المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (17- 20) [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ٩

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌21- سورة الأنبياء

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 18) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 29) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 35) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 47) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 47]

- ‌الآيات: (48- 73) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 73]

- ‌الآيات: (74- 82) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 82]

- ‌الآيات: (83- 91) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 91]

- ‌الآيات: (92- 104) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 104]

- ‌الآيات: (105- 112) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 الى 112]

- ‌22- سورة الحجّ

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها

- ‌الآيات: (1- 2) [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]

- ‌الآيات: (3- 5) [سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 5]

- ‌الحياة.. وخالق الحياة

- ‌الآيات: (6- 14) [سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 18) [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 25) [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 33) [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 33]

- ‌[مناسك الحج.. ومشاهد القيامة]

- ‌الآيات: (34- 37) [سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 41) [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 48) [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48]

- ‌الآيات: (49- 59) [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 59]

- ‌[الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت

- ‌[المأخذ الأول] (ا) توهين أصل الحديث:

- ‌[المأخذ الثاني]

- ‌الآيات: (60- 66) [سورة الحج (22) : الآيات 60 الى 66]

- ‌الآيات: (67- 72) [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 72]

- ‌الآيات: (73- 76) [سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 76]

- ‌الآيتان: (77- 78) [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]

- ‌23- سورة المؤمنون (23)

- ‌الآيات: (1- 11) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 22) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 30) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 41) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 50) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 62) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 62]

- ‌الآيات: (63- 74) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 74]

- ‌الآيات: (75- 92) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 92]

- ‌الآيات: (93- 111) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 111]

- ‌الآيات: (112- 118) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118]

- ‌[الحياة.. والموت وحتمية البعث]

- ‌24- سورة النور

- ‌الآيات: (1- 3) [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[الجلد والرجم.. وجريمة الزنا]

- ‌الآيات: (4- 10) [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 20) [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20]

- ‌[حديث الإفك.. عبرة وعظة]

- ‌الآيات: (21- 26) [سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 29) [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 31) [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]

- ‌الآيات: (32- 34) [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 40) [سورة النور (24) : الآيات 35 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 46) [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46]

- ‌الآيات: (47- 52) [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 57) [سورة النور (24) : الآيات 53 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 60) [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60]

- ‌الآية. (61) [سورة النور (24) : آية 61]

- ‌الآيات: (62- 64) [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]

- ‌25- سورة الفرقان

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 16) [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 20) [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20]

- ‌فهرست المجلد الثالث

الفصل: ‌الآيات: (17- 20) [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20]

وتعالى على نفسه- فضلا منه وإحسانا وكرما- تحقيقه لمن وعدوا به، وإن لهم على الله- فضلا وإحسانا وكرما- أن يسألوه إنجاز هذا الوعد، الذي هو منجز ومعدّ لهم من غير سؤال.. ولكن الله سبحانه، قد جعل هذا الوعد كدين لعباده المتقين وجعل لهم حق استقضاء هذا الدين! وفي هذا ما فيه من كرم الكريم، وإحسان المحسن.

ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» أن هذا الوعد كان مما يدعو به المؤمنون ربّهم في الدنيا، ويطلبون استجابته لهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم:«رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ، وقد تلقى الله سبحانه وتعالى دعاءهم هذا بالقبول، فقال سبحانه:«فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» (195: آل عمران) .

فلما كان يوم القيامة، صدقهم الله وعده، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه..

‌الآيات: (17- 20)[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20]

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

ص: 1365

التفسير:

قوله تعالى:

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ» ..

هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة، يعرض على هؤلاء المشركين، وهم فى هذه الدنيا، مع ضلالاتهم ومعبوداتهم.. وفي هذا المشهد يرون ما سيكون بينهم وبين هذه المعبودات، من عداوة وخصام، وشقاق..

فإذا حشر الناس إلى ربهم، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، جىء بالمشركين، وبمعبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.. من جماد، وحيوان، وإنسان، وملائكة، وجنّ.. وهنا يسأل الحقّ جل وعلا أولئك المعبودين:

«أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ» .. أي أأنتم أيها المعبودون، الذين أضللتم عبادى هؤلاء؟ أم هم ضلوا السبيل؟.

وانظر إلى- ما لله سبحانه وتعالى من لطف وكرم.. كيف يدعو هؤلاء الضالين إليه، وكيف يضيفهم إلى ذاته الكريمة:«عِبادِي هؤُلاءِ» الذين أشركوا بي، وكذّبوا رسلى!! فما أقلّ حياء هؤلاء الضالين، الشاردين عن ربّهم.. يدعوهم إليه، ثم هم لا يستجيبون له، ويأبون إلا أن يولّوا وجوههم إلى غيره! ويجىء جواب المعبودين.

«قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» ..

إن هؤلاء المعبودين للمشركين.. من جماد، وحيوان، وإنسان،

ص: 1366

وملائكة، يعرفون قدر الله، ويعطونه ولاءهم كاملا.. «سبحانك» أي جلّ جلالك، وعلا علاك، «ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ» أي أنه ما كان يصح لنا، أو يقع في تقديرنا، أن نستنصر بغيرك، ونعتز بغير عزتك، ونقبل ولاء من عبادك، الذين ينبغى أن يكون ولاؤهم لك وحدك..

- وفي قوله تعالى: «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» ..

إشارة إلى الجهة التي جاء منها الضلال إلى هؤلاء الضالين.. إنه البطر بنعم الله، والكفر بإحسانه وفضله عليهم.. «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ» أي أن إحسانك إليهم، ربّنا، ومدّهم بالنعم، وحلمك عليهم، فلم تعجل لهم العقاب فى الدنيا، مع محادتهم لك، وشركهم بك- إن ذلك هو الذي صار بهم إلى هذا المصير، وإنهم حين رأوا آباءهم قد سلكوا هذا المسلك من قبلهم، ولم يحل عليهم غضبك ولم تنزل بهم نقمتك، اطمأنوا إلى هذا الضلال، وتمادوا في هذا الغىّ.. وهكذا أهل السوء، تبطرهم النّعم، ويفسدهم الإحسان..

وفي هذا يقول الله تعالى: «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» (44: الأنبياء) .

وهذا العرض الكاشف، الذي يعرض فيه المعبودون، نعم الله وإحسانه على هؤلاء الضالين، وما ركبهم من هذه النعم وذلك الإحسان، من سفه، وغواية- هو زجر، وتعنيف، وتقريع لهؤلاء المشركين الذين يقفون هذا الموقف، وأنهم ليسوا موضعا لهذا الإحسان، ولا أهلا لهذا الفضل.. وإن هذا العذاب الذي ينتظرهم، لهو الجزاء العادل الذي يؤخذون به..

وفي قوله تعالى: «حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ» .. إشارة إلى أن تطاول العهد عليهم بالعافية، من غير أن تحل بهم النقم، أو يشتمل عليهم البلاء- قد أنساهم ذكر

ص: 1367

الله، وأبعدهم عن مواطن اللجأ إليه.. فإن المحن والشدائد، هى التي تشدّ المرء إلى الله، فيكثر من ذكره، والغياث به.. والله سبحانه وتعالى يقول:

«قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (63: الأنعام) ويقول سبحانه «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» (51: فصلت) .

وإنه لمن الإيمان أن يذكر الإنسان ربّه في الضراء، وأن يدعوه لما نزل به من مكروه، إذ هو سبحانه وحده غياث المستغيثين، وحمى اللاجئين، وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن ندعوه، ووعدنا الإجابة لما ندعوه به، فقال سبحانه:«ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (60: غافر) وقال جلّ شأنه:

«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» (186: البقرة) .. ولكن الذي ليس من الإيمان في شىء، بل هو من المكر بالله، وآيات الله، أن يذكر الإنسان ربه في الشدّة، وينكره في الرخاء والعافية إن ذلك إيمان كإيمان فرعون حين أدركه الغرق، فقال وقد ضاقت به سبل النجاة:«آمنت» ! إن المؤمن حقّا هو الذي يملأ قلبه أبدا بذكر الله، فى السرّاء والضرّاء على السواء.. فهو في السرّاء يذكر الله شاكرا نعمه، مسبحا بحمده، طالبا المزيد من فضله.. وهو في الضراء يذكر الله، طالبا كشف الضرّ، ورفع البلاء.. وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم في قوله، حين خيره ربه، بين أن يكون ملكا نبيا، أم عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا، وقال:«بل أكون عبدا أشبع يوما فأشكرك، وأجوع يوما فأذكرك» بل إن حقيقة الإيمان لا تنكشف إلا في مواقع النعم، وفي مواطن الإحسان، ولهذا مدح الله سبحانه وتعالى الشاكرين من عباده، ونوّه بهم، كما قال سبحانه فى نوح:«ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» (3: الإسراء)

ص: 1368

كما حثّ سبحانه عباده الذين أجزل لهم العطاء، وأغدق عليهم الإحسان، أن يشكروا له، فقال لداود وآله:«اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) .

أما ذكر الله في ساعة العسرة والضيق، فإنه أمر يكاد يستوى فيه الناس جميعا، المؤمنون والمشركون.. كما يقول سبحانه:«وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» (12: يونس) فالإنسان هنا هو مطلق الإنسان، والحكم واقع على الأعمّ الأغلب من الناس.

وفي قوله تعالى: «وَكانُوا قَوْماً بُوراً» - إشارة إلى هؤلاء المشركين بالله، وإلى أن شركهم هذا قد حرمهم كل خير، فكانوا بهذا «قوما بورا» أي هلكى، لا سبيل لهم إلى النجاة من هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه..

وقوله تعالى:

«فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً، وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» فى هذا، التفات إلى هؤلاء المشركين، الذين يقولون فى كلام الله، وفي رسول الله هذا القول المنكر، الذي لا يزال على ألسنتهم، ولا تزال أصداؤه تطنّ في آذانهم..

فقد سمعوا شهادة آلهتهم فيهم، وبراءتهم منهم، بل وقرعهم بمقارع التعنيف والتسفيه، وأنهم ليسوا أهلا لما ألبسهم الله من نعم، وما دفع عنهم من نقم..

ومن إعجاز القرآن الكريم هنا، أنه- بكلماته المعجزة- ينقل الناس من الدنيا إلى الآخرة، ثم يردّهم إلى الدنيا مرة أخرى، فى لحظات عابرة، يرتفع فيها هذا الحجاز بين الحياة والموت، وبين الدنيا والآخرة، وإذا هؤلاء

ص: 1369

المشركون ينتقلون من ناديهم الذي يتفكهون فيه بهذه الكلمات الساخرة الهازئة، بآيات الله وكلمات الله- ينتقلون من ناديهم هذا إلى الآخرة، وإلى موقف الحساب والجزاء، وإلى جهنم وسعيرها.. ثم إذا هم- فى حلم كأحلام اليقظة- قائمون في ناديهم، وقد دخلت عليهم مشاعر كئيبة ثقيلة خانقة، من هذه الرحلة القصيرة، وإذا هم في وجوم ورهق، كمن أفاق من حلم مزعج، ثم إذا هم وقد صكّت آذانهم بهذا القول الذي يطلع عليهم من حيث لا يعلمون:

«فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ» ! ويصحو القوم من وجومهم هذا، ويدورون بأعينهم هنا وهناك، باحثين عن هؤلاء الذين كذبوهم بما يقولون.. فيذكرون هذا الحلم المخيف، ويتذكرون هذا الموقف الذي كان بينهم وبين معبوداتهم، وتكذيبهم لهم.. ثم ما يكادون يصلون ما انقطع من حياتهم، حتى يلقاهم هذا الصوت قائلا:«فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً» .. فلقد كذبكم آلهتكم، وتخلّوا عنكم، وذهب النصير الذي كان متعلقكم به.. وها هو ذا العذاب مقبل عليكم، وإنكم لا تستطيعون له صرفا، ولا تستطيعون أن تجدوا لكم ناصرا ينصركم من دون الله.. ثم لا ينتهى الموقف بهم عند هذا، فإنهم ما يكادون يستسلمون لليأس، ويعطون أيديهم لهذا العذاب في استسلام ذليل، حتى يلقاهم هذا الصوت بقوله:«وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» .. إنه ليذكرهم بأنهم ليسوا في الآخرة، وإنما هم مازالوا في هذه الدنيا، وأن طريق الخلاص مفتوح أمامهم، إذا هم أرادوا أن يلتمسوا وجه النجاة من هذا العذاب الذي رأوه بأعينهم.. فليرجعوا إلى الله، وليأخذوا في غير هذا الحديث المنكر، الذي يقولونه في آيات الله، وفي رسوله الله.. فإنهم إن رجعوا إلى الله، وآمنوا بالله وبآيات الله وبرسول الله، فقد نجوا بأنفسهم، وإلا فإن أمسكوا بما هم فيه من ظلم، فإن الله أعدّ للظالمين عذابا كبيرا..

