الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى أخمص قدمه، حتى تضيق به أنفاسه، وتزهق منه روحه! وقوله تعالى:«وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» - أي من لم يجعل الله فى قلبه نورا، هو نور الإيمان، الذي يهدى صاحبه إلى طريق السلامة والنجاة، فهيهات هيهات أن يجد النور أبدا.. وإنه للمحروم الشقي، ذلك الذي حرم حظّه من نور الله، الذي يملأ السموات والأرض!
الآيات: (41- 46)[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ
قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» ..
فى هذه الآية، والآيات التي بعدها، استعراض لقدرة الله، وبسطة نفوذه، وسلطانه المتمكن فى هذا الوجود، والآخذ بناصية كلّ موجود.. وذلك بعد أن عرضت الآيات السابقة مثلا لنور الله سبحانه وتعالى، الذي يملأ الوجود كله، ويسرى فى كيان كل ذرة فيه، ويقيمها المقام المناسب لها فى ملكوت السموات والأرض.. وأن هذا النور قد اهتدى به المهتدون، فأسعدهم الله وأرضاهم، وأنزلهم منازل السعادة والنعيم، على حين قد عمى عن هذا النور، الضالون، والمشركون، والكافرون، فأذاقهم الله الوبال والخسران، وأنزلهم منازل الهون والشقاء..
وفى هذا العرض الذي تعرض فيه هذه الآية والآيات التي بعدها، مالله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان- فى هذا العرض تثبيت لإيمان المؤمنين، وربط على قلوبهم، وتوثيق للصلة التي أقامها الإيمان بينهم وبين ربّهم.. ومن جهة أخرى، فإن فى هذا العرض دعوة مجدّدة إلى الكافرين، والمشركين، والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض- أن يعيدوا النظر فى موقفهم هذا الزائغ المنحرف عن سواء السبيل، وأن ينظروا فى هذه المعارض التي تعرضها تلك الآيات لجلال الله، وقدرته، وعظمته، ففيها نور الله لمن يلتمسون النور، ويطلبون الهدى.
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ..
الرؤية هنا معناها العلم الذي يجىء عن بحث ونظر.. وهو خطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، يخاطب به كلّ من هو أهل للخطاب.. ثم هو دعوة إلى النظر والتدبّر فى هذا الوجود.. وعن هذا النظر وذلك التدبر يستطيع الإنسان أن يرى انقياد الوجود كلّه للخالق جل وعلا، وولاءه له، وعبوديته لذاته، وخضوعه لجلاله.. وبهذا يعلم أن كل ما فى السموات والأرض يسبّح بحمد الله
ويمجّده، ويعظّمه.. «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .. فهو تسبيح وولاء، وخضوع واستسلام، كما يقول سبحانه:«وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) .
- وقوله تعالى: «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» .. معطوف على فاعل الفعل «يُسَبِّحُ» وهو الاسم الموصول «من» والمعنى.. ويسبح له «الطَّيْرُ صَافَّاتٍ» ..
وصافات، حال من الطير، أي أنها تسبّح لله سبحانه وتعالى، وهى فى أروع مظاهرها، وأعلى منازلها، حيث تكون محلقة فى جوّ السماء، صافّة أجنحتها، أي باسطتها فى حال من الهدوء والسكون، كأنها تستعرض العالم الأرضى، وتبسط ظلها عليه.. فهى فى علوّها وتربعها على هذا العرش، لم يدخل عليها شىء من الكبر والغرور، كما يقع ذلك لكثير من الناس، بل إنها لتزداد بهذا ولاء وخشوعا لله، فتقيم صلاتها لله، فى جوّ السماء، صافة أجنحتها، مرسلة جوارحها، فى خشوع واستسلام، معتمدة على قدرة الله، لا تخشى أن تهوى من حالق..
وهذا هو التوكل فى أروع مظاهره..
- وقوله تعالى: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» .
يمكن أن يكون فاعل الفعل «عَلِمَ» ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى:
ويكون المعنى كلّ من هذه المخلوقات قد علم الله صلاته وتسبيحه.. وهذا هو الذي ذهب إليه المفسّرون..
ويمكن أن يكون الفاعل ضميرا يعود إلى هذه المخلوقات.. ويكون المعنى أن كلّ مخلوق من هذه المخلوقات، قد علم الصلاة التي يصلّى بها، والتسبيح الذي يسبّح به لله.. وهذا هو الرأى الذي نقول به..
