عليه من صوف أو شعر حتى تظهر البشرة.

ص: 300

5-

يقصد إلى مقدم العنق وأعلاه من جهة الرأس، فيضع السكين هناك، على أن ينزل قليلا، بحيث تبقى الغلصمة- وهي العقدة التي في أعلى الحلق- مع الرأس.

6-

يسمي الله تعالى قائلا: باسم الله والله أكبر، ثم إن كانت الذبيحة أضحية أو قربانا دعا الله تعالى بما ورد أو نحوه.

7-

يعتمد بالسكين على الموضع المحدد بقوة، ثم يحركها ذهابا وإيابا بسرعة وقوة.

8-

ينبغي أن لا يرفع يده قبل تمام الذبح، وأوجبه المالكية على تفصيل عندهم في ذلك (1)

9-

إذا أتم قطع الودجين ووصل القطع إلى عظم العنق يتوقف ولا يتجاوزه، فلا يفصل الرأس ولا يقطع العظم ولا النخاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت)) .

10-

لا يعجل بسلخ الجلد، أو بقطع أي جزء من الذبيحة، ولا بتغطيسها في ماء حار أو بارد إلا بعد أن تسكن حركتها تماما (2) .

(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 99؛ والكافي: 1/ 429؛ والذخيرة: 4/ 137، 138

(2)

انظر هذه السنن والآداب والمكروهات في شرح فتح القدير: 9/ 486؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 157- 109؛ والذخيرة: 4/ 138؛ وشرح المنهاج للمحلي بحاشيتي القليوبي وعميرة: 4/ 243

ص: 301

الفصل الثاني

الطرق التي تتبع في المسالخ العصرية لإزهاق أرواح الحيوانات

إن كثيرا من الدول تنشئ المسالخ في ضواحي المدن، ليجري ذبح الحيوانات المأكولة فيها، وتحظر على الناس أو تقيد حريتهم في أن يذبحوا حيوانات داخل بيوتهم وفي أماكنهم الخاصة، بهدف تقليل الآفات التي تنتشر بانتشار الأقذار والفضلات في الأمكنة الخاصة، وربما كانت المسالخ في بعض البلدان تتبع شركات متخصصة.

والمسالخ تطبق القواعد العلمية في جمع فضلات الذبائح والتخلص منها بحرقها أو تحويلها إلى مواد نافعة كالسماد، مع توقي مخاطرها التي قد تؤثر على حياة الناس وصحتهم، أو على البيئة.

والهيئات القائمة على المسالخ تكون أعرف وأقدر على ذلك من عامة الناس لو ترك للناس الخيار في الذبح في أي مكان حسب رغبتهم.

وتجمع من تلك الحيوانات والطيور في المسالخ أعداد كبيرة كل يوم، قد تصل الألوف وربما الملايين في كل مسلخ، ليجري تجهيزها، ثم شحنها إلى الأسواق.

وهذا الأمر يطرح مشكلات لم تكن معروفة، تحتاج إلى حلول شرعية تنفي الحرج، وتيسر أمر العمل في تلك المسالخ، مع المحافظة على التعليمات الشرعية في ميدان التذكية، لتنفذ أحكام الله تعالى وتكون كلمته هي العليا، فما حرمه يجب اجتنابه والتحول عنه إلى طريق الحلال.

والمشكلات التي تعرض العمل في الذبح في تلك المسالخ كثيرة؛ من أهمها أن ذبح الحيوانات الكبيرة كالإبل والبقر، وربما الغنم، يكون صعبا إن لم توجد طريقة ميسرة للسيطرة على الحيوان عند ذبحه، من أجل التمكن منه ومنع نفاره، وشل مقاومته، ولو لم تعمل بطريقة تيسر ذلك لكان من الصعب والشاق على العمال تنفيذ الذبح في الأعداد الكبيرة المطلوبة لحاجة المستهلكين، وربما عاد ذلك بتكلفة زائدة ترفع الأسعار إلى حد يرهق المستهلكين.

وكذلك في الطيور، كالدجاج الذي تذبح منه مئات الألوف بل الملايين في كل يوم، في كل بلد، فإذا لم يمكن السيطرة عليه بطريقة ما، فإنه عند الذبح يزعج العمال والمستخدمين برفرفته وصياحه، فلا يتمكنون من تنفيذ ما يطلب منهم، ويبطئ العمل، وذلك يرفع التكلفة كما قدمنا. ومن الأهداف التي تتوخاها المسالخ إراحة الحيوان، ليكون إزهاق روحه بدون أن يحس بالألم.

ص: 302

ومن هنا فإن الطرق التي يبحثون عنها تهدف إلى تحقيق هذين الأمرين معا:

الأول: إزهاق روح الحيوان بدون ألم.

والثاني: تيسير العمل من أجل تسريعه، لخفض التكلفة، وبالتالي تجنب رفع الأسعار.

وأكثر الطرق تعتمد لتحقيق ذلك: إفقاد الحيوان وعيه بأسلوب ما، ثم إجراء العمل على الجثة في أثناء فقدان الحيوان الوعي.

ولم تزل المسالخ تبحث عن أدوات لذلك تيسر لها العمل، وتطور تلك الأدوات، وخاصة في البلاد الأجنبية، سعيا وراء السرعة وكثرة الإنتاج وخفض التكلفة، قدر المستطاع.

وقد عرف الآن من الطرق المستخدمة لذلك أنواع، بعضها لا يقره الشرع، وبعضها جائز، والطرق المعروفة المستخدمة هي:

ا- الصعق الكهربائي.

2-

التدويخ بغاز ثاني أوكسيد الكربون.

3-

ضغط الهواء داخل صدر الحيوان حتى يختنق.

4-

التخدير.

5-

استعمال الآلات (الماكينات) السريعة لقطع الرأس، وخاصة في الطيور الداجنة.

ونحن نستعرض تلك الطرق واحدة واحدة:

ص: 303

أ- طريقة الصعق الكهربائي:

وتكون بتسليط التيار على الموضع الملائم من رأس الحيوان: وإذا حصل ذلك حصلت للمخ صدمة عصبية يفقد الحيوان على أثرها الوعي، وقد تكون قاتلة إن كان الضغط الكهربائي أعلى مما يطيقه الحيوان، فإن كانت ضعيفة فإنها لا تفقد الحيوان الوعي، ويتعذب الحيوان بها، حسبما نقدر. ولم نطلع على وصف علمي لهذه الطريقة، يبين أثرها على الحيوان من حيث مقدار إحساسه بالألم، ومن حيث المقارنة بين مقدار ما ينسفح من الدم إذا ذبح أثناء الصعق، وبين الدم الذي ينسفح إذا ذبح بدون صعق.

لكنا نقول: إن كانت الصعقة قاتلة فالحيوان موقوذ، وإن كانت مفقدة للوعي دون أن تقتل، فإن أدرك الحيوان بعدها فذبح على الطريقة الشرعية حل، وإن لم يذبح ولكن بدئ بسلخه وتقطيعه دون ذبح- وهو الذي نظن أن مسالخ بعض الدول الغربية تفعله- فإنه لا يكون حلالا، وإن كانت الصعقة ضعيفة لا تفقد الحيوان الوعي؛ ففي تقديري أن الآلام التي تصيب الحيوان بضربة التيار تكون مخيفة لا تحتمل، إلا أن يكون هناك طريقة فنية لتجنب الحيوان هذا الألم.

والقول بجواز استعمال هذه الطريقة في مسالخ البلاد الإسلامية ينبني عندي على تحقيق خمسة أمور:

ا- التحقق من أن هذه الطريقة ليست قاتلة، ولو لبعض الحيوانات، ويمكن معرفة ذلك بالتجربة، بأن تترك مجموعات من الحيوان بعد صعقها فلا تذبح، فإن عاشت ولم تمت حصل التحقق المذكور بعد إجراء عدد كاف من التجارب.

2-

التحقق من أنها لا تصحبها آلام للحيوان.

3-

التحقق من أن الصعق لا يحول دون تدفق الدم عند إجراء الذبح بعدها، ولا ينقصه عما يحصل إن ذبح الحيوان دون صعق.

4-

التحقق من أن الذبح يحصل فورا بعد الصعق وبالحيوان حياة مستقرة.

5-

أن يتحقق من عدم تأثير هذه الطريقة بحصول فساد في اللحم أو نقصان لطيبه.

فإذا حصل التحقق من هذه الأمور الخمسة بما يفيد الطمأنينة، وينقطع به الشك، جاز استعمال هذه الطريقة، إذ لا يوجد محذور شرعي، ولما فيها من الفوائد.

ص: 304

والفوائد كما يلي:

ا- إنهاء مقاومة الحيوان، مما يريح الذابح ولا يحتاج إلى استعمال العنف أو الآلات القابضة ذات الأثر القاسي التي قد تستعمل لإمساك الحيوان وتسكين حركته ليتمكن من ذبحه.

2-

كثرة الإنتاج مما يخفض التكلفة على المستهلكين.

على أننا نرى أن الأفضل عدم الأخذ بهذه الطريقة بالكلية، ولو بالذبح الشرعي اللاحق لها، لأن السيطرة على المسالخ لا يمكن أن تكون كافية في جميع الأحوال، بحيث تطبق الشروط بحذافيرها، ويفضي التساهل الذي لابد أن يحصل إلى إطعام المسلمين الميتات، فينبغي إغلاق الباب بالكلية سدا للذريعة.

ثم نقول: الاكتفاء بصعق الحيوان بهذه الطريقة وإعداده للاستهلاك البشري من دون أن يذبح، كما هو معمول به في بعض المسالخ في الدول الغربية، لا شك أنه محرم من جهة أنه ميتة، لأنه لم يذبح، وإماتته بهذه الطريقة شبيهة بخنقه، من جهة أن الدم يبقى محتقنا في العروق، وبذلك يسرع الفساد إلى اللحم.

وقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد فتحي الدريني أن أهل الدانيمارك رفعوا إلى حكومتهم شكوى لإبطال العمل بهذه الطريقة، لأنها تفضي إلى تعفن اللحم وتغير طعمه، كأثر للصدمة الكهربائية (1)

(1) بحوث مقارنة: 2/ 352

ص: 305

2-

طريقة المسدس أو الشاكوش، والبلطة، والمطرقة:

وهي تكون بأن يهوي الذابح بالبلطة على رأس الحيوان، فتتلف دماغه، أو يضربه في دماغه بالمسدس بحيث تدخل الطلقة في رأسه، فيفقد الوعي، وربما بقي قلبه ينبض دقائق قليلة بعد تلف الدماغ، وهي طلقة راجعة، والأكثر أنها تنطلق بقوة ضغط الهواء، أو يضربه على مؤخرة رأسه بين الأذنين بمطرقة أو مرزبة لا تهشم دماغه، ولكنها تفقده الوعي فورا.

رأينا في هذه الطريقة:

لاشك أنه إن اكتفي بذلك ولم يذبح الحيوان بعدها بالطريقة الشرعية، يكون من الميتة الموقوذة ولا تحل لمسلم، وكذا لو ذبح الحيوان بعد أن فارقته الروح.

وإن ذبح فورا بعد الضربة، ففي صحة الذبح شرعا شك من جهتين:

الأولى: أن هذا إنفاذ لمقاتل الحيوان، فالذبح بعدها لا يجزئ عند بعض الفقهاء، لأنه يكون قتل بسببين مبيح وحاظر، بل نسبة الزهوق إلى الضرب أولى من نسبتها إلى الذبح.

الثانية: أن هذه وحشية لا تقبل من مسلم يدين بشرع الإسلام الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليحد ذبيحته)) ، ولكونه قد ورد أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح بالأسنان والأظفار، أي لئلا يشبه عمل الأمم المتوحشة، وهذا مثله بل أولى، فإذن يجب الامتناع عن استعمال هذه الطريقة بالكلية في المسالخ، لأنها يجب أن تراعي المناهج المقبولة شرعا في الذبح من عامة المسلمين، وأيضا يجب منعها من باب سد ذرائع الفساد. وإن الفورية في الذبح بعد الطلقة أو ضرب البلطة، قد تتساهل المسالخ في تطبيقها في بعض الحالات، فيتطور الأمر إلى ذبح الموقوذات وإطعامها للمسلمين، كما نبهنا إليه في الطريقة السابقة.

ص: 306

3-

الخنق والمواد الخانقة:

وهي طريقة تستريح إليها المسالخ عند من لا يخافون الله تعالى، ولا يرجون له وقارا، ولا يحذرون من يوم الحساب، وهم لا ينظرون إليها إلا على أساس أنها مربحة تجاريا بتقليلها التكلفة وحفظ الدم.

وهي تستعمل في الحيوانات الصغيرة الكثيرة العدد، بإطلاق الغاز المذكور عليها في غرف مقفلة.

وإن استعمال الخنق أو المواد الخانقة نحو ثاني أوكسيد الكربون لإزهاق أرواح الحيوانات يجب منعها والامتناع عن استعمالها في مسالخ البلاد الإسلامية، لأمور:

الأول: أن المنخنقة محرمة بنص القرآن.

الثاني: ما في الخنق من التعذيب للحيوان تعذيبا قد يطول أو يقصر، والإسلام دين الرحمة والرفق بالإنسان والحيوان.

الثالث: أن جميع دم الحيوان يبقى في جسده ولا يخرج منهرا ولا يذهب منه قطرة، والدم محرم على المسلمين لخبثه، كما سبق بيانه.

الرابع: أن اللحم المأخوذ من الحيوان المخنوق يسرع إليه الفساد والإنتان فيما نظنه، لأن الميكروبات التي في الدم المحتقن تسرع في التكاثر، بخلاف ما إذا أفرغ الجسد الحيواني منه، فإنه يطيب ويكون أشهى وألذ مذاقا.

ص: 307

4-

الطريقة الإنجليزية في قتل الحيوان للأكل:

ذكر الأستاذ الدكتور محمد فتحي الدريني أن هذه الطريقة يزعم بأنها طريقة بارعة في الذبح في نظر الأوروبيين كافة، وهي تكون بخرق جدار الصدر بين الضلعين الرابع والخامس، ومن خلال هذا الخرق ينفخ هذا الحيوان بمنفاخ، فيختنق الحيوان نتيجة لضغط الهواء على الرئتين أي لأنها لا تتمكن من التمدد لجذب الهواء النقي من خارج البدن (1)

ولا يخفى أن هذا النوع داخل في (المنخنقة) المحرمة بالنص القرآني، ولا ينهر الدم كله ولا شيء منه، فيبقى محتقنا في العروق، بالإضافة إلى ما في هذه الطريقة من التعذيب للحيوان بهذا (الخرق) و (النفخ) و (الضغط) .

(1) بحوث مقارنة، للدكتور محمد فتحي الدريني: 2/ 352

ص: 308

5-

طريقة التخدير قبل الذبح:

وهي تكون بإعطاء الحيوان قبل ذبحه مادة مخدرة، كالبنج مثلا، بشكل طعام أو حقن، فتخدره حتى يفقد الوعي تماما، كما يعطى الإنسان حقنا تخدره وتفقده الوعي قبل إجراء عملية جراحية في بطنه أو قلبه أو رأسه أو أي جزء من جسده، فتجرى له العملية من دون أن يحس بأي نوع من الألم، ثم بعد تمام العملية يعود إلى الإفاقة والنشاط كأن شيئا لم يحصل، فكذلك يمكن بهذه الطريقة السيطرة على الحيوان بسهولة، وإجراء عملية الذبح دون أي نوع من شعور الحيوان بالألم، فتحصل جميع المتطلبات الشرعية، وكذلك الأغراض التجارية من جهة تقليل التكلفة.

وقد قيل: إن عملية التخدير هذه باهظة التكلفة (1) ، وهو ما نشك فيه، بالنسبة للاستعمال الحيواني، لأننا نعلم أن كثيرا من الناس يصطادون الطيور بهذه الطريقة، فيضعون لها حبوبا قد خلطت بمواد تخدرها وتفقدها الوعي إذا التقطتها، فيلتقطها الصيادون وهي في تلك الحال، ثم هي تعود إلى الوعي بعد ساعات لتجد أنفسها داخل الأقفاص.

ويحتاج- من أجل الاطمئنان إلى أفضلية هذه الطريقة- إلى معرفة أمرين:

الأول: أن قوة أنهار الدم لا تخف بسبب التخدير، لأن حركة القلب تكون- في تقديري- ضعيفة أثناء فترة التخدير.

الثاني: أن المادة المخدرة لا تضر اللحم، ولا تفقده شيئا من الخصائص الجيدة فيه.

(1) بحوث مقارنة: 2/ 357- نقله عن (الطريقة الإسلامية في ذبح الحيوانات للطعام) للدكتور غلام مصطفى خان

ص: 309

6-

الذبح بالآلات السريعة:

وهو أمر نسمع به، ولم نشهده، ولم نطلع على كتابة علمية فيه يعتمد عليها، وقيل: إنها تستعمل في ذبح الدجاج بقطع رؤوسه بآلات فيها شفرات حادة تدور بسرعة، فيتمكن بذلك من ذبح مجموعات كبيرة من الطيور في وقت قليل، مما يقلل تكلفة الذبح إلى درجة دنيا.

والغالب أن يجتمع مع هذه الطريقة الصعق بالكهرباء، ويكون الصعق سابقا لوصول الدجاجة إلى الآلة الذابحة بوقت قصير، بغرض أن تكون مشلولة منعدمة الحركة كما تقدم.

وقد تقدم الكلام في هذا البحث، وذكرنا أن أكثر العلماء على أن المذبوح بطريقة قطع الرأس عند كثير من العلماء مباح، وأن عليا رضي الله عنه قال فيه:"تلك ذكاة وَحِيَّة". لكن من أجازها اشترط أن يقطع الودجين قبل أن يموت الحيوان بقطع النخاع.

ونحن نرى أنه لا ينبغي استعمال هذه الطريقة في المسالخ في البلاد الإسلامية لما يأتي:

ا- فيه المحاذير المذكورة في طريقة الصعق كلها.

2-

أن الطيور تعلق من أرجلها في علاقات مثبتة في سيور محركة تمر بها على (الذباحة) والطيور ليست أجسامها على طول واحد، فقد تضرب الشفرة موضع الذبح من عنق الدجاج، فإن كان جسم الدجاجة أقصر ربما ضربت الرأس نفسه أو المنقار، فتقتله بما ليس ذبحا شرعيا، وإن كان جسم الدجاجة أطول فتضربها في صدرها.

3-

هذا بالإضافة إلى أن تحمل الدجاج للصدمة الكهربائية ليس بدرجة واحدة، فإن كان جسم الدجاجة أصغر من المعدل مات بالصعقة، وإن كان أكبر من المعدل لم يفقد الوعي، فيكون صعقه تعذيبا له.

ص: 310

التسمية بالنسبة للمجموعات الكبيرة:

إن التسمية في حال المجموعات الكبيرة، ولو ذبحت باليد على الطريقة الإسلامية، تكون مرهقة للذباحين، فإنه لو كلف مثلا أن يذبح (1200) دجاجة في الساعة بمعدل دجاجة كل ثلاث ثوان، لكان إلزامه بأن يقول "بسم الله والله أكبر"(1200) مرة في الساعة إرهاقا له وعنتا شديدا، والعنت والحرج مرفوع في الشريعة لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

ومن هنا أفتت هيئة الفتوى في الكويت، وكنت أحد أعضائها وقت إصدار هذه الفتيا، بأنه عند ذبح مجموعة كبيرة من الدواجن يكفي التسمية عليها مرة واحدة عند أولها إن جرى الذبح بصورة متتابعة دون توقف، فإن جرى توقف لسبب ما، فعلى الذابح أن يسمي على المجموعة الباقية من جديد.

ص: 311

تغطيس الدجاج في الماء الذي يغلي:

إذا فعل بالحيوان بعد ذبحه وقبل خروج الروح ما يعين على موته، كأن تطأه سيارة، أو يغطس في ماء يغلي أو ماء بارد، فإن جمهور الفقهاء يرون أنه لا يحرم بذلك، لأنه لا يكون بذبحه في حكم الميت.

ويرى الإمام أحمد أنه يكون بذلك حراما، قياسا على ما ورد في حديث الصيد:"وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل " أي لأن تغرقه في الماء يعين على قتله (1) .

وعندي أن قول الجمهور هو الصحيح، والقياس على الصيد لا يستقيم لأنه يحتمل أن إصابة الصيد لم تكن قاتلة، كما لو كسر جناحه فوقع في الماء، فإن موته يمكن أن يكون بسبب الغرق في الماء لا بسبب الإصابة، فيكون ميتة، بخلاف ما إذا ذبح الدجاج ذبحا صحيحا وأنفذت مقاتله بالذبح، فإن ما يرد عليه بعد ذلك لا ينسب إليه القتل.

وعلى هذا فجائز لمن يذبح الطيور أن يغطسها في الماء الذي يغلي من أجل نتف ريشها، لكن الأولى أن يتركها حتى تنتهي حركتها بخروج الروح، لقول عمر رضي الله عنه:"لا تعجلوا الأنفس أن تزهق " أورده ابن قدامة، ولأن فيه تعذيبا للحيوان المذبوح (2)

وكذلك لا ينبغي سلخه ولا قطع عضو من أعضائه قبل تمام سكون حركته.

(1) المغني، لابن قدامة: 8/ 579

(2)

المغني، لابن قدامة: 8/ 579 – 580

ص: 312

الفصل الثالث

الجهل بتحقق شروط الذبح المشروع

من قدم إليه لحم في بلاد كل أهلها مسلمون أو غالبهم، ولم يعلم تحقق شروط الذبح الشرعي في ذلك اللحم، فإنه حلال له أن يأكله، ما لم تكن هناك قرائن قوية تدل على أن شيئا من شروط الذبح لم يتحقق، ويشمل ذلك ما يلي:

ا- جهالة عين الذابح.

2-

جهالة حاله من كفر أو إسلام.

3-

جهالة كون اللحم لحم حيوان حلال أو محرم.

4-

جهالة أنه هل سمي عليه أم لم يسم.

5-

جهالة طريقة التذكية.

وهذا مستند إلى منطوق الحديث "سموا الله عليه أنتم وكلوا" بالنسبة إلى جهالة التسمية، ومفهوم الموافقة بالنسبة إلى الصور الأربعة الأخرى.

