الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي أن هؤلاء الرسل، مع أنهم بشر، فإن اختيارهم للرسالة، لم يغيّر شيئا من بشريّتهم..
فهم مثل سائر البشر، تحكمهم ضرورات البشرية.. يأكلون، ويشربون وينامون، ويفرحون، ويحزنون. ثم يموتون..
والجسد: هو المادة المتجسّدة. والرسل مادة متجسدة، وليسوا من عالم الملائكة النورانى الشفاف..
قوله تعالى:
«ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» .
ذلك ما لرسل الله عند الله.. إنهم على وعد الله لهم بالنصر، هم ومن اتبعهم من المؤمنين وقد صدقهم الله وعده، فأنجاهم وأنجى من آمن بالله من أقوامهم، ممن شاء الله لهم الهدى.. فمن شاء الله لهم الهدى اهتدوا، فلم يصبهم شىء مما يحلّ بالمكذبين الضالين من أقوامهم، من هلاك وعذاب..
الآيات: (10- 18)[سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 الى 18]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ» .
فى هذه الآية تنويه بالأمة العربية، ورفع لقدرها، باختيارها من بين الأمم لتكون الوجه الذي تلتقى به رسالة الإسلام، والراية التي يجتمع عليها الداخلون فى دين الله، وليكون لسانها هو اللسان الذي يحمل كلمات الله، ويكتب له الخلود بخلودها.
وفى قوله تعالى: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على رسوله الكريم هو منزل كذلك على قومه العرب..
فالرسول منهم، والكتاب المنزل عليه هو كتابهم، ومنزل إليهم.. وإذ كان هذا هو الحال، فإن من الخسران لهم أن يتخلّوا عن هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، واختصّهم به، وإنهم إذا لم يبادروا ويأخذوا حظهم من هذا الخير، أو شك أن يفلت من أيديهم، ويعدل عنهم إلى غيرهم، كما يقول سبحانه:
«وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ.. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) وفى تنكير الكتاب، تعظيم له، ورفع لقدره، وأنه أعرف من أن يعرّف بأداة تعريف.. فهو بهذا التنكير علم لا يشاركه غيره فى هذا الاسم.
وفى قوله تعالى: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» تحريض العرب على أن ينشدوا الهدى من هذا الكتاب، ويستظلوا بظله، ففى هذا عزّهم، ومجدهم، وخلود ذكرهم فى العالمين..
وفى هذا أيضا إشارة إلى ما يكشف عنه المستقبل من موقف قريش، والعرب، من الدعوى الإسلامية، وأنهم جميعا سيدخلون فى دين الله، وسيبقى ذكر العرب خالدا ما ذكر الإسلام الخالد.
فالعرب- كما فى المأثور- هم: «مادّة الإسلام» .. وبجهادهم فى سبيل الله امتدّ ظلّ الإسلام، واتسعت رقعته، ورفرفت أعلامه فى كل أفق من آفاق الدنيا..
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» نخسة رقيقة، تدعو هؤلاء القوم، وتدفع بهم دفعا إلى أخذ حظهم من الكتاب المنزل إليهم.. إنها غمزة حبّ، وإغراء، ودفعة من يد كريمة رحيمة ودود!! قوله تعالى:
«وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» .
هو تعريض بأهل القرية «مكة» ، وتهديد لهم بأن يسلكوا فى عداد القرى الظالمة التي قصمها الله، أي أهلكها، وقطع دابرها.. ثم أقام مكانهم «قَوْماً آخَرِينَ» . والقصم: القطع الحاسم، وهو أشد من القضم.
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» .
البأس: العذاب، والبلاء.
أي فلما أراد الله أن يأخذ الظالمين بظلمهم، ساق إليهم بأسه وعذابه..
فلما استشعروا وقوع العذاب بهم، بما طلع عليهم من مقدماته ونذره، ذعروا، وأخذوا يركضون، أي يجرون مسرعين فى فزع واضطراب، فرارا من تلك
القرية، وخوفا من أن ينهار عليهم بنيانها، أو تخسف بهم أرضها.
قوله تعالى:
«لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» .
هذا هو صوت الحال ينادبهم: إلى أين؟ قفوا حيث أنتم، ولا تركضوا كركض الحمر المستنفرة.. إنكم لن تفلتوا من هذا البلاء النازل بكم..
ولمن تتركون دياركم وما حشدتم فيها من متاع، وما جلبتم إليها من متع؟.