ص: 1370

واقرأ كلمات الله مرة أخرى، وانظر في هذا البيان المعجز.

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ..

«فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ.. أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟» .. «قالُوا سُبْحانَكَ.. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ! .. «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» .. «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ!!» .. «فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً» .. «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» ..

آمنت بالله، وصدقت بكلمات الله، وبرسول الله..

ففى هذه الكلمات المعدودات ملحمة، لا يستطيع أن يمسك بها خيال، أو أن يضبط صورها ومشاهدها كل ما عرف الإنسان من ألوان التعبير، مجتمعة ومتفرقة.. إن ذلك لا يكون إلا بكلمات الله.. التي يخرج بها الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويحيى الأرض بعد موتها! قوله تعالى:

«وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.. أَتَصْبِرُونَ. وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» .

هذا التفات إلى النبىّ الكريم، وهو على مرأى ومسمع من قومه، وهم فى حالهم تلك، التي صورتهم عليها الآيات السابقة، ودارت بهم تلك الدورة العجيبة، بين الدنيا والآخرة..

وهذا الحديث إلى النبي الكريم، هو حديث إلى قومه هؤلاء، وهو ردّ على قولهم:«مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق» .. وكأنه

ص: 1371

يقول لهم. هذا هو رسول الله إليكم، وإنه ليأكل الطعام ويمشى في الأسواق، شأنه في هذا شأن المرسلين من قبله جميعا.. فهل أنتم بعد هذا الذي رأيتم من مشاهد الآخرة- هل أنتم مؤمنون به على صفته تلك، أم لازلتم على ما أنتم عليه من إنكار له، وتكذيب به؟

وقوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» - هو توكيد لبشرية الرسل جميعا.. وأنه ما أرسل الله سبحانه وتعالى من رسل، إلا كانوا على تلك الصفة، وكان حالهم هو هذا الحال:«لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» ! أي يتعاملون مع الناس، بيعا وشراء، وأخذا وعطاء.

وقوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين هم فتنة للنبىّ وللمؤمنين، وابتلاء من الله لهم بهم، وبما يسوقون إليهم، من مكر، وما يرمونهم به من أذى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ.. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» (112: الأنعام) .

أما ما يذهب إليه معظم المفسّرين من إطلاق الآية على عمومها، وأن الناس جميعا- مؤمنهم وكافرهم- هم فتنة، يفتن بعضهم بعضا، فالكافرون يفتنون المؤمنين، والمؤمنون يفتنون الكافرون- فإنه مردود من أكثر من وجه..

فأولا: الفتنة، حيث لبست إنسانا كانت وبالا عليه، وعلى غيره..

وإذن فلن يكون المؤمن فتنة أبدا، لا لغيره، ولا للناس.. وقد كان من دعاء

ص: 1372

المؤمنين، ما جاء في قوله تعالى:«رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» (5: الممتحنة) .

وثانيا: توعّد الله سبحانه وتعالى، أهل الضلال، الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات بقوله سبحانه:«إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا.. فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» (10: البروج) ..

فكيف يكون المؤمنون على موقف كهذا؟

وثالثا: جاء تعقيبا على قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» ..

قوله تعالى:

«أتصبرون؟» . وهو دعوة للنبى وللمؤمنين إلى الصبر على هذه الفتن التي يرميهم بها المشركون.. وهذا الاستفهام مراد به الأمر أي: اصبروا على ما تكرهون، مما يهبّ عليكم من ريح الفتن من أهل الضلال والشرك..

رابعا: جاء ختام الآية.. هكذا: «وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» وفيه تطمين للنبى، وللمؤمنين، وربط على قلوبهم، حتى يصبروا على أذى المشركين، فالله سبحانه وتعالى بصير، عالم بما يحتملون من مكروه في سبيل الحق، وفي الثبات على الإيمان، وسيجزيهم عليه، كما أنه سبحانه، بصير عالم بما يعمل المشركون، وسيلقون جزاء ما يعملون:«وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (111: هود) .

ص: 1373