وهذا النوع في الحقيقة هو أكثر ما يقع في بلاد الإسلام منذ عصر النبوة وحتى الآن، فيمكن الادعاء بأن حكمه مجمع عليه إجماعاً عملياً، فالمؤمن غالباً ما يأكل اللحم في بيته أو عند صديقه، ولم يذبح هو ولا صديقه، وإنما ذبحه لهم ذابح آخر لم يحضروا ذبحه، وذلك الذابح الآخر يحتمل أنه تعمد ترك التسمية أو ذبح بطريقة غير مشروعة، وكذلك ما يشترى في أسواق المسلمين، لم يطلع مشتريه على ذابحه، ولعله مرتد أو مجوسي، أو لم يذبح بقطع الودجين

إلخ، ولعله ذبح حيوانا لا يؤكل لحمه.. ولم ينقل عن أحد من أهل العلم أو العوام أنه تحرج من أكل شيء من ذلك، لكن إن قامت قرينة تدل على أن الذبح كان على غير الطريقة الشرعية فإن الحكم يختلف، كما ذكر أن عالما قال لمن يذبح:"اذكر اسم الله " فقال قد ذكرت، فقال: اذكر اسم الله " فقال: قد ذكرت، فحلف ألا يأكل منه شيئا ويمكن الاستدلال على ذلك بالآية القرآنية:{وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أو بُيُوتِ آبَائِكُمْ أو بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أو بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أو بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أو بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أو بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أو بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أو بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أو مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أو صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] ولم تشترط الآية حصول العلم بالطهارة والتذكية.

ص: 313

وهذا أمر لا يسع الناس غيره، ويستحيل أن تشتمل الشريعة الحنيفية السمحة على اشتراط العلم اليقيني.

فقد تظافر على إباحة هذا النوع السنة والإجماع العملي ودلالة النص ونفي الحرج.

أما إن وجدت قرائن تدل على خلاف الظاهر، وكانت دلالتها قوية، فينبغي أن يعمل بها، كأن ترى عند مضيفك علبا فارغة كتب عليها أنها (لحم خنزير) أو ترى رجلا خرج من بيت مضيفك عليه أثر دماء الذبيحة وأنت تعرف أن ذلك الرجل هندوسي أو شيوعي ونحو ذلك.

وكلما كانت القرينة أقوى كان العمل بها أوجب، ولا حاجة إلى النظر إلى القرائن الضعيفة، وهو ما انتهى إليه الحديث المتقدم: "أن قوما حديثا عهدهم بالإسلام

إلخ " فإن كونهم حديثي عهد بالإسلام قرينة ضعيفة والله أعلم، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ولا بالاستفسار عن حالهم.

قال القرافي: "من أمر غلامه بالتسمية، مرتين أو ثلاثا، وهو يقول: سميت، ولم يسمعه، يصدقه ويأكل، ولا يظن بالمسلم غير ذلك "(1)، وقال ابن عبد البر بعد أن أورد الحديث:"فيه أن ما ذبحه المسلم يؤكل، ويحمل على أنه سمى، لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير حتى يتبين خلاف ذلك "(2) وقال ابن مفلح الحنبلي: "يحل مذبوح منبوذ بموضع بحل ذبح أكثر أهله، ولو جهلت تسمية الذابح "(3) .

(1) الذخيرة: 4/ 134، 135

(2)

فتح الباري: 9/ 634، 9/ 636

(3)

الفروع: 6/ 321

ص: 314

الفصل الرابع

حكم اللحوم المستوردة

حجم المشكلة:

لم تكن مشكلة اللحوم المستوردة من غير بلاد المسلمين تشغل بال علماء المسلمين قديما، بسبب ما كان عليه المسلمون من الاكتفاء الغذائي الذاتي.

وأما في العصر الحاضر- ابتداء من منتصف القرن العشرين- فقد ضعف الإنتاج الحيواني بدرجة كبيرة لأسباب كثيرة اجتمعت جميعا، منها:

ا- انحياز جمهرة السكان إلى العواصم والمدن الكبرى، الأمر الذي كان نتيجة تقصير الحكومات الإسلامية في رعاية الأرياف والقرى، فالخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والترفيهية والمواصلات كلها في المدن خاصة، والمؤسسات والجامعات فيها، وهذا الأمر أدى إلى ضعف الأرياف والقرى، وهي الأماكن التي تتمكن من تربية الحيوانات، وأما المدن فيصعب فيها ذلك، بل قد يمتنع بالقرارات الحكومية، ولم يصحب هذا التركيز في المدن والعواصم إنشاء مشاريع لتربية الأنعام والدواجن، كافية لتعويض ما نشأ عن الانحياز المذكور.

2-

تضخم الثروات في بعض البلاد الإسلامية الغنية، واتجاه أهلها إلى الإنفاق الاستهلاكي دون الإنفاق الإنتاجي؛ مما مكن أهلها من كثرة استهلاك اللحوم، الأمر الذي أدى إلى فناء النسبة الكبرى من الثروة الحيوانية في البلاد العربية، حتى أوشكت على الانقراض.

ص: 315

ولما طال الأمر على هذا الحال بدأت تنهال على البلاد الإسلامية الواردات من اللحوم ومشتقاتها من أوروبا والأمريكيتين وأستراليا وسائر بلاد العالم.

وكان من المفترض أن تحرص حكومات البلاد الإسلامية، وهي المفروض فيها أن تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا، أن تقوم بالنيابة عن أفراد شعوبها بما يمليه عليها واجبها في هذا الباب بما يطمئن المسلمين إلى أنهم حين يأكلون اللحوم المستوردة والأطعمة المشتقة يأكلون ما هو حلال في دينهم، لكن كانت الحكومات ما بين نائمة عن الموضوع، أو متنبهة لكنها لا تدري كيف تصنع، أو تدري لكنها تنشط أحيانًا وتكسل أحيانا، وبين علمانية أو كالعلمانية لا تبالي بهذا الأمر لأنه لا يعنيها، حتى إن لحم الخنزير ومشتقاته تدخل إلى بعض البلاد الإسلامية بيسر أحيانا، وخفية أو مع التمويه أحيانا.

هذا في الوقت الذي يصر فيه اليهودي أينما ذهب على أن يحصل- إن شاء- على لحم وغذاء يرتضيه يوافق شريعته ولا يخالفها (1)

(1) هذا أمر يعرفه المسلمون إذا سافروا بالطائرات الحديثة، حيث يمكن أن يقدم لليهودي مما إذا طلب وجبة (كوشير) أي موافقة للديانة اليهودية من جهة ما فيها من اللحم، ولا يتاح مثل ذلك للمسلم، لعدم وجود الاستعدادات لذلك، وقد نبه إلى ذلك الشيخ أبو الأعلى المودودي في رسالته، ص 6

ص: 316

وعانى المسلمون الغير من هذا الأمر كل بقدره، وكان الأكثر معاناة هم المسافرين والطلبة والمغتربين المقيمين في ديار الغربة من بلاد النصارى.

ولعل أحد أسباب القصور في معالجة المسألة عدم وضوح الأحكام الشرعية المتعلقة بها، إذ لم تقم جهة إسلامية موثوقة بوضع نظام واضح مركز ومحدد يضبط الأمر، ووضع آلية سهلة التطبيق واضحة المعالم تحكم الأمر.

هذا ومما يزيد المسألة تعقيدا حرص تجار اللحوم ومنتجيها، في البلاد الأجنبية- من منطلق التنافس التجاري الصرف- على إدخال لحم الخنزير في اللحوم المعلبة، وإدخال شحومها في الأطعمة المصنعة كالبسكويت والشوكولاتة والبوظة ونحو ذلك، لأن شحم الخنزير في بعض بلاد النصارى أرخص ثمنا وأقل تكلفة من لحم البقر والغنم، لكثرة توالد الخنازير، وكونها ترضى بالعلف الرديء والقذر.

وأيضا في مجال لحوم البقر والغنم والدجاج، تفقد الذبائح نسبة من وزنها (7 %) تقديرا إذا ذبحت بالطريقة الإسلامية، وذلك بما تفقده من الدم المسفوح.

وأيضا فإن الذبح الإسلامي على الطريقة التي حددناها فيما مضى من هذا البحث، يحتاج إلى تكلفة إضافية، وهي أجرة الذباحين، فإن الذبح الآلي أسرع بكثير من الذبح اليدوي.

ص: 317

ومن هنا- ولأجل المنافسة التجارية بفارق السعر- يحرص تجار اللحوم المصدرون لها إلينا على أن يتخلصوا من طلبات الالتزام بالذبح الإسلامي، وعلى المراوغة والتخفي والتمويه في الأطعمة المعلبة والمجمدة وغيرها.

وهذا نسوقه من أجل مزيد من اليقظة والانتباه والعمل المنظم المبني على الأصول الشرعية الصحيحة.

مع أننا أيضا نلفت النظر إلى ما سبق أن نادت به بعض الحكومات الإسلامية، وهو وضع الخطط والسياسات وإقامة المشاريع ووضع الأنظمة من أجل الوصول بالبلاد الإسلامية إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، بل إلى مرحلة التصدير، حيث إن الإمكانيات المادية متوفرة، والإمكانيات البشرية في تقدم مستمر، ولا يبقى إلا العزم والإصرار والتقدم إلى الأمام، والله الهادي إلى الطريق الأقوم.

ص: 318

ا- تعليق الحكم بالبلد إن جهلت ديانة الذابح بالنسبة للحوم المستوردة:

تقدم أن ذبائح غير المسلمين وأهل الكتاب ليست حلالا للمسلمين، أما ذبائح المسلمين والكتابيين فهي حلال إذا استوفت الشروط، وبناء على ذلك وجد في العصر الحاضر توجه عند العلماء وداخل المجتمع الإسلامي، إلى رفض استيراد وأكل اللحوم الواردة من البلاد الوثنية والشيوعية في آسيا الشرقية والجنوبية وفي أوروبا، وإن كان من المحتمل أن الذابح مسلم ملتزم أو كتابي، واقتصر الاستيراد على ما يرد من بلاد المسلمين أو النصارى، ونحن نقر هذا التوجه ونرى أنه توجه صحيح نابع من العقيدة والشريعة الإسلامية.

لكن هل كل ما يرد من بلاد النصارى يجوز أكله؟

إن ما تقدم في هذا البحث كان التركيز فيه على الذكاة بأيد إسلامية.

أما ما يذبحه أهل الكتاب، وخاصة في العصر الحاضر، فسنزيد التركيز عليه فيما بقي من هذا البحث.

على أن تعليق الحكم بالبلد بصفة عامة فيه ما فيه، لأمرين:

ا- أن البلد الواحد كفرنسا أو البرازيل مثلا ليس كل أهله كتابيين، بل منهم الغرباء القادمون من الشرق ممن يدين بالوثنية، كبعض الهنود والصينيين مثلا، وخاصة وأن أهالي البلاد الغربية يتركون في الغالب هذه المهن- التي يعتبرونها حقيرة، ويتعرض أصحابها للأقذار- لهؤلاء القادمين.

ص: 319

2-

أن أهل تلك البلاد في الغالب تركوا التمسك بالديانة المسيحية، وتحولوا لا دينيين أو شيوعيين لا يؤمنون بإله ولا كتاب ولا رسول، والسيادة والأمر والنهي فيها في الغالب لهؤلاء.

وهذان الأمران أيضا موجودان في حالة بعض البلاد المنتسبة شعوبها إلى الإسلام.

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن عرف الذابح بعينه أنه مسلم أو كتابي فهو أولى بأن تكون ذبيحته حلالا.

وإن جهل ذلك يعلق المحكم بغالبية أهل البلد، فإن كان غالبية أهله مسلمين أو نصارى، يمكن- على ضعف- اعتباره كما لو كان الذابح معلوم الديانة مسلما أو كتابيا، وتكون الأغلبية مغلبة على الظن، وغلبة الظن تجري مجرى العلم في الشرعيات.

وقد قبل هذا المبدأ- وهو مبدأ تعليق الحكم بغالبية أهل البلد المستورد منها اللحم- عامة العلماء في العصر الحاضر الذي تميز بكثرة استيراد اللحوم، وصدرت على أساسه الفتاوى الكثيرة، وله جذور في بعض كتب الفقه.

لكننا نود التنبيه إلى أن روسيا والبلاد التي كانت خاضعة للشيوعية قبل أن يهوي صنمها كان غالب أهلها مسلمين أو نصارى، ولم يكن الأفراد المنتمون إلى الحزب الشيوعي يزيدون عن (10 %) من مجموع السكان - على ما أوردته بعض وسائل الإعلام في ذلك الوقت- ولكن كانت وسائل الإنتاج بأيدي الشيوعيين وتحت سيطرتهم ومنها المسالخ، فهل يرجح في مثل هذه الحال أغلبية السكان، أم السيادة السياسية، وأيهما أقرب للاعتبار من حيث الاستدلال به على كون الذابح مسلما أو كتابيا: القلة السائدة الكافرة، أم الكثرة التي لا تأثير لها؟

ص: 320

2-

طريقة الذبح عند أهل الكتاب في العصر الحاضر:

ذبائح اليهود فيما نعلمه، وخاصة ما ذبحوه لليهود، ويسمونه الآن (الكوشر) تذبح بالطريقة المعروفة عند المسلمين وهي قطع الودجين، أما النصارى فقد كان بعض علمائنا الذين اطلعوا على طرائقهم في الذبح يحذرون من أكل ذبائحهم، لأنهم يرون أنه لا بأس عليهم من أكل الميتات والموقوذات، قال القرافي:" لا يختلف اثنان ممن يسافر أن الإفرنج لا تتوقى الميتة، ولا تفرق بينها وبين التذكية، وأنهم يضربون الشاة حتى تموت وقيذة بالعصي وغيرها، ويسلُّون رؤوس الدجاج من غير ذبح، وهذه سيرتهم ". قال: "وقد صنف الطرطوشي رحمه الله رسالة في تحريم جبن الروم كتابا، وهو الذي عليه المحققون، فلا ينبغي لمسلم أن يشتري من حانوت فيها شيء منه، لأنه ينجس الميزان والبائع والآنية". (1) ا. هـ.

وكان هذا في عصرهم، أما في عصرنا فقد كثر المسافرون من المسلمين إلى هنالك والمقيمون، فعلم ذلك من قبلهم ومن مصادر أخرى سوف نشير إليها.

وقد كره علماؤنا أن يتخذ الكتابي جزارا يذبح لنا، فينبغي تجنب ذلك ما أمكن ولوكان يذبح بمشهد من المسلمين.

(1) الذخيرة، للقرافي: 4/ 124.

ص: 321

ما أزهق الكتابي روحه بغير الذبح أو النحر بالطريقة الشرعية:

وقد تقدم ذكر بعض طرقهم:

ا- فالأكثرون يضربون رأس الثور أو البقرة بالمسدس حتى يموت، ثم يذهب به إلى السلخ والتقطيع، وتقطع رقبة الثور بعد أن تكون روحه قد خرجت.

2-

ومنهم من يضرب رأس الثور بمطرقة من حديد ضربا قويا يفقد الحياة بها فورا أو يفقده الوعي.

3-

ومنهم من يدخل في فم الدجاجة مقسًا، فيقطع عظم الرقبة عند أسفل الرأس من دون أن يقطع الودجين.

4-

ومنهم من يخنق الدجاج أو غيره بآلات خانقة أو بثاني أوكسيد الكربون، ليمكن إماتة أعداد هائلة منها بسرعة، بحبسها في أماكن مقفلة وإطلاق الغاز المذكور عليها.

