الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
افتتحت سورة «الحديد» بتنزيه الله- تعالى- عن كل ما لا يليق به، وبالثناء عليه- تعالى- بما هو أهله، وببيان جانب من صفاته الجليلة، الدالة على وحدانيته، وقدرته، وعزته، وحكمته، وعلمه المحيط بكل شيء.
افتتحت بقوله- عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقوله: سَبَّحَ من التسبيح، وأصله الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح فلان في الماء، إذا توغل فيه، وسبح الفرس، إذا جرى بعيدا وبسرعة.
قالوا: وهذا الفعل سَبَّحَ قد يتعدى بنفسه، كما في قوله- تعالى-: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وقد يتعدى باللام كما هنا. وهي للتأكيد والتبيين أى: سبح لله لا لغيره.
والمراد بالتسبيح هنا: تنزيه الله- تعالى- عن كل مالا يليق بجلاله وكماله.
والمعنى: نزه الله- تعالى- وعظمه وخضع له، وانقاد لمشيئته.. جميع ما في السموات والأرض من كائنات ومخلوقات.. لا يعلمها إلا هو- سبحانه-.
وقد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضي كما في هذه السورة، وكما في سورتي الحشر والصف، وتارة بصيغة المضارع، كما في سورتي الجمعة والتغابن، وتارة بصيغة الأمر كما في سورة الأعلى، وتارة بصيغة المصدر كما في سورة الإسراء.
جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة، للإشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات لله- تعالى- شامل لجميع الأوقات والأحوال.
قال- تعالى- تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «1» .
وختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، والعزيز: هو الغالب على كل شيء، إذ العزة معناها: الغلبة على الغير، ومنه قوله تعالى-: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى: غلبني في الخصام.
وفي أمثال- العرب: من عزّ بزّ، أى: من غلب غيره تفوق عليه.
والحكيم مأخوذ من الحكمة، وهي وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها.
أى: وهو- سبحانه- الغالب الذي لا يغلبه شيء- الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها السليمة.
ثم ذكر- سبحانه- صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أى. له- سبحانه- وحده دون أن يشاركه مشارك، ملك السموات والأرض، إذ هو- تعالى- المتصرف فيهما، والخالق لهما، إن شاء أبقاهما وإن شاء أزالهما.
وملكه- سبحانه- للسموات والأرض، ملك حقيقى، لأنه لا ينازعه فيه منازع، ولا يشاركه مشارك.. بخلاف ملك غيره لبعض متاع الدنيا، فإنه ملك زائل مهما طال، ومفتقر إلى من يحميه ويدافع عنه.
(1) سورة الإسراء الآية 44.
وقوله: يُحْيِي وَيُمِيتُ صفة أخرى من صفاته- عز وجل أى: هو الخالق للحياة لمن شاء أن يحييه، وهو الخالق للموت لمن أراد أن يميته.
وهذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف، وهي في الوقت نفسه بدل اشتمال مما قبلها إذ الإحياء والإماتة، مما يشتمل عليه ملك السموات والأرض.
وخص- سبحانه- هاتين الصفتين بالذكر، لأنه هو المتفرد بهما، ولا يستطيع أحد أن يدعى أن له عملا فيهما، ومن ادعى ذلك كانت دعواه من قبيل المغالطة والمجادلة بالباطل، إذ الموجد الحقيقي لهما هو الله- عز وجل وما سواه فهو سبب لهما.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما قبله. أى: وهو- سبحانه- على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما ذكر- قدير على إيجادها أو إعدامها.
ثم ذكر- سبحانه- صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أى: هو- سبحانه- الأول والسابق على جميع الموجودات، إذ هو موجدها ومحدثها ابتداء. فهو موجود قبل كل شيء وجودا لا حد ولا وقت لبدايته.
وَالْآخِرُ أى: الباقي بعد هلاك وفناء جميع الموجودات، كما قال- تعالى-:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
وآثر لفظ الْآخِرُ على لفظ الباقي ليتم الطباق بين الوصفين المتقابلين
…
وهو الظَّاهِرُ أى: الظاهر وجوده عن طريق مخلوقاته التي أوجدها بقدرته إذ من المعروف عند كل عاقل أن كل مخلوق لا بد له من خالق، وكل موجود لا بد له من موجد.
فلفظ الظَّاهِرُ مشتق من الظهور الذي هو ضد الخفاء، والمراد به هنا ظهور الأدلة العقلية والنقلية على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه.
ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور، بمعنى الغلبة والعلو على الغير، كما في قوله- تعالى-: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ
…
وعليه يكون المعنى: وهو الغالب العالي على كل شيء.
وهو الْباطِنُ من البطون بمعنى الخفاء والاستتار، أى: وهو- سبحانه- المحتجب يكنه ذاته عن أن تدركه الأبصار، أو أن تحيط بحقيقة ذاته العقول، كما قال- تعالى-
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «1» .
