الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا»
(73- 74: الإسراء) - وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنّهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبّته الله- لكاد يركن إليهم.
(113: النساء) .
وقد روى عن ابن عباس: «كل ما فى القرآن «كاد» فهو لا يكون» قال الله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» ولم يذهب- به- بصر أحد..
«أَكادُ أُخْفِيها» ولم يفعل! قال القشيري القاضي: «ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كاد ليفعل» .
[المأخذ الثاني]
التسليم بصحة الحديث:
ثم يناقش القاضي عياض هذه القضية، من جانبها الآخر، وهو فرض التسليم بصحة الحديث، فيقول: «وأما المأخذ الثاني، فهو مبنى على تسليم الحديث، لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال، فقد أجاب
عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة، منها الغثّ والسمين.. فمنها:
أولا: ما روى عن قتادة ومقاتل: «أن النبىّ- صلى الله عليه وسلم، أصابته سنة عند قراءته هذه السورة، فجرى على لسانه هذا الكلام بحكم النوم» ..
وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبىّ مثله، فى حالة من أحواله، ولا يخلقه الله على لسانه، ولا يستولى الشيطان عليه، فى نوم ولا يقظة، لعصمته فى هذا الباب، من جميع العمد والسهو.
ثانيا: وفى قول: «أن النبىّ صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه..» وفى رواية «ابن شهاب» عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال: «وسها- أي النبي- فلما أخبر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان» .
ويرد القاضي عياض على هذه الروايات بقوله: «كل هذا لا يصحّ أن يقوله النبىّ صلى الله عليه وسلم، لا سهوا ولا قصدا، ولا يتقوله الشيطان على لسانه..
ثالثا: وقيل: «لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله- أي هذا القول- أثناء تلاوته، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، كقول إبراهيم- عليه السلام:
«هذا رَبِّي» على أحد التأويلات «1» (وأن النبىّ إذ قال ذلك قاله) بعد السّكت، وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته..»
يقول القاضي عياض: «وهذا ممكن، مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ، أي ليس من القرآن» .. اه.
(1) من التأويلات التي يذهب إليها المفسرون فى قول إبراهيم «هذا رَبِّي» عن الكوكب والقمر والشمس، أنه قال ذلك على طريق الاستفهام المراد به السخرية والاستهزاء، أي:«أهذا ربى» ؟ استصغارا لشأنه.
تلك هى القصة، أو الأكذوبه، كما جاءت فى كتب السير، وعلى ألسنة القصاص، ونقلها المفسّرون، وتداولها اللاحق منهم عن السابق، وذلك أسلوب من أساليب دفعها، وتكذيبها.
والقصة أو الأكذوبة- كما ترى- مهلهلة النسج، واهية البناء، أراد مخرجوها أن يخفوا عوارها، ويداروا هزالها، فألقوا إليها كثيرا من الرقع، حتى لكاد يختفى الأصل، ولا يرى منها إلا تلك المرقعات التي أضيفت إليها! فالمادّة التي تخلّقت منها القصة، مادة فاسدة، لا يتخلّق منها شىء يصلح أن يعيش فى الحياة، وأن يكتب له بقاء فى عالم الأحياء.
ونسأل: ما مضمون هذا الخبر فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» .
أليس من معنى هذا أن التمني ليس حالا واحدة تعرض للنبىّ فى حياته، وإنما هى أمنيات تعيش مع النبي أو الرسول حياته كلها، وأنه كلّما تمنّى أمنية ألقى الشيطان فيها؟.
فكيف لا يلقى الشيطان فى أمنية النبىّ إلا فى هذه المرة؟ وماذا يحول بينه وبين أن يلقى فى كل أمنيّة للنبىّ؟ أليس هذا مما يتمناه الشيطان، ويعمل له جهده لو استطاع إليه سبيلا؟.
وأكثر من هذا، فإن الذين يقولون بقصّة الغرانقة العلا، يذهبون إلى أن التّمنى، ليس معناه من الأمانىّ، وإنما معناه القراءة، ويستشهدون لذلك بهذا البيت اليتيم من الشعر، وهو من قول حسان بن ثابت فى عثمان رضى الله عنه.
تمنّى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر
وهو- لو عقلوا- حجة عليهم.. لأنه يعنى أنه كلما قرأ النبىّ قرآنا، دخل عليه الشيطان، وألقى فيما يقرأ بما يريد، حتى يفسد مادة القرآن، ويغيّر وجهها، ويطفىء نورها..
والذين يروون هذه القصة، لم يجيئوا بحادثة أخرى، كان للشيطان فيها إلقاء فى قراءة النبىّ، على نحو ما رووه فى هذه القصة المفتراة! ثم إن الذين قالوا: إن النبىّ سها فوقع هذا الخاطر فى قلبه، أو جرى سرّا على لسانه، ثم التقطه الشيطان فأذاعه.. أو إن النبي أخذته سنة فجرى على لسانه هذا القول عند قراءته، بحكم النوم- هذا يعنى أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه- كان فى حال يقظته يعيش مع هذه الخواطر، ويراود نفسه بها، وأن عقله اليقظ- كما يقول علماء النفس- كان يأبى عليه أن يصرّح به، فلما نام أو سها، انحلّت هذه الخواطر من عقال العقل اليقظ، وانطلقت لا شعوريا إلى الخارج، فكانت حديثا مسموعا.. وهذا يعنى أيضا أن النبي- صلى الله عليه وسلم معترف فيما بينه وبين نفسه بهذه الأصنام، وبأنها غرانقة علا، وأن شفاعتها ترتجى، وأنه إذا لم يكن يصرح بذلك، وهو فى حال اليقظة، فقد صرّح به سهوا، أو حين أخذته سنة من النوم! ..
وهذا يعنى ثالثا، الكفر، والنفاق معا..! وإنه لهو الكفر الذي يدمغ به كل مسلم، تقع فى نفسه أية شبهة من الشبه تحوم فى سماء النبوّة الصافية، المشرقة بنور ربّها.
وبعد هذا كله، وقبل هذا كلّه، فإن فيصل الحكم فى هذا الموقف هو كلمة واحدة: نبى، أو غير نبيّ؟ رسول أو غير رسول؟
فإن كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، غير نبىّ، وغير رسول، فهذا موقف له حسابه وتقديره، وللكلام الذي يقال فيه حساب وتقدير..
فكل ما ينسب إليه من أخطاء، وما يرمى به من تهم، ممكن الوقوع، ويمكن التسليم به، إذ هو- والحال كذلك- إنسان، مجرد إنسان، يجوز عليه ما يجوز على الناس، من صدق وكذب، ومن إيمان وكفر! أما إن كان «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- نبيا ورسولا، فإن الذي يعتقد فى نبوته، ويؤمن برسالته، ثم يلحق به ما يقع فى حياة الناس من أخطاء، وعثرات، وتخبطات، فهذا لا يستقيم أبدا مع صفة النبوة، فإن الرسول مبلّغ عن ربه، وهو بهذه الصفة معصوم من الخطأ والنسيان، فيما يتصل برسالة ربّه، وما تحمل من شريعة وعقيدة، إذ أن أي انحراف أو تحريف فى هذا، معناه سوق الناس إلى طرق مفتوحة، مليئة بالعثرات والحفر، على حين أن دعوة السماء تدعوهم إلى صراط مستقيم، ولا يستقيم هذا الصراط مع تلك الأخلاط، وهذه المتناقضات، التي تلتقى بالناس، وهم سائرون فيه.
ذلك ما يجب أن يتأكد، ويتقرر، أولا عند من يؤمنون بالأنبياء.. إنهم لن يكونوا على غير تلك الحال التي توجب لهم العصمة، وتحمى الرسالة التي يحملونها من أية شائبة تقلق بها.
وإذن فمن الضلالة والجهل، أن يقول قائل: إن النبىّ- ويقولها هكذا النبىّ- حين قرأ سورة النجم، نسى، أو سها، أو أخذته سنة، أو غلبه خاطر قوىّ فى نفسه، أو ألقى الشيطان إليه، فذكر الأصنام التي كان يعبدها قومه، وأثنى عليها، ورفع منزلتها، وجعل لها عند الله شفاعة! أهذا قول يقال، ويلتقى أوله مع آخره؟
نبىّ يقر قرآنا منزلا من السماء.. ثم تعدو عليه عوادى الشرّ، فتغير من آيات الله، وتبدل من شريعته، وهو على لسانه، بل وبلسانه؟
وماذا ترك للضالين، والمنافقين، وأعداء الأنبياء؟
قد يكون سائغا أن تنفى عن «محمد» صفة النبوة والرسالة على سبيل المكابرة، أو من باب الكفر والإلحاد، ثم يقال: إنه قال فى معبودات قريش ما قال.. إنه لا يعدو أن يكون حينئذ واحدا من مشركى قريش، الذين يتعاملون مع هذه الآلهة، ويتعبدون لها.
أما ومحمد نبىّ، فإنه فى عصمة، فوق الخطأ وفوق النسيان! عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: «قلت يا رسول الله..
أأكتب عنك كل ما أسمع؟ قال: «نعم» قلت: فى الرضا والغضب؟ قال:
«نعم» فإنى لا أقول فى ذلك كلّه إلّا حقّا» .
والحديث أيّا كان سنده، فإن القرآن الكريم ينطق بهذا فى قوله تعالى:
«وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» . فهذا حكم قاطع بأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لا ينطق عن هوى، ولا يبلغ عن الله إلا ما يوحى إليه.. فكيف يكون للقول بأن الرسول نطق بكذا وكذا مما ليس من عند الله، ثم يتعلّل لذلك بأنه كان سهوا، أو حديث خاطر، أو نحو هذا- كيف يكون لهذا القول مكان من القبول على أي وجه من الوجوه مع قول الله تعالى:«وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» ؟
إن تلك الفرية مما دسّ على المسلمين، فى غير انتباه منهم إليه، ولا تقدير للشر الذي ينجم عنه، وشغلهم الخبر بغرابته وإثارته عن أن ينظروا فيه نظرا متفحصا دارسا..
ولو أنهم فعلوا لما كان لهذا الحديث مكان فى كتب الحديث، أو الفقه، أو التفسير، سواء أكان ذلك لمجرد نقل الخبر، ثم تجريحه، وتكذيبه، أو كان