5-

ومنهم من يفقد الحيوان وعيه بالصعق الكهربائي، ثم بعد ذلك لا يجري- في كثير من الأحوال- ذبح الحيوانات، وإن جرى يكون ذلك بعد موتها.

وكل ذلك مع الحرص منهم على إماتة أعداد كبيرة من الحيوانات في أقصر وقت، مع عدم إهدار شيء من الوزن بإخراج الدم.

وإن جرى الذبح قبل الزهوق يكون خروج الدم بكميات قليلة جدا، لا ينطبق عليها ما دعا إليه نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حين قال:((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)) .

ص: 322

ويختلف النظر في حكم هذه الطرق شرعا، وقد تقدم بيان الحكم الشرعي فيما إن كان الذابح مسلما.

أما إن كان الذابح كتابيا، فإن جمهور الفقهاء لم يفرقوا بينه وبين ذبح المسلم، لأنه إن كان قتله بالضرب فهو موقوذة، أو بالخنق أو بثاني أوكسيد الكربون أو بالتغريق في الماء فهو من المنخنقة، فهو داخل فيما نص القران على تحريمه.

وذهب آخرون من الفقهاء إلى التخفيف في ذلك في حق أهل الكتاب، منهم الشيخ أبو بكر بن العربي المالكي، قال في كتابه (أحكام القرآن) ما نصه:"سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما؟ فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم حلالا، فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه "(1)

وتابعه على هذه الفتوى الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا (2)

(1) أحكام القرآن: 2/ 554

(2)

تفسير المنار: 6/ 200-217؛ ومجلة المنار: 6/ 771، 812، 927

ص: 323

ونقل بعض الباحثين أن ابن العربي له في كتابه نفسه ما ينقض فتواه هذه حيث قال: "فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس، فالجواب أن هذا ميتة وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير، فهو من طعامهم وهو علينا حرام ". (1)

ولعل مقصوده أن ما اعتبره أهل دينهم ذكاة، كفتل عنق الدجاجة يؤكل، وإن لم يعتبره أهل دينهم ذكاة كالخنق فلا نأكله، والله أعلم. والواضح أن الراجح من ذلك مذهب الجمهور، وهو أن ما لم يكن ذبحا صحيحا من المسلم كالخنق ونحوه، فلا يكون ذبحا مبيحا إذا فعله أهل الكتاب، والاستناد إلى آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] كما لم يفد في إباحة الخنزير لنا، فكذلك لا يبيح المخنوق والموقوذ، ويبقى عموم آية:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] محفوظا.

(1) أحكام القران: 2/ 553

ص: 324

حكم ما جهلت كيفية ذبحه من اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب:

إن ما علمت طريقته من ذبحهم فحكمه واضح مما تقدم، وأما ما جهلت طريقته فهو مشكل، وقد صدرت في هذه المسألة فتويان متعارضتان، أحداهما لفضيلة شيخنا المبجل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل باز حفظه الله وأبقاه بخير وعافية، مفتي عام المملكة العربية السعودية حاليا، ونصها:

"طعام أهل الكتاب مباح لنا إلا إذا علمنا أنهم ذبحوا الحيوان على غير الوجه الشرعي؛ كأن يذبحوه بالخنق أو الكهرباء أو ضرب الرأس، فإنه يكون منخنقا أو موقوذا فيحرم علينا للآية". (1)

والفتوى الثانية لفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد شيخ المسجد الحرام رحمة الله عليه المتوفى سنة 1452 هـ ونصها:

"ما يرد من اللحوم إن كان استيراده من بلاد إسلامية، أو من بلاد أهل الكتاب، أو معظمهم وأكثرهم أهل كتاب، وعادتهم يذبحون بالطريقة الشرعية، فلا شك في حله، وإن كانت عادتهم أو أكثرهم يذبحون بالخنق أو بضرب الرأس أو الصعق بالكهرباء ونحو ذلك فلا شك في تحريمها.

أما إذا جهل الأمر ولم يعلم عن حال أهل تلك البلد هل يذبحون بالطريقة الشرعية أم لا، فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهول أمر عادتهم في الذبح، تغليبا لجانب الحظر، وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فيغلب جانبا لحظر كما في الصيد".

(1) انظر نص الفتوى بكاملها في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة، العدد الثالث من السنة الثانية، ذو الحجة 1395 هـ، ص 156؛الأطعمة للشيخ صالح الفوزان، ص 161

ص: 325

وهذه الفتوى توافق تقريبا ما ذهب إليه المالكية من أن "اللحم الذي يباح لنا من ذبح النصراني هو ما ذبحه بمحض مسلم عالم بأحكام الذبح، أما ما غاب عليه- أي ذبحه من غير أن يراه مسلم- فإنه يكون حراما لأنهم يستحلون الميتة، وهذا بخلاف اليهود، فإنهم لا يستحلونها". (1)

فللحوم المستوردة من بلاد النصارى ولم نعلم ديانة ذابحها على التحديد ثلاثة أحوال اتفقت الفتويان على حاليين منها:

ا- أن نعلم أن عادة أهل البلد الذبح بطريقة شرعية، فيكون اللحم حلالا.

2-

أن نعلم أن عادة أهل البلد الذبح بطريقة غير شرعية، فيكون اللحم حراما.

واختلفت الفتويان في الحالة الثالثة:

3-

وهي أن نكون جاهلين طريقتهم في الذبح:

فالفتوى الأولى تقتضي إباحة هذه اللحوم، بناء على أنها من طعام أهل الكتاب.

والفتوى الثانية تقتضي تحريمها بناء على أن الأمر تردد بين الحظر والإباحة، فيقدم جانب الحظر، كما في مسائل النكاح.

(1) الأطعمة للشيخ صالح الفوزان، ص 163

ص: 326

ونحن نميل إلى جانب الفتوى الأولى، لأنه لو قدم جانب الحظر في الأطعمة لما وجد الإنسان طعاما من مصدر حيواني يأكله، فالجهل في الأطعمة نعمة تشكر، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية فيما أذكر، ولست أستحضر الآن الموضع الذي قاله فيه، ونستأنس بما تقدم عن الزهري أنه قال:"إن سمعته يذكر اسم غير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أباح الله طعامهم لنا وهو يعلم ما يقولون ".

استدراك:

هذا الكلام المتقدم هو في المبدأ والنظرية، أما الواقع فأمره مختلف، فهل ما يرد من تلك البلاد معلومة طريقة ذبحه أم مجهولة:

إن طريقة ذبحهم في بلاد النصارى معلومة وليست مجهولة:

فمن جهة تواترت عنهم الأخبار أن كثيرا منهم لا يذبحون، وإنما يقتلون بالخنق أو الكهرباء أو بالمسدس الخاص.

ومن جهة أخرى هناك الكتب المؤلفة من أهل تلك البلاد وجهاتهم الرسمية، والموسوعات العلمية العامة والخاصة، التي تبين بجلاء كيف يجري الذبح عندهم في كل بلد من بلادهم، وكلها تقرر ما لا يقره الشرع من طرائق الذبح، بل جاءت الأخبار من بعض بلادهم بأنهم يعتبرون طريقة ذبحنا همجية ووحشية، وخالية من الرفق بالحيوان، ولذلك تمنعها قوانينهم، وتراقبها جمعيات الرفق بالحيوان، وتعترض على ما شم ذبحه بها، وخاصة في إحدى البلاد التي عرف أهلها بذبح الشعوب واستنزاف دمائها وخيراتها.