وكيف تتركون هذا الذي أنتم فيه من ترف ونعيم؟ ارجعوا.. أفتذهبون وتتركون هذا الذي أذهبتم حياتكم، واستهلكتم أعماركم فى إعداده وجمعه؟
ارجعوا، ولو كان فى ذلك هلاككم.. إن السفينة لتغرق ويغرق معها كل شىء لكم.. فما حياتكم بعد هذا؟
وفى قوله تعالى: «وَمَساكِنِكُمْ» إشارة إلى ما للوطن، والسّكن، من مكان مكين فى قلب الإنسان.. وأنه شىء أحبّ وآثر من كل ما يحرص الإنسان عليه، وأن نعيم الإنسان لا يجتمع إلا فيه، ولا يتمّ إلا به.. وإن الغريب الذي لا وطن له ولا سكن، هو إنسان ضائع شقىّ، وإن طعم أطيب المطاعم، ولبس أفخر الملابس، ونزل أحسن المنازل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» (66: النساء) .
فجاء هنا الخروج من الديار، معادلا لقتل النفس! وفى قوله تعالى:«لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» استهزاء بهم، وسخرية من مشاعرهم
التي يداعبها الأمل بالنجاة فى هذا الركض الذي يركضونه..
فهم مسئولون لا محالة عما كانوا فيه من ضلال، واستغراق فى الترف الذي أذهلهم عن النظر فى أنفسهم، وطلب النجاة قبل وقوع البلاء بهم.. وقد جاء الإخبار بسؤالهم فى صورة الرجاء، الذي يمكن أن يقع أو لا يقع، وذلك لتتحرك فى صدورهم مشاعر الأمل فى النجاة، ثم إذا هم تحت ضربات البلاء، وقد أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. فيالخيبة الأمل! لقد برقت بوارقه، ثم انطفأت، فإذا هم فى ظلمات يعمهون.
قوله تعالى:
وهكذا أصبحوا وجها لوجه مع عذاب الله النازل بهم، لا يملكون معه إلا التّنادى بالويل، وإلا أن يندبوا حظهم المنكود، ويرجعوا على أنفسهم باللائمة والندم، ولات ساعة مندم! وهكذا تظل تتعالى صيحاتهم، ويتعاوى صراخهم، إلى أن تخمد أنفاسهم، ويصبحوا جثثا هامدة، كحصاد هشيم، تذروه الرياح.
قوله تعالى:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» .
أي أن الله سبحانه وتعالى ما خلق شيئا عبثا ولهوا.. فالسماء والأرض وما بينهما من كائنات وعوالم، إنما خلقت لحكمة مرادة لله سبحانه وتعالى، ولقصد حكيم قصده من خلقها..
وكذلك الناس، لم يخلقوا عبثا، وإنما خلقوا ليعمروا الأرض، ويعبدوا
الله فيها، ثم يردّوا إلى الله، ليحاسبوا على ما عملوا، وليلقى المحسن منهم جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إساءته.. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) .
قوله تعالى:
«لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» .
هو توكيد، لما تضمنته الآية السّابقة، من أن خلق المخلوقات، علوها وسفلها، ناطقها، وصامتها، لم يكن للهو والعبث، وإنما كان خلقا قائما على ميزان الحكمة والتقدير.. وأنه سبحانه لو أراد أن يتخذ لهوا لا تخذه من لدنه أي من ذاته، أو لأقام له فى الملأ الأعلى مسرحا للهو، ولم يقمه على هذه الأرض.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ويجوز أن تكون «أَنْ» هنا نافية بمعنى «ما» أي ما كنا فاعلين ذلك.. تعالت عن ذلك حكمتنا.
قوله تعالى:
القذف: إلقاء الشيء، ورميه بقوة وشدة..
والدمغ: وسم الشيء بسمة تغيّر معالمه.. والزاهق: الهالك، والضائع.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضرب الباطل بالحق، ويدمغه به، فإذا هو زاهق، أي ذاهب ومنهزم..
وهكذا آيات الله وما تحمل من حق، إنها تلتقى بما يختلقه المبطلون من ضلالات وأباطيل، فتدمغها، وتزهقها، وتخنق أنفاسها، وإذا تلك المفتريات والأباطيل، دخان وهباء، لا يمسك أصحابها منها بشىء.. والمثل المحسوس فى هذا، عصا موسى، وعصىّ السحرة.. إن العصا، حق من الحق،