الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقرأ حمزة والكسائي: خاشعا أبصارهم.. «1» .
وقوله: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أى: يخرجون من القبور، وعيونهم ذليلة من شدة الهول، وأجسادهم تملأ الآفاق، حتى لكأنهم جراد منتشر، قد سد الجهات. واستتر بعضه ببعض.
فالمقصود بالجملة الكريمة تشبيههم بالجراد في الكثرة والتموج، والاكتظاظ والانتشار في الأقطار وهم يسرعون الخطا نحو أرض المحشر.
وقوله: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أى: مسرعين نحوه، وقد مدوا أعناقهم إلى الإمام، مأخوذ من الإهطاع، وهو الإسراع في المشي مع مد العنق إلى الإمام. يقال: أهطع فلان في جريه، إذا أسرع فيه من الخوف، فهو مهطع.
يَقُولُ الْكافِرُونَ وقد رأوا من أهوال يوم القيامة ما يدهشهم: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أى: يقولون هذا يوم صعب شديد، بسبب ما يعاينون من أهواله ويتوقعون فيه من سوء العاقبة.
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة، يراها قد وصفت أحوال الكافرين في هذا اليوم، وصفا تقشعر من هوله الأبدان.. فهم أذلاء ضعفاء ينظرون إلى ما يحيط بهم نظرة الخائف المفتضح، وهم في حالة خروجهم من قبورهم كأنهم الجراد المنتشر، في الكثرة والتموج والاضطراب، وهم يسرعون نحو الداعي بذعر دون أن يلووا على شيء، ودون أن يكون في إمكانهم المخالفة أو التأخر عن دعوته.
ثم هم بعد ذلك يقولون على سبيل التحسر والتفجع: هذا يوم شديد الصعوبة والعسر.
ثم عرضت السورة بعد ذلك جانبا من مصارع الغابرين، لعل في هذا العرض ما يروعهم عن الكفر والجحود، وما يحملهم على انتهاج طريق الحق والهدى، فقال- تعالى-:
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
(1) تفسير القرطبي ج 17 ص 129.
وقصة نوح- عليه السلام مع قومه، قد وردت بصورة أكثر تفصيلا في سور أخرى.
كسورة هود، والمؤمنون، ونوح، والأعراف.
ولكنها جاءت هنا- كغيرها من القصص- بصورة حاسمة قاصمة، تزلزل النفوس، وتفتح العيون على مصارع الغابرين، لكي يعتبر الكافرون، وينتهوا عن كفرهم.
قال الآلوسى: قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
…
شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للانزجار، ونوع تفصيل لها، وبيان لعدم تأثرهم بها، تقريرا لفحوى قوله:
فَما تُغْنِ النُّذُرُ.
والفعل «كذبت» منزل منزلة اللازم. أى: فعل التكذيب قبل قومك قوم نوح.. «1» .
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المصيبة إذا عمت خفت، وشبيه بهذه الآية قوله- سبحانه-: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ....
وأسند- سبحانه- التكذيب إلى جميع قوم نوح- عليه السلام. لأن الذين آمنوا به منهم عدد قليل، كما قال- تعالى-: في سورة هود: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.
وقوله- تعالى-: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا تأكيد لتكذيبهم له- عليه السلام، فكأنه- سبحانه- يقول: إن قوم نوح- عليه السلام قد أصروا على تكذيبهم لعبدنا ونبينا، وتواصوا بهذا التكذيب فيما بينهم، حتى لكأن الكبار قد أوصوا به الصغار.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى قوله: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا بعد قوله:
كَذَّبَتْ؟ قلت معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا. أى: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب، تبعهم قرن مكذب.
أو معناه: كذبت قوم نوح الرسل، فكذبوا عبدنا، أى: لما كانوا مكذبين بالرسل،
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 81.
جاحدين للنبوة رأسا، كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ بيان لما كانوا عليه من انطماس بصيرة، ومن سوء خلق.. أى: أنهم لم يكتفوا بتكذيب نبيهم ومرشدهم وهاديهم إلى الخير. بل أضافوا إلى ذلك وصفه بالجنون، والاعتداء عليه بأنواع الأذى والترهيب.
فقوله: وَازْدُجِرَ معطوف على قوله قالُوا وهو مأخوذ من الزجر بمعنى المنع والتخويف، وصيغة الافتعال للمبالغة في زجره وإيذائه.
وقد حكى القرآن في آيات أخرى ألوانا من هذا الزجر والإيذاء ومن ذلك قوله- تعالى- كما حكى عنهم: قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ.
ثم حكى- سبحانه- ما فعله نوح- عليه السلام بعد أن صبر على إيذاء قومه فقال:
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ.
أى: وبعد أن يئس نوح- عليه السلام من إيمان قومه.. تضرع إلى ربه قائلا: يا رب إن قومي قد غلبوني بقوتهم وتمردهم
…
فانتصر لي منهم، فأنت أقوى الأقوياء، وأعظم نصير للمظلومين والمغلوبين على أمرهم من أمثالى.
وحذف متعلق «فانتصر» للإيجاز. أى: فانتقم لي منهم.
ولقد كانت نتيجة هذا الدعاء، الإجابة السريعة، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء في قوله- تعالى- بعد ذلك: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ.
أى: فأجبنا لنوح دعاءه، ففتحنا أبواب السماء بماء كثير منهمر، أى: منصب على الأرض بقوة وبكثرة وتتابع. يقال: همر فلان الماء يهمر- بكسر الميم وضمها- إذا صبه بكثرة. وقراءة الجمهور فَفَتَحْنا بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر بتشديدها على المبالغة.
قال الجمل: والمراد من الفتح والأبواب والسماء: حقائقها فإن للسماء أبوابا تفتح وتغلق.
والباء في قوله: بِماءٍ للتعدية على المبالغة، حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها، كما تقول: فتحت بالمفتاح.. «2» .
وقوله: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً
…
معطوف على قوله: فَفَتَحْنا وتفجير الماء:
إسالته بقوة وشدة وكثرة، ومنه قوله- تعالى-: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً.
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 37.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 243.
وقوله: عُيُوناً تمييز محول عن المفعول به، والأصل: وفجرنا عيون الأرض، ولكن جيء به على هذا الأسلوب المشتمل على التمييز للمبالغة، حتى لكأن الأرض جميعها قد تحولت إلى عيون متفجرة.
وقوله- سبحانه-: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ بيان لكمال حكمته- تعالى- بعد بيان مظاهر قدرته. أى: فاجتمع الماء النازل من السماء، مع الماء المتفجر من الأرض، على أمر قد قدره الله- تعالى- وقضاه أزلا، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
فالمراد بالماء: ماء السماء وماء الأرض.
وقال- سبحانه- فَالْتَقَى الْماءُ بالإفراد، لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريقة المجاورة، بل كان بطريق الاتحاد والاختلاط، حتى لكأن الماء النازل من السماء. والمتفجر من الأرض، قد التقيا في مكان واحد كما يلتقى الجيشان المعدان لإهلاك غيرهما.
وعَلى في قوله- تعالى-: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ للاستعلاء المفيد لشدة التمكن والمطابقة. أى: التقى الماء بعضه ببعض على الحال والشأن الذي قدرناه وقضيناه له، دون أن يحيد على ذلك قيد شعرة، إذ كل شيء عندنا بمقدار.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله على عبده نوح- عليه السلام فقال:
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا....
والدّسر: جمع دسار- ككتاب وكتب- أى: مسامير تربط بعض الخشب ببعض، وأصل الدسر: الدفع الشديد بقوة، سمى به المسمار، لأنه يدق في الخشب فيدفع بقوة.
وقيل: الدسر: الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة، وقيل الدسر: صدرها ومقدمتها، وقوله: ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ صفة لموصوف محذوف.
أى: وحملنا نوحا ومن معه من المؤمنين، على سفينة ذات ألواح من الخشب ومسامير يشد بها هذا الخشب ويربط..
قال صاحب الكشاف: قوله: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ أراد السفينة، وهو من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات، فتنوب منابها، وتؤدى مؤداها، بحيث لا يفصل بينها وبينها. وهذا من فصيح الكلام وبديعه.. «1» .
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 38.
وعدى فعل وَحَمَلْناهُ إلى نوح وحده، مع أن السفينة حملت معه المؤمنين، لأن هذا الحمل كان إجابة لدعوته، وقد جاءت آيات أخرى أخبرت بأن المؤمنين كانوا معه في السفينة، ومن هذه الآيات، قوله- تعالى-: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ، فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ....
وقوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أى تجرى هذه السفينة بمرأى منا، وتحت رعايتنا وقدرتنا.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت قوم نوح محل غضب الله- تعالى- ونقمته فقال: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ.
وقوله: جَزاءً مفعول لأجله، لقوله: فَفَتَحْنا وما عطف عليه، أى: فعلنا ما فعلنا من فتح السماء بماء منهمر، جزاء لكفرهم بالله- تعالى- وبنبيه نوح- عليه السلام الذي كان نعمة لهم، ولكنهم كفروها ولم يشكروا الله عليها، فاستحقوا الغرق والدمار.
وحذف- سبحانه- متعلق كُفِرَ لدلالة الكلام عليه، أى: كفر به.
قال الآلوسى. وقوله: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أى: فعلنا ذلك جزاء لنوح- عليه السلام، فإنه كان نعمة أنعمها الله- تعالى- على قومه فكفروها، وكذا كل نبي نعمة من الله- تعالى- على أمته.
وجوز أن يكون على حذف الجار، وإيصال الفعل إلى الضمير، واستتاره في الفعل، بعد انقلابه مرفوعا. أى: لمن كفر به، وهو نوح- عليه السلام أى: جحدت نبوته.
فالكفر عليه ضد الإيمان، وعلى الأول كفران النعمة.. «1» .
والضمير المنصوب في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً
…
يعود إلى الفعلة المهلكة التي فعلها الله- تعالى- بقوم نوح- عليه السلام.
أى: ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح، وإهلاكنا لهم، آية وعلامة لمن بعدهم. وعظة وعبرة لمن يعتبر ويتعظ بها.
ويؤيد هذا المعنى قوله- تعالى-: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً
…
«2» ويصح أن يكون الضمير بعود إلى السفينة. أى: ولقد أبقينا هذه السفينة من بعد إهلاك قوم نوح، علامة وعبرة لمن يشاهدها.
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 83.
(2)
سورة الفرقان الآية 37.
ويؤيد هذا المعنى قوله- تعالى-: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ، وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ «1» .
قال القرطبي: قوله: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً
…
يريد هذه الفعلة عبرة.
وقيل: أراد السفينة، تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل..
قال قتادة: أبقاها الله- تعالى- بباقردى، من أرض الجزيرة- قرب الموصل بالعراق- لتكون عبرة وآية، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة صارت بعدها رمادا
…
«2» .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للرأيين فهذه العقوبة التي أنزلها- سبحانه- بقوم نوح- عليه السلام بقيت عبرة لمن بعدهم لينزجروا، ويكفوا عن تكذيب الرسل، كما أن السفينة قد أبقاها- سبحانه- بعد إغراقهم إلى الزمن الذي قدره وأراده، لتكون- أيضا- عبرة وعظة لغيرهم.
والاستفهام في قوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ للحض على التذكر والاعتبار، ولفظ مُدَّكِرٍ أصله مذتكر من الذّكر الذي هو ضد النسيان، فأبدلت التاء دالا مهملة، وكذا الذال المعجمة ثم أدغمت فيها، ومنه قوله- تعالى-: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ
…
أى: وتذكر بعد نسيان.
أى: ولقد تركنا ما فعلناه بقوم نوح عبرة، فاعتبروا بذلك- أيها الناس-، وأخلصوا لله- تعالى- العبادة والطاعة، لتنجوا من غضبه وعقابه.
والاستفهام في قوله- سبحانه-: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ للتهويل والتعجيب من شدة هذا العذاب الذي حاق بقوم نوح- عليه السلام.
أى: فكيف كان عذابي لهم، وإنذارى إياهم؟ لقد كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، ولا تحدها العبارة.
والنذر: مفردة نذير، وجمع لتكرار الإنذار من نوح- عليه السلام لقومه.
قال الجمل: وقرئ في السبع بإثبات الياء وحذفها. وأما في الرسم فلا تثبت لأنها من ياءات الزوائد، وكذا يقال في المواضع الآتية كلها.. «3» .
(1) سورة العنكبوت الآية 15.
(2)
تفسير القرطبي ج 17 ص 133.
(3)
حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 84.