الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعقد لذلك فصلا فى كتابه: «الشفا.. بتعريف حقوق المصطفى..» نرى من الخير أن نعرض جانبا منه..
يقول القاضي عياض:
«إن لنا فى الكلام على شكل هذا الحديث- يقصد حديث الغرانقة- مأخذين.
أحدهما: توهين أصله.. [أي فى سنده ومتنه] ..
والثاني على تسليمه.. [أي على فرض التسليم بصحته]
[المأخذ الأول](ا) توهين أصل الحديث:
يقول القاضي عياض:
«أما المأخذ الأول، وهو توهين أصل الحديث، فيكفيك أنه حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله، المفسّرون، والمؤرخون، والمولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف، كلّ صحيح وسقيم.. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال: «لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والبدع، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته- يقصد هذا الحديث- واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته..
فقائل يقول إنه فى الصلاة (يقصد بعض الروايات التي تقول إن النبي قرأ سورة النجم فى الصلاة) .. وآخر يقول: قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة.. وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها..
وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبىّ لما عرضها على جبريل قال له: ما هكذا أقرأتك.. وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله
عليه وسلم، قرأها، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، قال:«والله ما هكذا نزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسّرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم، ولم يرفعها إلى صاحب (أي صحابىّ) . وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية..
(ب) توهين معنى الحديث:
ثم يقول القاضي عياض: «هذا توهينه- أي الحديث- من جهة النقل..
«وأما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته من فعل هذه الرذيلة، إما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا، من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو من أن يتسوّر- أي يعلو- عليه الشيطان، ويشبّه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبىّ أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام..
وذلك كله ممتنع فى حقه صلى الله عليه وسلم.. أو أن يقول ذلك فى نفسه من قبل نفسه.. عمدا، وذلك كفر، أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله.. وقد قررنا بالبراهين والإجماع، عصمته صلى الله عليه وسلم، من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمدا ولا سهوا.. أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقى الشيطان، أو أن يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله، لا عمدا ولا سهوا، ما لم ينزل عليه.. وقد قال تعالى:«وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (44- 46: الحاقة) .
ثم يقول القاضي عياض، فى عرض وجوه الرأى فى توهين معنى الحديث:
ووجه ثان:
وهو استحالة هذه القصة، نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان
كما روى، لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبىّ صلى الله عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمّل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع فى بيان البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟
ووجه ثالث:
أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام- لأدنى شبهة.
ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا، سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك، لوجدت من قريش على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا، مكابرة- فى قصة الإسراء، حتى كان فى ذلك لبعض الضعفاء ردّة.. ولا كذلك ما روى فى هذه القصة- قصة الغرانقة- ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت!! .. فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدلّ- ذلك- على بطلانها واجتثاث أصلها.. ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس والجنّ هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع:
ذكره الرواة لهذه القضية، أن فيها نزلت الآية: «وَإِنْ كادُوا