المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر حكم الأرضين وما جاء فيه - مختصر تاريخ دمشق - جـ ١

[ابن منظور]

فهرس الكتاب

- ‌[التاريخ]

- ‌باب اشتقاق اسم التاريخ والفائدة بالعناية به

- ‌باب في مبتدأ التاريخ واصطلاح الأمم عليه

- ‌ذكر اختلاف الصحابة في التاريخوما نقل فيه من الاتفاق منهم

- ‌ذكر تاريخ الهجرة

- ‌القول في اشتقاق تسمية الأيام والشهور

- ‌السبب الذي حمل الأئمة على أن قيدوا المواليد وأرخوا التواريخ

- ‌[دمشق والشام]

- ‌ذكر أصل اشتقاق تسمية الشام

- ‌ذكر تاريخ مدينة دمشق ومعرفة من بناها

- ‌اشتقاق تسمية دمشق

- ‌حث النبي أمته على سكنى الشام وإخباره بتكفل الله عز وجل لمن سكنه من أهل

- ‌بيان أن الإيمان يكون بالشام عند وقوع الفتن والملاحم

- ‌ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشام عند وقوع الفتن عقر دار

- ‌ما جاء في أن الشام صفوة الله من بلادهوإليها يجتبي خيرته من عباده

- ‌اختصاص الشام ببسط ملائكة الرحمة أجنحتها عليها

- ‌دعاء النبي للشام بالبركة

- ‌بيان أن الشام أرض مباركة

- ‌ما جاء في أن الشام الأرض المقدسة المذكورة في القرآن

- ‌إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن بالشام تسعة أعشار الخير

- ‌ما جاء في أن الشام مهاجر إبراهيم الخليلوأنه من المواضع المختارة لإنزال التنزيل

- ‌اختصاص الشام بالإضاءة عند مولد النبيصلى الله عليه وسلم

- ‌الشام أرض المحشر والمنشر

- ‌ما جاء في أن الشام أرض المحشر المنشر

- ‌ما جاء في أن بالشام يكون ملك أهل الإسلام

- ‌ما جاء من أن الشام سرة الدنيا

- ‌الشام يبقى عامراً بعد خراب الأمصار

- ‌ما جاء من أن الشام يبقى عامراً بعد خراب الأمصار

- ‌باب تمصير الأمصار

- ‌فضل دمشق من القرآن

- ‌ما ورد في فضل دمشق من القرآن

- ‌دمشق من مدن الجنة

- ‌ما ورد في أن دمشق من مدن الجنة

- ‌دمشق مهبط عيسى بن مريم

- ‌ما جاء في أن دمشق مهبط عيسى بن مريم

- ‌ما جاء في أن دمشق فسطاط المسلمين

- ‌باب في أن البركة في دمشق مضعّفة

- ‌ما جاء في أن أهل دمشق لا يزالون على الحق

- ‌باب غناء أهل دمشق في الملاحموتقديمهم في الحروب

- ‌ما جاء في أن أهل دمشق يعرفون في الجنة بالثياب الخضر

- ‌دعاء النبي لأهل الشام أن يهديهم الله ويقبل بقلوبهم إلى الإسلام

- ‌ما روي أن أهل الشام مرابطونوأنهم جند الله الغالبون

- ‌ما جاء أن بالشام تكون الأبدال

- ‌نفي الخير عند فساد أهل الشام

- ‌ما جاء في نفي الخير عند فساد أهل الشام

- ‌ما جاء من أن بالشام تكون بقايا العرب

- ‌باب انحياز بقية المؤمنين آخر الزمان إلى الشام

- ‌ما ذكر من تمسك أهل الشام بالطاعة

- ‌ذكر توثيق أهل الشام بالرواية وعلمهم

- ‌باب صفة أهل الشام بالدين والثقة

- ‌باب النهي عن سب أهل الشام

- ‌من قتل من أهل الشام بصفين

- ‌ما ورد فيمن قتل من أهل الشام بصفين

- ‌ذكر ما ورد في ذم أهل الشام

- ‌أخبار ملوك الشام قبل الإسلام

- ‌ذكر ما جاء من أخبار ملوك الشام قبل الإسلام

- ‌باب تبشير النبي أمته بافتتاح الشام

- ‌باب سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلموبعوثه وهي غزوة دومة الجندل وذات أطلاح وغزوة مؤتة وذات السلاسل