ويكون معنى العلم هنا، هو ما أودعه الله فى كيان كل مخلوق من قوى
يتصرف بها، ويعمل حسب ما يسّره الله له.. وهذا يشعر بأن عملها هذا ليس عملا آليا، وإنما هو عمل عن علم، ذاتى، أو خارج عن الذات.. فهو على أي حال عمل يحكمه علم، حتى يحقق هذا التآلف، والتجاوب بين موجودات الوجود، فى حمد الله وتسبيحه..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى، المحيط بكل شىء، والعالم بكل ما يعلم الخلق وما يعملون..
وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذه المخلوقات لها علمها الذي تعمل به، وأن لله سبحانه وتعالى علمه، المحيط بعلمها وعملها جميعا! قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» .
هو تأكيد لعلم الله بعلم المخلوقات، وبعملها.. إذ هو علم متمكن، لأنه علم الخالق لما خلق، ومعرفة المالك لما ملك.. فقد يعلم الإنسان الشيء ولا يملكه ولا يقدر على التصرف فيه بمقتضى ما يعلم منه.. أما علم الله فهو علم المالك لما ملك، يتصرف فيه كيف يشاء، بما يقضى به علمه، وحكمته، وإرادته.
وفى قوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» تأكيد للملكية، وأنها ملكية لا تخرج عن سلطان المالك أبدا، لا كملكية المالكين لما يملكون.. إذ أن كل ما يملكه الإنسان من شىء، هو ذاهب عنه، مقضىّ عليه بالفراق بينه وبين ما ملك.. إما بأن يستهلكه فى حياته، وإمّا بأن يموت عنه، ويخلّفه وراءه لمن يرثه من بعده.. أمّا ملكية الله سبحانه وتعالى لهذا الوجود وما فيه، فهو ملك لا يخرج من يد المالك أبدا، مهما تحولت أحواله، وتبدّلت صوره وأشكاله، فالمالكون، وما يملكون صائرون جميعا إلى الله..
قوله تعالى:
يزجى: أي يدفع، ويحرك..
والركام: المتراكم، المجتمع بعضه إلى بعض..
الودق: المطر، ينزل متساقطا فى قطرات، فيدق الأرض، أي يترك فيها آثارا..
فى هذه الآية عرض محسوس لقدرة الله، بعد هذا العرض غير المحسوس، الذي جاءت به الآية السابقة، من النظر المطلق الشامل للوجود كله، وما قام عليه من نظام..
وفى هذا العرض، إلفات إلى ظاهرة من ظواهر الطبيعة، التي يشهدها الناس جميعا فى كل زمان، وكلّ مكان..
فهذه السحب التي تنطلق فى مواكب متدافعة فى جو السماء، كأنها جيوش غازية، تزحف إلى ميدان القتال، أو تتراكض عائدة من المعركة محملة بالغنائم والأسلاب- هذه السحب: من أنشأها؟ ومن سيرها؟ ومن حدّد لها خط مسيرها؟ ومن وقف بها عند غاية معلومة لها؟
ألا فليعلم من لم يكن يعلم، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أنشأها، وسيرها، وحدّد لها وجهتها، وأمسك بها عند الغاية المحددة لها..
- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» ..
فهذه صور ثلاث، لمشاهد السحاب.. يولد أولا دخانا رقيقا، ثم يدفعه الرّيح
فى خفة ويسر.. ثم يجتمع هذا السحاب بعضه إلى بعض، فيتكاثف شيئا فشيئا، ثم يتدافع هذا السحاب، ويدخل بعضه فى بعض، فإذا هو ركام، أشبه بالآكام، أو الجبال..
- وفى قوله تعالى: «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» .. إلفات إلى مولد المطر من هذا السحاب، وتحلبه من خلاله، كما يتحلّب اللبن من الضرع..
وليس يدرك سر هذه اللفتة إلى قطرات الماء، وهى تتساقط من السحاب، إلّا من عاش فى الصحراء، وشهد آثار الماء حين ينزل إلى الأرض، ويبعث الحياة والحركة فى جمادها ونباتها، وحيوانها.. إنها عملية خلق، وبعث جديدين، لهذا الجسد الكبير الهامد.. ثم هو بعد ذلك عرس رائع، تحتشد له الأحياء، وتنطلق من كيانها نشوات البهجة والحبور، فى أهازيج، وأناشيد، وزغاريد:
يتألف منها لحن عبقرىّ بالتسبيح والحمد لله رب العالمين..
انظر إلى هذا الوصف الرائع، الذي صوّر به «امرؤ القيس» احتشاد الطبيعة، ونشوتها غبّ مطر.. فيقول امرؤ القيس، فى معلقته المشهورة:
أصاح ترى برقا أريك وميضه
…
كلمع اليدين فى حبىّ مكلّل
يضىء سناه.. أو مصابيح راهب
…
أمال السليط بالذّبال المفتّل «1»
قعدت له وصحبتى بين ضارج
…
وبين العذيب بعد ما متأمّلى «2»
كأنّ مكاكىّ الجواء غديّة
…
صبحن سلافا من رحيق مفلفل
(1) السليط: الزيت الذي يوقد منه المصباح.
(2)
ضارج، والعذيب: موضعان.
هذه نظرة شاعر.. نظر إلى هذه الظاهرة من ظاهرها، وشغل بألوانها، وألحانها، عما وراء هذه الألوان، وتلك الألحان، من حقائق، تصل هذه القطعة من الطبيعة بالوجود كله، ثم تضيف هذا الوجود إلى الموجد، المبدع، المصوّر! وإليك نظرة نبىّ! ومن؟ إنه نبىّ الأنبياء، وخاتم المرسلين، محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه..
فقد روى أنه- صلوات الله وسلامه عليه- كان إذا نزل المطر، خرج إلى العراء، وكشف له عن رأسه، واحتواه بين ذراعيه.. وكان صلوات الله وسلامه عليه يقول:«إنه قريب عهد بربه» .. أي إنه رحمة مرسلة من عند الله.. رحمة محسوسة ملموسة، ترى بالعين، وتلمس باليد، وتذاق باللسان..!
فمن أراد أن يشهد رحمة الله عيانا، فهى فى هذا الماء المنزّل من السماء.. صافيا طاهرا، لم يعلق به شىء من أخلاط الأرض.. إنه فى طهر المواليد التي تلدها الحياة.. من إنسان أو حيوان أو نبات! قوله تعالى:«وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» .. أي وينزل من جبال فى السماء، وهى السحب المتراكمة- بردا، وهو قطع الثلج..
فقوله تعالى: «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» بدل من السماء..
وفى الإشارة إلى هذه الظاهرة، إشارة إلى أن هذه السحب التي ينزل منها الماء، هى أيضا، وإن كانت مصدر نعمة، يمكن أيضا أن تكون مصدر نقمة، حين ينزل منها هذا البرد، وكأنه قطع من الأحجار، تتساقط من الجبال، فتهلك كل من تقع عليه، وكأنها بهذه العقوبة الراصدة إلى جانب تلك النعمة
الكبرى المنزلة من السماء- مرصودة ليؤخذ بها كل من يكفر بهذه النعم، ولا يضيفها إلى المنعم بها، ويسبح بحمده، ويشكر له..
وقوله تعالى: «فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» أي أن هذا البرد الذي تحمله السحب بين يديها، لا نرمى به هكذا من غير حساب، بل هو مملوك بيد القدرة القادرة، فيقع حيث أراد الله أن يقع، ويصرف عمن أراده الله سبحانه أن يصرفه عنه، من نبات، وحيوان، وإنسان..
وفى قوله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» - لون جديد تكمل به الصورة، صورة هذا العذاب الواقع مع البرد المتساقط كالأحجار.. فهذا البرد يحمل معه الصواعق المهلكة، والنار المحرقة، وإن كان ماء! فما أعظم قدرة القادر، وما أعزّ وأقوى سلطانه!! قوله تعالى:
«يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» .
وهذه ظاهرة أخرى.. تشهدها الحواس، وتعيش فيها.. حيث يدور الليل والنهار فى هذا الفلك دورة منتظمة، محكمة، لا تتخلف أبدا.. وكأنهما الكفّ فى حركتها، ظاهرا وباطنا..! يقلبهما الله- سبحانه- كما يقلب الإنسان كفّه! وفى هذا عبرة وعظة لأولى الأبصار.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» (191: آل عمران) .
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
هذه الآية، شارحة لنعمة الماء، الذي أشارت إليه الآية قبل السابقة..
فهذا الماء الذي ينظر إليه بعض الناس نظرة باردة جامدة، ولا ينظر إليه بعضهم أبدا- هذا الماء هو أصل هذه الحياة، وهو جرثومة كل حى.. من نبات، أو حيوان، أو إنسان.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى:«وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. فليعد الإنسان الغافل النظر إلى هذا الماء، وليرجع إليه البصر مرة ومرة ومرات، وسيرى أن هذا الماء هو أصل وجوده، كما أنه سبب فى إمساك هذا الوجود، وحفظه، وأنه لو حرم الماء لأيام معدودة لهلك!.