ويصح أن يكون الْباطِنُ بمعنى العالم بما بطن وخفى من الأمور يقال: فلان أبطن بهذا الأمر من غيره، أى: أعلم بهذا الشيء من غيره.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أى: وهو- سبحانه- عليم بكل ما في هذا الكون، لا تخفى عليه خافية من شئونه، كما قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «2» .
قال ابن كثير: وهذه الآية هي المشار إليها في حديث عرباض بن معاوية أنها أفضل من ألف آية.
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية على نحو بضعة عشر قولا وقال البخاري:
قال يحيى: الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما.
وروى الإمام مسلم- في صحيحه-، والإمام أحمد- في مسنده- عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم فيقول:«اللهم رب السموات ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر..» «3» .
ثم ساق- سبحانه- ألوانا أخرى من الأدلة التي تدل على وحدانيته وقدرته فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ.
والأيام: جمع يوم، واليوم في اللغة مطلق الوقت، أى: في ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله- تعالى-. وقيل: هذه الأيام من أيام الدنيا.
والاستواء في اللغة: يطلق على الاستقرار، كما في قوله- تعالى- وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أى استقرت سفينة نوح- عليه السلام عند ذلك الجبل المسمى بذلك الاسم..
كما يطلق بمعنى القصد، ومنه قولهم: استوى إلىّ يخاصمني، أى: قصد لي. كما يطلق بمعنى الاستيلاء والقهر، ومنه قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق.
(1) سورة الأنعام الآية 104.
(2)
سورة آل عمران الآية 3.
(3)
راجع تفسير ابن كثير ج 4 ص 402.
وعرش الله، مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم أما حقيقته وكيفيته فلا يعلمها إلا الله- تعالى-.
وقد ذكر العرش في إحدى وعشرين آية من القرآن الكريم، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.
أى: هو- سبحانه- الذي خلق السموات والأرض في ستة أوقات، ثم استوى على العرش، استواء يليق به- تعالى-. بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، لاستحالة اتصافه- تعالى: بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
قال الإمام مالك- رحمه الله الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ثم بين- سبحانه- شمول علمه فقال: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها.
وقوله: يَلِجُ من الولوج بمعنى الدخول، يقال: ولج فلان بيته، إذا دخله.
وقوله: يَعْرُجُ من العروج وهو الذهاب في صعود، والسماء، جهة العلو مطلقا.
أى أنه- سبحانه- يعلم ما يلج في الأرض، وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء، ومن جواهر وكنوز قد طويت في باطنها، ومن بذور ومعادن في طياتها.
ويعلم- أيضا- ما يَخْرُجُ مِنْها من نبات وحبوب وكنوز، وغير ذلك من أنواع الخيرات، ويعلم- كذلك- ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من أمطار، وثلوج، وبرد، وصواعق، وبركات، من عنده- تعالى- لأهل الأرض.
ويعلم- أيضا- ما يصعد فيها من الملائكة، ومن الأعمال الصالحة، كما قال- تعالى- إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
وعدى العروج بحرف في، لتضمنه معنى الاستقرار، وهو في الأصل يعدى بحرف إلى، كما في قوله- تعالى-: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وقوله- سبحانه-: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أى: وهو معكم بعلمه ولطفه ورحمته..
أينما كنتم وحيثما وجدتم.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وهو معكم أينما كنتم تمثيل لإحاطة علمه- تعالى-
بهم، وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا، وقيل المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السياق واللحاق مع استحالة الحقيقة.
وقد أول السلف هذه الآية بذلك، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها: عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج- أيضا- عن سفيان الثوري انه سئل عنها فقال: علمه معكم.
وفي البحر: أنه أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أقوالكم أو أفعالكم.. بل هو مطلع عليكم اطلاعا تاما.
ثم أكد- سبحانه- كمال قدرته فقال لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: له- سبحانه- التصرف الكلى في السموات والأرض. وفيما فيهما من موجودات، من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أى: وإلى الله- تعالى- وحده لا إلى غيره، مرد الأمور كلها، والحكم عليها، والتصرف فيها.. وليس إلى أحد غيره لا على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الاشتراك.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أى: يدخل- سبحانه- طائفة من الليل في النهار، فيقصر الليل ويزيد النهار ويدخل طائفة من النهار في الليل، فيقصر النهار، ويزيد الليل، ثم يسيران على هذا النظام البديع، دون أن يسبق أحدهما الآخر.
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ و «ذات» هنا مؤنث ذو بمعنى صاحب.
أى: وهو- سبحانه- عليم علما تاما بمكنونات الصدور، وما تضمره من خير أو شر وما يتردد فيها من خواطر وأفكار.
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا، يراها قد اشتملت على بضع عشرة صفة، من صفات الله عز وجل الدالة على وجوب إخلاص العبادة له، والانقياد لأمره ونهيه.
(1) تفسير الآلوسى ج 27 ص 168.