- ‌باب غزوة تبوك

- ‌ذكر بعث النبي أسامة بن زيدوأمره بشن الغارة على مؤتة ويبنى وآبل الزيت

- ‌ذكر اهتمام أبي بكر بفتح الشاموحرصه عليه

- ‌ما روي من توقع المشركينلظهور دولة المسلمين

- ‌ذكر ظفر جيش المسلمين بأجنادين وفحل ومرج الصفر

- ‌باب كيف كان أمر دمشق في الفتح

- ‌ذكر تاريخ وقعة اليرموكومن قتل بها

- ‌ذكر تاريخ قدوم عمر الجابية

- ‌ما اشترط عند فتح الشام على الذمة

- ‌ذكر حكم الأرضين وما جاء فيه

- ‌الصوافي التي استصفيت عن بني أمية

- ‌بعض ما ورد من الملاحم والفتنيتعلق بدمشق

- ‌ذكر بعض أخبار الدجال

- ‌ذكر شرف جامع دمشق وفضله

- ‌ما ذكر من هدم بقية كنيسة مريحنا وإدخالها في الجامع

- ‌ما ذكر في بنائه واختيار موضعه

- ‌كيفية ترخيمه ومعرفة المال المنفق عليه

- ‌ذكر ما كان عمر بن عبد العزيز رده على النصارى عند طلبه

- ‌ذكر ما في الجامع من القناديل وما فيه وفي البلد من الطلسمات

- ‌ما ورد في أمر السبع وابتداء الحضور فيه

- ‌ذكر مساجد البلد وحصرها

- ‌ذكر فضل المساجد المقصودة بالزيارة

- ‌ذكر فضل مواضع وجبال بظاهر دمشق وضواحيها

- ‌كنائس أهل الذمة التي صالحوا عليها

- ‌بعض الدور التي هي داخل السور

- ‌الأنهار المحتفرة للشرب وسقي الزرع

- ‌مدح دمشق بطيب الهواء والماء

- ‌ما ورد في مدح دمشق بطيب الهواء والماء

- ‌ذكر تسمية أبوابها ونسبتها

- ‌فضل مقابر أهل دمشقومن بها من الأنبياء وغيرهم

الفصل: ‌ذكر حكم الأرضين وما جاء فيه

‌ذكر حكم الأرضين وما جاء فيه

قال: لا خلاف بين الأئمة أن كل بلد صولح أهله على الخراج المعلوم أنه لا يجوز تغيير ما استقر عليه. وقد صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمضى لأهل مدينة دمشق الصلح، لكنه لما أشكل عليه الحال في الفتح وهل سبق من دخلها عنوة أو من دخلها بالصلح أمضاها كلها صلحاً لأهلها، وقبل منهم شروطاً بذلوها، فأما ما ظهر عليه المسلمون عنوة من أعمالها ونواحيها، وحووه بالقهر والغلبة من أرضيها فقد اختلف فيه: فذهب عمر وعلي ومعاذ بن جبل إلى أنها وقف على المسلمين، لا تقسم بين من غلب عليها من الغانمين، وتجري غلتهم عليهم وعلى من بعدهم. وذهب الزبير بن العوام وبلال بن رباح إلى أنها ملك للغانمين، فتقسم بينهم على ما يراه الإمام. وذهب أبو حنيفية وسفيان الثوري إلى أن الإمام في ذلك بالخيار، إن شاء وقفها، وإن شاء قسمها ووزعها على ما يراه بين من غنمها. وذهب مالك إلى أنها تصير وقفاً بنفس الاغتنام. ولا يكون فيها اختيار للإمام. وذهب الشافعي إلى أنه ليس للإمام أن يقفها بل يلزمه أن يقسمها إلا أن يتفق على وقفها المسلمون، فيرضى ببذلك من غنمها.

فأما ما روي عن عمر وعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: لولا آخر المسلمين ما فتحت عليهم قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.

وعنه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بباناً ليس لهم شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكن أتركها لهم حراثة.

ومعنى بباناً أي باجاً واحداً وشيئاً واحداً.

وعن يزيد بن أبي حبيب قال: كتب عمر إلى سعد حين افتتح العراق: أما بعد. فقد بلغني كتابك، تذكر أن الناس

ص: 231

سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عز وجل عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس به عليك إلى العسكر من كراع أو مال فاقسمه بن من حضر من المسلمين. واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بقي بعدهم شيء.

وعن إبراهيم السلمي قال: لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا فإنا فتحناه غنوة. فأبي وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه. قال: فأقر أهل السواد في أرضيهم، وضرب على رؤوسهم الجزية وعلى أرضيهم الطسق.

قال أبو عبيدة: يعني بالطسيق: الخراج.

وعن عتبة بن فرقد قال: اشتريت عشرة أجربة من أرض السواد على شاطئ الفرات لقضب لدوابي فذكرت ذلك لعمر فقال لي: اشتريتها من أصحابها؟ قلت: نعم. قال: رح إلي فرحت إليه فقال: يا هؤلاء، أبعتموه شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ابتغ مالك حيث وضعته.

وأما ما روي عن علي رضي الله عنه وعن حارثة بن مضرب عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد بني المسلمين فأمر أن يحصوا، فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين، فشاور في ذلك فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين فتركهم. وبعث عليهم عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر، وبهذا كان يأخذ سفيان بن سعيد وهو معروف من قوله إلا أنه كان يقول: الخيار في أرض الغنوة إلى الإمام إن شاء جعلها غنيمة فخمس وقسم، وإن شاء جعلها فيئاً عاماً للمسلمين ولم يخمس ولم يقسم.

قال أبو عبيد: وليس الأمر عندي إلا على ما قال سفيان إن الإمام مخير في العنوة بالنظر للمسلمين والحيطة عليهم بين أن يجعلها غنيمة أو فيئاً.

ص: 232

وأما ما روي عن معاذ ولما قدم عمر الجابية أراد قسم الأرضين فقال له معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم كان الربع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسداً وهم لا يجدون شيئاً. فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم. فسار عمر إلى قول معاذ.

وأما ما روي عن الزبير قال سفيان بن وهب الخولاني: لما افتتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال: يا عمرو بن العاص، أقسمها، فقال عمرو: لا أقسمها، فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبير، قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر أن أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.

وأما ما روي عن بلال وعن نافع مولى ابن عمر قال: أصاب الناس فتح الشام فيهم بلال، قال: وأظنه ذكر معاذ بن جبل فكتبوا إلى عمر بن الخطاب: إن هذا الفيء الذي أصبنا، لك خمسه، ولنا ما بقي، ليس لأحد منه شيء. كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فكتب عمر: ليس علي ما قلتم، ولكني أقفها للمسلمين، فراجعوه الكتاب وراجعهم، يأبون ويأبى، فلما أبوا قام عمر فدعا عليهم فقال: اللهم، أكفني بلالاً وأصحاب بلال. قال: فما حال الحول عليهم حتى ماتوا جميعاً.

قال البيهقي: قوله إنه ليس علي ما قتم ليس يريد إنكار ما احتجوا به من قسمة خيبر، ويشبه أن يريد به: ليست المصلحة فيما قلتم، وإنما المصلحة في أن أقفها للمسلمين، وجعل يأبى قسمتها لما كان يرجو من تطييبهم ذلك له، وجعلوا يأبون لما كان لهم من الحق، فلما أبوا لم يبرم عليهم الحكم بإخراجها من أيديهم، ووقفها، ولكن دعا عليهم حيث خالفوه فيما رأى من المصلحة، وهم لو وافقوه وافقه أفناء الناس وأتباعهم.

ص: 233

وفي رواية أن بلالاً قال: لتقسمنها أو لنضاربن عليها بالسيف، فقال عمر: لولا أني أترك الناس بباناً، لا شيء لهم ما فتحت قرية إلا قسمتها سهماناً كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.

زاد البيهقي والخشنامي إلى آخر الحديث: ولكن أتركها لمن بعدهم جزية يقتسمونها.

قال البيهقي: وفي أحاديث عمر التي لم ير فيها القسمة دلالة على أن عمر كان يرى من المصلحة إقرار الأراضي، وكان يطلب استطابة قلوب الغانمين، وإذا لم يرضوا بتركها فالحجة في قسمه قائمة بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة خيبر وقد خالف الزبير بن العوام وبلال وأصحابه، ومعاذ، على شك من الراوي، عمر فيما رأى. والله أعلم.

حدث أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو قال: حضرت عند أبي الحسن بن محمد بن مدبر، أحضر ذلك المجلس هشام بن عمار ودحيماً ومحمود بن خالد وعبد الله بن ذكوان وأحضرني فيمن أحضر فقال: إنكم لا تتهمون على الفيء، وإنما يتهم عليه أهل البدع، لأنكم تعلمون أنه ينفق في بيضة الإسلام وفي حج البيت ومجاهدة العدو وأمن السبل، فتكلم يومئذ أحمد بن محمد بن مدبر في ذلك فأبلغ، وقال: أخبروني عن مدائن الساحل: هل ترون من مستغلها حقاً للفيء؟ فقال: لا حق للفيء في مستغلها. وأعلموه أن دمشق فتحت صلحاً، وأن صلح حصونها بصلحها من أجل أنها الأم، وإن ساحلها تبع لها.

قال أبو زرعة: وأعلمته يومئذ أن بعلبك صلح، وأن الوليد بن مسلم قد أثبت صلحها عن إسماعيل بن عياش. فقال ابن مدبر للمشيخة: هكذا تقولن؟ قالوا: نعم، فقبل ذلك منهم.

قال أبو زرعة: وسألني أبى مدبر عن بيع الكلأ فأعلمته أن الأوزاعي يقول: الناس فيه أسوة، فتظلم إلى ابن مدبر رجل من الرعية على رجل رعى كلأ له، فلم يعده. وقال: فقيه أهل الشام لا يرى لك حقاً.

ص: 234

قال أبو زرعة: ورأيت أحمد بن محمد بن مدبر شديداً في الأرض، مذهبه فيها مذهب السلف في إيقافها.

قال: فحدثته بحديث أرويه عن الهيثم بن عمران قال: كتب هشام بن عبد الملك إلى كلثوم بن عياض وبلغه أن خالداً القسري اشترى أرضاً من أرض الغوطة بغير إذنه فقال: أتشتري أرضاً بغير إذني؟ فأمر سالماً الكاتب أن يكتب إلى كلثوم بن عياض: عزمت عليك ألا تضع كتابي من يدك حتى تغرم الوليد بن عبد الرحمن عاملي على الغوطة أربع مئة دينار، وتبعث بها إلي إذا اشتريت أرض بغير إذنه، وكتب إلى كلثوم أن اضرب وكيلي القسري مئة مئة. وأطفء بهما، ومر من ينادي عليهما: هذا جزاء من اشترى أرضاً بغير إذن أمير المؤمنين. وذلك أنه وجد فيما وضع عمر بن عبد العزيز حين استخلف قال: هل نهت الولاة قبلي عن شراء الأرض من أهل الذمة؟ قالوا: لم ينهوا. قال: فإني قد سلمت لمن اشترى، ولكن من اليوم أنهى عن بيعها، إنها أرض المسلمين، دفعت إلى أهل الذمة على أن يأكلوا منها ويؤدوا خراجها، وليس لهم بيعها، ومن اشترى بعد اليوم. فيعاقب البيع والمشتري، وترد الأرض إلى النبطي، ويؤخذ الثمن من المسلم، فيجعل في بيت المال، لما انتهكوا من المعصية، ويدخل المال الذي أخذ النبطي بيت مال المسلمين لما وضع عمر في ذلك الديوان فهي المدة. ما كان قبل المدة، يعني قبل عمر بن عبد العزيز، وما كان بعد المدة، يعني بعد عمر.

قال أبو زرعة:

فاستحسن أحمد بن محمد بن مدبر هذا الحديث، وأنكر العقوبة، فقلت له: لا تبتذله رأيه، وأخبرته بحديث رويته عن إسحاق بن مسلم، وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على خراج الأردن. فكتب إلى عمر: أما بعد. فإني وجدت أرضاً من أرض أهل الذمة بأيدي أناس من المسلمين فما يرى أمير المؤمنين فيها؟ فكتب إليه أن تلك أرض أوقفها أول المسلمين على آخرهم، فامنع ذلك البيع. إن شاء الله والسلام.

وحدثته ما رويته عن القاسم بن زياد وعن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على الغوطة، فكتب إلى عمر: أما بعد: فإن قبلنا أرضاً من أرض أهل الذمة بأيدي ناس من المسلمين قد

ص: 235

ابتاعوها منهم، وهم يؤدون العشر مما يخرج منها، أفضل مما كان عليها، فما يرى أمير المؤمنين؟ قال: وأنا أريد بدا وذات بدا، أرضاً من أرض الجبل اتخذها عمر، فكتب إليه عمر أن تلك أرض حبسها أول المسلمين على آخرهم، فليس لأحد أن يتمولها دونهم، فامنع ذلك البيع إن شاء الله.

قال أبو زرعة: فحدثت بهذا الحديث عبد الملك بن الأصبغ من أصحاب الوليد بن مسلم فأخبرني أن عمر بن عبد العزيز لم يمت عن ضيعة بقيت في يده غير بدا وحزين من أرض بعلبك، وأنه أورثها عشراً وعدلها على ذلك أبو جعفر المنصور فصارت بأيدي ورثة عمر.

قال أبو زرعة: فقال لي أحمد بن محمد بن مدبر: قد جاء فيها: من أخذ أرضاً بجزيتها فقد أتى بما يأتي به أهل الكتاب من الذل والصغار.

وأما قول الثوري فقد روي عن سفيان بن سعيد قال: إذا ظهر على بلاد العدو فالإمام بالخيار إن شاء قسم البلاد والأموال والسبي، بعد ما يخرج الخمس من ذلك، وإن شاء من عليهم فترك الأرض والأموال، وكانوا ذمة للمسلمين كما صنع عمر بن الخطاب بأهل السواد، فإن تركهم صاروا عهداً توارثوا وباعوا أرضهم.

قال يحيى بن آدم أحد رواة هذا الحديث: وسمعت حفص بن غياث يقول: تباع ويقضى بها الدين، وتقسم في المواريث.

وأما قول مالك فإنه ذهب إلى أن من أسلم من أهل الصلح فهو أحق بما له وأرضه، وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم فإن أرضه وماله للمسلمين، لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم وصارت فيئاً للمسلمين، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أموالهم وأنفسهم حتى صالحوا عليها، فليس عليهم إلا ما صلحوا عليه.

ص: 236

وروى عنه يحيى بن عبد الله بن بكير قال: قال مالك: كل أرض فتحت صلحاً فهي لأهلها، لأنهم منعوا بلادهم حتى صالحوا عليها، وكل بلاد أخذت عنوة فهي فيء للمسلمين.

وقال يحيى بن آدم: كل أرض كانت لعبد الأوثان من العجم أو لأهل الكتاب من العجم أو العرب ممن يقبل منهم الجزية فإن أرضهم أرض خراج إن صالحوا على الجزية على رؤوسهم، والخراج على أرضيهم، فإن ذلك يقبل منهم، وإن ظهر عليهم المسلمون فإن الإمام يقسم جميع ما أجلبوا به في العسكر من كراع أو سلاح أو مال بعدما يخمسه، وهي الغنيمة التي لا يوقف شيء منها، وذلك قوله عز وجل:" ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه " وأما القرى والمدائن والأرض فهي فيء كما قال الله عز وجل: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " فالإمام بالخيار في ذلك: إن شاء وقفه وتركه للمسلمين، وإن شاء قسمه بين حضره.

قال أبو بكر الخطيب: اختلف الفقهاء في الأرض التي يغنمها المسلمون فيقهرون العدو عليها، فذهب بعضهم إلى أن الإمام بالخيار بين أن يقسمها على خمسة أسهم، فيعزل منها السهم الذي ذكره الله تعالى في آية الغنيمة فقال:" واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه " الآية. ويقسم السهام الأربعة الباقية بين الذين افتتحوها، فإن لم يختر ذلك وقف جميعها، كما فعل عمر بن الخطاب في أرض السواد.

وممن ذهب إلى هذا القول سفيان بن سعيد الثوري وأبو حنيفة النعمان بن ثابت.

وقال مالك: تصير الأرض وقفاً بنفس الاغتنام، ولا خيار فيها للإمام.

ص: 237

وقال محمد بن إدريس الشافعي: ليس للإمام إيقافها. وإنما يلزمه قسمتها، فإن اتفق المسلمون على إيقافها ورضوا أن لا تقسم جاز ذلك، واحتج من ذهب إلى هذا القول بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قسم أرض السواد بين غانمها وحائزها، ثم استنزلهم بعد ذلك عنها، واسترضاهم منها، ووقفها.

فأما الأحاديث التي وردت عن عمر أنه لم يقسمها فإنه محمولة على أنه امتنع من إمضاء القسم واستدامته بأن انتزع الأرض من أيديهم، أو أنه لم يقسم بعض السواد وقسم بعضه، ثم رجع فيه.

قال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الأرضين بثلاثة أحكام: أرض أسلم عليها أهلها فهي لهم، وملك أيمانهم، وهي أرض عشر، لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحاً على خراج معلوم فهي على ما صولحوا عليه، لا يلزمهم أكثر منه، وأرض أخذت عنوة فهي التي اختلف المسلمون فيها. فقال بعضهم: سبيلها سبيل الغنيمة تخمس، وتقسم، فيكون أربعة أخماسها خططاً بني الذين افتتحوها خاصة، ويكون الخمس الباقي لمن سمى الله تعالى، وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها للإمام: إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فتلك له، وإن رأى أن يجعلها فيئاً فلا يخمسها ولا يقسمها، ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة، ما بقوا كما صنع عمر بالسواد، فعل ذلك.

فأما حكم الدور التي هي داخل السور فقد روي عن بنت واثلة قالت: سمعت رجلاً يقول لواثلة: أرأيت هذه المساكن التي أقطعها الناس يوم فتحوا مدينة دمشق أماضية هي لأهلها؟ قال: نعم. قال: فإن ناساً يقولون هي لهم سكنى، وليس لهم بيعها ولا إتلافها بوجه من الوجوه، من صدقة ولا مهر ولا غير ذلك. فقال واثلة: ومن يقول ذلك! بل هي لهم ملك ثابت، يسكنون، ويمهرون، ويتصدقون.

وأما القطائع فقد روي عن عامر قال: لم يقطع أبو بكر ولا عمر ولا علي، وأول من أقطع القطائع عثمان، وبيعت الأرضون في خلافة عثمان.

ص: 238

وروي عن أبي عمرو وغيره أن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم على إقرار ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون منها خراجها إلى المسلمين، فمن أسلم منهم رفع عن رأسه الخراج، وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين أصحابه من أهل قريته، يؤدون عنها ما كان يؤدى من خراجها، ويسلمون له ماله ورقيقه وحيوانه، وفرضوا له في ديوان المسلمين، وصار من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ولا يرون أنه وإن أسلم أولى بما كان في يديه من أرضه من أصحابه من أهل بيته وقرابته، لا يجعلونها صافية للمسلمين، وسموا من ثبت منهم على دينه وقريته ذمة للمسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شرى ما في أيديهم من الأرض كرهاً، لما احتجوا به على المسلمين من أن إمساكهم كان عن قتالهم وتركهم مظافرة عدوهم من الروم عليهم، فهاب لذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر قسمهم، وأخذوا ما كان في أيديهم من تلك الأرضين، وكرهوا للمسلمين أيضاً شراءها طوعاً لما كان من ظهور المسلمين على البلاد، وعلى من كان يقاتلهم عنها، ولتركهم، كان، البعثة إلى المسلمين وولاة الأمر في طلب الأمان قبل ظهورهم عليهم. قالوا: وكرهوا شراءها منهم طوعاً بما كان من إيقاف عمر وأصحابه الأرض محبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين المجاهدين لا تباع ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين، ولما ألزموه أنفسهم من إقامة فريضة الجهاد لقوله عز وجل:" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " إلى تمام الآية.

قال: فقلت لغير واحد من مشيختنا ممن كان يقول هذه المقالة: فمن أين جاءت هذه القطائع التي بين ظهراني القرى الراخية والمزارع التي بيد غير واحد من الناس؟ فقال: إن بدء هذه القطائع أن ناساً من بطارقة الروم إذا كانت ظاهرة على الشام كانت هذه القرى التي منها هذه القطائع، كانت من الأرضين التي كانت بأيدي أنباط القرى، فلما هزم الله الروم هربت تلك البطارقة عما كان في أيديها من تلك المزارع، فلحقت بأرض الروم، ومن قتل منها في تلك المعارك التي كانت بين المسلمين والروم فصارت تلك المزارع والقرى صافية للمسلمين موقوفة يقبلها والي المسلمين كما يقبل الرجل مزرعته.

ص: 239

قالوا: فمنها أندركيسان يعني بدمشق. وقبيس بالبلقاء، وما على باب حمص من جبعاثا وغيرها.

قالوا: فلم تزل تلك المزارع موقوفة مقبلة، تدخل قبالتها بيت المال، فتخرج نفقة مع ما يخرج من الخراج، حتى كتب معاوية في إمرته على الشام إلى عثمان أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله ليس يقوم بمؤن من يقوم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم، ومن يقدم عليه من رسل الروم ووفودها، ووصف في كتابه هذه المزارع الصافية وسماها له، فسأله أن يقطعه إياها ليقوى بها على ما وصف له، وأنها ليست من قرى أهل الذمة ولا الخراج فكتب إليه عثمان بذلك كتاباً.

قالوا: فلم تزل بيد معاوية حتى قتل عثمان، وأفضى إلى معاوية الأمر، فأقرها على حالها، ثم جعلها من بعده حبساً على فقراء أهل بيته والمسلمين.

قالوا: ثم إن ناساً من قريش وأشراف العرب سألوا معاوية أن يقطعهم من بقايا تلك المزارع التي لم يكن عثمان أقطعه إياها، ففعل، فمضت لهم أموالاً يبيعون، ويمهرون، ويورثون.

فلما أفضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان وقد بقيت من تلك المزارع بقايا لم يكن معاوية قد أقطع منها أحداً شيئاً سأله أشراف الناس القطائع منها ففعل.

قالوا: إن عبد الملك سئل القطائع، وقد مضت تلك المزارع لأهلها، فلم يبق منها شيء، فنظر عبد الملك إلى أرض من أرض الخراج قد باد أهلها، ولم يتركوا عقباً أقطعهم منها، ورفع ما كان عليها من خراجها عن أهل الخراج، ولم يحمله أحداً من أهل القرى وجعلها عشراً، ورآه جائزاً له مثل إخراجه من بيت المال الجوائز للخاصة.

قالوا: فلم يزل يفعل ذلك حتى لم يجد من تلك الأرض شيئاً. فسأل الناس عبد الملك والوليد وسليمان قطائع من أرض القرى التي بأيدي أهل الذمة، فأبوا ذلك عليهم، ثم سألوهم أن يأذنوا لهم في شرى الأرضين من أهل الذمة فأذنوا لهم على إدخال أثمانها بيت المال، وتقوية أهل الخراج به على خراج سنتهم مع ما ضعفوا عن أدائه، وأوقفوا ذلك في الأرضين، ووضعوا خراج تلك الأرضين عمن باعها منهم، وعن أهل قراهم، وصيروها لمن اشتراها يؤدي العشر، يبيعون ويمهرون ويورثون.

ص: 240

قالوا: فلما ولي عمر بن عبد العزيز أعرض عن تلك القطائع التي أقطعها عثمان ومعاوية وعبد الملك والوليد وسليمان، فلم يردها عمر على ما كانت عليه صافية، ولم يجعلها خراجاً، وأبقاها لأهلها تؤدي العشر.

قال: وأعرض عمر عن تلك الأشرية بالإذن لأهلها فيها، لاختلاط الأمور فيها، لما وقع فيها من المواريث، ومهور النساء، وقضاء الديون، فلم يقدر على تخليصه ولا معرفة ذلك. قال: وأعرض عن الأشرية التي اشتراها المسلمون بغير إذن ولاة الأمر، لما وقع في ذلك من المواريث واختلاط الأمور، وجعل الأشرية سواء، وأمضاه لأهله ولمن كان في يديه كالقطائع للأرض عشراً ليس عليها ولا على من صارت إليه بميراث أو شراء جزية.

قالوا: وكتب بذلك كتاباً قرئ على الناس في سنة مئة وأعلمهم أنه لا جزية عليها، وأنها أرض عشر. وكتب أن من اشترى شيئاً بعد سنة مئة فإن بيعه مردود، وسمي سنة مئة المدة، فسماها المسلمون بعده: المدة. فأمضى ذلك فبقية ولايته، ثم أمضاه يزيد وهشام ابنا عبد الملك.

قالوا: فتناهى الناس عن شراها بعد سنة مئة بسنيات، ثم اشتروا أشرية كثيرة كانت بأيدي أهلها، يؤدون العشر، ولا جزية عليها.

فلما أفضى الأمر إلى أبي جعفر عبد الله بن محمد أمير المؤمنين رفعت إليه تلك الأشرية وأنها تؤدي العشر، ولا جزية عليها، وأن ذلك أضر بالخراج وكسره، فأراد ردها إلى ألها. قيل له: قد وقعت في المواريث والمهور واختلط أمرها، فبعث المعدلين إلى كور الشام سنة أربعين أو إحدى وأربعين منهم: عبد الله بن يزيد إلى حمص، وإسماعيل بن عياش إلى بعلبك، في أشباه لهم، فعدلوا تلك الأشرية على من هي بيده شرى أو ميراث أو مهر، فعدلوا ما بقي بأيدي الأنباط من بقية الأرض على تعديل مسمى، ولم تعدل الغوطة في تلك السنة، وكان من كان بيده شيء من تلك الأشرية من أهل الغوطة يؤدي العشر حتى بعث أمير المؤمنين عبد الله بن محمد، هضاب بن طوق،

ص: 241

ومحرز بين زريق، فعدلوا الأشرية، وأمرهم ألا يضعوا على شيء من القطائع القديمة ولا الأشرية خراجاً، وأن يمضوها لأهلها عشرية، ويضعوا الخراج على ما بقي منها بيد الأنباط وعلى الأشرية المحدثة من بعد سنة مئة إلى السنة التي عدل فيها.

حدث سليمان بن عتبة

أن أمير المؤمنين عبد الله بن محمد سأله في مقدمة الشام سنة ثلاث أو أربع وخمسين ومئة عن سبب الأرضين التي بأيدي أبناء الصحابة، ويذكرون أنها قطائع لآبائهم قديمة، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالى لما أظهر المسلمين على بلاد الشام، وصالحوا أهل دمشق وأهل حمص كرهوا أن يدخلوها دون أن يتم ظهورهم وإثخانهم في عدو الله عسكروا في مرج بردى ما بين المزة وبين مرج شعبان جنبي بردى، وكانت مروجاً مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها ليست لأحد منهم، فأقاموا بها، حتى أوطأ الله المشركين ذلاً، وقهراً، وأحيا كل قوم محلتهم، وهيؤوا فيها بناء، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمضاه لهم، فبنوا الدور، ونصبوا الشجر، ثم أمضاه عثمان، ومن بعده إلى ولاية أمير المؤمنين، فقال: قد أمضيناه لأهله.

ص: 242