فالماء، هو الحياة العاملة فى هذا الكوكب الأرضى.. ففى الماء أودع الله سرّ الحياة، فى صورها المختلفة، وأشكالها المتباينة المتعددة.. فحيث كان الماء كانت الحياة، وكانت الحركة، وكان التوالد لصور الحياة، التي تكتسى بها الأرض حسنا وجمالا، وتتبدل بها من وحشتها بهجة وأنسا..
ونظرة فى وجوه الأرض المختلفة، يتكشف لنا منها ما للماء من آيات وأسرار.. فحيث يوجد الماء يوجد الخصب والنماء، وتشاهد الحركة والحياة، وحيث يفتقد الماء، يكون الجدب، والوحشة، والموات، والهمود.!
ومن أجل هذا كان للماء هذا الذّكر الحفىّ به فى القرآن الكريم..
ويكفى أن يكون عرش الله سبحانه وتعالى على الماء، كما يقول سبحانه:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (7: هود) .. والمراد بالعرش، هو السلطان.. وهذا يعنى أن سلطان الله
قائم على الماء. يصرفه كيف يشاء، ويخلق منه ما يشاء.. وهذا يعنى أيضا أن الماء هو سر الحياة، التي يفيضها الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته على الأحياء فى الوجود كله..
- وفى قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» .. إشارة إلى تنوع صور المخلوقات، وتعدد أشكالها، وهى جميعها من مادة واحدة، لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة..
إنها شىء واحد، ومع هذا فقد جاءت بقدرة القادر، وصنعة الخبير الصانع- على هذه الصور التي لا تكاد تحصر من عوالم الأحياء، على اختلاف صورها، وتباين أشكالها، وتعدد ألوانها..
وهذا التقسيم الذي أشارت إليه الآية، هو تقسيم عام، حيث يندرج تحت كل قسم ما لا حصر له من صور وأشكال، تنضوى تحت كل قسم، وتندرج تحت كل صنف..
فأنواع الزواحف، من ديدان، وحيات، وحشرات.. وما شاكلها- هى مما يمشى على بطنه..
والناس، واختلاف ألسنتهم وألوانهم.. والطير، وتعدد أجناسه واختلاف ألوانه وأشكاله.. ذلك كله ممن يمشى على رجلين..
والبهائم والدوابّ، والأنعام، والوحوش.. فى تعدّد عوالمها، واختلاف أجناسها.. ممن يمشى على أربع..
- وقوله تعالى: «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» - هو إلفات إلى هذه القدرة القادرة، التي تبدع وتصور وتخلق، هذه الصور، وتلك الأجناس والأنواع، من عنصر واحد.. وهذا لا يكون إلا من قادر حكيم عليم، يتصرف كيف
يشاء.. ولو كان ذلك من عمل غير هذه القدرة المطلقة، لجاءت جميع المخلوقات فى قالب واحد، وعلى صورة واحدة..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لها، وأنها لا تصدر إلا ممن هو على كل شىء قدير.. لا يعجزه شىء وهذا كلّه فى عالم الأرض.. ومن قطرة الماء..
وأين الأرض، وما فيها، ومن فيها، من ملك الله العظيم؟
ألا شاهت وجوه من يولّون وجوههم إلى غير الله، وألا خسئ وخسر المبطلون! ..
قوله تعالى:
«لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» المراد بالآيات المبينات، هى تلك الآيات التي تحدثت عن نور الله، وعن أن هذا النور هو آيات مبينات، تسرى فى كيان الموجودات، وتقيم كل موجود بمكانه الملائم له، وتوجهه وجهته المقدرة له.. ثم كان من نور الله، تلك الآيات القرآنية، التي كشفت للناس طريقهم إلى الله، وأطلعتهم على دلائل قدرته، وآثار رحمته.. وذلك فيما جاء فى الآيات التي تحدثت عن بيوت الله التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه.. والآيات التي تحدثت عن الكافرين وأعمالهم، ثم فى هذه الآيات التي عرضت تلك المشاهد الناطقة بقدرة الله، وسعة علمه ونفوذ سلطانه.. من السحاب والمطر، ومن خلق الحياة القائمة على الأرض من عنصر الماء..
ففى هذا كله، آيات مبينات، أي موضحات، وكاشفات، لطريق الحق، والهدى، والإيمان بالله، والولاء له، والتسبيح بحمده.