الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» (42 الحجر) . وكما يقول جل شأنه: «اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً» . (63: الإسراء)
الحياة.. وخالق الحياة
قوله تعالى:
أكثر ما يكون الجدل فى قضية الإيمان يدور حول «البعث» حتى إن كثيرا من الذين يعترفون بوجود الإله الخالق، الذي بيده ملكوت السموات والأرض، يكذبون، أو يشكّون فى إمكان البعث ووقوعه. وهذا ناشىء عن فساد فى العقيدة، وعن قصور فى إدراك بعض ما لله سبحانه وتعالى من كمال مطلق، فى ذاته وصفاته.. وأن قدرته سبحانه مطلقة من كل حد وقيد..
وإذا كان للشك فى البعث ما يبرره عند الذين ينكرون الله، ولا يؤمنون بوجوده، فإنه ليس له وجه يقبل عليه من الذين يقولون إنهم يؤمنون بإله واحد!! وهذا شان اليهود، فإنهم مع إيمانهم بالله، فإن تصورهم المريض لجلال الألوهية وعظمتها، جعلهم ينظرون إلى الله، وكأنه كائن مادىّ محدود، لا يقدر على إعادة الأجسام بعد البلى والدثور.. ثم كان حبهم للحياة، وتعلقهم بها مباعدا
بينهم وبين ذكر الموت، وتصوره، وتصوّر ما بعده.. فإنّ ذكر البعث لا يجىء إلا بعد الإيمان بالموت كحقيقة واقعة، ثم استحضاره والإعداد له ولما بعده..
فهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» (96: البقرة) ..
فهم ومشركو العرب على سواء، فى تصورهم للبعث، فقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون بالله، ولكنه إيمان باهت مختلط بكثير من الضلالات، الأمر الذي جعلهم ينكرون البعث ويقولون:«ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» (24: الجاثية) .
وهذه الآية الكريمة تشرح قضية البعث، وتعرضها هذا العرض المحسوس الواضح، الذي تكاد تمسك به اليد، ومن هنا كان العرض عاما، يدعى إليه الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، عالمهم وجاهلهم:
- «يا أَيُّهَا النَّاسُ» .. اسمعوا هذا النداء، واشهدوا هذا العرض.. ثم احكموا بما ترون..
- «إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ» .. فانظروا أولا فى هذه الصورة، وتابعوا سيرها، خطوة خطوة، لتروا كيف بدأت، وكيف انتهت، ثم كيف كان البدء.. وكيف كانت النهاية:
- «فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ» .. هكذا..
- «مِنْ تُرابٍ..» حيث كنتم بعض هذا التراب الذي ترون. لا وجود لكم ولا أثر يدلّ عليكم..
«ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ..» أي ومن هذا التراب نبتت شجرة إنسانية، هى الإنسان الأول.. ثم كان تناسلكم وتوالدكم، كما تتوالد، وتتناسل
الكائنات الحية.. حيث يبدأ التناسل والتوالد بالنطفة، وهى ماء التناسل فى الكائن الحىّ..
«ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ» .. وهى صورة أولى من صور النطفة، حيث تنعقد النطفة.
«ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» هى صورة أولى من صور العلقة، حيث تتحول إلى قطعة من اللّحم، أشبه بلقمة مضغت حتى أصبحت أشبه بقطعة من العجين.. وهذه المضغة قد تكون مهيأة لاستقبال الحياة، فتعلق بالرحم، وتستقر فيه، حتى تستوفى مراحل نموّها، وتصبح جنينا، ثم وليدا يخرج إلى الحياة، وقد تكون غير مهيأة للحياة، فيلفظها الرحم..
- «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ..» أي هذه المراحل التي تحول بها التراب، إلى مادة تأكلونها، ثم تخلّق من هذا المادّة «النطفة» التي هى بذرة الحياة، ثم تحولت النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة.. وهذه المضغة تقف على عتبة الحياة، وتطرق بابها.. فإما أن يؤذن لها بالدخول، فتأخذ طريقها حتى تخرج من الباب الآخر كائنا حيّا، وإما أن تردّ، وتعود إلى عالم التراب، الذي جاءت منه- هذه المراحل الأولى هى إعداد للحياة، وتمهيد للأرض التي تنبت فيها..
تماما كالبذرة من الحبّ، تمهدّ لها الأرض، ثم تودع فى التراب، ثم يساق إليها الماء..
وإلى هنا تكون كل وسائل الإنبات مستكملة مستوفاة فى ظاهر الأمر..
وهذا هو المطلوب من الإنسان أن يعمله، وأن يستكمل أسبابه حتى يجىء المسبّب..!
ولكن بين الأسباب والمسبب، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر!
فإذا كان الإنسان يملك أن يهيئ الأرض، ويبذر البذر، ويسوق إليه الماء.. فهل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب المهيأة، والتي هى كلها أدوات لم يكن من صنعه شىء منها، بل كل سبب منها مسبب عن أسباب..
وكل سبب من هذه الأسباب، مسبب عن أسباب أخرى.. وهكذا- نقول:
هل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب، فيخرج منها النبات الذي بذر بذرته، وانتظر ثمرته؟
وإذا كان الإنسان يملك أن يجد فى كيانه النطفة، ثم يهيئ المكان الذي يقذفها فيه، ثم يقذف بالنطفة فى هذا المكان المهيأ لها- فهل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة التي نزلت بمكانها المهيأ لها، ثم جهدت جهدها، فكانت علقة، ثم كانت العلقة مضغة- نقول: هل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة- وقد أصبحت مضغة- إلى أبعد من هذا، وأن ينفخ فيها نفخة الحياة، وأن يمسك بها فى الرّحم؟
جواب واحد، ينطق به الحال، ويشهد له الواقع، وهو:«لا» ! إنه لا حول للإنسان ولا طول له، فى هذا الأمر أو ذاك، وإنه ليس إلا العجز، والتسليم، ليد قادرة، خالقة، مبدعة.. لا حدود لقدرتها، ولا نهاية لإبداعها.
واستمع إلى قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟» (58- 59:
الواقعة) .
هذا، عن النطفة، وعن آيات القدرة القادرة، وآثارها فيها..
الواقعة) ..
وهذا عن النبات، وعن قدرة القادر، وصنعة الصّانع، فى أمر هو أقرب إلى الإنسان. وأيسر- فيما يبدو له- من عملية الخلق المعقدة، فى عالم الحيوان..
فهل له فى هذا أو ذاك يدان؟
وإلى هنا ونحن ما زلنا بعد على شاطىء الحياة، بعيدا عن أعماقها وأغوارها.!
فإذا غرق الإنسان وهو ما زال على اليبس، فكيف به إذا خاض الماء، أو غاص فى أعماقه؟
إنه لأسلم للإنسان إذن أن يقف حيث هو، وأن يظلّ على الشاطئ، يشهد ببصره، أو ببصيرته ما يرى من آيات الله، وآثار قدرته ورحمته فى تلك «المضغة» !.
وأيّة مضغة؟ إنها المضغة، المخلّقة، التي نفخ فيها الخالق النفخة الأولى للحياة..
أمّا المضغة غير المخلقة، فقد وقفت عند الشاطئ.. ترابا مع هذا التراب.
فلنبدأ إذن فى متابعة هذه النطفة «المخلقة» ، ولنرصد مسيرتها..
مرحلة مرحلة..
«وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» ..
فها هى ذى النطفة الآن فى سفينة الحياة.. وها هى ذى السفينة تتحرك رويدا على صدر هذا المحيط العظيم..
«ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» ..
وها هى ذى السّفينة تضرب فى ثبج المحيط، وتختفى رويدا رويدا عن
الأنظار.. ثم ها هى ذى تعود بحملها، وقد ثقلت، وكادت تتقطع أنفاسها، وتسقط فى اليمّ بما حملت! ولكن يد القدرة القادرة تمسك بها، حتى تبلغ الشاطئ، وتلقى بما حملت! وما هذا الحمل الذي ألقت به على شاطىء الحياة؟ ومن أين جاءت به؟
إنه تلك النطفة، أو المضغة التي أقلعت بها من الشاطئ.. ثم دارت بها تلك الدورة الطويلة، فتخلّق من هذه المضغة هذا «الطفل» الذي هو صورة كاملة مصغرة من هذا الإنسان الذي دفع به إلى السفينة نطفة، ثم ها هو ذا يستقبله إنسانا! وما أبعد ما بين النطفة والإنسان، فيما ترى العين، ويشهد العقل.. وما أقرب ما بين النطفة والإنسان فى يد الخالق، المبدع، المصوّر!.
ثم ما هذا الطفل، أو ذلك الإنسان المصغر؟
إنه كائن لا يملك من أمره شيئا..
ولكن مهلا، فإن يد القدرة ممسكة بيده.. فانظر كيف تجعل من هذا الطفل رجلا، كما جعلت من النطفة طفلا! «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» .
فها هو ذا الطفل فى يد القدرة القادرة، تمدّه بأسباب النّماء والقوة، يوما بعد يوم وحالا بعد حال.. وإذا هذه الكومة من اللحم المتحركة فى كيانها المحدود، تحبو، ثم تقفز كما تقفز الضفدع، ثم تمشى على أربع كما تمشى الدواب، ثم تقوم منتصبة القامة، تمشى على رجلين.. ثم.. وثم، وثم.. حتى يبلغ أشده وبصير رجلا..
وهذا هو الإنسان فى أتمّ صورة وأكملها.. لقد كمل جسمه، وعقله..
وبلغ أشدّه.
واللام فى قوله تعالى: «لِتَبْلُغُوا» هى لام العاقبة والغاية.. أي غاية النضج الإنسانى..
وهنا تبدأ لهذا الكائن مسيرة أخرى..
وإذ يبلغ الإنسان- مرحلة الشيخوخة- من العمر، يقف وقفة على عتبة الموت، أشبه بتلك الوقفة، التي وقفتها المضغة، على باب الحياة! فكما كانت المضغة هناك مخلّقة أو غير مخلّقة، يكون «الشيخ» هنا مخلّقا من حصاد الموت، أو غير مخلّف..
وهذا يعنى..
أولا: أن حدود الحياة الإنسانية، تنتهى غالبا عند مرحلة الشيخوخة..
حيث يستوفى الإنسان غايته، ويعطى الحياة كلّ ما عنده، ويأخذ منها كلّ ما هو قادر على أخذه منها.
وثانيا: أن هذا لا يمنع من أن يسقط على هذا الطريق كثير من الناس، قبل أن يبلغوا هذه المرحلة.. من أجنّة، وأطفال، وصبيان، وغلمان، وشباب.. تماما كما تتساقط بعض ثمار الفاكهة، زهرا، أو حصرما، أو رطبا.
كما لا يمنع أيضا من أن يجاوز الإنسان مرحلة الشيخوخة، فيكون من مخلفات الحياة.. تماما كمخلفات الثمر، الذي يجفّ، وهو لا يزال ممسكا بغصن الشجرة..
وثالثا: إمساك الحياة ببعض «الشيوخ» حتى يبلغوا أرذل العمر، هو وجه مقابل لحياة الطفولة فى الإنسان.. حيث ينحدر الإنسان شيئا فشيئا، ويتدلّى قليلا قليلا حتى يقع على الأرض، فيصبح كومة من اللحم، يضرب برأسه على الأرض لتفتح له رحمها، وتهيئ له مكانا فيه.. تماما كالجنين، حين تفتّح له رحم أمه.. فخرج منه..
إنها دورة فى نصف دائرة.. أشبه بالشمس فى شروقها وغروبها..
ثم لا بد أن تتم هذه الدورة لتكون دائرة كاملة، فهذا هو نظام الكون فى أفلاكه جميعا، إنها تدور فى دائرة كاملة.. والإنسان ما هو إلا كون من هذه الأكوان.. يشرق، ثمّ يغرب، وبذلك يتم نصف دورته.. أما النصف الآخر فيقطعه وراء هذا العالم- عالم الظاهر- ثم يعود ليطلع من جديد فى عالم الظهور!.
وفى التعبير القرآنى عن امتداد العمر إلى ما بعد الشيخوخة بقوله تعالى:
«أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن هذه النهاية التي ينتهى إليها الإنسان فى مسيرة حياته، هى أرذل مرحلة، وأخسّها، وأسوؤها فى حياته.. إذ بها يتحول الإنسان إلى كائن هو مسخ لهذا الإنسان.. حيث تأخذ منه الحياة كل يوم شيئا، وتستردّ شيئا فشيئا ممّا كانت قد أعطته..
لقد استقبلته الحياة وليدا، فأرضعته من ثديها، النّماء، والقوة، والإدراك، والعلم، والمعرفة.. وما يزال هذا دأبها به حتى يبلغ غايته، ويستوفى كل ما يمكن أن تعطيه طبيعته.. وهنا تدعه الحياة ينفق مما أخذ منها، وفى كل يوم ينقص رصيده الذي ادخره، من النماء والقوة والإدراك والعلم والمعرفة.. وهكذا يتقلّص
ظل هذا الرصيد شيئا فشيئا حتى يصبح ظلالا باهتة.. ثم يختفى، ويذوب، كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس..
وشتّان بين بدء الحياة وختامها.. بين وهج الطفولة وتوقدها، وخمود الشيخوخة وبرودتها.. بين إقبال الحياة وإدبارها.. بين الشروق والغروب، بين رحلة الحياة ورحلة الموت!! - وفى قوله تعالى:«لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» هو عرض لصورة الحياة والموت معا، فى هذا الإنسان الذي ردّ إلى أرذل العمر، ونكّس فى الخلق..
هو حىّ ميت، أو ميت حىّ.. إنه يعود من حيث بدأ، فقد جاء إلى الحياة لا يعلم شيئا، كما يقول سبحانه:«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً..» (78: النحل) وها هو ذا يعود طفلا «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» ..
والتعليل بقوله تعالى: «لِكَيْلا يَعْلَمَ» لا يتوّجه به إلى إنسان بعينه، وإنما هو موجّه إلى الناس عامة، وإلى منكرى البعث خاصة، ليروا فى هذا الإنسان، الشاهد الحىّ، الذي ينطق بأن الحياة والموت وجهان متقابلان، وأنه كما يموت الحىّ، يحيا الميّت..
وفى نظرة مشرقة صافية يمكن أن تتجلّى فى قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (95: الأنعام) صورة من صور إخراج الحىّ من الميت، وإخراج الميت من الحىّ، فى مسيرة الإنسان على طريق الحياة، من مولده إلى مماته.. أي من طفولته إلى أرذل عمره وتنكيسه فى الخلق..
فهو فى بدء طفولته.. ميت حىّ.. وهو فى أرذل عمره حىّ ميت! وما أدقّ وأبرع قول المعرّى:
وكالنّار الحياة.. فمن رماد
…
أواخرها وأولها دخان
فالحياة- كما يصورها المعرى- جذوة من نار، تبدأ دخانا، وهو أول ما يكون من النار، ثم تنتهى إلى رماد، وهو آخر ما يكون منها..
وفى قوله تعالى: «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» ..
عرض لصورة من صور الإحياء، والبعث، يراها أولو الأبصار، حالا بعد حال، فيما يسفر عنه وجه الأرض، من حياة متجددة عليها، ومن أثواب تلبسها، وحلى تتحلى بها، بعد أن كانت أرضا مواتا، لا معلم من معالم الحياة فيها..
فهذه الأرض الجديب القفر، يأخذها الإنسان بنظره اليوم، فإذا هى- كما يرى- موات فى موات، وصمت موحش رهيب، كصمت القبور.. ثم إذا أصابها الماء، وغاثها الغيث، «اهْتَزَّتْ» هزّة الحياة، ونبضت عروقها، وسرت الروح فى أوصالها.. «وَرَبَتْ» ونمت كما ينمو الطفل.. «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فإذا كرّ الناظر إليها بصره كرّة أخرى، رأى هذا الموات قد أصبح حياة مزهرة مثمرة، تملأ العين بهجة ومسرّة.
فماذا إذن ينكره المنكرون من بعث الموتى؟ وهل هذه القبور وما ضمّت عليه من جثث وأشلاء ورفات، تتراءى فيها صور الآدميين الذين عمروها- هل هذه القبور أبعد من بعث الحياة فيها، وإخراج خبئها- من الأرض الجديب الميتة، التي أحياها الله، فاهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؟ ذلك ما لا يقبله عقل، ولا يرضاه منطق!.
تلك هى «قضية البعث» .. وهذه هى حيثياتها، يجدها الإنسان فى نفسه هو، من مولده إلى مماته.. فإن أعياه النظر إلى نفسه، وجدها فى الأرض التي يمشى عليها.. فإن عمى عن هذا وذاك، فهيهات أن يرى وجه الحقّ أبدا.
فإن ذلك العمى من عمى القلب، الذي ليس لمصاب به شفاء، والله سبحانه وتعالى يقول:«فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46: الحج) ..
وهنا نحبّ أن نقف وقفة مع عملية «الخلق» وبعث الحياة فى المخلوقات.
فهذه العملية، عملية «الخلق» ، هى مما استأثر الله سبحانه وتعالى به، ليس لأحد من مخلوقاته أن يكون له معه شركة فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) .. هكذا على سبيل القصر..
فلله وجه- بلا مشاركة- «الْخَلْقُ» وهو الإيجاد، والتصوير، وبعث الحياة فى الموجودات والمصوّرات.. «وَالْأَمْرُ» وهو التقدير، لخلق ما يخلق وتصوير ما يصور.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» .
هذا، وتتطلع الإنسانية دائما إلى كشف هذا السرّ- سرّ الحياة- ويحاول العلماء والباحثون أن يصلوا إلى تلك الحقيقة، وأن يضبطوا قوانينها، وأن يضعوا أيديهم عليها، حتى يكون لهم أن يخلقوا ما يشاءون من مخلوقات، وأن يتحكموا فيما يخلقون.. من إناث أو ذكور، على اختلاف الألوان والصور!.
وقد أجرى كثير من العلماء تجارب عديدة فى هذا المجال، وزرعوا واستنبتوا فى مخابرهم خمائر للحياة.. ولكن ذلك كلّه لم يصل بهم إلى شىء
مما أرادوا، وكلّ ما أمسكوا به فى أيديهم، هو صور باهتة، إن دلّت على شىء، فإنما تدلّ على تأكيد هذه الحقيقة، وهى أن «الخلق» لله وحده، وأن غاية العلم، لا تتجاوز أبدا أكثر من هذه الوقفة على شاطىء الحياة، بعيدا عن لمس بحرها العميق..
إن كلّ ما يجريه العلماء من بحوث، وما يضعونه من موادّ فى مخابيرهم وأنابيبهم، هو من عناصر الحياة نفسها، التي خلقها الخالق جلّ وعلا.. وأن هذه الأطياف من الحياة التي تطلّ على العلماء من مخابيرهم وأنابيبهم، إنما هى من بذور الحياة التي أوجدها الخالق، وقدّر لها سبلا تسلكها، لتثمر ثمر الحياة، فغيّر العلماء سبيلها، وعدلوا بها عن طريقها المرسوم، الذي خطّته لها القدرة الإلهية..!
فإذا نجح العلم فى هذا التدبير، واستطاع أن يصل إلى شىء من صور الخلق- وهيهات- فإن ذلك لا يعدو أن يكون نبتة من نبات تلك البذرة التي أوجدها الخالق، وكل ما كان من العلم والعلماء، هو أشبه بنقل نبات من تربة غير تربته، واستنبات نوع من النبات فى غير موطنه.
والذي نحبّ أن ننبه إليه هنا، هو أن الإسلام- شريعة وعقيدة- لا ينظر إلى تلك المحاولات التي يحاولها العلم فى حقل الحياة- نظرة متكرهة أو معادية، بل إنه يزكّى هذا البحث العلمي، ويطلق للإنسان العنان فى البحث والدرس، وإجراء ما يشاء من التجارب فى عملية الخلق، فهذا كله قراءة فى كتاب الكون، وتأمل وتدبّر فى آيات الله.. وما يصل إليه الإنسان من كشوف علمية، وحقائق كونية، هو منظور إليه من جانب الإسلام على أنّه رسالة العلم، فى الكشف عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. الأمر الذي يفتح للناس الطريق إلى الإيمان بالله، ويجلّى عن عقولهم وقلوبهم غياهب الشك والشرك
والإلحاد.. وهنا يمكن أن يقوم العلم فى الدعوة إلى الله، مقام الرسل والأنبياء! ..
ومن جهة أخرى، فإن العلماء الذين يبلغ بهم علمهم هذا المدى الذي يطلعون منه على الناس بهذه الآيات المعجزة- هؤلاء العلماء هم فى الواقع آية من آيات الله.. فما هم إلا صنعة الخالق، الذي خلق فسوّى، فجعل من ابن الماء والطين، هذه القوة القادرة على أن تجىء بهذا الإعجاز العظيم..
فمر حى بالعلم، ومزيدا من آياته ومعجزاته.. فحصاد هذا كلّه، وثمر هذا كله، عائد إلى الإنسان، فى حياته المادية والعقلية والروحية.. وما كان لدين- أي دين- أن يعطل ملكات الإنسان، أو يقيد يديه عن العمل فى كل مجال يستطيع العمل فيه- سواء أخطأ أم أصاب، مادام يطلب الخير، ويلقى إليه، بشباكه فى الأرض أو فى السماء..!
على أن هناك حقيقة، نودّ أن نضعها بين يدى العلماء، دون أن نقطع الطريق عليهم فيما هم سائرون إليه، نحو البحث عن الحياة، واستيلاد الأحياء، أو خلقهم، ودون أن ندخل اليأس عليهم، ونوصد فى وجههم هذا الباب..
فنحن وإن كنا على يقين بأن العلم- فى عالم البشر- لن يخلق الحياة أبدا، فإننا ندعو إلى مزيد من البحث والانطلاق فى هذا المجال إلى أبعد غاية، فإن هذا البحث- فى الواقع- لن يضيع هباء، بل إنه سينمّى معارف الإنسان، ويزيده علما إلى علم..
ومن يدرى؟ فلعل العلماء إذا أخطأهم الوصول إلى «الحياة» وفاتهم الحصول على سرّها، لعلهم يجدون فى طريقهم أسرارا أخرى، هى أجدى على
الإنسانية وأنفع لها، فيما يدفع عن هذه «الحياة» ما يعانيه الناس من غوائل الأوبئة والأمراض..
أما الحقيقة التي أريد أن أصارح العلماء بها، فهى ما صرّح به القرآن الكريم فى الجزء الأخير من هذه السورة، وهو قوله تعالى:
فهذه آية متحدّية، للناس، ولما يعبد الناس من مخلوقين يرونهم آلهة، بما فى أيديهم من سلطان مادى أو روحى..
فالناس، فردا فردا، وجماعة جماعة.. «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» .. وهو أضأل المخلوقات وأضعفها.. «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» .. واحتشدوا له من أقطار لأرض كلها، وجاءوا بكل ما معهم من علم..
والذباب لا يعدو أن يكون دودة متخلّقة من مخلقات المواد القذرة والمتعفنة، فهو- بهذه الصورة- أدنى مراتب الحياة، وأنزل منازلها.. ومع هذا فإن الناس كلهم لن يخرج من أيديهم بكل ما معهم من علم، أن يخلقوا ذبابة واحدة! وأكثر من هذا، فإن هذا الذباب الذي عجزوا عن خلقه، هو- فى حال من أحواله- أقوى منهم، وأقدر على الكيد لهم.. وأنه إذا سلبهم سيئا لا يستنقذونه منه، ولا يستطيعون له ردّا..
والذباب أنواع كثيرة.. منه الذباب المعروف، ومنه ذباب الفاكهة، ومنه الزنابير وغيرها..
فهب أن طائفة من هذه الطوائف، خلت بطعام فالتهمته، أو وقعت على شجرة من أشجار الفاكهة فأتت عليها- أيكون فى مستطاع أحد أن يستردّ ما أكل الذباب؟ ذلك محال..
وفى التعبير عن أكل الذباب «بالسلب» إشارة إلى أن ما أكله لم يكن عن رضى من أصحاب هذا المأكول.. فهو أشبه بالسلب والغصب، وفى هذا إظهار لضعف الإنسان، ووقوعه تحت بأس هذا المخلوق الضعيف، الذي يعدّ أضعف ما خلق الله، فى عالم الأحياء! وفى قوله تعالى:«ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» تعريض بالإنسان، وبغروره الذي يخيّل إليه أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.. إنه والذباب على سواء، كلاهما عاجر ضعيف.. وإن كان الذباب- فى بعض الأحوال- أقوى منه، وأقدر على الكيد له! وليس هذا التصوير لضعف الإنسان، استخفافا به، وإطفاء لجذوة الطموح المتّقدة فى كيانه، وإنما هو استشفاء للإنسان من داء الغرور، الذي كثيرا ما يستبدّ به، ويفسد عليه وجوده، فإذا هو- وقد استوى على ظهر الغرور- قوة غاشمة، وإعصار مجنون، وعاصفة هو جاء، تهلك الحرث والنسل، حتى إذا انطلقت إلى غايتها دارت حول نفسها دورة، ثم هوت كما تهوى الصاعقة فى الوحل والطين! إن الإسلام ليستقبل كل ما يفتح به العلم للناس من أسرار الوجود، فى حفاوة وإعزاز، إذ كان ذلك- كما قلنا- هو الطريق المستقيم إلى الله، وهو الذي يقيم العقول والقلوب على الإيمان بالله، إيمانا مصفّى من كل ريب، مبرأ من كل ضعف.. فهذا الكون هو كتاب مفتوح لكل ناظر، وآيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، هى مراد لأنظار العلماء، ومسبح لخواطرهم ومداركهم..