الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات: (23- 30)[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
التفسير:
قوله تعالى:
كان ذكر نعمة الفلك فى الآية السابقة فى قوله تعالى: َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»
مناسبة قوية تذكّر بقصة نوح عليه السلام، وبالسفينة، التي جعلها الله مركب نجاة له، ولمن آمن معه.. وأن هذه السفينة لم تكن إلا
نعمة من نعم الله، نجا عليها من آمن به.. وكذلك كل نعمة من نعم الله الكثيرة التي فى أيدى الناس، هى فلك نجاة، يسلك بها الإنسان طريقه إلى الله، ويستدل بها على قدرته وحكمته، فيؤمن به، ويبتغى مرضاته، وبهذا ينجو من سخطه وعذابه، الواقع بالظالمين المكذّبين.
وقد جاء نوح إلى قومه يذكّرهم بالله، ويدعوهم إلى الإيمان به وحده، ويحضهم على تقواه:«أَفَلا تَتَّقُونَ؟» .
وكان جواب القوم على هذه الدعوة الكريمة، ما جاء فى قوله تعالى:
إنها فلسفة مريضة، وسفاهة عمياء..
«ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» .. هكذا رأى القوم- بجهلهم وغبائهم- فى هذا الداعي الذي يدعوهم إلى الله.. إنه طالب سلطان عليهم واستعلاء فيهم، بهذا الموقف الذي يقفه منهم.. إذ كيف يقودهم فينقادون؟ ويدعوهم فيستجيبون؟ وهو واحد منهم لا فضل له عليهم؟ فمن أين جاءه هذا السلطان فيهم؟ ومن أين كانت له هذه الكلمة عليهم؟ إنّها لا أكثر من دعوى يدّعيها، وإنه لا أكثر من قول يقوله: أنا رسول الله إليكم!! وإذا كان لله رسل، فلم لم يكونوا من الملائكة، وهم أقرب إلى الله، وأكثر اتصالا به؟
وإذن فالقوم كانوا يعرفون الله، ويعرفون أن لله سبحانه وتعالى ملائكة.
نعم، ولكنهم كانوا أشبه بمشركى العرب.. يعرفون الله هذه المعرفة المطموسة بتلك التصورات الفاسدة، التي لا ترتفع بجلال الله إلى ما يليق به من
تنزيه عن الصاحبة، والشريك، والولد..
قوله تعالى:
«إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» .
وهذا حكمهم على «نوح» .. إنه رجل مخبول، يهذى بهذا الكلام الذي يقوله لهم، ويحدثهم به عن الله.. وإذن، فمن الحكمة- حكمة السفهاء- أن ينتظروا قليلا، حتى يروا ما وراء هذا الجنون.. أهو عارض فيشفى منه صاحبه، أم هو متمكن منه، ولا شفاء له.. وإذن فسيكون لهم معه شأن غير هذا الشأن! قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» .
وإنه ليس أمام نوح مع هذا العناد الأعمى، إلّا أن يستنصر بربه، وأن يطلب الانتقام له من هؤلاء الذين كذّبوه، وبهتوه، وتوعدوه بالبلاء والنكال.
وقوله «بِما كَذَّبُونِ» أي انصرني بما كذبون به، من سلطانك وبأسك وقوتك.. فالباء للاستعانة، وليست للسببية..
قوله تعالى:
هذا هو جواب الله لنوح فيما سأله إياه.. أن يصنع الفلك على حسب ما يتلقّى من توجيه ربه، ووحيه له، وأن «يسلك» أي يدخل وينظم فيها
من كل حيوان نافع له، زوجين اثنين، ذكرا وأنثى، وأن يأخذ أهله معه، إلا من سبق عليه القول منهم، فلم يكن من المؤمنين بالله..
- وقوله تعالى: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» - هو تثبيت لقلب نوح، وعزاء له فى أهله الذين سيخلّفهم وراءه للهلاك غرقا.. فهذا أمر الله فيهم، وحكمه عليهم.. وليس لأمر الله مردّ، ولا وراء حكمه معقب، وإنه ليس عند المؤمنين بالله إلا الاستسلام والرضا..
قوله تعالى:
هو وعد من الله سبحانه وتعالى لنوح بالنجاة من هذا الطوفان المخيف، وأن هذه الرحلة التي سيخوض فيها بسفينته غمرات هذا الطوفان، هى رحلة مأمونة، عاقبتها السلامة والنجاة، وحقّها الحمد والشكران لله ربّ العالمين.
قوله تعالى:
«وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» .
هو تلقين لنوح بتلك الدعوة المباركة، التي يدعو بها ربّه، وهو فى طريق العودة إلى اليابسة، بعد أن تنهى السفينة دورتها على ظهر هذا الطوفان، حتى يهيئ الله له مكانا خيرا من هذا المكان الذي شهد فيه عناد قومه، ورأى مصارعهم، وقد اشتمل عليهم الطوفان..
وهذا يعنى أن بعض الأمكنة أفضل من بعض.. بعضها ينبت الشوك والحسك، وبعضها يخرج زروعا ناضرة، وجنات مثمرة.. كذلك بعضها يلد الكرام من
الرجال وبعضها يلد الأنكاد المشائيم منهم.. وهذا ما نجده فى قوله تعالى:
وليس ينكر أثر البيئة فى تكوين شخصية الإنسان، وفى تلوين صبغته الظاهرة والباطنة.. فأهل البادية غير أهل الحضر، وسكان البلاد الحارة غير سكان البلاد المعتدلة.
ولحكمة عالية، وسرّ عظيم، كان اختيار الجزيرة العربية مطلعا لرسالة الإسلام الخالدة، واختيار رسولها من نبت هذه البادية، ومن زهرها الطيب الكريم.. وقد عرضنا لهذا الموضوع فى كتابنا:«النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم» .. تحت عنوان: «مكان الدعوة وزمانها» .
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» .
الإشارة هنا إلى هذا الحدث، وما كان فيه من هلاك القوم الظالمين، ونجاة الرسول ومن آمن معه.. ففى هذا الحدث آيات، وشواهد على قدرة الله، وإحاطة علمه بما يقع من عباده من طاعة أو عصيان..
وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» .. (إن) هنا مخففة من «إنّ» الثقيلة..
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء والاختيار أمرا لازما يؤخذ به عباده، حتى ينكشف حالهم، ويأخذ كل منهم مكانه فى هذا الابتلاء.. فإرسال الرسل إلى الناس، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وإتيان ما يفرضه عليهم الإيمان من واجبات، هو ابتلاء، يتكشف آخر الأمر عن مؤمنين وكافرين، وناجين وهلكى.. والله سبحانه وتعالى يقول:«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد)