الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
في حكم الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما
سبق في الفصل الثاني بيان وجوب فعل كل صلاة في وقتها المحدد لها وهذا هو الأصل، لكن إذا وجدت حالات تستدعي الجمع بين الصلاتين أبيح الجمع، بل كان مطلوباً ومحبوباً 'لي الله تعالى لموافقته لقاعدة الدين الإسلامي التي أشار الله تعالى إليها بقوله " (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(1) .
وقوله (ِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(2) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال " إن الدين يسر ولن يشاد أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا "(3) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي صلي الله عليه وسلم قال حين بعثه ومعاذاً إلي اليمن: " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا "(4) .
وفي رواية لمسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي
(1) سورة البقرة، الآية:185.
(2)
سورة الحج، الآية:78.
(3)
تقدم تخريجه ص 217.
(4)
أخرجه البخاري: كتاب المغازي /باب بعث أبي موسى ومعاذ إلي اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم: كتاب الجهاد والسير /باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.
صلي الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا "(1) .وفيهما عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يسروا ولا تعسروا وبشروا (وفي رواية: سكنوا) ولا تنفروا "(2) .
إذا تبين هذا فقد وردت السنة بالجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما في عدة مواضع:
الأول: في السفر سائراً أو نازلاً:
ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر (3) .
وفي صحيح مسلم عنه قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول العصر فيجمع بينهما (4) .
وفيه أيضاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء (5) .
وفيه عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير/ باب الأمر بالتيسير وترك التنفير.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الأدب /باب قول النبي صلي الله عليه وسلم " يسروا ولا تعسروا "، ومسلم: كتاب الجهاد والسير /باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.
(3)
أخرجه البخاري: كتاب التقصير الصلاة / باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء.
(4)
أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(5)
أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
والعشاء جميعاً (1) .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة –رضي الله عنه – حين أتي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الأبطح بمكة في الهاجرة (أي وقت الظهر) قال: فخرج بلال فنادى بالصلاة، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلي الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه، ثم دخل فأخرج العنزة وخرج النبي صلي الله عليه وسلم (أي من قبة كان فيها أدم) كأني أنظر إلي بياض ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين. (2) .
وظاهر هذه الأحاديث أنه كان يجمع بين الصلاتين وهو نازل، فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز، أو أن ثمة حاجة إلي الجمع، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يجمع في حجته حين كان نازلاً بمنى، وعلى هذا فنقول: الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وأن جمع فلا بأس إلا أن يكون في حاجة إلي الجمع إما لشدة تعبه ليستريح، أو لمشقة طلب الماء عليه لكل وقت ونحو ذلك فإن الأفضل له الجمع واتباع الرخصة.
وأما المسافر السائر فلأفضل له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء – حسب الأيسر له – إما جمع تقديم يقد الثانية في وقت الأولي، وإما جمع تأخير يؤخر الأولي إلي وقت الثانية.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس – أي تزول – أخر الظهر إلي وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل
(1) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب استعمال فضل وضوء الناس.
صلى الظهر ثم ركب (1) .
وذكر في فتح الباري أن إسحاق بن راهويه روى هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل. قال: وأعل بتفرد إسحاق به شبابة، ثم تفرد جعفر الغريابي به عن إسحاق قال: وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان (2) .
الثاني: عند الحاجة إلي الجمع بحيث يكون في تركه حرج ومشقة سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر.
لما رواه مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر فقيل لم فعل ذلك؟ قال:" كي لا يحرج أمته "(3) .
وروي عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: جمع رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك بن الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل ما حمله على ذلك؟ قال:" أراد أن لا يحرج أمته "(4) .
ففي هذين الحديثين دليل على أنه كلما دعت الحاجة إلي لجمع بين الصلاتين وكان في تركه حرج ومشقة فهو جائز سواء كان ذلك في
(1) أخرجه البخاري: كتاب تقصير الصلاة / باب يؤخر الظهر إلي العصر، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.
(2)
فتح الباري 2/679.
(3)
تقدم تخريجه ص 34.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 5/ 237، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب الجمع بين الصلاتين.
حضر أو في سفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور" اهـ. ونقل في الإنصاف عنه أي عن شيخ الإسلام ابن تيمية جواز الجمع لتحصيل الجماعة إذا كانت لا تحصل له لو صلى في الوقت، قلت: ودليل ذلك ظاهر من حديث ابن عباس حيث دل على جواز الجمع للمطر وما ذلك إلا لتحصيل الجماعة لأنه يمكن لكل واحد أن يصلي في الوقت منفرداً ويسلم من مشقة المطر بدون جمع.
الموضوع الثالث: الجمع في عرفة ومزدلفة أيام الحج:
ففي صحيح مسلم من حديث جابر –رضي الله عنه – في صفة حج النبي صلي الله عليه وسلم قال: فأجاز رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتي بطن الوادي فخطب الناس، قال: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً (1) .
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلي الله عليه وسلم من عرفة إلي المزدلفة قال: فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة أمامك " فركب فلما جاء
(1) أخرجه مسلم: كتاب الحج /باب حجة النبي صلي الله عليه وسلم
المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً (1) .
وفي حديث جابر الذي رواه مسلم أنه صلى في المزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين (2) .
ففي هذين الحديثين أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع في عرفة بين الظهر والعصر جمع تقديم، وجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير. وإنما أفردنا ذكرهما لأن العلماء اختلفوا في علة الجمع فيهما: فقيل: السفر وفيه نظر، لان النبي صلي الله عليه وسلم لم يجمع في منى قبل عرفة ولا حين رجع منها.
وقيل: النسك، وفيه أيضاً إذ لو كان كذلك لجمع النبي صلي الله عليه وسلم من حين أحرم، وقيل: المصلحة والحاجة وهو الأقرب فجمع عرفة لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء،ولأن الناس يتفرقون في الموقف فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم، وإن صلوا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجمع. أما في مزدلفة فهم أحوج إلي الجمع، لأن الناس يدفعون من عرفة بعد الغروب فلو حبسوا لصلاة المغرب فيها لصلوها من غير خشوع ولو أوقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق فكانت الحاجة داعية إلي تأخير المغرب لتجمع مع العشاء هناك.
وهذا عين الصواب والمصلحة لجمعه بين المحافظة على
(1) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء / باب الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، ومسلم: كتاب الحج /باب الإفاضة من عرفات إلي المزدلفة.
(2)
تقدم تخريجه ص 161.
الخشوع في الصلاة ومراعاة أحوال العباد.
…
فسبحان الحكيم الرحيم، ونسأله تعالى أن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب،والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد خير المخلوقات، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات.