الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما لأن ذلك هو حكم الله فى عباده، وسنته فى الظالمين منهم.. لا يعجل لهم العذاب، ولا يبادرهم به، بل يمهلهم ويملى لهم، حتى يراجعوا أنفسهم، ويتدبروا أمرهم، وهذا من رحمة الله بهم وفضله عليهم، كما يقول سبحانه:«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (61: النحل) وبين يدى هؤلاء المشركين الضالين شاهد ناطق بهذا فما أكثر القرى الظالمة التي أمهلها الله.. ثم أخذها.. بل إن هؤلاء المشركين هم شاهد حىّ لهذا.. فهم على ما هم فيه من ظلم ما زالوا فى عافية من أمرهم، لم يأخذهم الله بعذابه.. وتلك فرصتهم السانحة للخلاص من بأس الله، الذي لا يردّ.. إذا حان حينه بهم..
- وفى قوله تعالى: «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» إشارة إلى أنهم إذا لم يؤخذوا بظلمهم فى هذه الدنيا، فإنهم صائرون إلى الله، وسيلقون جزاء الظالمين يوم القيامة.. فإن هم أمهلوا اليوم، فليس معنى ذلك أنهم نجوا من العذاب، بل إن فى غد عذابا فوق العذاب، وبلاء فوق البلاء! «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (26: الزمر) .
الآيات: (49- 59)[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 59]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .
هو توكيد لهذا الإنذار، الذي أنذر به المشركون من وقوع العذاب بهم، إذا هم لم يستجيبوا لله وللرسول.. فهو إنذار عام للناس جميعا، ولكنه فى حقيقته إنذار خاص لكل ضالّ غوىّ، ثم هو إنذار فى مواجهة هؤلاء المشركين، يصرخ فى وجوههم، ويصكّ أسماعهم.. وإنه لإنذار مبين واضح، بما معه من الأدلة القاطعة، والآيات الناطقة المعجزة..
«فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .
الفاء هنا، للتفريع المسبب عن هذا الإنذار الذي جاء به النذير المبين..
إذ الناس مع هذا الإنذار، بين ملتفت إليه، مستفيد منه، آخذ طريق النجاة، وبين ذاهل عنه، أو مستخفّ به، أو مكذّب له.. فهو فى غفلة من أمره، قائم فى وجه العاصفة العاتية التي تجتاح كل شىء، وتدمر كل شىء..
فأما الذين استمعوا لهذا النذير، وآمنوا بالله، وعملوا الصالحات، فقد ركبوا طريق النجاة، ولهم من الله مغفرة، ورحمة، ورزق كريم..
«وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» ..
أي: وأما هؤلاء الذين لم يستمعوا لهذا النذير المبين، ولم يستضيئوا بالنور الذي معه، بل تصدّوا لهذا النور، وأرادوا أن يطفئوه بأفواههم، وبما يخرج منها من أكاذيب وأضاليل- هؤلاء هم أصحاب الجحيم، فليس لهم من صاحب إلا جهنم وما تمدّهم به من عذاب أليم.. إنهم أشكل بها، وهى أقرب شىء إلى طبيعتهم.
- وفى قوله تعالى: «سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» إشارة إلى سعى هؤلاء المشركين، وأنه سعى للباطل والضلال، حيث يسعون لإعجاز آيات الله، وغلبتها وصرفها عن طريقها.. وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أنهم يدخلون فى آيات الله ويلبسون الحقّ بالباطل، إذ يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلقون فيه بالهذر من القول، والسّخف من الكلام، كما حكى القرآن ذلك عنهم فى قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» (26: فصلت) .
وأريد أن تلتفت التفاتة خاصة إلى قوله تعالى: «مُعاجِزِينَ» وأن تقف لويلا عندها، فإن لها شأنا فى تلك القصّة العجيبة المثيرة، التي نسج خيوطها
المفسّرون والقصّاص، من واردات الخيالات والأوهام، فكان منها تلك الخرافة المعروفة (بالغرانقة العلا) التي كثرت فيها الأقوال، وتضاربت حولها الآراء، حتى كادت تدخل مدخل الواقع، وتلبس ثوب الحقيقة، لدورانها على الألسنة، وتقليب وجوه الرأى فيها، وهى كائن ميت، كان من الواجب أن يوارى من أول يومه، ويدفن فى التراب، وألا ينبش بين الحين والحين، فإن تقليب جثث الموتى لا تجىء منه إلا الروائح الخبيثة، التي تزكم الأنوف، وتكظم الأنفاس! وقد كنّا نريد ألا ننبش هذا الجسد المتعفن، وألا نثير منه تلك الروائح الخبيثة التي تضيق بها صدور المؤمنين، لولا أننا نخشى أن يكون لبعض المؤمنين نظر فيها، ووقوف أو توقّف عندها، وهم يقرءونها فى كتب التفاسير، ويجدونها فى ثنايا كتب السيرة النبويّة العطرة!.
فيثير ذلك فى نفوسهم قلقا، واضطرابا، ويحرّك فى صدورهم وساوس وظنونا! ولهذا لم نر بدّا من الوقوف عند هذه القصة، والكشف عن زيفها وباطلها..!
ولكن قبل الدخول فى هذا البحث، أعود فأذكّرك بالنظر إلى قوله تعالى فى الآية السابقة:«وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» .. وإلى أن هذه الآية موجهة إلى المشركين، وإلى عبثهم بآيات الله، وإلى مغالبتها ومعاجزتها باللّغو فيها..
فالمشركون متّهمون بهذه الجريمة، وهى الدخول إلى آيات الله، بما يغيّر وجهها، ويبدّل صورتها، ويعطيهم الحجة عليها، بعد أن كانت لها الحجة عليهم..
إذا عرفنا هذا، وسلمنا به- وهو واضح لا يحتاج إلى من يدلّ عليه، وهو أمر مسلّم به، لا يجوز الخلاف فيه- كان ذلك هو مقطع القول فى هذه القضية،