فادعاء أن طرقهم في الذبح مجهولة لنا، شبيهة بمن يغطي عينيه ثم يقول: لا أدري الشمس طالعة أم لا، وبمن يقول في رمضان: آكل الطعام لأن الصبح لم يتبين لي، وهو لو فتح النافذة أو نظر لساعته في معصمه لعلم.

كما أن من اليسر بمكان الإطلاع المباشر على طرائقهم في الذبح من جهة الباحثين وأهل العلم، أو من جهة المبتعثين لهذه الغاية، وهو أمر يقطع الشك باليقين.

ص: 327

الشهادات التي تأتي مع اللحوم لإثبات ذبحها بالطريقة الإسلامية في بلاد أهل الكتاب:

إن الشهادات المذكورة إن جاءت من جهة إسلامية موثوقة تشهد بأنها ذبحت على الطريقة الإسلامية فإن ذلك يكفي لاعتبارها حلالا، ولا إشكال في ذلك، ما لم يتبين خلافه، وإن جاءت من جهات أهلية أو حكومية في تلك البلاد فإنها لا تعتبر ولا قيمة لها، لأن المشكلة تبقى قائمة، لأنهم يكتبون ذلك صوريا ولا يؤمنون بأي أهمية للموضوع، بل قد يسخرون ممن يبدي أية عناية واهتمام بذلك.

والقاعدة عند الفقهاء أن خبر الكافر لا يقبل في الأمور الدينية كالقبلة والطهارة ونحوها، ومسألة الذبح من هذا الجنس.

وأما الكتابات التي توجد على بعض المعلبات، أو اللحوم المستوردة وغيرها من الأطعمة، الآتية من بعض بلاد النصارى، من أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية، فقد أصبحت أمرا لا قيمة له، بعد أن كثرت الوقائع الشاهدة ببطلانه، من ذلك واقعتان شهدتهما وأشهد بهما:

ا- ورد إلى الكويت في أواخر السبعينات من هذا القرن كميات كبيرة من سمك الزبيدي جيد النوعية، معبأ في أكياس بلاستيكية كتب عليها بحروف كبيرة (ذبح على الطريقة الإسلامية) ، وقد بيعت تلك الكمية في سوق السمك في الكويت، واشتريت منها وأكلت منها أنا وأفراد عائلتي، واشتراه كثير ممن نعرف، وكان ذلك مثار تندر طويل لأهل الكويت.

2-

وردت إلى الكويت أيضا لحوم معبأة في علب معدنية، كتب عليها بالعربية (لحم بقر مذبوح على الطريقة الإسلامية) وبالإنكليزية (Luncheon meat) أي لحم للطعام، وبالألمانية كلمة لا أذكرها الآن، لم نكن نعرف معناها، فكشفنا عنها في المعجم فإذا هي تعني (لحم خنزير) ، ولذلك ينبغي الاقتصار على الشهادات التي تأتي من جهات إسلامية موثوقة، أو أن يكون للشركات المستوردة موظفون موثوق بديانتهم يحضرون عمليات الذبح ويستخدمون الذباحين المسلمين.

ص: 328

واجب الدول الإسلامية تجاه استيراد اللحوم:

إن الوضع الحاضر للحوم المستوردة إلى كافة البلاد الإسلامية من البلاد غير المسلمة وضع سقيم بلا شك، وهو بحاجة إلى إصلاح وتنظيم، ليكون ما يأكله المسلمون حلالا سائغا لا شبهة فيه ولا مخالفة لشريعة الله، ونرى أن ذلك يمكن أن يتم بما يلي:

أولا: أن توجد جهة إسلامية موحدة، تجمع بين المقدرة والأمانة، لتتولى إصلاح هذا الوضع وتنظيمه، وتضمن استمرارية التنفيذ،

وليس أولى من ذلك في نظري من (رابطة العالم الإسلامي) فإنها موضع ثقة المسلمين، ولديها إمكانيات علمية وإدارية كافية.

ثانيا: تشكل الجهة التي يوكل إليها هذا الأمر إدارة أو مؤسسة تتولى العمل المباشر، وتتفرغ له تفرغا كليا.

ثالثا: تضع تلك الإدارة، مع الاستعانة بآراء الخبراء الشرعيين والإداريين لائحتين: إحداهما شرعية تبين ما يجب مراعاته في شأن اللحوم المستوردة؛ والثانية إدارية تتضمن كيفية تسيير دفة العمل بما يحكم الرقابة ويقضي على الفوضى.

ص: 329

رابعا: لا يجوز أن يكون من يتولى الذبح في المجازر التي يوافق على الاستيراد من ذبائحها جزارا غير مسلم، لأنه إن لم يكن مسلما ولا كتابيا فذبيحته محرمة، وإن كان نصرانيا فهو يستحل الميتة، ولا يبالي بأي طريقة كان الذبح، أما إن كان يهوديا فذبحه عموما جيد إن ذبح لليهود، لكنه يكره المسلمين ويكيد لهم، فلا يبالي كيف ذبح لهم، وقد نص المالكية على أنه يكره تمكين الكتابي من أن يكون جزارا في أسواق المسلمين أو بيوتهم، بخلاف ما لو ذبح لنفسه أو قومه فلا يكره أكله لأنه طعامهم، ومن هنا قال الإمام الشافعي:"أحب أن يكون المذكي بالغا مسلما فقيها". وقال القرافي في الذخيرة: "قد أمر عمر أن يقام الكتابيون من أسواقنا: الجزارون وغيرهم "(1) .

خامسا: توضع على اللحوم التي يوافق على استيرادها، وهي التي حازت شروط القبول الشرعي، علامة تجارية مميزة، تسجل لدى جميع الدول في سجل العلامات التجارية، ويطلب من الدول المصدرة الاعتراف بها كعلامة خاصة مملوكة للجهة الإسلامية القائمة بالأمر، وإدخالها ضمن العلامات التجارية المحمية بالقانون، بحيث يمكن مقاضاة أي جهة تستعملها استعمالا غير مرخص به من جهة المؤسسة المالكة لها.

سادسا: يمكن أن يوضع لاستعمال تلك العلامات رسوم مادية بحيث تكون موردا تمول منه العملية بكاملها. والله الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد.

(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 2/ 101، 102؛ والأم للشافعي: 2/ 259؛ الذخيرة للقرافي: 4/ 122

ص: 330

خلاصة البحث

ا- حيوان البحر، وما لا دم له سائلا من حيوان البر، كالجراد، يحل أكله دون تذكية.

2-

التذكية بذبح الحيوان البري ذي الدم السائل، أو نحره، من أجل التغذية الإنسانية، أمر مطلوب شرعا على طريق الوجوب، ولا يحل الحيوان المقدور عليه إلا بذلك، وذلك لأن الشرع أمر باستخدام هذه الطريقة، ولأنها خير الطرق لاستنزاف دم الحيوان ليطيب لحمه.

3-

التذكية الاضطرارية بطعن الحيوان بجارح، يجوز استخدامها بالنسبة إلى الصيد غير المقدور عليه، وبالنسبة للحيوان الأهلي إن ندّ أو تردى بطريقة لا يقدر فيها على ذبحه أو نحره.

4-

من تولى الذبح وكان على ملة غير الإسلام ولا النصرانية ولا اليهودية، أو كان مرتدا أو شيوعيا أو ملحدا أو دهريا فذبيحته ميتة لا تحل للمسلم.

5-

لا تحل الذكاة في الحيوان النجس العين كالخنزير والكلب، وتعمل فيما عداه في الحيوانات غير المحرمة، وتعمل في الحيوانات المحرم أكل لحمها بتطهير أجزائه من جلد وغيره، لاستعمالها في غير الأكل.

6-

لا تعمل الذكاة في حيوان ميت، أو مشرف على الموت ما لم يكن فيه حياة مستقرة، بحيث يتحرك بسبب الذبح ويسيل الدم.

ص: 331

7-

لا يجوز أن يذبح الإنسان الذبيحة بنهش مذبحها بأسنانه وأظفاره، بل لا بد من استعمال آلة محددة كالسكين ونحوها، سواء كانت من حديد أو غيره.

8-

على المسلم عند الذبح أن يذكر اسم الله تعالى، فإن تعمد أن يترك ذكر اسم الله تعالى لم تحل ذبيحته، وإن تركها نسيانا أو جهلا تؤكل.

9-

إن سمي على الذبيحة اسم غير الله تعالى استقلالا، أو مع ذكر اسمه تعالى حرمت، سواء كان الذابح مسلما أو غير مسلم.

11-

لا تكون التذكية الاختيارية إلا بذبح الحيوان بقطع الودجين في مقدم العنق، أو بنحره في اللبة، وهي الوهدة في أسفل العنق.

11-

يفضل الاقتصار على قطع الودجين، ولا ينبغي التجاوز بقطع الرقبة كلها، أو القطع من القفا.

12-

يحسن بالمسلم إذا أراد الذبح التقيد بآداب الذبح المبينة في مكان آخر من هذا البحث، امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء

)) الحديث.

13-

لا بأس في المسالخ من استعمال طرق للسيطرة على الحيوان المراد ذبحه، بشرط أن لا يكون في الطريقة المستعملة تعذيب للحيوان يمكن الاستغناء عنه بطرق أخرى، وأن يؤمن من موت الحيوانات أو بعضها قبل أن تذبح.

14-

لا يجوز استعمال الوقذ والمسدس والخنق بثاني أكسيد الكربون أو ضغط الهواء في جوف الحيوان حتى يموت، وكل ذلك حرام.

15-

لا مانع من استخدام التخدير قبل الذبح إن ثبت أنه لا يضعف تدفق الدم.

16-

يجوز الذبح للطيور ونحوها بالآلات السريعة، إن كانت متقنة بحيث يؤمن من أن تقطع في غير محل القطع.

ص: 332

17-

يجزئ في المجموعات الكبيرة من الطيور إن كثرت كثرة يشق على الذابح التسمية عليها واحدا واحدا، أن يكتفي بالتسمية مرة واحدة على كل مجموعة يتوالى الذبح فيها بسرعة، فإن توقف لسبب ما، وأراد أن يعود، فعليه أن يسمي مرة أخرى.

18-

اللحم الذي يذبح في ديار المسلمين، أو الديار التي أغلب أهلها مسلمون، ويوجد في أسواقهم، يحل للمسلم أكله، ولو لم يعلم كيف تم ذبحه، ما لم تقم القرائن القوية على أنه ذبح بطريقة غير مشروعة.

19-

اللحوم المستوردة إلى بلاد المسلمين من بلاد غالب أهلها وثنيون أو شيوعيون لا يحل للمسلم تناولها ما لم يؤت بشهادة من جهة إسلامية موثوقة أنه ذبح على الطريقة الإسلامية وبأيد إسلامية.

20-

اللحوم المستوردة من بلاد نصرانية أو غالبية أهلها نصارى لما كانت تزهق أرواح الذبائح عندهم بطريقة غير مقبولة شرعا، كالصعق بالكهرباء، والضرب في الدماغ بالمسدس القاتل، والخنق بضغط الهواء في الصدرأو بثاني أوكسيد الكربون، وأصبح هذا عنهم معلوما علما ينفي الريب، فلا يحل المستورد من عندهم إلا إن علم عن جهة معينة عندهم أنها تذبح على طريقة مقبولة شرعا، أو تأتي الشهادة المعتبرة شرعا أن المجموعة المستوردة ذبحت بطريق مقبولة شرعا.

21-

ينبغي للدولة الإسلامية- حرصا على دينها ومصلحة شعوبها ودينهم- التدخل في الأمر، لتحقيق الأحكام الشرعية فيما يستورد إليها من اللحوم من البلاد غير الإسلامية.

والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين.

د. محمد سليمان الأشقر

ص: 333

مراجع البحث

* ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، تقي الدين، شيخ الإسلام، (661-728 هـ) - اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، القاهرة، مكتبة السنة المحمدية، 1369 هـ.

* ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، شهاب الدين (773- 852 هـ) - فتح الباري شرح صحيح البخاري، القاهرة، المكتبة السلفية، تمت طباعته سنة 1390 هـ.

* ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد، النمري القرطبي (463 هـ) - الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، بتحقيق محمد أحمد أحيد أحيد ولد ماديك الموريتاني، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، 1398 هـ.

*ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمد، موفق الدين المقدسي الحنبلي (541- 620هـ) - المغني شرح مختصر الخرقي، ط ثالثة، القاهرة، دار المنار، 1367 هـ.

* ابن كثير، إسماعيل بن عمر، أبو الفداء (751- 774 هـ) - تفسير القرآن العظيم، بيروت.

* ابن مفلح، محمد بن مفلح، أبو عبد الله (763 هـ) - الفروع في الفقه الحنبلي، راجعه عبد الستار فراج ط 4، بيروت، عالم الكتب 1405 هـ.

* ابن همام الدين، محمد بن عبد الواحد السيواسي الإسكندري الحنفي (790- 861 هـ) - شرح فتح القدير على الهداية للمرغيناني، بيروت، المكتبة العلمية.

* أبو سريع محمد عبد الهادي- الأطعمة والذبائح في الفقه الإسلامي، مصر، دار الاعتصام، (د، ت) .

ص: 334

* الخطابي، حمد بن محمد، أبو سليمان البستي (388هـ) - معالم السنن: وهو شرح لسنن أبي داود، بيروت، المكتبة العلمية، مصور عن طبعة القاهرة 1352 هـ.

* الدسوقي، محمد بن عرفة، شمس الدين (1230 هـ) - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، القاهرة، عيسى الحلبي، د. ت.

* السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين (911هـ) - تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، القاهرة، عبد الحميد الحنفي، 1353 هـ. الشافعي، محمد بن إدريس، المطلبي الإمام (153- 204 هـ) -الأم، بيروت، دار الفكر، د. ت.

*صالح بن فوزان الفوزان- الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح (رسالة دكتوارة) ، الرياض، مكتبة المعارف، 1408 هـ.

* عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي- الاختيار لتعليل المختار، علق عليه الشيخ محمود أبو دقيقة، بيروت، دار المعرفة، (د. ت) القرافي، أحمد بن إدريس الصنهاجي (- 684 هـ) - الذخيرة في الفقه المالكي، بتحقيق محمد أبو خبزة، بيروت دار الغرب الإسلامي ،1994م.

* القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري (671هـ) -الجامع لأحكام القران، القاهرة دار الكاتب العربي، 1387 هـ، مصورة عن طبعة دار الكتب.

* مالك بن أنس، الإمام (95- 179) - الموطأ: انظر: السيوطي-تنوير الحوالك.

*المحلي، محمد بن أحمد، جلال الدين- شرح المنهاج، ومعه حاشيتا القليوبي وعميرة، القاهرة، عيسى الحلبي، 1356 هـ.

* محمد عبد القادر أبو فارس- أحكام الذبائح في الإسلام: الذبح، الصيد، العقيقة، الأضحية، ط 3، الزرقاء، مكتبة المنار للطباعة والنشر، 1414 هـ.

* محمد فتحي الدريني- بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1414 هـ.

*المودودي، أبو الأعلى - ذبائح أهل الكتاب، رسالة موجزة، تونس، دار بوسلامة للنشر، (د. ت)

ص: 335